ميشيل فوكوه وتحليل الخطاب
ألم تنجح ممارسة الخطاب الثوري والخطاب العلمي على امتداد المائتَي عام الأخيرة في تحريرك من الفكرة التي تقول إن الألفاظ ريح، همس خارجي، رفرفة أجنحة يصعب على المرء سماعها في قضية التاريخ الخطيرة؟
كان لفوكوه تأثير هائل في العلوم الاجتماعية والإنسانيات، ومن الممكن أن يُعزى شيوع مفهوم «الخطاب» وتحليل الخطاب باعتباره منهجًا، في جانبٍ منه، إلى هذا التأثير، ومن المهم أن نفحص عمله ببعض التفصيل لسببَين؛ الأول أن علماء الاجتماع يشيرون على نطاق واسع إلى مدخل فوكوه إلى تحليل الخطاب باعتباره نموذجًا، ولما كنت أدعو إلى مدخل مختلِف لتحليل الخطاب في دراسات التغير الاجتماعي والثقافي، فلا بد من إيضاح العلاقة بين المدخلَين. فالتضاد كبير هنا بين تحليل الخطاب ذي التوجُّه النصي (ومن ثَمَّ التوجُّه اللغوي) (وقد أشير إليه فيما يلي باسم «التحليل النصي» فقط) وهو مدخلي الخاص، وبين مدخل فوكوه التجريدي. كما إنني أحتاج إلى تقديم الأسباب التي تبرِّر ضرورة نظر علماء الاجتماع في استخدام «التحليل النصي»، وسوف أسوق الحجة في آخِر الفصل على أنه يمكن أن يؤدي إلى تحليلات اجتماعية أفضل.
وأما السبب الثاني لتخصيص فصلٍ عن فوكوه، فقد سبقَت لي الإشارة إليه، ألا وهو أن بناء مدخل للتحليل الخطابي، سليم من الناحية النظرية ويمكن تطبيقه عمليًّا، يتطلب تركيبًا يجمع بين تحليل الخطاب ذي التوجُّه اللغوي وبين النظرات الثاقبة التي أتَت بها النظرية الاجتماعية الحديثة في اللغة والخطاب. وعملُ فوكوه يُسهم إسهامًا مهمًّا في بناء نظرية اجتماعية للخطاب في مجالات مُعيَّنة مثل العلاقة بين الخطاب والسلطة، والبناء الخطابي للذوات الاجتماعية والمعرفة، والعمل الذي يؤدِّيه الخطاب في التغيير الاجتماعي، وعلى نحو ما بيَّنتُ في آخِر الفصل الأول، نرى أن المداخل ذات التوجُّه اللغوي ضعيفة وغير ناضجة في هذه المجالات.
ومع ذلك، فلما كان مدخل فوكوه إلى الخطاب، والسياق الفكري الذي نشأ وتطوَّرَ فيه، يختلفان اختلافًا شاسعًا عمَّا يقابلهما في حالتي، فلا يستطيع المرء أن «يطبق» عمل فوكوه في تحليل الخطاب، فهذا يعنى، كما يقول كورتين، دعوة «منظور فوكوه إلى العمل» (١٩٨١م، ٤٠) في إطار «التحليل النصي» ومحاولة تطبيق نظراته الثاقبة في مناهج التحليل الفعلية. كانت المكانة البارزة التي حظي بها الخطاب في أعمال فوكوه المبكِّرة نتيجة للمواقع التي اتخذَها إزاء إجراء البحوث في العلوم الإنسانية، إذ اختار التركيز على ممارسات خطابية في محاولة لتجاوز الطريقَين البديلَين الكبيرَين للبحث، واللذين كانا متاحَين آنذاك للباحثين الاجتماعيين، وهما البنيوية والتفسيرية (الهرمانيوطيقا) (دريفوس ورابينوف ١٩٨٢م، ١٣–٢٣). أيْ إن فوكوه مهتم بالممارسات الخِطابية باعتبارها تُشكِّل المعرفة، وبشروط تحويل المعرفة المرتبطة بتشكيل خِطابي مُعيَّن إلى علم.
وهذا السياق الفكري يساعد على إيضاح الفوارق الكبيرة بين تحليل الخطاب عند فوكوه وتحليل الخطاب ذي التوجُّه النصي. نقول أولًا: إن فوكوه كان مهتمًّا في بعض مراحل عمله بنوع بالغ الخصوصية من أنواع الخطاب، أيْ خطاب العلوم الإنسانية، مثل الطب، والطب النفسي، والاقتصاد والنحو، وأما تحليل الخطاب ذو التوجُّه النصي فإنه، على خلاف ذلك، يهتم بأي نوع من أنواع الخطاب، كالمحادثة، وخطاب قاعة الدرس، وخطاب أجهزة الإعلام وهلم جَرًّا. وأقول ثانيًا، كما سبق لي أن بيَّنتُ: إن تحليل النصوص اللغوية المنطوقة والمكتوبة جانب أساسي من جوانب تحليل الخطاب ذي التوجُّه النصي، ولكنه ليس جزءًا من تحليل الخطاب عند فوكوه، إذ إنه يركِّز على ما يُسمى «شروط إمكانية» الخطاب (روبين، ١٩٧٣م، ٨٣) وعلى «قواعد التكوين» التي تحدِّد ما يمكن أن يكون «موضوعًا»، و«النوعيات التعبيرية»، و«الذوات» و«المفاهيم»، و«الاستراتيجيات» الخاصة بنمط معين من أنماط الخطاب (ويرِد شرح هذه المصطلحات أدناه). ويركِّز فوكوه على مجالات المعرفة التي تشكلها هذه القواعد.
اقتطفتُ آنِفًا رأي كورتين الذي يقول: إن علينا دعوة «منظور فوكوه إلى العمل» في إطار تحليل الخطاب ذي التوجُّه النصي، ولكن الإشارة إلى «منظور فوكوه» يمكن أن تكون مُضلِّلة، بسبب التحولات في عمل فوكوه من تأكيدِ شيءٍ إلى تأكيد سواه (وهي موصوفة بوضوح في ديفيدسون، ١٩٨٦م). ففي عمله المبكِّر الخاص ﺑ «علم آثار المعرفة» نجده يركِّز على أنماط الخطاب (التشكيلات الخطابية، انظر أدناه) باعتبارها قواعد لتكوين مجالات المعرفة، وأما في دراساته الأخيرة عن «الأنساب»، فالتأكيد يتحوَّل إلى العلاقات بين المعرفة والسلطة. وأما في أعمال فوكوه في سنواته الأخيرة، فإن اهتمامه يتحول إلى «الأخلاق» أيْ «كيف يُفترَض أن يشكِّل الفرد نفسه باعتباره ذاتًا أخلاقية بأفعاله نفسها» رابينوف، ١٩٨٤م، ٣٥٢. وعلى الرغم من أن الخطاب يظل في دائرة اهتمامه دائمًا، فإن مكانة الخطاب تتغير، ويتغير ما يترتب على ذلك من موقعه بالنسبة للتحليل النصي.
وسوف أقدِّم في هذا الفصل أولًا وصفًا وتقييمًا لمفاهيم الخطاب في دراسات فوكوه «الأثرية» (خصوصًا فوكوه، ١٩٧٢م)، ثم أناقش كيف تغيَّرَت مكانة الخطاب في عمل فوكوه الخاص بالأنساب (مركِّزًا على فوكوه، ١٩٧٩م، و١٩٨١م). والهدف الرئيسي في هذين القسمَين تحديد عدد من المنظورات القيِّمة والنظرات الثاقبة في الخطاب واللغة في عمل فوكوه، وهي التي ينبغي أن تدرج في نظرية تحليل الخطاب ذي التوجُّه النصي، وأن تطبق في منهجيته حيثما كان ذلك ملائمًا، ولكنني أختتم كلامي بمناقشة بعض نقاط الضعف في عمل فوكوه، وهي التي تحدُّ من قيمته للتحليل النصي، وكيف يمكن للتحليل النصي أن يدعم التحليل الاجتماعي، بما في ذلك التحليل الاجتماعي في إطار التقاليد الفوكولتية. وإذَن، فإنَّ ما أقدِّمه يُعتبر قراءة لفوكوه من وجهةِ نظرٍ خاصة؛ وأما العروض والبحوث النقدية الأشمل والأكثر اتزانًا، فإنها متاحة في كتب أخرى (مثل دريفوس ورابينوف، ١٩٨٢م؛ وهوي، ١٩٨٦م؛ وديوز، ١٩٨٧م؛ وفريزر، ١٩٨٩م).
