المحادثة الثامنة
حدثنا الهدهد المسحور، الدخيل في الطيور، كحال ذلك الناطقِ في النسور، السابقِ في المنظوم والمنثور، وما هو إلا بنتاءور، شاعر القِدم المشهور، الخالدُ ذكرُه مع الدهور، أُنْشِرَ شيطانُه، وبُعث بيانُه، وأُرجع للناس زمانه، قال: لما كان الغد وأزف الأصيل، خرجت إلى «منف» المنبعثة بقوة الخيال، المتمثلة كما كانت في العصر الخال، إذ المالكُ رمسيسُ المعظم ذو الجلال، وإذ الملك في ذروة السعد وأوج الكمال؛ فبلغتها وأنا حيران لا أدري على أيِّ أبواب القصر ألقى النسر؛ لأنها متفرقةٌ كُثْر، وقد تقدم القول بأن الدار الفرعونية تكاد تكون ثلث المدينة من التناهي في السعة وكثرة المشتملات وتمدُّد الأطراف؛ لكل زوجة فيها أخبية منصوصة، وأفنية بها مخصوصة، وما أكثر الزوجات! ولكل ولدٍ غرف منفصلة، ومقاصير منعزلة؛ والملك كثير البنين والبنات؛ ولا تسل عن الحاشية وكثرتهم، وما يلزم لهم من مساكن تختلف باختلاف منازلهم في القصر، وتتفاوت بتفاوت مواقفهم في الخدمة، وفي الدار منهم آلاف يؤدُّون الخِدم المتنوعة، ويمارسون الصناعات المختلفة؛ وبالجملة فالقصر السلطاني من امتداد البنيان، وسعة الجوانب والأركان، بحيث لا تُحصى أبوابه ولا يغني أحدُها عن سائرها؛ فحين انتهيت إليه، ولجته من الباب الذي دخلناه بالأمس، وحينئذٍ ذكرت أن الساعة ساعةُ الدرس، وأني ربما لقيت الأستاذ في مقر الأمير «أوني»، فاحتلْت حتى دخلت على الأمير في غرفة جلوسه، فلا والله ما عللت النفس بِكِذَاب، ولا أوردتُها السراب، بل إذا أنا بالأمير وجمع من إخوته وكبار الأتباع، قد داروا كالحلقة بالنسر، وهو في بهرتها يتلطف لهم في التعليم، ويخلط المفاكهة والتدريس، فوثبت إلى رفرف هناك فحططت فوقه، وأنا مسرور بما وجدت، قرير بما شهِدت؛ ثم ألقيت السمع فسمعت الأستاذ يقول: والذي يميز علماء هذه الأمة على غيرهم، ويجري بهم إلى الغايات، ويكفل لهم السبق، ويجعلهم أساتذة وقتهم، ومصابيح عصرهم، أنهم يطلبون العلم لذاته، ثم لأنفسهم، ثم للأحادث من بعدهم؛ وهذه الثلاثة ما قامت بنفس طالب علم ورُزق الحِجا والذكاء وفُسحة الأجل، إلا نبغ في حياته، ثم جاوَزَ ذلك إلى رتبة الخلود بالذكر بعد مماته، فيا أيها الأمراء ومن يلوذ بهم من الخواص والكبراء، من أحَبَّ منكم العلم حبًّا صادقًا، وطلبه لذاته، فليأخذه مني، ومن حضر منكم مجلسي هذا وهو فارغ الفؤاد من حب العلم، عينٌ ساهية، وأذن لاهية، وجسم في ناحيةٍ وقلبٌ في ناحية، فليأخذ العلم من غيري!
قال الهدهد: فرأيت، وما أعجب ما رأيت! رأيت أكثر الحضور انسلُّوا من المجلس، فدهشت لهذا الصدق، واستغربت من القوم هذا الرجوع في الضمير إلى الحق، وذكرت مجالس من هذا القبيل يعقدها بعض الكبراء في مصر، تظاهرًا بمحبة العلم، ويتصدر فيها للتدريس عُبَّاد الشهرة من العلماء، ويحضرها البعض رياءً وتمليقًا.
