نظرية اجتماعية للخطاب
أقدِّم في هذا الفصل رأيًا في الخطاب، وإطارًا لتحليل الخطاب، وهو الإطار الذي سوف أعرضه بالتفصيل وأوضِّحه بالأمثلة في بقية الكتاب، وقد أملى عليَّ هذا المدخل ما حددته في المقدمة من أهداف، أي أنْ أجمع بين تحليل الخطاب ذي التوجُّه اللغوي وبين الفكر الاجتماعي والسياسي المرتبط بالخطاب واللغة، في شكل إطار يصلح للاستخدام في البحث العلمي الاجتماعي، وخصوصًا في دراسة التغير الاجتماعي؛ فالفصلان الأولان يحددان عددًا من الإنجازات وأوجُه القصور في الدراسات السابقة، وأما الفصل الثالث فهو مكتوب على ضوء تلك المناقشة من دون أن يكون مبنيًّا عليها مباشرة. وسوف أبدأ بمناقشة مصطلح «الخطاب»، ثم أُتبعه بتحليل الخطاب في الإطار الثلاثي الأبعاد، أي باعتباره نصًّا، وممارسة خطابية، وممارسة اجتماعية. وأنا أناقش أبعاد التحليل الثلاثة المذكورة بُعدًا بُعدًا، ثم أنتهي بعرض مدخلي الخاص بالبحث في التغيُّر الخطابي في علاقته بالتغيير الاجتماعي والثقافي.
(١) الخطاب
ينصَبُّ تركيزي على اللغة، ومن ثَمَّ فأنا أستخدم «الخطاب» بمعنًى أضيقَ من المعنى الذي يستخدمه فيه علماء الاجتماع عمومًا؛ بحيث يشير إلى استعمال اللغة المنطوقة أو المكتوبة، أي إنني سوف أستخدم مصطلح «الخطاب» في الإشارة إلى ما درَجَ علماء اللغة على تسميته «استعمال اللغة»، أو «الكلام» أو «الأداء اللفظي». ووفق التقاليد التي بدأها فيرديناند دي سوسير (١٩٥٩م) لا يعتبر «الكلام» صالحًا للدراسة المنهجية لأنه في جوهره نشاط فردي، فالأفراد ينهلون بأساليب يتعذَّر التنبؤ بها، وفقًا لرغباتهم ومقاصدهم، من «اللغة»، واللغة بطبيعتها منهجية واجتماعية. واللغويون العاملون في إطار هذه التقاليد يعرِّفون الكلام حتى يستبعدوه، إذ يترتب على موقف سوسير أن أية دراسة منهجية للغة يجب أن تكون دراسة للنظام نفسه، أيْ للغة لا «لاستعمالها».
وقد تعرَّض موقف سوسير للهجوم المتواصل من جانب الباحثين في علم اللغة الاجتماعي، الذين يقولون: إن استعمال اللغة يتشكَّل اجتماعيًّا لا فرديًّا. ويقولون: إن التفاوت في استعمال اللغة تفاوت منهجي وصالح للدراسة العلمية، وإن ما يجعله منهجيًّا هو اتفاقه مع المتغيرات الاجتماعية، بمعنى أن اللغة تتغير وفق طبيعة العلاقة بين المشاركين في التفاعلات، ونمط الحادثة الاجتماعية، والأهداف الاجتماعية التي يرمي إليها الأشخاص في أي تفاعل وهلُمَّ جرًّا (داونز، ١٩٨٤م). وإذا كان هذا يمثِّل بوضوح تقدُّمًا على التقاليد السوسيرية المهيمنة في التيار الرئيسي لعلم اللغة، فإنه قاصر من جانبَين؛ الأول أن التأكيد يغلب عليه اتخاذ زاوية واحدة، ألا وهي النظر في كيفية تغير اللغة طبقًا للعوامل الاجتماعية، وهو ما يوحي بأن أنماط الذوات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، والمواقف المختلفة ذات وجود مستقل عن استعمال اللغة، كما ينفي إمكان استعمال اللغة فعليًّا في تكوينها وإعادة إنتاجها وتغييرها. والجانب الثاني للقصور هو أن «المتغيرات الاجتماعية» التي تعتبر معادِلة للمتغيرات اللغوية ما هي في الحقيقة إلا معالم سطحية، نسبيًّا، للمواقف الاجتماعية لاستعمال اللغة، ولا يوحي هذا على الإطلاق بأن خصائص استعمال اللغة ربما كانت تخضع بمعنًى أشمل لسيطرة البناء الاجتماعي على مستوًى أعمق، مثل العلاقات الاجتماعية بين الطبقات والطوائف الأخرى، ومثل أساليب تجلِّي المؤسسات الاجتماعية في التشكيلات الاجتماعية، وهلُمَّ جَرًّا. وربما كانت تسهم في إعادة إنتاج هذا البناء وتغييره.
وأنا أقترح في استعمالي لمصطلح «الخطاب» اعتبار استخدام اللغة شكلًا من أشكال الممارسة الاجتماعية، لا مجرد نشاط فردي محض أو رد فعل للمتغيرات الموقفية. وتترتب على هذا أمور شتى. فهو يوحي أولًا بأن الخطاب نوع من الفعل، شكل من أشكال تفاعل الأشخاص مع الدنيا، وخصوصًا بعضهم مع بعض، وكذلك يُعَد الخطاب نوعًا من التمثيل. وقد أصبحت هذه النظرة إلى اللغة مألوفة، وإن كانت كثيرًا ما تصطبغ بصبغة فردية، بفضل الفلسفة اللغوية والتداولية اللغوية (ليفنسون، ١٩٨٣م)، وهو يوحي ثانيًا بوجود علاقة جدلية بين الخطاب والبناء الاجتماعي، ما دامت مثل هذه العلاقة قائمة بصفة عامة بين الممارسة الاجتماعية والبناء الاجتماعي، فالعلاقة الأخيرة شرط لقيام الأولى ونتيجة من نتائجها، فنحن نرى من ناحية معيَّنة أن الخطاب يشكِّله ويقيِّده البناء الاجتماعي بأوسع معانيه، وعلى جميع المستويات؛ أي من جانب الطبقات والعلاقات الاجتماعية على المستوى المجتمعي، والعلاقات الخاصة بمؤسسات محدَّدة، مثل القضاء والتعليم، ونظم التصنيف، وشتى المعايير والأعراف من ذوات الطبيعة الخطابية وغير الخطابية. وتتفاوت الأحداث الخطابية فيما يحدِّد بناءها وفقًا للمجال الاجتماعي أو الإطار المؤسسي الذي تتولد فيه. ونرى من ناحية أخرى أن الخطاب ذو قدرة على التكوين الاجتماعي، وهذا مفاد مناقشة فوكوه للتشكيل الخطابي للموضوعات وللذوات وللمفاهيم. فالخطاب يسهم في تكوين جميع هذه الأبعاد الخاصة بالبناء الاجتماعي وهي التي تشكِّله وتقيِّده بصورة مباشرة وغير مباشرة؛ أي بمعاييره وأعرافه الخاصة، وكذلك العلاقات والهُويات والمؤسسات التي تكمن وراءه، فالخطاب ممارسة لا تقتصر على تمثيل العالم بل تتجاوز ذلك إلى الدلالة عليه، أي إنه يُكوِّن العالم ويبنيه من زاوية المعنى.
والممارسة الخطابية ذات قدرة تكوينية بالأساليب التقليدية والخلَّاقة، فهي تسهم في إعادة إنتاج المجتمع (الهُويات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، والنظم المعرفية والعقائدية) على نحو ما هو عليه، وهي تسهم أيضًا في تغيير المجتمع. فعلى سبيل المثال تعتمد هُويات المعلمين والتلاميذ والعلاقات فيما بينهم، وهي التي تعتبر في صلب أيِّ نظام تعليمي، على اتساق أنساق الكلام واستمرارها داخل هذه العلاقات وحولها حتى يُعاد إنتاجها، ومع ذلك فمن الممكن أن تتعرض لتحولات قد تنشأ في جانبٍ منها داخل الخطاب، أي في الكلام في قاعة الدرس، وفي الفناء، وفي غرفة الأساتذة، والمناظرات التعليمية وهلُمَّ جرًّا.
ومن المهم أن ننظر نظرة جدلية إلى العلاقة بين الخطاب والبناء الاجتماعي حتى نتجنَّب مزالق المغالاة في تصوُّر تحكُّم المجتمع في الخطاب من ناحية، وتصوُّر بناء المجتمع في الخطاب، من ناحية أخرى. فالتصوُّر الأول يجعل الخطاب مجرَّد انعكاس لحقيقة اجتماعية عميقة، والتصوُّر الأخير يرسم للخطاب صورة مثالية باعتباره مصدرًا للمجتمع. وربما يكون التصوُّر الأخير هو المزلق الأخطر بصورة مباشرة، نظرًا للتأكيد في المناظرات المعاصرة على الخصائص التكوينية للخطاب. فلننظر في مثالٍ ما لنرى كيف يمكن تجنُّب هذا المزلق دون مساس بمبدأ الطاقة التكوينية. إن علاقات الآباء بالأطفال في الأسرة، وتحديد المواقع التي تشغلها «الأم» و«الأب» و«الطفل» أمور متاحة اجتماعيًّا، إلى جانب وضع أفراد حقيقيين في هذه المواقع، وطبيعة الأسرة، والبيت، فهذه جميعًا تتكون في جانب منها داخل الخطاب، باعتبارها نتائج تراكمية (ومتناقضة في الواقع) لعمليات الحديث والكتابة المركَّبة والمنوعة. وقد يؤدي هذا إلى استنتاج مثالي يقول: إن حقائق العالم الاجتماعي، مثل الأسرة، لا تنبع إلا من رءوس الناس، ولكنَّ لدينا شروطًا ثلاثة تساعد مجتمعة على عدم إقرار ذلك. الأول: أن الناس دائمًا ما تواجه الأسرة باعتبارها مؤسسة حقيقية (ولها عدد محدود من الأشكال المغايرة) ولها ممارسات عملية، وعلاقات وهُويات قائمة كانت قد تكونت من قبل في الخطاب ثم تشيَّأت فتحوَّلت إلى مؤسسات وممارسات. والثاني: أن الآثار «التكوينية» للخطاب تعمل بالتضافر مع قريناتها في الممارسات الأخرى، مثل توزيع المهام المنزلية، والملابس، والجوانب العاطفية للسلوك (مثل: من الذي ينفعل). والثالث: أن العمل التكويني للخطاب يحدث بالضرورة داخل قيود التحديد الجدلي للخطاب وهي التي تفرضها المباني الاجتماعية (وهي تتضمن في هذه الحال حقيقة المباني الأسرية ولكنها تتجاوزها) وكذلك، على نحو ما سوف أقيم عليه الحجة أدناه، داخل إطار معيَّن لعلاقات السلطة وصراعاتها، وهكذا فإن التكوين الخطابي للمجتمع لا ينبثق من النشاط الطليق للأفكار داخل رءوس الناس بل من ممارسة اجتماعية ذات جذور راسخة، وتوجه نحو المباني الاجتماعية المادية الحقيقية.