(١) أعمال فوكوه «الأثرية»
تتضمن الدراسات «الأثرية» المبكرة لفوكوه (وسوف أشير بصفة خاصة إلى فوكوه، ١٩٨٢م) فكرتَين نظريتَين رئيسيتَين عن الخطاب، وينبغي إدراجهما في تحليل الخطاب ذي التوجُّه النصي. أما الأولى فهي نظرية بنائية للخطاب، وتعني النظر إلى الخطاب باعتباره مُكوِّنًا فعَّالًا أو بانيًا للمجتمع من شتى الأبعاد؛ فالخطاب يشكِّل موضوعات المعرفة، والذوات الاجتماعية، وأشكال «النفس»، والعلاقات الاجتماعية، والأُطُر النظرية. وأما الثانية فهي تأكيد الاعتماد المتبادل فيما بين ممارسات الخطاب لمجتمعٍ من المجتمعات، أو مؤسسة من المؤسسات؛ فالنصوص دائمًا ما تنهَل من غيرها من النصوص المعاصرة والسابقة تاريخيًّا، وتغيرها (وهي خصيصة يُشار إليها بتعبيرٍ شائع هو «تناص» النصوص، انظر الفصل الثالث)، كما أن أيَّ نمط من أنماط الممارسة الخطابية يتولَّد من امتزاج نصوص أخرى معًا، ويعتمد تحديده على علاقته بالنصوص الأخرى (وهو المنظور الذي أدركه بيشوه، وعبَّرَ عنه بما نسبه من أولوية ﻟ «التركيب الخطابي» انظر الفصل الأول). وعلى الرغم من أن تركيز فوكوه (١٩٧٢م) مُنصَبٌّ على التشكيلات الخطابية للعلوم الإنسانية، فإن نظراته الثاقبة تنسحب على جميع أنماط الخطاب.
ويتكوَّن التشكيل الخطابي من «قواعد التشكيل» الخاصة بمجموعة الأقوال المعيَّنة التي تنتمي إليه، وبصفة أخص قواعد تشكيل «الموضوعات»، وقواعد تشكيل «النوعيات التعبيرية»، و«مواقع الذات»، والقواعد الخاصة بتشكيل «المفاهيم»، والقواعد الخاصة بتشكيل «الاستراتيجيات» (فوكوه، ١٩٧٢م، ٣١–٣٩). وقواعد التشكيل المذكورة تُكوِّنها مُركَّباتٌ من عناصر سابقة، خِطابية وغير خِطابية (الأمثلة عليها أدناه) وعملية التعبير عن هذه العناصر وربطها معًا تجعل الخطاب ممارسة اجتماعية (وفوكوه نفسه يستخدم تعبير «ممارسة خِطابية»). وسوف أناقش كلَّ نمط من أنماط هذه القواعد بالترتيب، مقدِّمًا مُلخَّصًا لموقف فوكوه، ومشيرًا بإيجاز إلى إمكان أهميتها وما يترتَّب عليها لتحليل الخطاب.
(٢) تشكيل الموضوعات
تقول النظرة الأساسية فيما يتعلَّق بتكوين الموضوعات: إن «موضوعات» الخطاب تتكون وتتحول في الخطاب وفقًا لقواعد تشكيل خِطابي معيَّن، لا أنها توجد بصورة مستقلة، ويشار إليها وحسب، أو يدور الحديث عنها في خطاب معيَّن. وكلمة «موضوعات» يعني بها فوكوه موضوعات المعرفة، أي الكيانات التي تعترف بها مباحث أو علوم معيَّنة داخل مجالات اهتمامها، وتتصدى لها باعتبارها أهدافًا للبحوث (ويمكن التوسع في هذا المعنى من معاني الموضوعات، بحيث يتجاوز المباحث أو العلوم المنظَّمة شكليًّا ويشمل الكيانات المعترَف بها في الحياة العادية). ويضرب فوكوه مثالًا لتكوين «الجنون» باعتباره موضوعًا من موضوعات خطاب الأمراض النفسية منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن؛ وقد نجد أمثلة أخرى مثل تكوين «الأمة» و«العرق» أو «الحرية» و«الإنجاز» (انظر كيت وأبركرومبي، ١٩٩٠م) في الخطاب الإعلامي والسياسي المعاصر، أو مثل «معرفة القراءة والكتابة» في الخطاب التعليمي. ويقول فوكوه: «إن المرض النفسي كوَّنَه كلُّ ما ذُكر في جميع الأقوال التي وضعت له اسمًا، وقسَّمته، ووصفته، وشرحته …» (١٩٧٢م، ٣٢)، أضِف إلى ذلك أن الجنون ليس شيئًا ثابتًا، بل يخضع لتحوُّلات مستمرة فيما بين التشكيلات الخطابية، وأيضًا داخل أي تشكيل خطابي. ومعنى هذا أنه لا بد من تعريف التشكيل الخطابي بحيث يسمح بالتحول في موضوعاته. ويقول فوكوه: إن «وحدة الخطاب لا تستند إلى دوام أحد الموضوعات وتفرده، بل على المساحة التي تنشأ فيها شتى الموضوعات وتتحوَّل باستمرار» (١٩٧٢م، ٣٢).
وأما ما يتسم بأهمية كبرى هنا بالنسبة لتحليل الخطاب فهو رؤية الخطاب باعتباره قوة بنَّاءة، إذ يسهم في إنتاج وتحويل وإعادة إنتاج موضوعات الحياة الاجتماعية (والذوات أيضًا، كما سوف نرى بعد هُنيهة) في الحياة الاجتماعية. ويعني هذا أن الخطاب ذو علاقة فعَّالة بالواقع، وأن اللغة تدل على الواقع بمعنى أنها تبني المعاني له، وهو ما ينفي القول بأن الخطاب له علاقة سلبية بالواقع، وبأن اللغة تشير وحسب إلى الأشياء التي تعتبر قائمة في الواقع (من قبل الإحالة اللغوية إليها). وأما رؤية العلاقة بين اللغة والواقع باعتبارها إحالية وحسب، فهي الرؤية المفترضة سلفًا، بصفة عامة، في علم اللغة وفي المداخل المبنية داخل علم اللغة إلى تحليل الخطاب.
إذا كنا قد شهدنا في فترة معيَّنة من تاريخ مجتمعنا معاملة علماء النفس والطب النفسي للمنحرف، وإذا كان السلوك الإجرامي قادرًا على إيجاد سلسلة كاملة من موضوعات المعرفة (مثل القتل، والانتحار، والجرائم العاطفية، والجرائم الجنسية، وأشكال معيَّنة من السرقة والتشرُّد)، فإنما كان ذلك راجعًا إلى استعمال مجموعة من العلاقات الخاصة في خطاب الطب النفسي، مثل العلاقة بين مستويات التحديد للفئات العقابية ودرجات تخفيف المسئولية، ومستويات التشخيص السيكولوجي (أنواع الإمكانيات، والاستعداد النفسي، ودرجات التطوُّر أو الانطواء، والطرائق المختلفة للتجاوب مع البيئة، وأنماط الشخصية، مكتسبةً كانت أو وراثية)، والعلاقة بين سلطة القرار الطبي وسلطة القرار القضائي، والعلاقة بين «المصفاة» التي يشكلها التحقيق القضائي، والمعلومات الشرطية، والتحريات، والآلة الكاملة للمعلومات القضائية، و«المصفاة» التي يشكلها الاستجواب الطبي، والفحوص الإكلينيكية، والبحث في السوابق، والتوصيف البيولوجي. والعلاقة بين الأسرة والمعايير الجنسية والعقابية لسلوك الأفراد، وجدول الأعراض المرضية، والأمراض التي تدل عليها، والعلاقة بين الاحتجاز العلاجي في المستشفى … والحبس العقابي في السجن.
يقول فوكوه هنا: إن أي تشكيل خطابي يُكوِّن موضوعات معيَّنة بطرائق تمثِّل تقييدًا صارمًا لها، وإن القيود المفروضة على ما يحدث «داخل» ذلك التشكيل الخطابي ناجمة عن العلاقات الخاصة بالمركَّب الخطابي فيما بين التشكيلات الخطابية، والعلاقات بين الممارسات الخطابية وغير الخطابية التي يتكون منها التشكيل الخطابي. وتأكيد فوكوه للعلاقات الخاصة بالمركَّب الخطابي تترتَّب عليه نتائج مهمة لتحليل الخطاب، ما دام يضع في مركز برنامج العمل البحث في بناء التشكيلات الخطابية أو ترابطها من حيث علاقة بعضها بالبعض داخل ما سوف أطلق عليه اسمًا يمثِّل مصطلحًا عند فوكوه، وهو «نظم الخطاب» المؤسسي والمجتمعي، وأعني به مجموع الممارسات الخطابية داخل مؤسسة أو مجتمع، والعلاقات بينها (انظر فيركلف، ١٩٨٩م، أ ص٢٩). والرأي القائل بأن ترابط نظم الخطاب عامل حاسم في تكوين أي تشكيل خطابي، وينبغي من ثَمَّ أن يكون من نقاط التركيز الرئيسية في تحليل الخطاب رأي يعبِّر عنه بيشوه بطرائق مختلفة في أعماله (في مفهومه ﻟ «المركب الخطابي»، انظر الفصل الثاني أعلاه) وبرنشتاين (١٩٨٢م) ولاكلاو وموف (١٩٨٥م).
(٣) تكوين نوعيات تعبيرية
تقول القضية الرئيسية التي يطرحها فوكوه فيما يتعلَّق بتكوين «النوعيات التعبيرية» إن الذات الاجتماعية أو الشخص الذي يقول قولًا ليس كيانًا له وجود خارج الخطاب وليس مستقلًّا عنه، باعتباره مصدر ذلك القول (أي مؤلِّفه)، ولكنه على العكس من ذلك دالَّةٌ من دوالِّ القول نفسه. ومعنى هذا أن الأقوال تضع الذوات أو الأشخاص — مَن تصدر منهم ومَن تُوجَّه إليهم أيضًا — في مواقع محدَّدة، حتى «إن وصف القول من حيث إنه قول لا يتمثل في تحليل العلاقة بين المؤلف وبين ما يقوله (أو بين ما كان يريد قوله، أو ما قاله دون أن يريد ذلك)؛ ولكن في تحديد الموقع الذي يمكن، بل لا بد أن يشغله أيُّ فرد إن كان له أن يصبح الذات التي تقول هذا القول» (١٩٧٢م، ٩٥–٩٦).