ثم استمر النسر فقال: مُحبُّ العلم يطلبه لذاته، وهذا أول التوفيق في طريق التحصيل، وسبب النجاح الأوثق؛ لأن النفس حيث رضاها، وحيث يجعلها هواها؛ ومن رضيت نفسه بالعلم قسمًا من أول يوم، وامتلأ فؤاده من حبه، أقبل عليه وضنَّ به وانقطع له، وألفى التعبَ راحةً في تحصيله، واستوى عنده السلامة والعطب في سبيله، ثم لا يلبث العلم أن يُعرِّفه قدرَ نفسه، وأنه ما خُلق في هذا التقويم سدًى، ولا ساد نوعُه على هذا الوجود عبثًا، فتأخذه من ذلك عزة بالحق، وتنزل نفسه في عينه منزلتها الحقيقية، فيطلب العلم لها، ويستكثر منه لأجلها، ويجري فيه إلى الغايات في سبيلها، لِمَا استقرَّ عنده من أن العلم يُحيِي النفوس ويُهذبها، ويُطلعها على الحياة وأسرارها، ويوصلها إلى كُنْه أغوارها، ويسهِّل لها مَحْيَاها، ويهوِّن عليها الفواجع في دنياها؛ وهذه هي المنزلة الثانية في العلم، يقف عندها سواد العلماء، ولا يجاوزها إلا آحادٌ يُسخِّرهم الآلهة بهذا الوجود فيعملون فيه العمل العظيم، ثم يموتون عن تُراث في الفضل جسيم، من بنيان يُخَلِّدون، أو حكمة يُؤَبِّدُون، أو مجدٍ يَشيدون، أو فن يُجدِّدون؛ وهذه هي رتبة الامتياز بالاختراع، ولا يقال عن أمة إنها بحياة ولها وجدان، حتى يبلغ أفرادٌ من بنيها هذه الرتبة، ولئن كان العلماء في الأرض عدد ما عُرف من النجوم في السماء؛ فهذا الفريق منهم كالكواكب التي لم تُعرف بعد، يُكشف منها واحدٌ على رأس كل مائة، وإنهم لأجلُّ منها وأنفع في الوجود وأهدَى للناس؛ وما بلغ بهؤلاء العلماء إلى هذه الرتبة العليا والمنزلة العظمى إلا تَرَقِّيهم في عِرفان قيمة النفس ومُغالاتُهم بها، واعتقادهم أنها لا تفنى، وأنها أجلُّ ماهية وأعظم شأنًا من أن تُحصر بأيام الحياة القلائل، ولئن تحتَّم أن تخرج يومًا ما من هذا الهيكل الزائل، فلها من جميل الذكر ومحامد الأحاديث هيكل خالد فاخر، يتجلى في الخواطر، ولا تراه النواظر، ولا يستأثر به مكان دون مكان، ويتوارثه الدهر زمانًا عن زمان.
قال الهدهد: ثم التفت الأستاذ إلى الأمير، وكان الدرس قد طال، فأذن له في الإمساك، فأمسك وتحفَّز للقيام، فطرت إلى كتفه، فنهضت فيه وأنا حسران على ما فاتني من أوائل درسه، حتى إذا انصرفنا من حضرة الأمير، التفت إليَّ وقال: كيف وجدتَ مجلسنا أيها الهدهد؟
قلت: اسْتَطَبْتُه يا مولاي وإن حضرتُ في آخره، واستدللت بهذه الحبة من العنقود على سائره!
قال: لنا تلميذ في القصر نتعلم منه أحيانًا، ونزداد كلما حدَّثناه علمًا وبيانًا، فهل لك في زيارته الساعة؟
قلت: الأمر إليك يا مولاي.
فسار النسر بي يخترق وسيعات الدور، ويجتاز شاهقات القصور، وهو يُعيِّنها لي واحدًا بعد واحد، ويسمي أهلها، ويصف ما فيها، حتى أفضينا إلى قصر لا يبلغ البصر ذروته ولا يدرك سعته، فقال: هذه مساكن الملك خاصة، ونحن قادمون عليها.
ثم وصل سيره بين رياض ناضرة، وحدائق زاهرة، وسُوحٍ وسيعة، وأسوار رفيعة، ومقاصير كالغيد الحسان، تموج بالجواري والغلمان، إلى أن بلغنا إحدى الغرف، وكان على بابها غلامان يحرسانها، فوقف الأستاذ ثم سأل أحدهما: أين «تحوت»؟
فأجابه: في غرفة الكتابة يا مولاي.
قال: اذهب فاستأذِن لنا عليه.
