مقدمة
في مكتبتي بضعة عشر كتابًا، اشتريت بعضها منذ سنتين وبعضها منذ سنة وبعضها منذ أشهر، وقد أكون اشتريتها إذ الحالة تقضي بإمساك ثَمَنِها، أو نفقته في شئون أكثر لزومًا، وأنا حتى الآن لم أتصفح منها كتابًا، كنت أَمُرُّ أمام معرض مكتبة غارُّو فأرى «فيكتور هوغو»، و«ليون تولستوي»، و«جول سيمون»، و«هنريك سينكيوفيتش»، وسواها من أسماء نبهاء الكتَّاب فوق عناوين تلك الكتب وأشتريها، على كون الوقت غير موفور لي لمُطالَعة كل ما تَصْبُو إليه النفس، وكون الحالة المادية لا تسمح بمشترَى كل كتابٍ مفيد، كانت شهرة المؤلفين تحملني على مشترَى تلك الكتب. وكم مجلدًا هناك ينطوي على أفكارٍ أسمى، وأساليبَ أَدَلَّ وأَلْطَف، ولا يُعْنَى به أحد؛ لأن اسم المؤلف لا يكون بَعْدُ قد ذَاعَ.
ومِنْ حَقِّ الناس بين شيوع التأليف والنشر هذا الشيوعَ الكثير ألَّا يُقْبِلوا على الكاتب حتى يكون له في عالَم المطالَعة حيثية معلومة مُعْتَرَف بها. نعم، إن النظر إلى القول أصح من النظر إلى القائل، وإن اعتبار القول لمجرد كونه لآرنست رنان مثلًا هو نتيجة اعتبار القول لذاته، إلا أنَّ لاعتبار القول دَوْرًا من الاختبار طويلًا بطيئًا، وليس من شأن المطالِعين كلهم أن يختبروا، الذي لا يستطيع أن يشتري ويطالِع أكثر من خمسة كتب في السنة لا يشتري — على الغالب — إلا كتبًا لمؤلفين ذوي شهرة، فإذا طالَع كتابًا لمؤلف غير شهير فكأن يقع له بصدفة أن يتصفَّح منه شيئًا يحرك فيه الرغبة.
فانظر كم هو صعب، وكم يستوجب من الوقت اشتهار الكاتب، والكُتَّاب كثيرون، والذين اشتهروا منهم وانصرف إليهم معشر المُطَالِعين كثيرون أيضًا.
وبديهيٌّ أنَّ الكاتب لا يُنْشِئ مقالَهُ إلا واسطةً يَنْقُل بها من نفسه إلى نفوس الناس فِكْرًا يَحْسِب انتقالَه مفيدًا في سبيل ما، فإذا أراد نَشْر مقاله، وهو غير مشهورٍ بعد، والجمهور منصرفٌ إلى ذوي الشهرة من المؤلفين، فلا بد له من واسطة تجعل لكتابه نصيبًا من عناية الناس.
فذلك سبب.
وقد يكون موضوع الكتاب مستوجِبًا لأن يُسْبَق بكلمة بَيانيَّة لكاتب غير المؤلف، معروفٍ بالبحث في الموضوع نفسه.
وذلك سبب.
ويُساق المؤلف أحيانًا — بحكم الضرورة — إلى ذِكْر شيءٍ عن نفسه وعن قيمة كتابه في المقدمة، إلا أن الأمر على كون المؤلف يُساق إليه مضطرًّا، فلا يَبْرح أن يكون معثرة، قال فولتر في كلامٍ عن المقدمات: «إن الحديث عن «أنا» — كما قال باسكال — ممقوتٌ. قَلِّل الحديث عن نفسك ما استطعْتَ، فإنَّ محبة الذات في القارئ ليست أقلَّ منها فيك، إنه لن يَغْتَفِر لك أقَلَّ محاولةٍ لإكراهه على أن يُحِبَّك.»
وذلك سبب.
ثلاثة وقد تكون هي كل الأسباب التي لأجلها جرى بعض كُتَّاب الغرب على تصدير بعض الكتب بمقدماتٍ لغير المؤلفين.
أما في السبب الأول، فلِكَيْ يشهد صاحب المقدمة لمَعْشَر القارئين بأنه طالَعَ الكتاب ورآه حريًّا بالمطالَعة، وهو على الغالب لا يكتب المقدمة إذا لم يُوافِقْه ضميرُه على هذه الشهادة.