إذا كان الطبيب يقوم في الخطاب الإكلينيكي بعدة أدوار متوالية، كدور السيد الذي يطرح الأسئلة المباشرة، ودور العين الملاحظة، والإصبع الذي يلمس، والجهاز الذي يفسِّر العلامات، والمركز الذي تندمج فيه الأوصاف التي سبقَت صياغتها، والعامل التقني في المختبر، فذلك لأن الحالة تتضمن مجموعة كاملة من العلاقات، بين عدد من العناصر المتميزة، بعضها كان يتعلَّق بمكانة الأطباء، وبعضها يتعلَّق بالموقع المؤسَّسي والتقني، (مستشفى، مختبر، عيادة خاصة … إلخ) ومنها كانوا يتكلَّمون، ويشغل آخَرون مواقعهم باعتبارهم ذواتٍ تُدرك وتلاحظ وتصف وتعلِّم … إلخ.
ويتميَّز هذا الإفصاح عن النوعيات التعبيرية بأنه محدَّد تاريخيًّا، وخاضعٌ للتغير التاريخي، والانتباه إلى الظروف التاريخية التي تتحول هذه فيها، وإلى الآليات التي تحولها، يمثِّل جانبًا مهمًّا من جوانب البحث في التغير الخطابي في علاقته بالتغير الاجتماعي (انظر الفصل الثالث والفصل السابع أدناه). وفوكوه لا يفترض وجود «ذات طبية» تحقِّق الترابط بين هذه النوعيات التعبيرية ومواقع الذوات المختلفة، وتعتبر عامل توحيد بينها، ولكنه يقول: إن هذه النوعيات والمواقع المتباينة تمثِّل بعثرة للذات وتشظِّيها. أو بعبارة أخرى، يقول: إن الطبيب يتكوَّن من تركيبٍ من النوعيات التعبيرية ومواقع الذوات التي تظل قائمةً بفضل القواعد الحالية للخطاب الطبي. ويعتبر عمل فوكوه إسهامًا رئيسيًّا في نقض مركزية الذات الاجتماعية في النظريات الاجتماعية الحديثة (انظر هنريك، وآخَرون، ١٩٨٤م). وفي إثبات الرأي الذي يقول: إن الذات تتكوَّن ويُعاد إنتاجها، وتتحوَّل من خلال الممارسة الاجتماعية وفي داخلها. وكذلك الرأي الذي يقول: إن الذات مُفتَّتة.
وأما ما له دلالة خاصة في السياق الحالي فهو أن فوكوه ينسب دورًا رئيسيًّا إلى الخطاب في تكوين الذات الاجتماعية، ويترتَّب على هذا أن قضايا الذاتية، والهُوية الاجتماعية، ومسألة «النفس» ينبغي أن تشغل موقعًا رئيسيًّا في نظريات الخطاب واللغة، وفي التحليل الخطابي واللغوي، ولكنها في الحقيقة لم تلقَ إلا اهتمامًا بالغ الضآلة في التيار الرئيسي لعلم اللغة، أو تحليل الخطاب ذي التوجُّه اللغوي والنصي، أو علم اللغة الاجتماعي أو التداولية اللغوية. فإن هذه المباحث الأكاديمية قد اعتنقَت، على الدوام تقريبًا، النظرة إلى الذات الاجتماعية باعتبارها سابقة على المجتمع، وهي النظرة التي رُفضت على نطاق واسع في المناظرات الحديثة حول الذاتية. وطبقًا لهذه النظرة، يشترك الناس في الممارسة الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي بهُويات اجتماعية سبق تشكيلها وتؤثِّر في ممارستهم، ولكنها لا تتأثر بها. وأما من حيث اللغة فالباحثون يسلمون على نطاق واسع في هذه المجالات البحثية بأن الهُوية الاجتماعية للشخص تؤثِّر في طريقة استخدامه للغة، من دون الإشارة تقريبًا إلى أن استخدام اللغة — أي الممارسات الخطابية — يؤثِّر في الهُوية الاجتماعية أو يشكِّلها. وهكذا، فإن الذاتية والهُوية الاجتماعية تعتبران قضايا هامشية في الدراسات اللغوية، ولا تتجاوز عمومًا نظريات «التعبير» و«المعنى المعبِّر»: أي إن الهُوية (الأصل الاجتماعي، كون المتحدِّث رجلًا أو امرأة، والطبقة الاجتماعية، والمواقف الاجتماعية والعقائد وغيرها مما ينتمي إلى المتحدِّث) تجد «التعبير» عنها في الأشكال اللغوية والمعاني التي يختارها.
وأنا أعارض هذا — في اتخاذي موقف فوكوه — بإحلال مسألة آثار الممارسة الخطابية في الهُوية الاجتماعية في صلب تحليل الخطاب ذي التوجُّه اللغوي نظريًّا ومنهجيًّا، وتترتَّب على هذه النظرة عواقب مهمة للقول بأن تحليل الخطاب منهج رئيسي من مناهج البحث الاجتماعي؛ إذ إن النظرية التعبيرية التي تقول بالذاتية في الخطاب تسمح بالنظر إلى الخطاب بصفته بُعدًا هامشيًّا للممارسة الاجتماعية، على عكس النظرية التكوينية (أي القائلة بأن الخطاب يشارك في تكوين الهُوية الاجتماعية). ومع ذلك تبرز هنا تحفُّظات مهمة، فإن إصرار فوكوه على أن الذات نتاج للتشكيلات الخطابية تتسم بنكهة بِنْيوية قوية تستبعد الدور الاجتماعي الفعَّال بأي معنى ذي دلالة. وهذا غيرُ مُرضٍ للأسباب التي سوف أعرضها في القسم الأخير، وأما الموقف من الخطاب والذاتية الذي أدعو إليه في الفصل الثالث فهو موقف جدلي، أي إنه يرى أن الذوات الاجتماعية تشكِّلها الممارسة الخطابية، ولكنها قادرة أيضًا على إعادة تشكيل هذه الممارسات وإعادة بنائها.
(٤) تشكيل المفاهيم
يعني فوكوه بالمفاهيم: مجموعة الفئات والعناصر والأنماط التي يستخدمها مبحث من المباحث العلمية باعتبارها الجهاز الكفيل بالتعامل مع مجال اهتمامه؛ وهو يضرب مثالًا من أن المبتدأ أو الفاعل والخبر والاسم والفعل والكلمة يمكن اعتبارها مفاهيم نحوية، ولكن التشكيل الخطابي هنا، شأنه شأن موقفه إزاء الموضوعات والنوعيات التعبيرية، لا يضع تعريفًا لمجموعات «توحيدية» من المفاهيم الثابتة التي يرتبط بعضها بالبعض بعلاقات محدَّدة بوضوح. فالصورةُ صورةُ تشكيلات متحرِّكة من المفاهيم المتغيرة، ويقترح فوكوه أن يصبح المدخل إلى تشكيل المفاهيم في أحد التشكيلات الخطابية وصفًا لكيفية تنظيم «مجال الأقوال» المرتبطة به، والذي «ظهرت» فيه المفاهيم و«شاعت». وتؤدي هذه الاستراتيجية إلى وصف حافل (١٩٧٢م) لأنواع العلاقات الكثيرة المختلفة التي قد توجد داخل النصوص وفيما بينها. وهذا مفيد في وضع منظورات تقوم على التناص والمركَّبات الخطابية في تحليل الخطاب ذي التوجُّه النصي، خصوصًا لأن هذه المنظورات لم تلقَ إلا اهتمامًا ضئيلًا في علم اللغة أو في تحليل الخطاب ذي التوجُّه اللغوي.
وسوف نجد داخل «مجال الأقوال» الخاص بأي تشكيل خطابي علاقات ذات أبعاد شتى، ومن بينها العلاقة القائمة بين الأقوال الواردة في نصٍّ مفرد، مثل علاقات التتابع والتبعية. ويشير فوكوه إلى «شتى النظم البلاغية التي تربط ما بين مجموعات الأقوال (أي كيف ترتبط الأوصاف والاستنتاجات والتعريفات التي يحدِّد تتابُعَها بناءُ نصٍّ من النصوص)» بطرائق تعتمد على التشكيل الخِطابي (١٩٧٢م، ٥٧). وقد بُحِثَت أمثال هذه العلاقات الداخلية في النصوص في الآونة الأخيرة في إطار اللغويات النصية. ومن بين العلاقات الأخرى العلاقاتُ ما بين خطاب وخطاب؛ إذ قد تتناول العلاقات القائمة بين التشكيلات الخطابية المختلفة أو بين النصوص المختلفة، ويمكن التمييز بينها استنادًا إلى انتمائها، إما إلى «الحضور»، أو «الاقتران» أو «الذاكرة». ويعرِّف فوكوه مجال الحضور قائلًا: إنه «جميع الأقوال التي صيغَت في غير هذا المكان، وأُدخِلَت في الخطاب، واعتُرف بأنها صادقة، أو تتسم بدقة الوصف، أو الاستدلال العقلاني السليم، أو القيام على الافتراضات السابقة اللازمة»، وكذلك الأقوال «التي انتُقِدَت، أو نوقشَت، أو بُتَّ في أمرها … أو رُفِضَت أو استُبعِدَت» (ص٥٧–٥٨). سواء كان ذلك صراحة أو ضمنا. وأما مجال الاقتران فيتكوَّن بصفة خاصة من أقوال من تشكيلات خطابية مختلفة، وترتبط بقضية العلاقات بين التشكيلات الخطابية. وأخيرًا يتكون مجال الذاكرة من أقوال «لم تعُد مقبولة أو تناقش»، ويمكن أن تقام بينها «علاقات النسب والنشأة، والتحويل، والاستمرار، والانقطاع التاريخي» (ص٩٨–٩٩). ويضيف فوكوه إلى هذه العلاقات ما يُسمِّيه «علاقة القول» إلى «كل التشكيلات التي يحدِّد القول إمكان وجودها في المستقبل»، ويشارك القول مكانتها (كأن تكون أدبًا على سبيل المثال).