ويعتبر المنظور الجدلي تصحيحًا لازمًا للمغالاة في تأكيد خضوع الخطاب لسيطرة المباني، سواء كانت مبانيَ خطابية، (شفرات وأعراف ومعايير)، أو مبانيَ غير خطابية. ومن هذه الزاوية نجد أن قدرة مصطلح «الخطاب» على الإشارة إلى أبنية الأعراف التي تستند إليها الأحداث الخطابية الفعلية، وكذلك إلى هذه الأحداث نفسها، تعتبر غموضًا موفقًا، حتى ولو كان يمكن اعتباره، من زوايا أخرى، سببًا في التشويش. فالبنيوية (التي يمثِّلها مدخل بيشوه الموصوف في الفصل الأول أعلاه مثلًا) تتناول الممارسة الخطابية والحادثة الخطابية باعتبارهما مجرد نماذج للمباني الخطابية، وهي التي تصور في صور ثابتة ذات طابع موحد. والبنيوية تنظر إلى الممارسة الخطابية من حيث كونها نموذجًا للعِلِّية الآلية (ومن ثم التشاؤمية). وأما المنظور الجدلي فيرى الممارسة والحادثة باعتبارهما متناقضتَين ومشتبكتَين في صراع، ويرى أن لهما علاقة مركَّبة متغيرة بالمباني التي لا تكشف في نفسها إلا عن ثبات مؤقَّت وجزئي ومتناقض.
والممارسة الاجتماعية ذات توجهات شتى — اقتصادية وسياسية وثقافية وأيديولوجية — وقد يشارك الخطاب في هذه جميعًا، من دون اختزال أيٍّ منها، واعتبارها خطابًا وحسب. فعلى سبيل المثال يمكن أن يُقال: إن الخطاب شكل من أشكال الممارسة الاقتصادية بعدد من الطرق؛ إذ يظهر الخطاب بنسب متفاوتة باعتباره من مقومات ممارسة اقتصادية ذات طبيعة غير خطابية أساسًا، مثل بناء الجسور أو إنتاج الغسالات؛ كما توجد أشكال من الممارسة الاقتصادية ذات طبيعة خطابية أساسية، مثل سوق الأوراق المالية، أو الصحافة، أو كتابة مسلسلات تليفزيونية، أضِف إلى ذلك أن النظام الاجتماعي اللغوي لمجتمع من المجتمعات قد يتخذ بناؤه صورة السوق، جزئيًّا على الأقل؛ حيث يجري إنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها مثل السلع (في «صناعات الثقافة»، بورديو، ١٩٨٢م).
ولكن الخطاب باعتباره شكلًا من أشكال الممارسة السياسية والأيديولوجية هو الذي يتصل اتصالًا وثيقًا باهتمامات هذا الكتاب؛ فالخطاب باعتباره ممارسة سياسية يُنشئ علاقات السلطة ويحافظ عليها ويُغيِّرها، وكذلك الكيانات الجماعية (الطبقات، التكتلات، المجتمعات المحلية، والمجموعات) التي تنشأ فيما بينها علاقات السلطة. والخطاب باعتباره ممارسة أيديولوجية يكوِّن دلالات العالم، ويُطبِّعها، ويحافظ عليها ويُغيِّرها من مواقع منوَّعة في علاقات السلطة. وعلى نحو ما توحي به هذه الصياغة، لا تتسم الممارسة السياسية بالاستقلال عن الممارسة الأيديولوجية، فالأيديولوجيا دلالات تتولَّد داخل علاقات السلطة باعتبارها بُعدًا من أبعاد ممارسة السلطة والصراع على السلطة. وهكذا فإن الممارسة السياسية تعتبر الفئة الأعلى مكانة. أضِف إلى ذلك أن الخطاب باعتباره ممارسة سياسية ليس موقعًا للصراع على السلطة وحسب، بل شريك أيضًا في ذلك الصراع، بمعنى أن الممارسة الخطابية تنهل من الأعراف التي تُطبِّع علاقات سلطة وأيديولوجيات معيَّنة، كما أن هذه الأعراف نفسها، وطرائق التعبير والإفصاح عنها، تمثِّل بؤرة تركيز للصراع. وسوف أسوق الحجة أدناه على أن مفهوم جرامشي للهيمنة يقدِّم لنا إطارًا مثمرًا لوضع تصوُّر نظري للأبعاد السياسية والأيديولوجية للممارسة الخطابية والبحث فيها.
لن أقول إن أنماطًا معيَّنة من الخطاب تتسم بقِيَم سياسية أو أيديولوجية راسخة، بل أقول: إن مختلف أنماط الخطاب في مجالات اجتماعية مختلفة أو في أطر مؤسسية معيَّنة قد تصبح «مشحونة» سياسيًّا أو أيديولوجيًّا (فراو، ١٩٨٥م) بطرائق محدَّدة. ويعني هذا ضمنًا أن أنماط الخطاب قد تصبح أيضًا مشحونة بطرائق مختلفة، وقد «يُعاد شحنها» في بعض الحالات (وسوف أضرب مثالًا في آخِر مناقشة التغير الخطابي أدناه).
ومن الأهمية بمكان قضية تصورنا للأعراف والمعايير الخطابية التي تستند إليها الأحداث الخطابية. ولقد سبق لي أن أشرت إلى الرأي البنيوي الذي يقول بوجود مجموعة كاملة التعريف من الأعراف أو الشفرات التي لا نشهد منها إلا نماذج مفردة في الأحداث الخطابية. وقد اتسع نطاق هذا الرأي فأصبح يقول: إن مجالات علم اللغة الاجتماعي تتكون من مجموعة من أمثال هذه الشفرات ذات التوزيع المتكامل، بمعنى أن كلًّا منها لديه وظائفه الخاصة وأحواله الخاصة وشروط ملاءمته، وأن هذه تنفصل عن غيرها بحدود حاسمة (وأنا أنتقد الآراء الخاصة بالتفاوت في علم اللغة الاجتماعي والمبنية على مفهوم «المواءمة» في كتابي المقبل، فيركلف، تحت الطبع ب). والمداخل التي تنتمي إلى هذا النوع ترصد تغير النظم داخل الجماعات اللغوية وفقًا لمجموعة من المتغيرات الاجتماعية، ومنها الظروف القائمة (مثل قاعة الدرس، وملعب المدرسة، وغرفة الأساتذة، وقاعة الاجتماعات، فهي تمثل أماكن مدرسية مختلفة) وأنماط النشاط والغرض الاجتماعي (مثل التعليم، وإعداد المشروعات أو الاختبارات في قاعة الدرس) والمتكلم (مثل المعلم في مقابل التلميذ). وطبقًا لهذا الرأي، تصبح الشفرة ذات أولوية، ومجموعة الشفرات مجرد حاصل جمع أجزائها.
وأما المدخل الذي يحمل المزيد من الثمر للتوجُّه التاريخي للتغير الخطابي في هذا الكتاب فهو مدخل محللي الخطاب الفرنسيين الذين يقولون إن المركَّب الخِطابي، أي المجموعة المركَّبة المتكاملة من التشكيلات الخطابية، تتمتع بالأولوية على أجزائها ولها خصائص لا يمكن التنبؤ بها من استقراء أجزائها (انظر مناقشة بيشوه في الفصل الأول عاليه). والمركَّب الخطابي أيضًا هو الكيان البنائي الذي تقوم عليه الأحداث الخطابية، وليس تشكيلًا مفردًا أو شفرة مفردة: إذ يتجلى في أحداث خطابية بالغة الكثرة التوجُّه إلى بناء تكوينات من عناصر الشفرة، وإلى رسم حدود للحادثة الخطابية القائمة (وإن كانت حالة خاصة) وبنائها من النموذج المعياري لشفرة مفردة؛ بحيث تعتبر بمثابة القاعدة. ومن الأمثلة على ذلك «الأنواع المختلطة» التي تجمع بين عناصر نوعَين أو أكثر، مثل «الدردشة» في برامج الدردشة التليفزيونية، التي تتكون في جانب منها من المحادثة، وفي جانب آخَر من التسلية والأداء التمثيلي (انظر تولسون، ١٩٩٠م، حيث تحليل الدردشة أو «الشات»)، ولكنني سوف أستخدم مصطلح فوكوه وهو «نظام الخطاب» لا المركَّب الخطابي، لأنه يدل بوضوح أكبر على أنواع التكوينات المتصورة.
فلتستخدم المصطلح الأقل دقة، وهو «العنصر»، بدلًا من الشفرة أو التشكيل، في الإشارة إلى الأجزاء التي يتكون منها نظام من نظم الخطاب (وسوف أعرض لطبيعة هذه العناصر أدناه). فعلى عكس الأوصاف المبنية على نظريات «المواءمة»، حيث يفترض وجود علاقة واحدة ثابتة تكاملية بين الأجزاء، أفترض أنا أن العلاقة يمكن أن تكون أو تصبح متناقضة. وقد تكون الحدود بين العناصر خطوط توتُّر. انظر مثلًا في مواقع الذوات المنوعة الخاصة بفرد واحد أثناء وجوده في أماكن وأنشطة مختلفة داخل إحدى المؤسسات، من زاوية «بعثرة» الذات وانتشارها في تشكيل «النوعيات التعبيرية» بمصطلح فوكوه (انظر هذا المصطلح في الفصل السابق). ومن الممكن أن تصطبغ الحدود الفاصلة بين المواقف والممارسات بالصبغة الطبيعية إلى الحد الذي يجعل مواقع الذوات المذكورة تبدو متكاملة، في حين أنه إذا اختلفت الظروف الاجتماعية، فإن هذه الحدود نفسها قد تصبح مركزًا للنزاع والصراع، بحيث تبدو مواقف الذوات والممارسات الخطابية المرتبطة بها متناقضة. فعلى سبيل المثال قد يقبل التلاميذ أن يحكوا قصصَ ما مرُّوا به من خبرات بلهجاتهم الاجتماعية الخاصة، باعتبار ذلك أمرًا لا غبار عليه في الأوقات المخصَّصة لمناقشته أثناء الدروس، لا في الأوقات المخصَّصة للدرس أو الكتابة، أو ربما يصبح التناقض بين ما هو مسموح به في مكان معيَّن وغير مسموح به في مكان آخَر أساسًا للصراع حول تغيير الحدود التي تفصل بين المناقشة والتدريس والكتابة، وربما يكون قبول قصص الخبرات الشخصية، ولو في جزء محدَّد تحديدًا صارمًا من أجزاء نشاط قاعة الدرس، حَلًّا وسطًا من ثمار منازعات سابقة، والكفاح في سبيل قبولها أصلًا في قاعة الدرس.