أما في الثاني، فلِكَيْ يُبدي رأيه في آراء المؤلف وأفكاره، كأخصائي في موضوع الكتاب.
أما في الثالث، فلكي يقول عن المؤلف وعن الكتاب ما تَحْكُم الضرورة بأن يقال، ولا يستطيع المؤلف أن يقوله عن نفْسه وعن كتابه.
قدَّمت هذا البيان لأني — على ما أظن — أوَّلُ كاتب عربي ينشئ مقدِّمة لكتاب لكاتبٍ آخَر، بطلبٍ من صاحب الكتاب نفسه.
ولقد بحَثْتُ فيما عساه أن يكون من هذه الأسباب، الأمر الذي حَمَلَ شكري أفندي الخوري على أن يسألني مطالَعةَ هذا الكتاب، فكتابةَ كلمةٍ يُصدَّر بها، فكانت نتيجة بحثي أن الأمر لا يمكن أن يكون متفرعًا من السبب الأول والثالث من الأسباب الثلاثة التي بسطتها، فإن المؤلف معروف وله جمهور يطالِعه، فهو غني عن أن يُشهَد لكتابه بأنه حريٌّ بالمطالَعة، وموضوع الكتاب لا يَقْضِي على مؤلفه بأن يُورِد في المقدمة شيئًا عن نفسه. ولم يَبْقَ إلا أن الصديق أحسَنَ بي نِيَّتَه فعدَّني أخصائيًّا في موضوع كتابه، ويريد أن أبسط رأيي في الأقوال التي تزدان بها هذه الصفحات التالية.
•••
منذ نحو ثلاثة أشهر ورَدَني من شكري أفندي الخوري نسخة من نشرةٍ أذاعها في عَزْمِه على طَبْع كتابٍ عنوانه «مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء»، ولا أقول إنني لم أَحْفِل بموضوع النشرة، ولكنني لم أتوقَّع من وراء العنوان شيئًا كبيرًا، غاية ما قدَّرت أنَّ وراء العنوان تصورًا جميلًا، فلَمَّا كُلِّفْت مطالَعة أول نسخة جُمِعَتْ من الكتاب لأكتبَ له مقدمة — وعهدي أن الكتب التي يَكْتُب مقدماتها غير مؤلِّفيها يجب أن تكون ساميةَ الموضوع خطيرةَ الشأن — ضايَقني أنني وقعتُ بين محظُورَيْن، لا هان عليَّ أن أكتب مقدمةً لكتاب لا أتوقع أنه يستحق هذا الاهتمام، ولا هان عليَّ أن أقول للصديق: إن الكتاب لا يستحق كلَّ هذه العناية. ما خطر لي أن ذلك التصوُّر الجميل الذي تمَّ لي به عنوان الكتاب سيكون قالبًا بديعًا لأبحاثٍ ومواضيعَ ذات شأنٍ خطير.
انظر ما هو هذا الشيء الذي يجب أن يُصَفِّق له الكُتَّاب الذين يعتبرون هذه القاعدة أولَ قواعد الإنشاء؛ التوفيق بين الأسلوب والغرض.
أراد المؤلف أن يَصِفَ وينتقِدَ الفساد الذي يَعْتَوِر الهيئة الاجتماعية على اختلاف مصادره — ولا سيما في المجموع الشرقي — فاتَّخَذَ لغَرَضه هذه الواسطة البليغة.
جعل كلامه كله رسالةً من صديقٍ مَيِّت إلى صديقٍ حي.
ووصف بلسان المُكاتِب مشهَدَيْن عظيمين؛ عالَمًا أرقى من هذا العالم، ودينونة على مَدْخل عالَم البقاء.
وما كان أَقْدَرَ المؤلف إذ اختار هذه الواسطة.
أما جَعْله الكلام رسالة من عالم البقاء، فمِنْ شَأْنِه أن يجعل أبعد الناس عن الأوهام أن يُعْنَى بالحديث ويتَرَوَّى فيه.