ويلخِّص فوكوه هذا المنظور في الزعم القائل بأنه «من المُحال أن يوجد قول لا يعيد بصورةٍ ما تمثيلَ ما جاء في أقوال أخرى» (١٩٧٢م، ٩٨). ويذكِّرنا ما يقوله عن العلاقات بين الأقوال بكتابات باختين عن النوع الأدبي والحوارية (١٩٨١م، ١٩٨٦م) وهو ما قدَّمَته كريستيفا إلى الجماهير الغربية بمفهوم التناص (١٩٨٦م، أ، ٣٧)، وكما ذكرتُ عاليه، يتخذ بيشوه منظورًا مماثلًا بأن يمنح الأولوية للمركَّب الخِطابي في نظريته عن الخطاب. وعلى الرغم من أن تمييز فوكوه بين شتى أنماط العلاقة ليس واضحًا على الدوام، فإن ما يقدِّمه هنا أساسٌ للبحث المنتظم في العلاقات داخل النصوص وأنماط الخطاب وفيما بينها. وسوف أميِّز أنا بين «التناص» الذي يعني العلاقات بين النصوص، وبين «التداخُل الخِطابي» الذي يعني العلاقات بين التشكيلات الخطابية أو بتعبير أقل دقة بين الأنماط المختلفة للخطاب (انظر الفصل الرابع أدناه). ويتناول التداخل الخِطابي للعلاقات فيما بين تشكيلات خطابية أخرى تمثِّل، طبقًا لما يقوله فوكوه، قواعدَ التشكيل لأي تشكيل خطابي (انظر القسمَين عاليه عن تشكيل الموضوعات والنوعيات التعبيرية).
ويقدِّم فوكوه، في مناقشاته للعلاقات القائمة داخل مجالات الأقوال (١٩٧٢م، ٩٧–٩٨) بعض التعليقات القيِّمة عن فكرة «السياق»، وخصوصًا كيف أن «سياق الحال» لقولٍ ما (أي الحال الاجتماعي الذي يقع فيها) و«سياقه اللفظي» (أي موقعه بالنسبة للأقوال الأخرى التي تسبقه وتتلوه) يحدِّد الشكل الذي يتخذه، والطريقة التي يفسر بها. ومن المبادئ الشائعة في علم اللغة الاجتماعي أن الأقوال (أو «الملفوظات») تخضع لهذا المعيار، ولكن الملاحظة الإضافية المهمة التي يقدِّمها فوكوه هي أن العلاقة بين قولٍ منطوقٍ وسياقه اللفظي والحاليِّ ليست علاقة شفَّافة؛ إذ تختلف كيفية تأثير السياق فيما يُقال أو ما يُكتب، وكيفية تفسير ذلك، من تشكيل خطابي إلى سواه. فعلى سبيل المثال نجد أن بعض جوانب الهُوية الاجتماعية للمتحدِّث ككونه رجلًا أو امرأة، وانتمائه العرقي، أو سِنِّه، وهي التي من المحتمل أن تؤثِّر تأثيرًا كبيرًا في الأشكال والمعاني أثناء المحادثة، قد لا يكون لها تأثير يُذكر في مؤتمرٍ لعلماء البيولوجيا. وكذلك إذا جاء قولٌ لأحد المشاركين مباشرةً بعد سؤالٍ طرحَه آخَر، فإن هذا التعاقب اللصيق قد يمثِّل دافعًا إلى اعتبار هذا القول إجابةً على السؤال في أثناء استجوابٍ ما بأكثر مما يعتبر كذلك في محادثة عارضة. وإذَن فالمرء لا يستطيع الاعتماد على «السياق» وحسب لشرح ما يُقال أو يكتب أو أسلوب تفسيره، على نحو ما يفعله الكثير من اللغويين في علم اللغة الاجتماعي والتداولية، بل يجب على المرء أن يبتعد خطوةً واحدة ليصل إلى التشكيل الخطابي، وترابُط التشكيلات الخطابية في نظم الخطاب حتى يتمكن من شرح العلاقة بين السياق والنص والمعنى.
(٥) تشكيل الاستراتيجيات
تمثِّل قواعد التشكيل التي نوقشت إلى الآن مجال الفرص المتاحة لوضع النظريات والأفكار أو ما يسميه فوكوه «الاستراتيجيات»، وهي التي لا تتحقق كلها. وقواعد تشكيل الاستراتيجيات تحدد الفرص التي تتحقق، وهي تتكون من مزيج من قيود المركبات الخِطابية، وغيرها من القيود غير الخِطابية المفروضة على الاستراتيجيات الممكنة (١٩٧٢م، ٦٦–٧٠). ويقول فوكوه مثلًا: إن «الخطاب الاقتصادي في الفترة الكلاسيكية كان تعريفه يعتمد على طريقة دائمة معيَّنة لإقامة علائق تربط إمكانات الانتظام داخليًّا في خطابٍ ما بغيره من ضروب الخطاب خارجه، وبمجالٍ كامل غير خِطابي من الممارسات، وصور الاستيلاء والمصالح والرغبات» (١٩٧٢م، ٦٩). لاحظ هنا تكرار الإشارة إلى علاقات المركَّبات الخطابية باعتبارها قيودًا على أحد التشكيلات الخطابية، ويشير فوكوه إلى أن العلاقات التي يمكن أن تقوم بين ضروب الخطاب تتضمَّن القياس، والمعارضة، والتكامل، و«علاقات التحديد المتبادل» (ص٦٧).
ويربط فوكوه بين قواعد تشكيل الاستراتيجيات وبين الصبغة «المادية» للأقوال، والقيود غير الخطابية المشار إليها للتو تُقيم علاقات بين الأقوال والمؤسسات. وقول فوكوه: إن الأقوال لها صبغة «مادية» لا يعني أنها تتمتع بخصيصة النطق بها في وقت محدَّد ومكان محدَّد، ولكنه يعني بها أنها تتمتع بمكانة محدَّدة داخل ممارسات مؤسسية محدَّدة.
(٦) من علم الآثار إلى الأنساب
سبق أن أشرتُ إلى تغير نقاط التركيز على امتداد عمل فوكوه، ويشغلني الآن انتقاله من الآثار إلى الأنساب، وما يترتب على ذلك بالنسبة لتصوير الخطاب عند فوكوه.
يقدم فوكوه الشرح المقتضب التالي للعلاقة بين علم الآثار وعلم الأنساب:
يجب أن تفهم «الحقيقة» على أنها نظام من الإجراءات المنظَّمة لإنتاج الأقوال وتنظيمها وتوزيعها ودورانها وتشغيلها.
ترتبط «الحقيقة» بعلاقة دائرية بنظم السلطة التي تنتجها وتحافظ على بقائها، وبآثار السلطة التي تدفع إلى إنشائها وتوسع نطاقها. إنه «نظام حكم» الحقيقة (رابينوف، ١٩٨٤م، ٧٤).
ولكننا نرى، في الوقت نفسه، أن صورة طبيعة السلطة في المجتمعات الحديثة التي يرسمها فوكوه في دراساته للأنساب (انظر فريزر ١٩٨٩م) تضع الخطاب واللغة في قلب الممارسات والعمليات الاجتماعية، ويرتبط طابع السلطة في المجتمعات الحديثة بمشاكل إدارة السكان، والسلطة مضمرة في الممارسات الاجتماعية اليومية الموزعة والمتغلغلة على جميع المستويات في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، ويشارك فيها الناس باستمرار؛ أضِف إلى ذلك أنها «لا تصبح محتملة إلا إذا أخفَتْ جانبًا كبيرًا منها، ويتناسب نجاحها تناسبًا طرديًّا مع قدرتها على إخفاء آلياتها الخاصة» (١٩٨١م، ٨٦) ولا تعمل السلطة بأسلوب سلبي من خلال السيطرة بالقوة على الخاضعين لها، بل إنها تشركهم معها وتعتبر «منتجة»، بمعنى أنها تشكِّلهم و«تعيد تجهيزهم» حتى يصبحوا صالحين لتلبية حاجاتها. والسلطة الحديثة لم تفرضها من علٍ قُوى جماعية معيَّنة (مثل الطبقات) على مجموعات أو أفراد؛ ولكنها تطورت ونمَتْ «من أسفل»، من خلال تقنيات معيَّنة «متناهية الصغر» (مثل «الاختبارات» بمعناها الطبي والتعليمي، انظر أدناه) وهي التي ظهرت في بعض المؤسسات مثل المستشفيات والسجون والمدارس في بداية الفترة الحديثة. وفي هذه التقنيات نرى علاقة مضمرة بين السلطة والمعرفة في المجتمع الحديث، فمن ناحية تنمو تقنيات السلطة وتتطور استنادًا إلى المعرفة التي تولدها، كما هو الحال مثلًا في العلوم الاجتماعية، ومن ناحية أخرى تهتم هذه التقنيات اهتمامًا بالغًا بممارسة السلطة في غمار جمع المعلومات. وقد سكَّ فوكوه مصطلحًا هو «السلطة الحيوية» للإشارة إلى هذا الشكل الحديث من أشكال السلطة، وهو الذي بدأ الظهور منذ القرن السابع عشر، قائلًا: «إن السلطة الحيوية جاءت بالحياة وآلياتها إلى عالم الحسابات الصريحة، وجعلت المعرفة/السلطة عاملًا من عوامل تغيير الحياة البشرية» (١٩٨١م، ١٤٣).