وما يصدق على الحدود بين مواقع الذوات وأعراف الممارسات الخطابية المرتبطة بها يصدق بصفة عامة على عناصر نظم الخطاب، ويصدق كذلك على الحدود بين نظم الخطاب المتميزة؛ فقد يُنظر إلى المدرسة ونظام الخطاب فيها باعتبارها تتمتع بعلاقة تكاملية وغير تداخلية مع المجالات المجاورة لها، مثل البيت أو الحي، ولكن، من ناحية أخرى، قد يُصبح ما يظن أنه تناقضات بين هذه المجالات أساسًا لصراعات ترمي إلى إعادة رسم الحدود وتحديد العلاقات، كالصراعات الرامية إلى توسيع اختصاصات الوالدين، وعلاقة الطفل وأعرافها الخطابية بالمعلم، والعلاقة فيما بين التلاميذ، أو العكس، على سبيل المثال، أو محاولة التوسع في علاقات الأقران وممارساتهم في الحي والشارع، بحيث تمتد إلى داخل المدرسة.
وتعتبر نواتج أمثال هذه الصراعات صورًا لإعادة الربط بين نظُم الخطاب، وذلك فيما يتعلق بالعلاقات بين العناصر في نظُم الخطاب «المحلية»، مثل نظُمها في المدرسة، وكذلك العلاقات بين نظُم الخطاب المحلية في نظام الخطاب المجتمعي، ومن ثَمَّ فإن الحدود الفاصلة بين العناصر (وكذلك نظُم الخطاب المحلية) قد تتفاوت وتتغير ما بين القوة النسبية والضعف النسبي (انظر برنشتاين، ١٩٨١م) استنادًا إلى درجة ارتباطها الحالي؛ فقد تكون العناصر منفصلة ومحدَّدة بدقة، وقد تكون مشوَّشة ملتبسة الصورة.
بل ينبغي ألَّا نفترض أن هذه «العناصر» تتسم بالتجانس الداخلي. فمن عواقب الصراع حول الارتباط الذي أتصوره أن بعض العناصر الجديدة قد تتكون نتيجة إعادة رسم الحدود بين العناصر القديمة. وهكذا فقد يكون أحد العناصر غير متجانس في منشئه، ولكن عدم التجانس التاريخي قد لا يبدو للعيان إذا كانت الأعراف قد اصطبغت بالصبغة الطبيعية الكاملة، وأما إذا اختلفت الظروف فقد يبدو عدم التجانس في صورة تناقض داخل ذلك العنصر. ومن الأمثلة على ذلك أسلوب تعليم مألوف يتكون من ممارسة المعلم لدورة من الأسئلة والأجوبة بُنِيَت لاستخلاص معلومات محدَّدة سلفًا من التلاميذ، ولا ينظر إلى هذا الأسلوب بالضرورة باعتباره قائمًا على التناقض، ما دام المعلم يتظاهر بأنه يسأل التلاميذ وهو في الحقيقة يمدهم بالمعلومات، ولكن هذا الأسلوب يمكن تفسيره على هذا النحو. فإذا طبَّقْنا مفهوم الاصطباغ هنا كان لنا أن نقول: إن العناصر والنظم المحلية للخطاب، والنظم المجتمعية للخطاب، يمكن أن نشعر بأنها ذات بناء متناقض، ومن ثَمَّ فإنها تسمح بأن يصبح إضفاء الصبغتَين السياسية والأيديولوجية مركزًا للخلاف في إطار الصراعات الدائرة ما بين محاولة إيقاف الاصطباغ وإعادة إضفائه.
وقد تختلف العناصر التي أشرتُ إليها اختلافًا شديدًا من حيث «نطاقها»، إذ تبدو في بعض الحالات متفقة مع الفهم التقليدي للشفرة الكاملة أو النطاق الدلالي (هاليداي، ١٩٧٨م)، أي باعتبارها كتلة من المتغيرات ذات مستويات مختلفة ولها ما يميزها من الأنساق الصوتية، والمفردات، والأنساق النحوية، وقواعد تناوب الحديث وهلُمَّ جَرًّا. والأمثلة على هذه الحالات جلسات البينجو (لعبة مراهنات باستخدام ورق اللعب) ومزادات بيع الأبقار، ولكن المتغيرات في حالات أخرى ذات نطاق أضيق، مثل نظم المناوبة في الحديث، والمفردات التي تتضمَّن نظُمًا خاصة للتصنيف، والسيناريوهات التي توضع لأنواع (كتابية) خاصة مثل تقارير الجرائم أو القصص الشفاهية، أو أعراف التأدُّب وما إلى ذلك بسبيل. ومن وجوه التضاد بين نظُم الخطاب مدى ما تصل إليه هذه العناصر من ثبات يجعلها وحدات دائمة الوجود. وسوف أشير في الفصل التالي إلى عدد صغير من أنماط العناصر المختلفة، مثل الأنواع، والأساليب، والأنماط وضروب الخطاب.
وقد يكون من المفيد هنا أن نتذكَّر مقتطفًا من كلام فوكوه ورد في الفصل السابق يشير فيه إلى قواعد تشكيل الموضوعات في علاج الأمراض النفسية؛ إذ إن «العلاقات» التي يقول فوكوه إنها أصبحت تستخدم في خطاب الطب النفسي للسماح بتشكيل «الموضوعات» التي يشير إليها، يمكن تفسيرها بأنها علاقات بين عناصر خطابية متفاوتة النطاق، مثل «مستويات التخصيص»، و«مستويات التشخيص السيكولوجي»، فهذان المثالان يتكونان في جانبٍ منهما على الأقل من المفردات، وأما «التحقيق القضائي» و«الاستجواب الطبي» فهما عناصر خطابية من نمط نوعي (انظر مناقشة النوع في الفصل التالي). ومع ذلك فنحن نلاحظ أنها ليست عناصر خطابية وحسب، فتحقيقات الشرطة والفحص الإكلينيكي، والحبس العلاجي والعقابي قد تتضمَّن مكونات خطابية، ولكنها ليست في ذاتها كيانات خطابية. وتؤكد أوصاف فوكوه التداخل المتبادل لما هو خطابي بغير ما هو خطابي في الأبنية الخاصة بالممارسة الاجتماعية. وفي ضوء هذا يمكن النظر إلى نظُم الخطاب بأنها الواجهات الخطابية للنظُم الاجتماعية، وهي التي يتسم ترابطها الداخلي، وإعادة ترابطها، بالخصيصة نفسها.
كان التركيز ينصبُّ أساسًا، حتى الآن، على ما يجعل الخطاب شبيهًا بالأشكال الأخرى للممارسة الاجتماعية، وأراني الآن في حاجة إلى إعادة الاتزان إلى القضية بالسؤال عما يجعل الممارسةَ الخطابية خطابيةً بصفة خاصة. والواضح أن الإجابة، في جانب منها، هي اللغة؛ إذ إن الممارسة الخطابية تتجلى في شكل لغوي، أي في الشكل الذي أشير إليه بمصطلح «النصوص»، وأنا أستخدم «النص» بالمعنى الواسع عند فوكوه، وهو الذي يضم اللغة المنطوقة والمكتوبة (هاليداي، ١٩٧٨م)، فإذا كان الحادث الخطابي بُعدًا واحدًا من الممارسة الاجتماعية (السياسة أو الأيديولوجية … إلخ) فإن كونه نصًّا يعتبر بُعدًا آخَر.
ولكن هذا لا يكفي؛ فإن البُعدَين يتوسَّلان ببُعد ثالث يركِّز على الخطاب باعتباره ممارسة خطابية بصفة خاصة، ولا تعتبر «الممارسة الخطابية» هنا تضادًّا مع «الممارسة الاجتماعية» فالأولى صورة خاصة من الأخيرة. وقد تتكون الممارسة الاجتماعية في بعض الحالات في مجملها من الممارسة الخطابية، وقد تتضمَّن في حالات أخرى مزيجًا من الممارسة الخطابية وغير الخطابية؛ إذ إن تحليل خطاب معيَّن باعتباره قطعة من الممارسة الخطابية يركِّز على عمليات إنتاج النص وتوزيعه واستهلاكه، وكلها عمليات اجتماعية تتطلب الإحالة إلى أوضاع اقتصادية وسياسية ومؤسسية معيَّنة، وهي التي يتولد فيها الخطاب. فأما الإنتاج والاستهلاك فإنهما يتميزان من زاوية معيَّنة بطابعهما الاجتماعي المعرفي، وذلك لأنهما يتضمنان عمليات معرفية خاصة بإنتاج النص وتفسيره، وهي التي تقوم على المباني والأعراف الاجتماعية المستوعَبة (ومن هنا وُصف الطابع بأنه اجتماعي). ويتمثل أحد مشاغلنا عند الحديث عن هذه العمليات الاجتماعية المعرفية بتحديد العناصر القائمة في نظُم الخطاب، وكذلك في الموارد الاجتماعية الأخرى التي أسميها «موارد الأعضاء» (أي جماع الخبرات الذاتية) التي استُعين بها، وكيف استُعين بها في إنتاج المعاني وتفسيرها. وأما المهمة الأولى فهي العثور على الروابط الشارحة بين الطرائق (المعيارية أو التجديدية … إلخ) التي تُبنى بها النصوص وتُفسر، وكيف تُنتج النصوص وتُوزَّع وتُستهلك بمعنى أوسع، وطبيعة الممارسة الاجتماعية من حيث علاقتها بالأبنية والصراعات الاجتماعية. والمرء لا يستطيع أن يُعيد بناء عملية الإنتاج ولا إيضاح أسباب عملية التفسير استنادًا إلى النصوص وحدها، فإنما هي، على الترتيب، آثار ومفاتيح لهذه العمليات، ومن المحال إنتاجها أو تفسيرها إلا على ضوء «موارد الأعضاء». ومن طرائق الربط بين هذا التأكيد على الممارسة الخطابية وعمليات إنتاج النص وتوزيعه واستهلاكه وبين النص نفسه، التركيز على طابع التناص للأخير. انظر قسم «الممارسة الخطابية» أدناه.