فدخل الغلام يؤدي الرسالة، والتفت النسر إليَّ فقال: رأيت جميع الفواجئ فلم أرَ أثقل على الإنسان من مُفاجئ في ساعة الكتابة، وقد استأذنَّا، فلعل تحوت يأذن لنا!
وما كاد يستتم حتى خرج إلينا فتًى مليح الطلعة، حسن الزِّي، تُرى دلائل الذكاء على جبينه الوضَّاء، فانحنى بين يدي الأستاذ وقال: زارنا خيرُ من نُحبُّ ونُكرم يا مولاي.
ثم أخذ بيده، فدخلا وهو ينظر إليَّ ويقول للنسر: لعله هُدهدك السحري الذي شاع ذكره في المدينة يا مولاي؟ وليس بمستنكَر على من سحَر البشَر أن يسحر الهداهد!
قال: كيف أنت والملك يا تحوت؟
قال: أفضلُ مولًى هو، فمن لي أن أكون أصدقَ عبد! يُحبني كبعض ولده، ويثق بي كبعض قدماء أصحابه، ويؤدبني بالإشارة الخافية، والحكمة العالية، والنصيحة الغالية.
قال: هكذا عهدناه: إذا صادق أعَزَّ، وإذا عادى أذَلَّ، وإذا أحب بلغت به المِقة، وإذا وثق لا يرجع عن الثقة.
ثم جلس الصاحبان، وطاف عليهما الغلام بشيء من عتيق النبيذ، فسأل الأستاذ صديقه الفتى: من أيِّ الكروم هذا المعتَّق يا تحوت؟
قال: مما يضن به الملك يا مولاي ولا يوجد إلا في خوابيه، وقد أمر صاحبَ شرابه أن يملأ دِناني منه كلما فرغت؛ وسبب ذلك أن جلالته نزل مرة إلى أن ناولني منه شيئًا بيده المقدسة، فدعوتُ له ثم قلت: أيها الملك المعبود، كانت حَلبَ العنقود فصارت بسرِّك حلبَ الخلود، من يذوق منها لا يخرج من الوجود؛ فمن لي بها تنجلي، في كأس لا تفنى ولا تمتلي، أذوقها بلسانٍ رطبٍ عليك ثناءً، وأشربها بفم مملوءٍ لك دعاء؟
فسُرَّ الملك بهذه الكلمة في شكره، وكان ما كان من أمره.
قال: هكذا الملوك العظماء، يحتالون على الثناء، ويأخذونه من عبادهم الأمناء؛ والآن ائذن لنا يا تحوت إن سألناك ماذا تكتب؟
قال: ولمَ يا مولاي، وما كتبت في عمري حرفًا إلى عرضته عليك؟
ثم مشى الفتى إلى منصَّة الكتابة، وكانت عليها رسالة من إنشائه، جف مدادُها أو كاد، فأخذها ثم دفعها إلى النسر وهو يقول: هذه الرسالة مني إلى أخي، أحدِ جنود الملك في أسطول البحر الأحمر، أشكو فيها من بطء مكاتيبه عني، وأبشره بمنزلتي الجديدة في الخدمة الشريفة، وأصف له بعض أخلاق الملك.
قال الأستاذ: ما قرأ الكلامَ مثلُ كاتبه، فخذ فأسمعنا يا تحوت.
فتناول الفتى الرسالة ثم قال: «يا أخي، ما شغلك عني وأنا المشغول بك، أعتني بأمرك، وأسأل عن خبرك، وأذكرك في السر والعلانية، أأفزع بالشكوى من هذا الجفاء، إلى شيمتك الوفاء، أم أعوذ بهوروس حامي حمى الثغور، ومُسَيِّرِ تلك الأساطيل كالجبال في البحور، أن يكون بين جنده من ينسى الصديقَ وينام عن عهده، وقد عُرفتْ نفوسُهم بالوفاء، كما وُصفت بالنخوة والإباء؟ ولئن أخذت بقسط من العزة التي هي لجنود الملك بالحق، فإنها لكم جماعةَ الجند ولنا معشر الحاشية، وما سوانا من الناس فأشباه، إلا من حُسب على رفيع ذلك الجاه.