وهذا التصور للسلطة يوحي بأن الخطاب واللغة ذواتا أهمية أساسية في العمليات الاجتماعية للمجتمع الحديث، فالممارسات والتقنيات التي يركِّز فوكوه عليها تركيزًا شديدًا — المقابلة الشخصية، جلسات إسداء المشورة وما إلى ذلك — ممارسات خطابية إلى حدٍّ بعيد. وهكذا فإن تحليل المؤسسات والمنظَّمات من حيث السلطة يقتضي فهم وتحليل ممارساتها الخطابية، ولكن نظرة فوكوه للسلطة لا تعني فحسب زيادة الانتباه إلى الخطاب في التحليل الاجتماعي، بل تعني كذلك زيادة الانتباه للسلطة في تحليل الخطاب، ولكن هذه الأسئلة الخاصة بالخطاب والسلطة لا تظهر في دراسات فوكوه الأثرية، ولا في مداخل تحليل الخطاب ذات التوجُّه اللغوي. وعلى نحو ما يشير شابيرو، نجد أن فوكوه «يرفع الرابطة بين اللغة والسياسة إلى مستوى رفيع من التجريد، وهو مستوى يسمح لنا بأن نتجاوز مبادلات السلطة المنعكسة في اللغة بين الأشخاص والجماعات حتى نقوم بتحليل المباني التي تكمن فيها» (١٩٨١م، ١٦٢).
وبعض هذه القضايا يثيرها فوكوه نفسه في دراسة (١٩٨٤م) تستكشف شتى الإجراءات التي يسيطر بها المجتمع على الممارسات الخطابية ويفرض القيود عليها قائلًا: «يخضع إنتاج الخطاب في كل مجتمع للسيطرة والاختيار والتنظيم وإعادة التوزيع في وقتٍ واحد من خلال عدد معيَّن من الإجراءات التي يتمثَّل دورها في تحاشي سلطاته وأخطاره، والتحكم في أحداثه العارضة، وتجنُّب طبيعته المادية الثقيلة الجبارة» (ص١٠٩). ومن بين «الإجراءات» التي يفحصها فوكوه فرض القيود على ما يمكن أن يقال، وعلى مَن يقوله، وعلى المناسبات التي يمكن أن يقال فيها. وضروب التعارض بين خطاب العقل وخطاب الجنون، وبين الخطاب الصادق والخطاب الكاذب، وآثار نسبة الكلام إلى مؤلف، والحدود المرسومة فيما بين المباحث العلمية، وإضفاء صفة القداسة على نصوص معيَّنة، والقيود الاجتماعية المفروضة على التمتع بممارسات خطابية معيَّنة، ويشير فوكوه في هذا الصدد إلى أن «أي نظام تعليمي وسيلة سياسية للحفاظ على — أو تعديل — امتلاك ضروب الخطاب مع ما تحمله من المعارف والسلطات» (ص١٢٣). ويوجد تأكيد مهم عند فوكوه (١٩٨٤م) لصراع السلطة حول البت في الممارسات الخطابية؛ إذ يقول: «لا تنحصر ماهية الخطاب في كونه الوسيلة التي تترجم أنواع الصراع أو نظم الهيمنة، بل إنه الشيء الذي يقوم الصراع من أجله ويتوسل به، فالخطاب هو السلطة التي يظفر بها مَن يسعى إليها» (ص١١٠).
وهكذا فإن الانتقال من علم الآثار إلى علم الأنساب يتضمَّن تغييرًا للتأكيد الذي يؤدي إلى إبراز أبعاد الخطاب، فإذا كانت التشكيلات الخطابية عند فوكوه (١٩٧٢م) تتسم بانتمائها إلى مباحث علمية معيَّنة (١٩٧٢) (مثل خطاب الأمراض النفسية، والاقتصاد السياسي، والتاريخ الطبيعي، على الرغم من مقاومة فوكوه للتوافق البسيط بين ضروب الخطاب وهذه المباحث)، فإن فئات الخطاب البارزة عند فوكوه (١٩٧٩م، ١٩٨١م) تتسم بطابع أقرب إلى «النوعية» (مثل المقابلة الشخصية، وجلسات إسداء المشورة، باعتبارهما من الممارسات الخطابية التي ترتبط على الترتيب بما يسميه فوكوه «الفحص»، و«الاعتراف»؛ انظر أدناه). والمقصود بهذا أنها تشير إلى شتى أشكال التفاعل المبنية بطرائق معيَّنة وتتضمن مجموعات معيَّنة من المشاركين (مثل مَن يُلقي الأسئلة في المقابلة الشخصية ومن يجيب عليها)، بحيث يمكن استخدامها في شتَّى المباحث العلمية أو المؤسسات، ومن ثَمَّ فإنها تتفق مع شتى التشكيلات الخطابية (بحيث يكون لدينا مقابلات شخصية في مجال الطب، وعلم الاجتماع، والحصول على الوظائف، وأجهزة الإعلام). وأما التضاد عند بعض الكتَّاب فهو بين ضروب الخطاب، و«الأنواع» (انظر كريس، ١٩٨٨م، والفصل الرابع أدناه).
ويحلِّل فوكوه تكنولوجيتَين رئيسيتَين من تكنولوجيات السلطة، وهما «التأديب» (ويتضمن الفحص في تقنيته الجوهرية، فوكوه ١٩٧٩م) و«الاعتراف» (فوكوه ١٩٨١م). ومن القضايا الأولية للتحليل الخاص بالأنساب قضية تدهشنا وهي أسلوب تأثير التقنيات في «الأجسام»، أي كيف تؤثر في الأشكال التفصيلية «المُطبَّعة» للسيطرة على الميول والعادات والحركات الجسدية التي نلاحظها في المجتمعات الحديثة، وهي أوضح ما تكون في التمارين البدنية في التدريب العسكري والعمليات المشابهة لها في الصناعة والتعليم والطب وما إلى ذلك بسبيل. وتكنولوجيا التأديب الحديثة ترمي إلى إنتاج «أجسام مطيعة» بتعبير فوكوه، وأجسام تكيَّفَت لتلبية مطالب الأشكال الحديثة للإنتاج الاقتصادي. ويتجلَّى التأديب في أشكال منوَّعة مثل الأساليب المعمارية للسجون والمدارس والمصانع التي ترمي إلى تخصيص مساحة محدَّدة لكل نزيل (زنزانة، مكتب، مقعد … إلخ) بحيث يمكن إخضاعه للمراقبة الدائمة، ومثل تقسيم اليوم التعليمي أو يوم العمل إلى أجزاء يتميز بعضها عن بعض بحدود صارمة، ومثل تنظيم النشاط الجسدي فيما يتعلَّق مثلًا بتعليم الكتابة بالقلم بالأسلوب التقليدي، وهو ما «يفترض مُسبَقًا القيام برياضة جسدية، بمعنى مجموعة حركات تتبع منهجًا يشمل الجسد كله» (١٩٧٩م، ١٥٢)، أو مثل «تطبيع الحكم»، وهو الذي تقيس نظم العقاب فيه الأفراد طبقًا لمعايير محدَّدة. وعلى الرغم من أن التأديب تكنولوجيًّا يختص بالتعامل مع الجماهير، فإنه يفعل ذلك بأسلوب يركِّز على الفرد تركيزًا شديدًا، بمعنى أنه يعزل كلَّ فرد ويركز على الأفراد واحدًا بعد الآخَر، ويُخضعهم إلى إجراءات «التطبيع» نفسها. وطبقًا لتأكيد فوكوه على إنتاجية السلطة، فإن السلطة التأديبية تُنتج الفرد الحديث (١٩٧٩م، ١٩٤).