أما وصْفه للمَشْهَدَيْن، فقد استطاع به أن ينتقد نقائص الهيئة الاجتماعية بدقةٍ متناهية، وحيلةٍ لطيفة، في المشهد الأول مثَّل لنا كيف كانت الطمأنينة سائدةً في هذا العالم، وكيف كانت الراحة تشمله، لولا الجهل والطمع والشراسة والمناكرة والمكر، وما يتفرع منها ومن أمثالها، كل ما هو قابلٌ للزوال من مفاسد هذا العالم ذَكَرَ أنه قد زال من «أرض الهناء»، ووَصَف كيف أن الناس هناك بعد زواله قد أصبحوا أقرب إلى الملائكة منهم إلينا، وفي المشهد الثاني وضع تحت الدينونة «أحد ملوك الشرق العظام»، وراهبًا، ومتصرفًا من مُتَصَرِّفي لبنان، وواحدًا من مشايخ المسلمين، وبخيلًا، ولصًّا، وكاهنًا، وصحافيًّا، وطبيبًا، وسكيرًا، ومحاميًا، أُكْثِر إذا لم أَقُل: كل نقائص الهيئة الاجتماعية — ولا سيما الشرقية — وَرَدَ ذِكْرُها هناك بصورةٍ جليةٍ قبيحة، وأية صورةٍ لتلك النقائص أمثل وأسوأ من هذه التي ترى فيها مصادر النقائص نفسها من الحكام، والكهنة، والأطباء، والصحافيين، وسائر المصادر تحت طائلة الديَّان ينالون جزاءَ ما قدَّمَتْ أيديهم.
نعم، إن المؤلف أجاد كثيرًا في الواسطة التي اتخذها لغَرَضِه، وما كان هذا الغرض إلا نبيلًا، فالكتاب — على ما أرى — واحد من بِضْعَة كُتُبٍ جليلة ظهرَتْ بالعربية في عهد النهضة الأخير.
وليس هذا يعني أن الكتاب خالٍ من العيب، فيه عيوبٌ كلية وعيوب جزئية، وأنا ذاكر من هذه العيوب ما لا يزال عالقًا على الذهن وهو أظهرها.
اقتتال الروحين اللذين كانا يخفران «أبا الأجران» واحد تلك العيوب، قد كان في إمكان المؤلف ابتكار حيلةٍ أخرى للتعريج بأبي الأجران على «أرض الهناء».
لهجة الديَّان في المحاكمات عيبٌ آخر، قد كان ممكِنًا للمؤلف أن يجعل الديَّان أكْثَرَ رزانة.
طريقة القصاص غير لائقة، كان أولى بالمؤلف أن يصرف بعض الخطاة إلى الجحيم، وبعضهم إلى المطهر.
وقد انْتَقَدْتُ على الكتاب اكتفاء المؤلف بذكر الراهبات من الأجواق التي رآها صاعدةً إلى السماء، ما كان أكمل الحديث لو أنه تَضَمَّن ذِكْر غير الراهبات من أهل الصلاح، أو لو أن المؤلف وَضَعَ تحت الدينونة فريقًا من أهل الصلاح هؤلاء، كما وَضَعَ تحتها الفريق المفسد، وعيَّن مكافأة الصالحين كما عيَّن جزاء الطالحين.
ولقد كان ممكنًا استدراك هذه العيوب بشيءٍ من الرَّوِية، ولكن المؤلف — على ما علِمْتُ — كان يكتب ما يكفي الملزمة الواحدة، وبعد أن يطبعه يكتب ما يكفي الملزمة الأخرى، وما كانت الروية مع هذه الطريقة مُمْكِنةً. إن المؤلف لا يجب أن يطبع كِتابه قبل أن يراجعه مرارًا.
أما الأغلاط اللغوية، ففضلًا عن كونها ليست من الأغلاط التي تُؤَثِّر على جوهر الحديث، لا يجب أن تنتقد على كاتبٍ يُمارِس الكتابة ويمارسها في مثل هذا الكتاب، وهو لم يَدْرُس قَطُّ قاعدةً لغوية.
ذلك، ولولا هذه العيوب التي صرَّحت ببعضها وأَشَرْتُ إلى بعضها، ولو أن المؤلف لم يتقيد في بعض ظروف الحديث بشيءٍ من «المراعاة»، لَكُنتُ أَضَعُ هذا الكتاب إلى جانب «جهنم» دانتي ولا أخشى مُعارِضًا.
سان باولو، ٢٥ نيسان سنة ١٩٠٥