(٢) الخطاب باعتباره نصًّا
لا يتكلم المرء حقًّا عن معالم أحد النصوص من دون إشارة إلى إنتاج النص و/أو تفسيره، وذلك لأسباب أوضِّحها فيما بعد. وبسبب هذا التداخل، فإن تقسيم موضوعات التحليل ما بين تحليل النص وتحليل الممارسة الخطابية (وهكذا بين الأنشطة التحليلية للوصف والتفسير) ليس تقسيمًا قاطعًا. فحيثما تكن المعالم الشكلية للنص أشد بروزًا من غيرها يتضمَّن التحليل الموضوعات، وحيثما تكن العمليات الإنتاجية والتفسيرية أشد بروزًا، تناقش الموضوعات في إطار تحليل الممارسة الخطابية، حتى ولو كانت تتضمن بعض المعالم الشكلية للنصوص. والذي أعرضه تحت هذين العنوانين إطار أو نموذج تحليلي واسع، وسوف يجد القارئ معالجات مختارة أشد تفصيلًا للموضوعات التحليلية في الفصلَين الرابع والخامس.
من الافتراضات المعقولة التي يمكن تطبيقها افتراض أن أي مَعْلم من معالم النص يمكن أن تكون له دلالة في تحليل الخطاب، ويثير هذا صعوبة كبرى. فتحليل اللغة مجال مركَّب وذو تقنية خاصة به، وهو يتضمَّن الكثير من أنماط التحليل وتقنياته، وعلى الرغم من أن التمتُّع بخلفية في علم اللغة قد يكون، من ناحية المبدأ، شرطًا مسبقًا لإجراء تحليل الخطاب، فإن تحليل الخطاب نشاط متعدد الجوانب، ولا يمكن للمرء أن يفترض في ممارسة خلفية تفصيلية في علم اللغة أكثر مما تُفترض فيه خلفيات تفصيلية في علم الاجتماع أو علم النفس أو السياسة. وفي هذه الظروف فإن ما قررتُ أن أفعله هو (١) أن أقدِّم في هذا الفصل إطارًا تحليليًّا بالغ العمومية بغرض تقديم خريطة واسعة النطاق للميدان إلى القرَّاء؛ و(٢) أن أحدِّد مناطق تحليلية مختارة تصلح للمعالجة بمزيد من التفصيل والمزيد من الأمثلة التوضيحية في الفصول ٤–٦، وهي التي بدَتْ لي شديدة الخصب في تحليل الخطاب، و(٣) أن أتجنَّب قَدْر الطاقة النبرةَ المنفِّرةَ للطابع التقني والمصطلحات المتخصِّصة؛ و(٤) أن أقدِّم المراجع اللازمة لمَن يرغبون في متابعة مناهج تحليلية بعينها.
وتبدو بعض الفئات الواردة في إطار التحليل النصي أدناه موجهة إلى الأشكال اللغوية، ويبدو غيرها موجهًا إلى المعاني، ولكن هذا التمييز مضلِّل؛ لأن المرء دائمًا ما يواجه في تحليل النصوص مسائل الشكل ومسائل المعنى في الوقت نفسه. ووفقًا لمصطلح جانب كبير من علم اللغة والسيمياء (السيميوطيقا) في القرن العشرين، نجد أن المرء يحلِّل «علامات»، أي كلمات أو قطاعات أكبر من النص تتكون من معنى مرتبط بشكل من الأشكال، أي ﺑ «مدلول» مرتبط ﺑ «الدال» (انظر دي سوسير، ١٩٥٩م)، إذ إن سوسير وغيره من أصحاب التقاليد اللغوية يؤكدون الطابع «التوقيفي» (أي «التعسفي» أو الذي لا يُعلَّل) للعلامة، ويؤكدون الرأي القائل بعدم وجود دافع أو أساس عقلاني لربط «دال» معيَّن ﺑ «مدلول» معيَّن. وعلى عكس ذلك، تفترض المداخل النقدية لتحليل الخطاب أن العلامات لها دوافع اجتماعية، أي إنها تقول بوجود أسباب اجتماعية للربط بين دوالَّ معيَّنة بمدلولات معيَّنة (وأنا ممتن للباحث جونتر كريس على مناقشاته لهذه القضية). وقد يتعلق الأمر بالمفردات، بمعنى أن صيغتَين مثل «الإرهابيين» و«المكافحين في سبيل الحرية» نموذجان متضادان للربط بين الدال والمدلول، والتضاد بينهما ذو دافع اجتماعي، وقد تكون له علاقة بالنحو (انظر الأمثلة أدناه) أو بأبعاد أخرى للتنظيم اللغوي.
ويتعلَّق تمييز مهم آخَر في إطار المعنى بالفرق بين ما يمكن أن يعنيه النص وبين تفسيره، إذ تتكون النصوص من أشكال أدَّت الممارسات الخطابية في الماضي — بعد تكثيفها في صورة أعراف — إلى إكسابها معانيَ مُمكِنة. والمعاني الممكنة لأي شكل غير متجانسة بصفة عامة، فهي مُركَّبات من معانٍ منوعة متداخلة بل ومتناقضة أحيانًا (انظر فيركلف، ١٩٩٠م، أ) بحيث تزخر النصوص في العادة بمعانٍ بالغة التضاد، وتسمح بتعدد التفسيرات. وعادةً ما يلجأ المفسرون إلى تقليل إمكانية التضاد المذكور باختيار معنى محدَّد أو مجموعة صغيرة من المعاني البديلة، وما دمنا غير غافلين عن اعتماد المعنى المذكور على التفسير، فلنا أن نستعمل مصطلح «المعنى» في الإشارة إلى المعاني الممكنة لكل شكل، وأيضًا للمعاني التي يأتي بها التفسير.
ويمكن تنظيم تحليل النص في أربعة أبواب رئيسية، وهي: «المفردات»، و«النحو»، و«التماسك»، و«بناء النص». ويمكن اعتبار هذه ذوات نطاقات صاعدة، فالمفردات تتناول الألفاظ المفردة أساسًا، والنحو يتناول الجمع بين الألفاظ في عبارات وجمل، والتماسك يتناول كيفية الترابط فيما بين العبارات والجمل، وبناء النص يتناول الخصائص التنظيمية الواسعة النطاق للنصوص. وإلى جانب ذلك فأنا أميز بين هذه وبين ثلاثة أبواب رئيسية أخرى سوف تستخدم في تحليل الممارسة الخطابية لا التحليل النصي، وإن كانت تشمل بالقَطْع بعض المعالم الشكلية للنصوص، ألا وهي «قوة» الكلام المنطوق، أي ما تشكِّله من أفعال الكلام (الوعود، الطلبات، التهديدات … إلخ)؛ و«ترابط المعنى» في النص؛ و«التناص» فيما بين النصوص. وهذه الأبواب السبعة مجتمعة تمثِّل إطارًا لتحليل النصوص بحيث يشمل جوانب إنتاج النص وتفسيره، وكذلك الخصائص الشكلية للنص.
الوحدة الأساسية في النحو هي الجملة البسيطة، مثل العنوان الصحفي «جورباتشيف يقلِّل حجم الجيش الأحمر». والعناصر الرئيسية في الجمل البسيطة عادةً ما تُسمَّى «مجموعات» أو «عبارات» مثل «الجيش الأحمر»، و«يقلل حجم». وتترابط الجمل البسيطة لتكوين جمل مُركَّبة. وسوف تقتصر تعليقاتي هنا على جوانب مُعيَّنة من الجملة البسيطة.
وكل جملة بسيطة لها وظائف متعدِّدة، ومن ثَمَّ فكل جملة بسيطة تجمع بين المعاني النصية الفكرية وما بين الأشخاص (أي الخاصة بالهُوية والعلاقة) (انظر الفصل الثاني). والأشخاص يمارسون خياراتهم فيما يتعلق بتركيب الجملة البسيطة وبنائها، وهو ما يوازي اختيار سبيل تحديد (وبناء) للهُويات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، والمعارف والمعتقدات. ولأوضِّح ذلك بالمثال الخاص بالعنوان الصحفي المذكور أعلاه. فمن ناحية المعنى الفكري تعتبر هذه الجملة «متعدية»؛ فهي تشير إلى عمل يقوم به فرد معيَّن، وهو عمل مادي، يقع على كيان مُعيَّن. ولنا أن نتخيل هنا صورًا فكرية مختلفة عن الطرائق الأخرى للإشارة إلى الحادثة نفسها، كأن يُقال «الاتحاد السوفييتي يخفض قواته المسلحة» أو «الجيش السوفييتي يتخلَّص من خمس فِرَق». وأما من ناحية الدلالة «ما بين الأشخاص»، فالجملة خبرية (أي ليست استفهامًا أو أمرًا) وتتضمَّن فعلًا في الزمن المضارع له سلطة قاطعة. والعلاقة بين الكاتب والقارئ هنا علاقة بين شخص يبيِّن واقع حالة معيَّنة بألفاظ لا خلاف عليها، وبين شخص يتلقى ما يُقال، وإذَن، فهذان هما موقعا الذات اللذان تحدِّدها الجملة. ونأتي ثالثًا إلى الجانب النصي؛ إذ إن جورباتشيف هو «موضوع» أو ثيمة الجملة أو المبتدأ، إذ إن الجزء الأول من كل جملة بسيطة عادةً ما يكون كذلك، فالمقال الصحفي يتحدث عنه وعن أفعاله. ومن ناحية أخرى، إذا بُنِيَت الجملة للمجهول، أصبح الجيش الأحمر هو «المبتدأ»، مثلًا: «الجيش الأحمر يُخفَّضُ (من جانب جورباتشيف)» (وهو تركيب غير مقبول بالعربية كما هو واضح ولكنه يمثِّل محاكاة للبناء الإنجليزي). ومن الإمكانيات الأخرى التي يقدِّمها البناء للمجهول حذف الفاعل، الوارد بين قوسَين، إما لأن الفاعل مجهول، أو معروف سلفًا، أو لا أهمية له في نظر الكاتب، أو ربما يكون الدافع الحفاظ على غموض الفاعل والمسئولية عن الفعل تبعًا لذلك. ومدخل اللغويات النقدية مفيد بصفة خاصة فيما يتعلَّق بالنحو (فاولر، وآخَرون، ١٩٧٩م؛ كريس وهودج، ١٩٧٩م). وكتاب ليتش ودويتشار وهوجينارد (١٩٨٢م) مقدمة في متناول الأفهام للنحو، وهاليداي (١٩٨٥م) دراسة أكثر عمقًا لشكل من أشكال النحو ذي فائدة كبرى في تحليل الخطاب.