وأما «الفحص»، فأسلوب تحقيق «علاقات السلطة التي تتيح استخلاص المعرفة وتكوينها» (١٩٧٩م، ١٨٥). ويعزل فوكوه ثلاث خصائص مميزة للفحص (١٩٧٩م، ١٨٧–١٩٢)؛ أولها: إن «الفحص حوَّل اقتصاد الرؤية إلى ممارسة السلطة»، ويعني فوكوه بهذا أن يقيم التضاد بين السلطة الإقطاعية التي كانت تجعل الملك صاحب السلطة بارزًا للعيان، والخاضعين للسلطة «مقيمين في الظل»، وبين سلطة التأديب الحديثة التي تجعل السلطة غير مرئية، والخاضعين لها تحت الأضواء. فالرؤية الدائمة تجعل الفرد خاضعًا للسلطة من ناحية، وتتيح معاملة الأفراد و«ترتيبهم» كأنهم أشياء من ناحية أخرى. والفحص إذَن «هو الإجراء الرسمي لهذا التشيُّؤ، إن صحَّ هذا التعبير». ونرى ثانيًا أن «الفحص يدفع بالفردية إلى مجال التوثيق»، بمعنى أن الفحص يرتبط بإنتاج سجلات عن الأشخاص. ولهذا نتيجتان؛ الأولى: «اعتبار الفرد شيئًا يمكن وصفه وتحليله». والثانية: استغلال السجلات للتوصل إلى تعميمات عن السكان، وما يتصفون به في المتوسط، وأعرافهم وما إلى ذلك بسبيل. ويقول فوكوه: إن هذا الجانب الأخير هو الأصل المتواضع للعلوم الإنسانية. ونرى ثالثًا أن «الفحص المحاط بشتى تقنياته التوثيقية يجعل كلَّ فرد «حالة» معيَّنة؛ وهي حالة تشكل في الوقت نفسه موضوعًا لفرع من فروع المعرفة، وأداة لفرع من فروع السلطة». ويقيم فوكوه التضاد بين الممارسة التاريخية التقليدية التي تكتب فيها سير العظماء التي تصبح آثارًا تاريخية، وبين الكتابة التأديبية/البحثية الحديثة التي تتضمن تاريخ الحالات المفردة لإخضاعها وتَشْييئها.
وإذا كان الفحص تقنية تَشْييء الأشخاص، فإن الاعتراف تقنية إخضاعهم. ويقول فوكوه «أصبح الإنسان الغربي حيوانًا مُعترِفًا» (١٩٨١م، ١٧٤)، والدافع الذي يجعل المرء يغوص في ذاته ويتحدَّث عن نفسه، وخصوصًا عن حياته الجنسية، في إطارٍ ما، يفتأ يتسع من المواقع الاجتماعية (تتعلَّق أصلًا بالدين، ثم بعلاقات الحب، والعلاقات الأسرية، والطب والتعليم … إلخ) يبدو في ظاهره في صورة مقاومة تحرِّره من السلطة الحيوية التي تُشيِّئُه، ولكن هذا وَهْم في رأي فوكوه، إذ يعتقد أن الاعتراف يدفع بالمزيد من جوانب الشخص إلى مجال السلطة.
ويعرِّف فوكوه الاعتراف بألفاظ تربطه ربطًا سافرًا بالخطاب، إذ يصفه بأنه من «الطقوس الخِطابية»، وهو ما يمكن أن نطلق عليه صفة «النوع» في مجال تحليل الخطاب ذي التوجُّه النصي. ويعرِّف فوكوه الاعتراف أولًا طبقًا للموضوع قائلًا: «إن موضوع الكلام هو الذات التي تتكلم»، ثم من زاوية علاقة السلطة بين المشاركين «فالمرء لا يقدِّم اعترافًا إلا في حضور (أو افتراض حضور) شريك، والشريك ليس مجرَّد شريك في التخاطب، بل السلطة التي تطلب الاعتراف وتأمر به وتقدِّره، وتتدخل حتى تحكم وتصفح وتعزي وتصالح» (١٩٨١م، ٦١). ويتميز الاعتراف بسمة خاصة به وحده، وهي أن الإدلاء بالاعتراف يؤدي إلى تغيير الذي يدلي به، فهو «يُبرِّئه ويغفر له ويطهره، وهو يخلصه من أثقال سيئاته، ويحرِّره، ويعِدُه بالخلاص» (ص٦٢). أضِف إلى ذلك أن قيمة الاعتراف تزداد بسبب العقبات وضروب المقاومة التي لا بد أن يقهرها المرء حتى يُدلي باعترافه.
وعلى الرغم من أن حديث فوكوه عن الاعتراف يرتبط بالخطاب أكثر من ارتباط الفحص به (فهو يشير إلى الأول باعتباره «شكلًا خطابيًّا» إلى جانب كونه «طقسًا خطابيًّا») فإنني أرى أن كلًّا منهما يرتبط بوضوحٍ بأنواعٍ خطابية معيَّنة. وتتضمن هذه، في حالة الفحص، الفحوصَ الطبية، والامتحانات التعليمية والكثير من أشكال المقابلات الشخصية. وأما بالنسبة للاعتراف، فإنه لا يقتصر على الاعتراف الديني، بل يشمل أيضًا ضروب الخطاب العلاجي وجلسات المشورة من شتَّى الأنواع. ومن الموضوعات التي يناقشها فوكوه موضوع اكتساب الاعتراف طابعًا علميًّا في القرن التاسع عشر، ويقول في هذا الصدد: إن الفحص والاعتراف قد امتزجا في «التحقيق» (الذي تجريه النيابة مع المتهمين) وفي «الاستجواب الدقيق»، وفي التنويم المغناطيسي.
وتقنيات السلطة التي يلفت فوكوه النظر إليها ترتبط بأنماط الخطاب التي أصبحت بارزة في المجتمع الحديث، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا فيما يبدو بطرائق تنظيمه الاجتماعي وقِيَمه الثقافية، ويبدو أن هذه الأنواع البارزة ثقافيًّا، وخصوصًا المقابلات الشخصية وجلسات المشورة، وكذلك الأنواع المرتبطة بالإدارة والإعلانات، «تستعمر» نظم الخطاب الخاصة بشتى المؤسسات والمنظمات المعاصرة، وأصبحت تتسم في أثناء ذلك بالتوسع الهائل في وظائفها وهي تنتقل عَبْر الحدود ما بين المؤسسات، فأدت إلى توليد أنواع فرعية وأشكال أخرى كثيرة (من بينها جلسات تقديم المشورة العلاجية والتعليمية، والتوظيفية، والخاصة بالمستهلكين على سبيل المثال) (معنى جلسة تقديم المشورة مساعدة الفرد الذي يعاني من مشكلة شخصية، ذات آثار نفسية، على التغلُّب عليها من خلال الحديث الصريح مع اختصاصي اجتماعي نفسي يقدِّم له المشورة). وتمثِّل المقابلات الشخصية وجلسات المشورة على الترتيب نوعَي خطاب التَّشْييء وخطاب الإخضاع المقابلَين لتقنية الفحص القائمة على التَّشْييء، وتقنية الاعتراف القائمة على الإخضاع، وأما الطرائق الخطابية التي «تتعامل» بيروقراطيًّا مع الأشخاص باعتبارهم أشياء، من ناحية، والطرائق الخطابية التي تستكشف النفس وتتيح لها إسماع صوتها، من ناحية أخرى، فهما فيما يبدو بؤرتا تركيز لنظام الخطاب الحديث.
وفي هذا الصدد يشير منظور فوكوه الخاص بالأنساب إلى اتجاهات للبحث في الخطاب ذوات أهمية لقضايا هذا الكتاب، وهي البحث في أشكال التحوُّل التاريخي للممارسات الخطابية الخاصة بنظم الخطاب، وعلاقتها بعمليات التغير الاجتماعي والثقافي الأوسع نطاقًا (انظر الفصلَين الثالث والسابع أدناه). وتوجد هنا قضايا عِلِّية مهمة، مثل: إلى أيِّ حدٍّ تمثل هذه التغييرات الخطابية تلك التغييرات الاجتماعية والثقافية الأوسع نطاقًا، ولا تقتصر على مجرد «إظهارها»؟ وإذَن فإلى أيِّ مدى يمكننا البحث في هذه العمليات الواسعة النطاق من خلال تحليل الممارسات الخطابية المتغيرة؟ أضِف إلى هذا وجود سؤال عن مدى انتشار ومدى فاعلية الجهود المتعمدة التي يقوم بها رجال المؤسسات لإجراء تغييرات في الممارسات الخطابية للمحادثات غير الرسمية في المجال الخاص عند إجرائها في المجال العام استنادًا إلى الحسابات الخاصة بفاعليتها (مثل توفير هدوء الأعصاب للذين تجري معهم المقابلات الشخصية) ويدربون العاملين في المؤسسات على استخدام تقنيات خطابية جديدة. وأنا أشير إلى عملية التدخل المذكورة باسم «استخدام التكنولوجيا في الخطاب»، بمعنى أن الخطاب اليوم أصبح يستخدم تكنولوجيات وتقنيات يصفها فوكوه بأنها تمثِّل الأساليب الحديثة لعمل السلطة (انظر أيضًا الفصل السابع أدناه).
(٧) فوكوه وتحليل الخطاب ذو التوجُّه النصي
- (١)
الطبيعة التكوينية للخطاب، أيْ إنَّ الخطاب يُكوِّن الجوانب الاجتماعية، بما في ذلك «الموضوعات» الاجتماعية والذوات الاجتماعية.
- (٢)
أولوية المُركَّبات الخِطابية والتَّناص، بمعنى أن أي تعريف للممارسة الخطابية يعتمد على علاقتها بغيرها، فهي تستفيد من غيرها بطرائق مُركَّبة.
وتظهر ثلاث أفكار مهمة أخرى في عمل فوكوه الخاص بعلم الأنساب، وهي:
- (٣)
الطبيعة الخِطابية للسلطة، إذ إن ممارسات وتقنيات «السلطة الحيوية» الحديثة (مثل الفحص والاعتراف) خِطابية إلى درجة بعيدة.
- (٤)
الطبيعة السياسية للخطاب، إذ إن الصراع على السلطة يحدث في الخطاب وحوله.
- (٥)
الطبيعة الخِطابية للتغير الاجتماعي، فالممارسات الخطابية المتغيرة عنصر مهم من عناصر التغير الاجتماعي.