ولعله نمى إليك أني ازددت من حظوة، واستفدت في سُبل الفخار خطوة، فجُعلت على ملابس الملك أنشرها وأطويها، وعلى جواهره أسهر على حفظ غاليها؛ وقد أشفقتُ من الأمر في أوله، وحملته وأنا أعلم أنه جسيم، وأني قادم على ملك تامِّ المهابة عظيم، فلا والآلهة ونعمائهم، وآباء الملك وثنائهم، ما سمعت كحديثه، ولا آنَسْتُ كبِشره، ولا رأيت كحلمه، ولا عرفت أقل اغترارًا بالدنيا منه، ولا أكثر ذكرًا للآخرة، إذا دخلتُ عليه بثياب الملك قال: ما هذي العواري يا تحوت؟ وإذا حملتُ إليه التاج قال: ألبِسني يا تحوت، فلا تمسَّ يدي شيئًا يخرج منها غدًا. وسألني جلالته مرة: ما أجملُ الثياب يا تحوت؟
فقلت: ما تجمَّل بالملِك!
قال: كذَبتَ ربَّك! أجملُها ما لبس الفقيرُ بعد الغني، وثيابي لا تصلح لفقيرٍ بعدي، فمُر صُنَّاع لباسي ألا ينقشوا رموز الملك على جميعه، وأن يَقصروا ذلك على ما أتخذ منه في المحافل. وطلب خاتمًا له من نحو ألف خاتم في الخزانة، فتشابهت عليَّ، فأبطات ولم أجسر على مخاطبته، فلم أدرِ إلا به عند رأسي وأنا في البحث عن طلبه، فتبسَّم ثم قال: الخاتم لك إن وجدتَه يا تحوت!
فأطرقت هنيهة ثم قلت: في البحار يا مولاي مليكة اللؤلؤ التي لم يُهْدَ لها الملوك حتى الآن، وهي لجلالة الملك إن وجدها. فاستضحك ثم قلَّب طرفه في الخزانة حتى عرف الخاتم، فقال: هو ذا الخاتم، فخذه فهو لك يا تحوت! فقبَّلت الأرض بين يديه شكرانًا لأنعُمه، ثم تحوَّل عني فسمعته يقول: أيْ آمون، جنِّبْني الغضب، وأدِّبني أحسن الأدب، واجعلني من يُثيب لسبب ويعاقب لسبب!
وحسدني حاسد على منزلتي الجديدة في خدمة الملك، فوشى بي عند جلالته، وقال عني إني أذيع كلماته وأنقل ما يدور بيننا من الحديث، فقال له الملك: أنا أعلم بما أقول، وليس في كلمي ما يريب فأكره أن يصل إلى عبادي! ثم أمر بالواشي فطُرد من خدمته، وقال: الملوك اثنان: ملك أذنه للمظالم، وهذا سيد الأكارم، وآخرُ أذنه للنمائم، وهذا عبد الألائم.
ورماني أحدهم عند جلالته بأني كثير الحَلف بحياته؛ وهذا كما تعلم مُحرَّم على العامة، مكروه صدوره عن الخاصة، فقال: رجلٌ عيشه بعيشي، ولا يثق بصفو الحياة بعدي، له ألف عذر أن يحلف بأيامي. ثم أردف بأن قال للواشي: ونحن معشرَ الملوك أحْوَجُ إلى من تَخْلُصُ لنا سرائره منا إلى من يرضينا ظاهره؛ نلقى إجلال الناس حيث مِلْنا، ولا نثق بحبهم لنا … هذا قليل من كثير من كلمات الملك التي اختصه بها آباؤه، وبودِّي لو نلتقي على خلوةٍ تطول؛ لأحدثك عن جلالته فتقول زِدْني من حديثك، ولتعلم أنه ملك الملوك يقينًا، ولو نُظر إليه عاطلًا من أبهة الملك وعظمة السلطان، وأن جنوده ملوك الجنود، فحسبُنا شرفًا ما أنت فيه يا أخي من إعزاز لوائه والاعتزاز به، وحماية سفنه والاحتماء بها، والحياة في ظل ملكه، والموت دون شرفه الرفيع.»
قال الهدهد: وما كاد تحوت يفرغ من قراءة رسالته، حتى تثاءب النسر، والتفت إليَّ مثقل الجفنين بالنعاس، فقال: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، فالقني غدًا في دار الأعمى «بسادر». فخرجت من صفو تلك الأحلام إلى كدر اليقظة بين هذا الأنام.