للبحث في المفردات طرائق بالغة الكثرة، والتعليقات هنا وفي الفصل السادس انتقائية إلى حدٍّ بعيد، ومن القضايا التي لا بد من إثارتها أن التصوُّرَ القائل بأن اللغة تتكوَّن من مفردات موثقة في المعجم تصوُّرٌ محدود الفائدة، بسبب وجود عدد كبير من المفردات المتداخلة والمتنافسة وفقًا لما تنتمي إليه من مجالات ومؤسسات وممارسات وقِيَم ومنظورات، ولدينا مصطلحات أخرى مثل «الصياغة»، و«التجسيد اللفظي»، و«تقديم الدلالة» (وانظر هذه المصطلحات والجوانب الأخرى للمفردات عند كريس وهودج، ١٩٧٩م؛ وعند ماي، ١٩٨٥م)، إذ تستطيع إيضاح المقصود خيرًا من «المفردات»؛ لأنها تتضمَّن عمليات صياغة (وتجسيد لفظي، وتقديم دلالات) للعالم، فهي عمليات تختلف صور حدوثها وأوقاتها وأماكنها، في أعين جماعات مختلفة من الناس.
وللتحليل أن يركِّز على الصياغات البديلة ودلالاتها السياسية والأيديولوجية، وعلى قضايا مُعيَّنة، مثل: كيف يمكن إعادة صياغة مجالات خبرة مُعيَّنة في إطار الصراعات الاجتماعية والسياسية (ومثال إعادة صياغة «الإرهابيين» بحيث يصبح «المقاتلين في سبيل الحرية»، أو العكس بالعكس مثال مشهور)، أو كيف يمكن أن تزداد كثافة الصياغة الخاصة بمجالات مُعيَّنة عن غيرها. وللتحليل أن يركِّز أيضًا على معاني الألفاظ، وخصوصًا كيف تتنازع معاني الألفاظ في أطُر صراعات أوسع نطاقًا؛ وسوف أقول: إن أنواعًا مُعيَّنة من إعادة الصياغة للعلاقات بين الألفاظ وبين معاني كلمة من الكلمات تعتبر من أشكال الهيمنة. وللتحليل أن يركِّز ثالثًا على الاستعارة، أي على الدلالة الأيديولوجية والسياسية لاستعارات مُعيَّنة، وعلى الصراع بين الاستعارات البديلة.
وعندما ينظر المرء في «التماسك» النصي (انظر هاليداي، وحسن، ١٩٧٦م؛ هاليداي، ١٩٨٥م)، فإنما ينظر في أسلوب ربط العبارات معًا لتكوين جمل، وكيف ترتبط الجمل ببعضها البعض لتكوين وحدات أكبر داخل النصوص. ويتحقَّق الربط بطرائق منوَّعة: مثل استخدام مفردات تنتمي لمجال دلالي مشترك، وتكرار بعض الألفاظ، واستخدام أشباه مترادفات، وهلُمَّ جَرًّا: كما يتحقَّق أيضًا من خلال طرائق مُنوَّعة للإحالة والإبدال (مثل الضمائر، وأداة التعريف، وأسماء الإشارة، وحذف الكلمات المكرَّرة، وما إلى هذا بسبيل)؛ وقد يتحقَّق باستخدام حروف العطف وأدواته مثل حرف «الواو» (والفاء بالعربية) وحروف مثل «لكن»، و«إذَن» و«من ثَمَّ». والتركيز على التماسك يؤدي بنا إلى ما يشير إليه فوكوه قائلًا: إنه «مجموعة منوَّعة من النُّظم البلاغية التي يمكن بها ربط مجموعات من الأقوال معًا، أي كيف تترابط الأوصاف والاستنباطات والتعريفات التي يحدِّد تعاقبها بناء النص» (انظر الفصل السابق). وهذه النُّظم، وخصوصًا بعض جوانبها، مثل بناء النصوص القائم على عرض حُجَّة معيَّنة، تختلف فيما بين أنماط النصوص، ومن الطريف استكشاف هذه الاختلافات؛ للتدليل على الطرائق العقلانية المتفاوتة، وجوانب التغير في الأساليب العقلانية بتغيُّر الممارسات الخطابية.
و«بناء النص» (انظر دي بوجراند ودريسلر، ١٩٨١م، وكولتارد، ١٩٧٧م، وبراون ويول، ١٩٨٣م، وستابز، ١٩٨٣م) يتعلَّق أيضًا ﺑ «عمارة» النصوص، وخصوصًا معالم التصميم على المستوى الأرفع للأنماط النصية المختلفة: فما العناصر أو «القطع المتصلة» التي يرتبط بعضها بالبعض، وما أساليب ارتباطها ونظامه الداخلي، بحيث تشكل على سبيل المثال خبرًا صحفيًّا عن جريمة، أو مقابلة شخصية للحصول على وظيفة؟ وأمثال هذه الأعراف البنائية يمكنها أن تمنحنا نظرات ثاقبة كثيرة في نظم المعارف والمعتقدات، والافتراضات الخاصة بالعلاقات الاجتماعية والهُويات الاجتماعية المترسِّبة في أعراف أنماط النصوص. وكما تبين هذه الأمثلة، فإننا مهتمون ببناء المونولوج والحوار. والحوار يتضمَّن نظم التناوب في الحديث، وأعرافًا خاصة بتنظيم تبادل النوبات، إلى جانب افتتاح واختتام المقابلات الشخصية والمحادثات.
(٣) الممارسة الخطابية
تتضمن الممارسة الخطابية، كما ذكرتُ آنِفًا، عمليات إنتاج النص وتوزيعه واستهلاكه، وتختلف طبيعة هذه العمليات بين الأنماط المختلفة للخطاب وفق عوامل اجتماعية معيَّنة، فعلى سبيل المثال، نجد أن النصوص تُنتَج بطرائق محدَّدة في سياقات اجتماعية محدَّدة، فإنتاج المقال يمُرُّ بمراحل مركَّبة ذات طابع جماعي، ويتولى إنتاجه فريق يشارك أفراده بجهود متفاوتة في شتى مراحل الإنتاج، فالبعض يستقي المادة من تقارير وكالات الأنباء، والبعض يحول هذه المصادر (التي كثيرًا ما تكون في ذاتها نصوصًا) إلى مسودة تقرير، والبعض يقرِّر مكان إدراج التقرير في الصحيفة، وبعد ذلك يأتي تحرير التقرير (يوجد وصف تفصيلي، ووصف أعم للعمليات الخطابية في فان دييك ١٩٨٨م).
وتوجد زوايا أخرى للنظر إلى مفهوم «منتج النص» تجده يبدو أشد تعقيدًا مما نفترضه. فمن المفيد تفكيك المنتج بحيث يصبح مجموعة من المواقع، وقد يشغلها الشخص نفسه أو يشغلها أشخاص مختلفون، ويقترح جوفمان (١٩٨١م، ١٤٤) التمييز بين «المحرك» أي الشخص الذي يصدر أصوات الألفاظ فعلًا، أو يخط الخطوط على الورق، وبين «المؤلف» أي الشخص الذي يجمع ما بين الألفاظ ويُعتبر مسئولًا عن الصياغة، وبين «الرئيس» وهو الشخص الذي تمثل الألفاظ موقعه. وأما في المقالات الصحفية فإن بعض الغموض يخشى العلاقة بين هذه المواقع: «فالرئيس» كثيرًا ما يكون «مصدر» (الخبر) خارج الصحيفة، ولكن بعض التقارير لا توضح ذلك، وتوحي إلينا بأن «الرئيس» هو الصحيفة (رئيس التحرير، أو أحد الصحفيين بها)؛ والنصوص التي تُكتب بصورة جماعية كثيرًا ما تُصاغ كأنما كتبها صحفي واحد (وربما لم يكن في أفضل الحالات غير «المحرك») (انظر فيركلف، ١٩٨٨م، ب، حيث يرِد مثالٌ على ذلك).
ويختلف استهلاك النصوص أيضًا باختلاف السياقات الاجتماعية، ويرجع هذا في جانب منه إلى نوع الجهد التفسيري المبذول (مثل الفحص الدقيق للنص، أو عدم التركيز الكامل في القراءة أثناء أداء أعمال أخرى) ويرجع في جانب آخَر إلى طرائق التفسير المتاحة، فالوصفات (الخاصة بالعلاج أو بالطهو) على سبيل المثال، لا تُقرأ في العادة باعتبارها نصوصًا جمالية؛ والأبحاث الأكاديمية لا تُقرأ عادةً باعتبارها نصوصًا بلاغية، وإن كان النوعان من القراءة مُمكنَين. وقد يكون الاستهلاك، مثل الإنتاج، فرديًّا أو جماعيًّا؛ قارن الخطابات الغرامية بالسجلات الإدارية. وبعض النصوص (مثل المقابلات الشخصية الرسمية، والقصائد العصماء) تُسجل، وتُكتب وتُنسخ وتُحفظ وتُعاد قراءتُها؛ وغيرها (مثل الدعاية غير المطلوبة، والمحادثات العارضة) عابرةٌ لا تُسجل بل تُنبَذ وتُنسى، وبعض النصوص (مثل الخطب السياسية، والكتب التعليمية) تُحوَّل إلى نصوص أخرى، فالمؤسسات لديها نظُم ثابتة ﻟ «الاستفادة» من النصوص: فقد تتحول استشارة طبية إلى سجل طبي قد يستخدم في إعداد إحصائية طبية (انظر الفصل الخامس حيث ترِد مناقشة أمثال هذه «السلاسل التناصية»). أضِف إلى ذلك أن للنصوص نواتجَ منوَّعة من اللون غير الخطابي واللون الخطابي أيضًا. وبعض النصوص تؤدي إلى الحروب أو إلى تدمير الأسلحة النووية؛ وبعضها يؤدي إلى فقدان البعض وظائفهم أو حصول غيرهم على وظائف؛ وبعضها الآخَر يغير من مواقف الناس أو معتقداتهم أو ممارساتهم.