وتعد هذه مجموعة حافلة من المقولات النظرية والافتراضات عند محاولة إدراجها وتفعيلها في تحليل الخطاب ذي التوجُّه النصي.
ومع ذلك فإن التحليل المذكور يواجه بعض الصعوبات في عمل فوكوه، من بينها تجاهله للتحليل النصي، ورؤيته للخطاب باعتباره «تكوينيًّا». والغرض من تقديم هذا القسم الأخير مناقشة هذه الصعوبات، والإشارة إلى الجوانب التي لا ينبغي أن نتبع فوكوه فيها عند إجراء تحليل الخطاب ذي التوجُّه النصي.
سبق أن ذكرت أن أحد أوجُه الخلاف الرئيسية بين فوكوه وتحليل الخطاب ذي التوجُّه النصي أن تحليل فوكوه للخطاب لا يتضمن تحليل نصوص حقيقية من الناحيتَين الخطابية واللغوية. ومع ذلك، فإن إدراج مثل هذا التحليل قد يكون وسيلة للتغلُّب على بعض نقاط الضعف التي اكتشفها المعلِّقون في عمل فوكوه. لست أقترح اختزال تحليل الخطاب في التحليل النصي أو اللغوي، بل أقول: إن القضية تتعلَّق بضرورة إدراج نماذج فعلية من الخطاب في التحليل. وعندما تدرج، كما هو الحال في تحليل الخطاب ذي التوجُّه النصي، فيجب ألَّا تخضع وحسب للأشكال اللغوية للتحليل النصي، بل للتحليل بأبعادها الثلاثة: وهي تحليل النص، وتحليل العمليات الخطابية الخاصة بإنتاج النص وتفسيره (بما في ذلك السؤال عن أنماط الخطاب وأنواعه التي ينهل منها، وأساليب الإفصاح عنها وترابطها) والتحليل الاجتماعي ﻟ «الحادثة» الخطابية من حيث أحوالها الاجتماعية وآثارها، على شتى المستويات (من زاوية الحال، ومن الزاوية المؤسسية والمجتمعية) (انظر الفصل الثالث أدناه). إذَن، فإن ما أدعو إليه هو التحليل النصي المقترن بأنماط أخرى من التحليل، والقضية الرئيسية هي إن كان ينبغي تحليل نماذج محدَّدة (ونصوص معيَّنة).
وأما نقاط الضعف التي تهمنا في عمل فوكوه فتتعلَّق بمفهومَي السلطة والمقاومة، ومسألتَي الصراع والتغير؛ إذ إن فوكوه متهم بالمغالاة في تصوير مدى تلاعب السلطة بغالبية الناس؛ وهو متهم بأنه لا يولي الوزن الكافي لطعن الناس في الممارسات والصراعات بين القوى الاجتماعية حولها، والإمكانات المتاحة للجماعات المقهورة بمعارضة النظم الخطابية وغير الخطابية المهيمنة، وإمكانات التغيير في علاقات السلطة الذي يأتي به الكفاح، وهلُمَّ جرًّا (لوكور، ١٩٧٢م؛ ماكدونيل، ١٩٨٦م). والواقع أن فوكوه لا يتجاهل أمثال هذه المسائل، فهو يبدي اهتمامه بالتغيير، على سبيل المثال ما دام يخصِّص له فصلًا كاملًا في كتابه (١٩٧٢م) بعنوان «التغيير والتحولات»، حيث يؤكد باستمرار أن قواعد تشكيل التشكيلات الخطابية لا تتناول موضوعات ومفاهيم ثابتة، بل مجالات تحولاتها الممكنة. ونجد في هذا الكتاب، مثلما نجد في فوكوه (١٩٨٢م) مناقشة كاملة لأشكال الصراع، ولكن الانطباع المهيمن الذي نجده في مجمل أعماله وتحليلاته الرئيسية يصور الناس الخاضعين، بلا حول ولا طول، لنظم سلطة راسخة. ولا شك أن فوكوه يصرُّ على أن السلطة تستتبع المقاومة بالضرورة، ولكنه يقدِّم انطباعًا يقول: إن السلطة تحتوي المقاومة عمومًا (أي لا تسمح بانتشارها) ولا تجعلها مصدر تهديد. ويبدو أن هذا هو الحال فيما يتعلق بما يسميه فوكوه «الخطاب العكسي» للميول الجنسية المثلية. أيْ إن الانشغال بهذه الميول في خطابي الطب النفسي وفقه القانون في القرن التاسع عشر أدَّى إلى أنْ بدأَتْ هذه الميول «تتكلم باسمها … وكثيرًا ما كانت تستخدم المفردات نفسها، والمعايير نفسها التي أدَّت إلى نبذها طبيًّا» (١٩٨١م، ١٠١)، ومن ثَمَّ فإنه خطاب مقاومة لا يتجاوز حدود تشكيله الخطابي.
ويبدو أن هذه المشاكل ترتبط بغياب مفهوم الممارسة في تحليلات فوكوه، ومن بينها غياب النص والتحليل النصي. وأنا أعني ﺑ «الممارسة» النماذج الحقيقية للناس الذي يفعلون أو يقولون أو يكتبون أيَّ شيء. والواقع أن فوكوه (١٩٧٢م) يشير فعلًا إلى الممارسة في معرض تقديمه لمفهوم «الممارسة الخطابية»، ولكنه يعرِّفها بأسلوب مشوش، أي باعتبارها «قواعد» تقوم عليها الممارسة الفعلية، قائلًا: إن الممارسة الخطابية «نظام من القواعد التاريخية مجهولة المؤلف» (ص١١٧). وبعبارة أخرى نقول: إنه يختزل الممارسة في عكسها، أي في المباني، مستخدمًا ذلك المصطلح بالمعنى العام للموارد التي تقوم عليها الممارسة، واللازمة لها (إلى جانب كونها نتاجًا لها)، ويبدو أن المباني هي التي يقع عليها التركيز دائمًا، سواء كانت قواعد التشكيل عند فوكوه (١٩٧٢م) أو التقنيات، مثل تقنية الفحص عند فوكوه (١٩٧٩م)، ومع ذلك فإن فوكوه يزعم بطبيعة الحال أنه يتحدث عن الممارسة؛ إذ إن تركيزه على المباني يرمي إلى تفسير ما يمكن أن يحدث وما يحدث فعلًا.
والافتراض المشكوك في صحته هو إمكان استنباط حقائق الممارسة من فحص المباني، أي إمكان التوصل إلى نتائج خاصة بالممارسة من دون التحليل المباشر لنماذج حقيقية منها، بما في ذلك النصوص. وقد يوحي ذلك ضمنًا، على سبيل المثال، بأن الممارسة تتمتع بقَدْر من الاتساق يفوق كثيرًا ما نعرفه عنها؛ وأن المباني تتحكم في الممارسة إلى مدى لا يتغير، وبطرائق لا تتغير، وهو ما لا يبدو لنا صحيحًا؛ وأن البتَّ في القواعد — أو مجموعات القواعد — التي تستند إليها الممارسة أمر يسير مباشر، وهو ما ينفيه الواقع. ونقول بإيجاز: إن ما نفتقده هو القول بأن الممارسة تتسم بخصائص ذاتية، وإن هذه الخصائص (١) من المحال اختزالها في إعداد المباني، وإن هذه الخصائص تعني (٢) استحالة افتراض ظهورها في الممارسة بل لا بد من البتِّ في هذه المسألة، وأنها (٣) تساعد آخِر الأمر على تشكيل المباني.
ويرتبط بتركيز فوكوه على المباني غياب أمر آخَر، ألا وهو غياب آليات التغيير التفصيلية. إذ كيف اتخذَتِ المباني شكلها الحالي؟ كيف تتغير المباني؟ وفي معرض حديث تيلور (١٩٨٦م، ٩٠) عن فوكوه، يقول ما يلي: «فيما يتعلق بالشرح القائم على التتابع الزمني، لنا أن نتشكك في وجوب الإشارة إلى أولوية اللغة على الفعل؛ فالعلاقة بينهما دائرية، فمباني الفعل أو اللغات لا تستمر قائمة إلا بفضل تجديدها المتواصل في الفعل/الكلام، وإذا عجزت عن أن تظل قائمة فإنما يكون ذلك في الفعل/الكلام، وهكذا تتغير». وبعبارة أخرى يقول: إن المباني يُعاد إنتاجها وتتحول أشكالها أيضًا في الممارسة.
ولكن إذا كان من الممكن إعادة إنتاج المباني أو تحويلها في الممارسة، فما العامل الذي يحدِّد النواتج الفعلية في الحالات المختلفة؟ أو بصورة أعم وأشمل: ما العامل الذي يحدِّد النواتج التراكمية للممارسة في مجالات اجتماعية أو مؤسسات معيَّنة، ويحدِّد أوجُه اختلاف صورتها في اتجاهات إعادة الإنتاج عن صورتها في الاتجاهات التحويلية في الخطاب؟ أريد أن أقول: إن المباني يُعاد إنتاجها أو تتحول وَفْق حالة العلاقات القائمة، أو «ميزان السلطة»، بين القوى المتصارعة في مجال ممارسة معيَّن وثابت، مثل المدرسة أو مكان العمل، أيْ إنَّ التركيز البالغ الشدة على المباني يُعتبر بمثابة اتخاذ منظور من زاوية واحدة تجاه هذه الصراعات، وهو منظور أصحاب السلطة، مَن تتمثَّل مشكلتهم في الحفاظ على النظام الاجتماعي والإبقاء على الهيمنة. وتصوير جرامشي للسلطة باعتبارها هيمنة أفضل من تصوير فوكوه؛ لأن الأول يتجنَّب أمثال هذه الاختلالات (جرامشي، ١٩٧١م؛ هول، ١٩٨٨م). فصورة الهيمنة في مدخله صورة توازن قلق مبني على التحالفات وعلى توليد الرضى من الطبقات والجماعات الثانوية، وضروب زعزعة موقفها تمثِّل بؤرة التركيز الدائمة للصراعات (انظر الفصل الثالث حيث المزيد من المناقشة). والواقع أن تجاهل فوكوه للممارسة ولآليات التغيير التفصيلية يصحبه تجاهل للصراع، وطرائق أخرى ﻟ «المقاومة» التي يفترض أنها تفتقر إلى القدرة على تغيير الأبنية تغييرًا أساسيًّا.