وتتسم بعض النصوص بما يُسمَّى التوزيع البسيط، فالمحادثة العارضة لا تنتمي إلا إلى سياق الحال المباشرة التي تقع فيها، وتتميز نصوص أخرى بتوزيع مركَّب، فالنصوص التي ينتجها الزعماء السياسيون، أو النصوص المنتجة في إطار التفاوض الدولي حول الأسلحة، يجري توزيعها عَبْر نطاق واسع من المجالات المؤسسية المختلفة، وكلٌّ منها له أنساق الاستهلاك الخاصة به، ونظمه الخاصة لإعادة إنتاج النصوص وتحويل صورتها، إذ يتلقى مشاهدو التليفزيون مثلًا صورة مُحوَّرة لخطاب ألقَتْه السيدة ثاتشر، أو ألقاه جورباتشيف، وهي تُستهلَك وفقًا لعاداتٍ ونظم معيَّنة للمشاهدة. والمنتجون في منظَّمات معقدة مثل الوزارات والمصالح الحكومية ينتجون نصوصًا تعمل حسابًا لتوزيعها وتغير صورتها واستهلاكها، بحيث تكون جاهزة لأنواع متعدِّدة من الجماهير، وهي تستبق استماع «المخاطبين» لها (أي الذين تخاطبهم مباشرة)، وكذلك «السامعين» (أي غير المخاطبين مباشرة، وإن يكن المفترض أن يكونوا من الجماهير)، بل ومن «يسترقون السمع» لها (أي الذين لا يشكِّلون جانبًا من الجمهور «الرسمي») وإن يكن من المعروف أنهم مستهلكون فِعليُّون (فالمسئولون السوفييت مثلًا يسترقون السمع إلى الاتصالات بين حكومات حلف شمال الأطلسي). وقد يشغل كلَّ موقعٍ من هذه المواقع أعدادٌ متكاثرة.
والواقع أن لدينا، كما ذكرتُ آنِفًا، أبعادًا معرفية اجتماعية خاصة لإنتاج النصوص وتفسيرها، وهي تركِّز على التفاعل بين «موارد الأعضاء» (أي جماع الخبرات) التي استوعبها المشاركون في الخطاب ويستعينون بها في تفسير النص، وبين النص نفسه، باعتباره مجموعة من «الآثار» التي خلفتها عملية الإنتاج، أو مجموعة من «المفاتيح» اللازمة لعملية التفسير. وتجري هذه العمليات عمومًا بأسلوبٍ لا واعٍ وتلقائي، وهو ما يعتبر عاملًا مهمًّا من عوامل تحديد فاعليتها الأيديولوجية (انظر ما يلي) على الرغم من أن بعض جوانبها أسهل في الوعي بها من غيرها.
وعمليات الإنتاج والتفسير تخضع لقيدَين اجتماعيَّين؛ القيد الأول: «موارد الأعضاء» وهي ما استوعبه المرء فعليًّا من أبنية ومعايير وأعراف اجتماعية، ومن بينها نظم الخطاب، وأعراف إنتاج وتوزيع واستهلاك النصوص من النوع الذي أشرت إليه عاليه، وهي التي تكوَّنَت من خلال الممارسة الاجتماعية والصراع الاجتماعي في الماضي. والقيد الثاني: الطبيعة الخاصة للممارسة الاجتماعية التي يشكلون جانبًا منها، فهي التي تحدد العناصر التي يستندون إليها من موارد الأعضاء لديهم، وكيف يكون هذا الاستناد (أي إذا ما كان معياريًّا أو خلاقًا، أو قابلًا أو معارضًا لها). ومن المعالم الرئيسية للإطار الثلاثي الأبعاد لتحليل الخطاب أنه يحاول استكشاف أحوال هذين القيدَين، وخصوصًا ثانيهما، أي أنْ يقيم الروابط الشارحة بين طبيعة عمليات الخطاب في حالات معيَّنة، وطبيعة الممارسات الاجتماعية التي تشكِّل إطار هذه العمليات. ولما كان هذا الكتاب يركِّز على التغيير الخطابي والاجتماعي، فإن هذا الجانب يهمنا أكثر من سواه، ونعني به تحديد الجوانب المستند إليها من «موارد الأعضاء» وأسلوب ذلك الاستناد، وسوف أعود إلى ذلك أدناه عند مناقشة التناص.
لكنني أريد أن أتحدَّث قليلًا بصفة عامة عن الجوانب المعرفية الاجتماعية للإنتاج والتفسير، وأن أقدِّم بُعدَين آخَرين من أبعاد التحليل السبعة، وهما «القوة» و«ترابط المعنى». وعادة ما يشار إلى إنتاج النص أو تفسيره (سأقتصر على التفسير في جانبٍ من جوانب المناقشة التالية) باعتباره عملية متعدِّدة المستويات، وعملية تنتقل من القاعدة إلى القمة ومن القمة إلى القاعدة. فأما المستويات السفلى فتختص بتحليل تتابع الأصوات أو تتابع العلامات التي تكوِّن الجمل، وأما المستويات العليا فتختص بالمعنى، ونسبة المعاني إلى الجمل، وبالنصوص الكاملة، وإلى أجزاء أو «قِطَع متصلة» من النص، وهي التي تتكون من جمل يمكن تفسيرها باعتبارها ذوات معانٍ مترابطة. ومعاني الوحدات «العليا» تُبنى في جانب منها على معاني الوحدات «السفلى». وهذا التفسير يُسمَّى من «القاعدة إلى القمة». ومع ذلك فإن التفسير يتميز أيضًا بتوقعات حول معاني الوحدات العليا في وقتٍ مبكِّر في عملية تفسيرها، استنادًا إلى دلائل محدودة، وهذه المعاني المتوقعة تشكل أسلوب تفسير وحدات المستوى الأسفل. وهذا يعني الاتجاه من القمة إلى القاعدة. والواقع أن الإنتاج والتفسير يعتمدان على الاتجاه من القمة إلى القاعدة، والاتجاه من القاعدة إلى القمة في الوقت نفسه. أضِف إلى هذا أن التفسير يحدث فيما يُسمَّى الزمن الحقيقي، وهو ما يعني أن التفسير الذي يصل إليه المرء للكلمة «س» أو الجملة «س» أو «القطعة المتصلة» «س» سوف يستبعد تفسيرات أخرى معيَّنة كان يمكن قبولها للكلمة س + ١ أو الجملة س + ١، أو «القطعة المتصلة» س + ١ (انظر فيركلف، ١٩٨٩م، أ).
والجوانب المذكورة من التعامل مع النص تساعد على إيضاح كيفية اختزال المفسرين لما يمكن أن يدل عليه النص من معانٍ متضادة أو ملتبسة وحسب، وتبيِّن جانبًا من دور السياق في تقليل هذا الجانب، وذلك بالمعنى الضيق للسياق الذي يحصره فيما يسبق (أو يتبع) جزءًا معيَّنًا من النص، ومع ذلك «فالسياق» يتضمَّن أيضًا ما يُسمى أحيانًا سياق الحال، إذ يصل المفسرون إلى تفسيرات للممارسة الاجتماعية كلها التي يشكل الخطاب جانبًا منها، وهذه التفسيرات تؤدي إلى تنبؤات حول معاني النصوص، وهي التي تقلِّل أيضًا من إمكان التباس المعنى باستبعاد المعاني التي كان يمكن أن تُرى داخل النص. ويعتبر هذا من زاوية معيَّنة تطويرًا لخصائص التفسير من القمة إلى القاعدة.
ومن أوجُه القصور الرئيسية في نوع الشرح المعرفي الاجتماعي الذي سقناه آنفًا لهذه العمليات أنه يُعتبر عامًّا شاملًا، أي إنه يوحي مثلًا بأن تأثير السياق في المعنى وتقليل التباسه لا يختلفان أبدًا، ولكن هذا غير صحيح، إذ إن أسلوب تأثير السياق في تفسير النص يختلف من نمط خطابي إلى نمط آخَر، على نحو ما يبيِّن فوكوه (انظر الفصل السابق). والفوارق بين أنماط الخطاب في هذا الصدد لها أهمية اجتماعية؛ لأنها تشير إلى افتراضات مُضمَرة وقواعد أساسية كثيرًا ما تكون ذات طابع أيديولوجي، وسوف ألقي الضوء على هذه القضايا من خلال مناقشة «القوة» (انظر ليتش، ١٩٨٣م؛ لفينسون، ١٩٨٣م؛ ليتش وتوماس، ١٩٨٩م).
وقوة جزء من أجزاء النص (وكثيرًا ما يكون جملة واحدة، وإن لم يكن ذلك في جميع الحالات) هو العنصر الخاص بالفعل فيه، ويمثِّل جانبًا من جوانب معناه «ما بين الأشخاص»، أي ما يستخدم لفعل شيء على المستوى الاجتماعي، أو أية «أفعال كلام» يستخدم ﻟ «أدائها» (مثل إصدار أمر، أو طرح سؤال، أو التهديد، أو الوعد … إلخ). والقوة هي عكس «الإخبار»: فإن العنصر الإخباري، الذي هو جزء من المعنى الفكري، يمثِّل العملية أو العلاقة الناتجة عن وجود كيانات معينة. وهكذا ففي حالة جملة تقول «أتعهد أن أدفع لحامله عند الطلب مبلغ خمسة جنيهات» نجد أن القوة قوة وعد، وأما الجملة الإخبارية فيمكن تمثيلها هيكليًّا بصيغة «س يدفع ص إلى ع». وقد تكون بعض أجزاء الجملة ملتبسة من حيث القوة، وقد تكون لها «إمكانية قوة» مديدة. فمثلًا «هل تستطيع حمل الحقيبة؟» قد تكون سؤالًا، وقد تكون طلبًا أو أمرًا، أو اقتراحًا، أو شكوى، وهلُمَّ جرًّا. وبعض تحليلات أفعال الكلام تميز بين القوة المباشرة والقوة غير المباشرة، ولنا أن نقول هذا في هذه الحالة، فلدينا صيغة لها القوة المباشرة للسؤال ولكنها قد تتميز بأية قوة من القوى الأخرى التي وردت باعتبارها قوتها غير المباشرة. أضِف إلى هذا أنه لا يندر أن تظل التفسيرات ملتبسة الدلالة، فأحيانًا ما لا يتضح إن كان السؤال البسيط سؤالًا بسيطًا فعلًا أم طلبًا مستترًا (وتتعذر تلبيته إذا طعن السامع فيه).
والسياق بالمعنيين المذكورين أعلاه عامل مهم من عوامل تقليل التباس القوة، والمواقع المتتابعة في أحد النصوص تنبئ عن وجود القوة. ففي الاستجواب نجد أن أيَّ شيء يقوله المحامي للشاهد مباشرة بعد إجابة قدمها الشاهد من المحتمل تفسيره على أنه سؤال (وذلك لا يستبعد تفسيره في الوقت نفسه باعتباره غير ذلك، كأن يكون اتهامًا). ويساعد هذا على إيضاح كيف يمكن لأشكال الكلمات أن تتمتع بِقُوًى تبدو بعيدة الاحتمال إن نظر إليها المرء خارج السياق، أضِف إلى هذا، طبعًا، أن سياق الحال، أي الطبيعة العامة للسياق الاجتماعي، تقلِّل من الالتباس كذلك.
ومع ذلك فلا بد أن المفسر يتوصَّل إلى تفسير معيَّن لسياق الحال من قبل أن يرجع إليه، بل وقبل أن يرجع لسياق التتابع النصي ابتغاء تفسير قول منطوق، وهذا مماثل لتفسير النص، إذ إنه يستند إلى التفاعل ما بين المفاتيح النصية و«موارد الأعضاء» (جماع خبرته) وإن تكن «موارد الأعضاء» في هذه الحالة، في الواقع، خريطة ذهنية للنظام الاجتماعي. ومثل هذه الخريطة الذهنية بالضرورة ليست سوى تفسير واحد للحقائق الاجتماعية التي تقبل تفسيرات كثيرة، ذوات أصباغ سياسية وأيديولوجية محددة. وتحديد سياق الحال من خلال هذه الخريطة الذهنية يقدِّم إلينا مجموعتَين من المعلومات المتعلِّقة بتحديد كيفية تأثير السياق في تفسير النص في أية حالة من الحالات: فهو أولًا: يقدِّم إلينا قراءةً للحال تشغل فيها بعض العناصر مكان الصدارة، وتنسحب عناصر أخرى إلى الخلفية، وتقيم علاقات محدَّدة بين العناصر، وهو ثانيًا يحدِّد الأنماط الخطابية التي من المحتمل أن تكون لها صلة بالموضوع.
وهكذا فإن من بين آثار قراءة (سياق) الحال في التفسير منح الصدارة لبعض جوانب الهُوية الاجتماعية للمشاركين، وإبقاء بعضها الآخَر في الخلفية. وهكذا فإن احتمال تأثير انتماء منتج النص إلى أحد الجنسَين، أو تأثير انتمائه العرقي أو عمره، في تفسير النص في كتاب في علم النبات مثلًا أقل من احتمالِ تأثيرِ أيٍّ من هذه العوامل في محادثة عابرة أو في مقابلة شخصية للحصول على وظيفة. وهكذا فإن تأثير سياق الحال في تفسير النص (وإنتاج النص) يعتمد على قراءة الحال، وأما تأثير سياق التتابع النصي فيعتمد على نمط الخطاب، فعلى سبيل المثال لا نستطيع أن نفترض أن أي سؤال سوف يجعل السامع يفسر العبارة التي تتلوه بأنها إجابة عنه بنفس الدرجة في جميع الأحوال، إذ يعتمد ذلك على نمط الخطاب. ففي خطاب قاعة الدرس تُنبئ الأسئلة بأنَّ ما يتلوها إجابة عنها، وأما في نطاق الأسرة فإن الأسئلة كثيرًا ما تُطرح من دون إجابة عنها، ومن دون أن يشعر أحد فعلًا بالتعدي عليه أو ضرورة الاعتذار له. وهكذا فإن التركيز الأحادي على سياق التتابع النصي باعتباره العامل المتحكم في التفسير، من دون الإقرار بالمتغيرات المذكورة، يعتبر جانبًا معيبًا من جوانب تحليل المحادثات، على نحوِ ما بيَّنتُ في الفصل الثاني آنفًا. أضِف إلى ذلك أن الفوارق بين أنماط الخطاب من هذه المرتبة ذات أهمية اجتماعية، وحيثما تتعيَّن إجابة الأسئلة، فمن المحتمل أن تبرز الاختلافات في المكانة بين الأدوار الذاتية التي تفصلها فوارق حاسمة، ومن ثَمَّ فإن البحث في المبادئ التفسيرية المستخدَمة في تحديد المعنى يتيح لنا أن نكتشف الصبغة السياسية والأيديولوجية لنمط الخطاب.
فلننتقل الآن من القوة إلى «ترابط المعنى» (انظر دي بوجراند ودريسلر، ١٩٨١م، الفصل الخامس؛ وانظر براون ويول، ١٩٨٣م، الفصل السابع). وعادةً ما يعامل المعنى باعتباره من خصائص النصوص، ولكن من الأفضل أن نعتبره من خصائص التفسيرات. فالنص المترابط المعنى نصٌّ ترتبط الأجزاء التي يتكون منها (الجمل، الوحدات) ارتباطًا معقولًا بحيث يبدو أن النص كله نص «له معنى»، حتى ولو كان يخلو نسبيًّا من «العلامات» الشكلية التي تشير إلى العلاقات التي يقوم عليها ارتباط المعنى، أي إذا كان خاليًا نسبيًّا من أدوات «التماسك» الصريحة (انظر القسم الأخير)، ولكن المسألة في الواقع أن أي نص لن يكون له معنى إلا عند مَن يستطيع إدراك معناه، أيْ مَن يستطيع أن يستنبط علاقات المعنى المذكورة في غياب العلامات الصريحة المشار إليها، ولكن الطريقة الخاصة التي تتولد بها قراءة المعنى المترابط في النص تعتمد هنا أيضًا على طبيعة المبادئ التفسيرية التي تستند إليها. وترتبط مبادئ التفسير الخاصة ارتباطًا مُطَبَّعًا بأنماط معيَّنة من الخطاب، وهذا الارتباط جدير بالنظر فيه بسبب الضوء الذي يُلقيه على الوظائف الأيديولوجية المهمة لترابط المعنى في «مساءلة» الذوات. ومعنى هذا أن النصوص تُنشئ مواقع للمفسرين «القادرين» على إدراك معانيها، بحيث يستطيعون إقامة الروابط واستنباط العلاقات، وفقًا لمبادئ التفسير الخاصة بالنص، والتي لا بد منها للقراءات القائمة على المعاني المترابطة. وقد تستند هذه الروابط والعلاقات المستنبطة إلى افتراضات من نوع أيديولوجي. فعلى سبيل المثال نرى أن ما ينشئ ترابطًا في المعنى بين الجملتَين التاليتَين: «سوف تستقيل من عملها يوم الأربعاء المقبل. إنها حامل» هو افتراض أن النساء يتوقَّفنَ عن العمل عند إنجاب الأطفال. وما دام المفسِّرون يشغلون هذه المواقع ويقيمون هذه الروابط بصورة آلية، فإنهم يخضعون للنص، أو قل: إن النص يُخضِعُهم له، وهو ما يمثل جانبًا مهمًّا من «العمل» الأيديولوجي الذي يقوم به النص والخطاب في «مساءلة» الذوات (انظر القسم التالي)، ولكننا نشهد إمكانية الصراع حول القراءات المختلفة للنص، بل والمقاومة كذلك للمواقع التي تنشئها النصوص.
فلننتقل الآن إلى البُعد الأخير من أبعاد التحليل السبعة، وهو البُعد الذي يتميز بأكبر قدر من البروز في اهتمامات هذا الكتاب، ألا وهو «التناص» (انظر باختين، ١٩٨١م، ١٩٨٦م؛ وكريستيفا، ١٩٨٦م، أ)، وسوف أكرِّس الفصل الرابع كله للتناص، ومن ثَمَّ فإن مناقشته هنا سوف تكون بالغة الإيجاز. ويعني التناص أساسًا الخصيصة التي يتميز بها أحد النصوص، وهي حفوله بشذرات من نصوص أخرى، وقد تكون ذات حدود صريحة أو مندمجة فيه، وقد يكون النص مستوعبًا لها، أو مناقضًا لها، أو قد يمثِّل أصداء ساخرة لها، وهلُمَّ جرًّا. فمن زاوية الإنتاج، نرى أن منظور التناص يؤكِّد الطابع التاريخي للنصوص، أيْ كيف أنها دائمًا ما تمثِّل إضافات إلى «سلاسل الاتصال الكلامي» القائمة (باختين، ١٩٨٦م: ٩٤)، إذ تتكون من نصوص سابقة تتجاوب معها. وأما من زاوية التوزيع، فيساعدنا منظور التناص على استكشاف الشبكات الثابتة نسبيًّا، والتي تُسيِّرها النصوص، وتخضع لتحوُّلات يسهل التنبؤ بها أثناء تحوُّلها من نمط نصي إلى نمط آخَر (فالخُطب السياسية، مثلًا، كثيرًا ما تتحول إلى تقارير إخبارية). وأما من ناحية الاستهلاك، فيساعدنا منظور التناص على التأكد من أن التفسير لا يعتمد في بنائه على «النص» فقط، بل ولا على النصوص التي تشكِّله من خلال التناص وحسب، بل يعتمد أيضًا على نصوص أخرى يشركها المفسرون بطرائق مختلفة في عملية التفسير.
وسوف أميِّز بين «التناص السافر» حيث لا تخفى الاستعانة بنصوص أخرى داخل النص، وبين «التداخل الخطابي» أو «التناص التكويني»، فالتداخل الخطابي يوسع نطاق التناص في اتجاه مبدأ أولوية نظام الخطاب الذي سبقَتْ لي مناقشته؛ فنجد من ناحية معيَّنة تشكيلًا أو تكوينًا غير متجانس لنصوص غير متجانسة من نصوص أخرى محدَّدة (التناص السافر)؛ ونجد من ناحية أخرى تكوينًا غير متجانس لنصوص من عناصر معيَّنة (أي أنماط الأعراف الخاصة) بنظم الخطاب (أي التداخل الخطابي).