وغياب التركيز على الممارسة والصراع يمكن أن يساعد على إيضاح السبب الذي يدفع النقاد إلى اعتبار تحليلات فوكوه «تتسم بانحياز شديد» من زاوية أخرى (تيلور، ١٩٨٦م، ٨١)؛ إذ إن فوكوه يفسِّر تقنيات السلطة التي يناقشها في دراساته للأنساب قائلًا: إنها أدوات صريحة للهيمنة والتلاعب، ولكن انظر في تقنية «جلسات المشورة» باعتبارها شكلًا من أشكال الاعتراف في المجتمع المعاصر: إن «جلسات المشورة» تستخدم فعلًا لإخراج ما يدور في رءوس الأشخاص وإدراجه في مجال السلطة/المعرفة، ولكنها أيضًا تقنية لتأكيد قيمة الشخص وطابعه الفردي في مجتمع يزيد من تعامله معهم باعتبارهم أصفارًا (كما بيَّنَ لنا فوكوه). والواقع أن جلسات المشورة تتسم بدلالتَين متفاوتتَين إلى حدٍّ بعيد، والتعقيد الواضح في علاقتها بالسلطة لا بد أن ينفي أيَّ زعم بأن أبعادها التحررية أبعاد وهمية. وإذا أردنا طريقًا أكبر فائدة للتقدُّم في هذا الصدد فعلينا البحث في أسلوب عمل جلسات التشاور باعتبارها من تقنيات الخطاب العملية، بما في ذلك دراسات الصراعات في الخطاب حول توجهاته المتناقضة إلى السيطرة والتحرُّر (انظر الفصل السابع أدناه).
لا يوجد، في جانب معيَّن، خطاب سلطة يقابله خطاب آخَر مضاد له. فضروب الخطاب عناصر تكتيكية أو كتل تعمل في مجال علاقات القوة؛ فمن الممكن أن توجد ضروب خطاب مختلفة، بل ومتناقضة داخل الاستراتيجية نفسها؛ وعلى العكس من ذلك يمكنها الانتقال من دون تغيير شكلها من استراتيجية إلى استراتيجية أخرى معارِضة، ويجب ألَّا نتوقع ضروب الخطاب الخاصة بالجنس أن تقول لنا، قبل كل شيء، ما الاستراتيجية التي استُمِدَّت منها، أو ما الأقسام الأخلاقية التي تتضمنها، أو ما الأيديولوجية التي تمثِّلها، سواء كانت مهيمنة أو خاضعة للهيمنة! بل إن علينا أن نفحصها على المستويين المتعلِّقَين بإنتاجيتهما التكتيكية (أي بخصوص الآثار المتبادلة للسلطة والمعرفة التي تكفلها) وتكاملها الاستراتيجي (أيْ ما الترابط وما علاقة القوة التي تجعل الانتفاع بها ضروريًّا في أية حالة من حالات شتى المواجهات التي تقع).
وسوف أناقش مثل هذا المنظور أدناه (في الفصل الثالث) من حيث إمكان «اصطباغ» ضروب الخطاب ونظم الخطاب بصبغة سياسية وأيديولوجية، من غير أن تكون مصطبغة بالضرورة على هذا النحو فعلًا، أو تكون مصطبغة في اتجاه معيَّن.
وفكرة تعدُّد التكافؤ التكتيكي في ضروب الخطاب نظرة ثاقبة قيِّمة في عمليات الصراع الأيديولوجي في الخطاب على نحو ما يمكن تصوُّره في نموذج يقوم على الهيمنة، ولكن فوكوه نفسه يقاوم مفهوم الأيديولوجيا، ويقاوم أيضًا فكرة التحليل باعتبارها شكلًا من أشكال البحث النقدي الأيديولوجي. وينبع هذان الموقفان من إيمان فوكوه بالنسبية؛ فالحقيقةُ عنده نسبية إزاء تشكيلات خطابية معيَّنة، ونظم معيَّنة للسلطة/المعرفة، ومن ثَمَّ فليست تقبل البحث النقدي من مواقع خارجها أو فوقها. ومع ذلك فلقد قيل: إن موقف فوكوه متناقض، ذلك أنه يبدو ملتزمًا بأشكال معيَّنة من البحث النقدي لا تتفق مع أخذه بالنسبية، وهكذا ينتهي به الأمر إلى اتخاذ موقف غير حاسم إزاء البحث النقدي (ديوز، ١٩٨٧م؛ فريزر ١٩٨٩م). وفي وصفي لتحليل الخطاب ذي التوجُّه النصي في الفصل الثالث أدناه، سوف أختلف عن فوكوه في استعمال مفهوم الأيديولوجيا، وافتراض أن التحليل النصي شكل من أشكال البحث النقدي الأيديولوجي. ومع ذلك، فإن انتقادات فوكوه والآخَرين تعني ضرورة الحرص على تجنُّب بعض التصوُّرات الساذجة للأيديولوجيا (انظر طومسون، ١٩٩٠م).
وتحفُّظي الأخير على فوكوه يتعلَّق بنظراته القيِّمة في خصائص الخطاب «المُكوِّنة» (أي التي تُكوِّن أو تُشكِّل أشياء معيَّنة). وإذا كنت أقبل أن «الموضوعات» والذوات الاجتماعية تشكِّلها الممارسات الخطابية، فإنني أودُّ الإلحاح على تبيان أن هذه الممارسات تخضع لقيود معيَّنة، وهي أنها تقع حتمًا في إطار واقع مادي سبقَ تشكيله، وبه موضوعات وذوات اجتماعية سبق تكوينها، ومن ثَمَّ ينبغي النظر إلى عمليات التكوين التي يقوم بها الخطاب من حيث كونها عملية جدلية، يعتمد فيها تأثير الممارسة الخطابية على طريقة تفاعلها مع الواقع الذي سبق تكوينه. وأما فيما يتعلَّق ﺑ «الموضوعات»، فربما يكون من المفيد أن نستخدم المصطلحَين «الإحالة» و«الدلالة»؛ فالخطاب يتضمَّن الإحالة إلى موضوعات سبق تكوينها، وكذلك الدلالة الإبداعية والتكوينية للموضوعات، وهنا نرى من جديد أن تحليلات الممارسة الواقعية والنص الواقعي تمثِّل تصحيحًا مهمًّا لمبالغات فوكوه في الآثار «التكوينية» للخطاب. ونحن نرى، على سبيل المثال، أن دراسات الخطاب الإعلامي التي انصَبَّ تركيزها على كيفية تفسير نصوص معيَّنة وكيفية تنظيمها أيضًا قد أخرجت لنا صورة شديدة التركيب، بحيث يمكن تفسير النصوص فيها من شتى الزوايا المتفقة إلى حدٍّ ما أو المتعارضة بصورة ما، وهو ما يجعل من قبيل الإشكالية العويصة أية نظرة منهجية لتأثير الخطاب في الذوات الاجتماعية على سبيل المثال. ويدل هذا المثال أيضًا على أن عملية تكوين الذوات دائمًا ما تقع في إطار أشكال معيَّنة من التفاعل بين ذوات سبقَ تكوينُها، حيث تؤثِّر أشكال التفاعل في عملية «التكوين» (انظر ديوز، ١٩٨٧م، ١٩٨). ويقول المثال أيضًا: إن الذوات الاجتماعية التي سبق تكوينها لا تشغل مواقع سلبية وحسب، بل إن لديها القدرة على الفعل، أي أن تصبح «فواعل»، وأن تقوم، من بين ما تقوم به، بتحديد علاقتها بشتى أنماط الخطاب المنوعة التي تنغمس فيها.
وتلخيصًا لما سبق أقول: إن تحليل الخطاب ذا التوجُّه النصي من المحتمل أن يدعم التحليل الاجتماعي أساسًا بضمان الاهتمام بالحالات العملية للممارسة والأشكال النصية وعمليات التفسير المرتبطة بها. ومن شأن مثل هذا الاهتمام بتفاصيل حالات معينة أن يساعد المحلِّلين على تجنُّب المناهج الجاهزة والانحياز الذي يحدُّ من نطاق عمل فوكوه، سواء في علاقة ذلك بآثار السلطة وإمكانات المقاومة، أو «تكوين» الذوات الاجتماعية، أو القِيَم الاجتماعية والثقافية المرتبطة بأنواع خاصة (من الخطاب) مثل جلسات المشاورة، ويستطيع أيضًا أن يربط ما بين الأقوال العامة عن التغير الاجتماعي والثقافي وبين الآليات والطرائق المحدَّدة لآثار التغيير في الواقع العملي.