ومفهوم التناص يرى أن النصوص، تاريخيًّا، تُحوِّل الماضي — أي التقاليد القائمة والنصوص السابقة — إلى الحاضر. وقد يحدث هذا بطرائق تقليدية ومعيارية نسبية؛ أيْ إنَّ أنماط الخطاب تميل إلى تحويل الطرائق الخاصة للانتفاع بالتقاليد والنصوص إلى طرائق معتادة، وإلى تطبيعها، ولكن هذا قد يحدث بأسلوب خلَّاق، أي بإنشاء تشكيلات جديدة من نظم الخطاب، وأشكال جديدة من التناص السافر. والصبغة التاريخية الأصيلة في النظرة التناصية إلى النصوص، والصيغة التي تتيح لها أن تقبل بيُسر أي ممارسة خلَّاقة، هما اللتان تجعلانها مناسبة إلى أقصى حدٍّ لمشاغلي الراهنة بالتغير الخطابي، وإن كنت سوف أسوق الحُجة أدناه إلى ضرورة رَبْطها بنظرية للتغير الاجتماعي والسياسي من أجل البحث في التغير الخطابي داخل عمليات أوسع نطاقًا للتغير الثقافي والاجتماعي.
وأعتقد أن تحليل الممارسة الخطابية ينبغي أن يجمع بين ما يمكن أن نسميه «التحليل الضيق النطاق» (أو «الضيق» وحسب)، وبين ما يمكن أن نسميه «التحليل الواسع النطاق» (أو «الواسع» وحسب). فالأول هو نوع التحليل الذي يتفوَّق فيه محللو المحادثة؛ أيْ أن يشرح المحلل، على وجه الدقة، كيف ينتج المشاركون النصوص ويفسِّرونها استنادًا إلى ما لديهم من «موارد الأعضاء» (جماع الخبرات)، ولكن لا بد من استكمال هذا بالتحليل الواسع من أجل معرفة طبيعة «موارد الأعضاء» (بما في ذلك نظم الخطاب) التي يستندون إليها في إنتاج النصوص وتفسيرها، والبت فيما إذا كانوا يستندون إليها بطرائق معيارية أو خلَّاقة. والحق أن المرء لا يستطيع أداء التحليل الضيق من دون معرفة ذلك. والتحليل الضيِّق، بطبيعة الحال، هو الأسلوب الأمثل لإماطة اللثام عن هذه المعلومات، ما دام يقدِّم الأدلة اللازمة للتحليل الواسع. ومن ثَمَّ فإن التحليلين الضيِّق والواسع لازِمان لبعضهما البعض. ووجود هذه العلاقة هو الذي يتيح لبُعد الممارسة الخطابية في الإطار ثلاثي الأبعاد الذي وضعتُه أن يحدِّد العلاقة بين أبعاد الممارسة الاجتماعية وبين النص، إذ إن طبيعة الممارسة الاجتماعية هي التي تحدِّد العمليات الواسعة النطاق للممارسة الخطابية، وكذلك العمليات الضيِّقة النطاق التي تشكِّل النص.
ومما يترتب على الموقف الذي أتخذه في هذا القسم أن كيفية تفسير الناس للنصوص في شتى الظروف الاجتماعية مسألة تتطلَّب بحثًا منفصلًا. وإذا كان الإطار الذي قدَّمتُه يشير إلى أهمية النظر في التفسير كموضوع مستقل، فلا بد لي أن أبيِّن أن الدراسات التجريبية مُستبعَدة من هذا الكتاب (ولمَن يريد الاطلاع على البحوث الخاصة بتفسير النصوص الإعلامية أن يرجع إلى مورلي، ١٩٨٠م، وطومسون، ١٩٩٠م، الفصل السادس).
(٤) الخطاب باعتباره ممارسة اجتماعية: الأيديولوجيا والهيمنة
أرمي في هذا القسم إلى أن أحدِّد بوضوح أكبر بعض جوانب البُعد الثالث في إطاري الثلاثي الأبعاد، وهو الخطاب باعتباره ممارسة اجتماعية. وبصفة أخص، سوف أناقش الخطاب في علاقته بالأيديولوجيا والسلطة، والموقع الذي يشغله الخطاب في إطار صورة السلطة باعتبارها هيمنة، وصورة تطوُّر علاقات السلطة باعتبارها صراعًا حول الهيمنة. وأنا أعتمد في هذا على الإسهامات الكلاسيكية في ماركسية القرن العشرين، من جانب ألتوسير وجرامشي، إذ إنها (على الرغم من ازدياد النفور المعاصر من الماركسية) تقدِّم إطارًا حافلًا للبحث في الخطاب باعتباره شكلًا وممارسة اجتماعية، وإن كان ذلك بتحفُّظات مهمة، خصوصًا في حالة ألتوسير.
الأيديولوجيا
لم تحظَ نظريةٌ وُضِعَت للأيديولوجيا بمثل النفوذ الذي حظيت به قطعًا نظريةُ ألتوسير في المناظرةِ الحديثةِ العهد حول الخطاب والأيديولوجيا (ألتوسير، ١٩٧١م، لاران، ١٩٧٩م) وكنت قد أشرت إليها إشارة موجزة في أثناء مناقشتي لموقف بيشوه في الفصل الأول. والواقع أننا نستطيع القول بأن ألتوسير قد قدَّم الأساس النظري للمناظرة المذكورة، وإن كان فولوسينوف (١٩٧٣م) كان قد قدَّم مساهمة كبيرة قبله بمدة طويلة.
والأسس النظرية التي أعنيها تتكوَّن من ثلاث مقولات مهمة حول الأيديولوجيا. أما المقولة الأولى فذات وجود مادي في ممارسات المؤسسات، وهو ما يفتح الباب للبحث في الممارسات الخطابية، باعتبارها أشكالًا مادية للأيديولوجيا. والمقولة الثانية هي القول بأن الأيديولوجيا «تُسائِل الذوات» وهو ما يؤدي إلى القول بأن إحدى «النتائج المهمة» لها، وهي التي يتجاهلها علماء اللغة في الخطاب (طبقًا لما يقوله ألتوسير، ١٩٧١م، ١٦١ هامش ١٦) تتمثَّل في تكوين «الذات». والمقولة الثالثة هي القول بأن «أجهزة الدولة الأيديولوجية» (أي مؤسَّسات مثل التعليم وأجهزة الإعلام) تمثِّل مواقع للصراع الطبقي وغنائم يحاول المشاركون في الصراع الفوز بها، وهو ما يشير إلى أن الصراع حول الخطاب — وداخل الخطاب — قضيةٌ يركِّز عليها تحليل الخطاب ذو التوجُّه الأيديولوجي.
وإذا كانت المناظرة حول الأيديولوجيا والخطاب قد تأثَّرَت تأثُّرًا شديدًا بهذه المواقف، فإنها قد عانَت من أوجُه القصور المعترَف بها على نطاق واسع في نظرية ألتوسير. ونقول بصفة خاصة: إن عمل ألتوسير يتضمَّن تناقضًا لم يُحسَم بين رؤية السيطرة باعتبارها فرضَ أيديولوجية مسيطرة أحادية الجانب وإعادة إنتاجها، وهي التي تبدو الأيديولوجيا في ضوئها بمثابة وسيلة تدعيم اجتماعية عامة، وبين إصراره على أن الأجهزة تعتبر مواقع صراع طبقي دائم وغنائم له، وقوله بأن نتيجة هذا الصراع غير محسومة في جميع الأحوال. والواقع أن النظرة الأولى هي السائدة، وأننا نشهد تهميشًا للصراع وللتناقض والتحوُّل.
وسوف أقول أنا بأن الأيديولوجيات تمثِّل معاني/تفسيرات للواقع (العالم المادي، والعلاقات الاجتماعية، والكيانات الاجتماعية) وأنها بهذا المفهوم راسخة في أبنية شتى الأشكال/المعاني الخاصة بالممارسات الخطابية، وأنها تُسهم في إنتاج علاقات السيطرة أو إعادة إنتاجها أو تحويلها (ويشبه هذا موقف طومسون (١٩٨٤م، ١٩٩٠م) القائل بأن بعض استعمالات اللغة وغيرها من «الأشكال الرمزية» ذات طابع أيديولوجي، أي إنها تؤدي، في ظروف معيَّنة، إلى إنشاء علاقات السيطرة أو الحفاظ عليها). وتحقق الأيديولوجيات القائمة داخل الممارسات الخطابية أقصى تأثير لها عندما «تُطبَّع» (أي عندما تبدو طبيعية) وتصطبغ بصبغة «المنطق السليم»؛ ولكننا ينبغي ألَّا نبالغ في تقدير هذه الخصيصة الثابتة الراسخة للأيديولوجيات؛ لأن إشارتي إلى «التحوُّل» تعني وجود الصراع باعتباره بُعدًا من أبعاد الممارسة الخطابية؛ فهو صراع يرمي إلى إعادة تشكيل الممارسات الخطابية والأيديولوجيات القائمة في داخلها، في سياق إعادة هيكلة علاقات السيطرة أو تحويلها. فإذا حدث ووجَدْنا استعمال ممارسات خطابية متضادة في مجالٍ ما أو مؤسَّسة ما، فإنه من المُحتمَل أن يكون جانبًا من جوانب هذا التضاد أيديولوجيًّا.
وأنا أقول: إن اللغة تصطبغ بالأيديولوجيا بطرائق منوَّعة وعلى مستويات متفاوتة، وإننا لسنا مضطرين إلى أن نختار «موقعًا» من بين عدة «مواقع» للأيديولوجيا، فلكل موقع ما يبرِّرُه جزئيًّا فيما يبدو، وليس من بينها ما يبدو مُرضِيًا تمامًا (انظر فيركلف، ١٩٨٩م، ب، حيث أتحدث بتفصيل أوفى عن الموقف الذي أتخذه هنا). والقضية الرئيسية هي إن كانت الأيديولوجيا من خصائص الأبنية أم من خصائص الأحداث، والإجابة تقول: إنها من خصائص هذه وتلك. والمشكلة الرئيسية، كما سبق أن ذكرتُ في مناقشتي للخطاب، أن نعثر على شرحٍ مُرضٍ لجدلية المباني والأحداث.
وتقول بعض الشروح: إن الأيديولوجيا من خصائص المباني، مبينة أنها تكمن في شكل من أشكال الأعراف التي تقوم عليها اللغة، سواء كان ذلك «شفرة»، أو «بناء»، أو «تشكيلًا» معيَّنًا. ومن مزايا هذا الشرح إبرازه لقيود الأعراف الاجتماعية المفروضة على الأحداث، ولكن من عيوبه ما سبقَ لي أن أشرتُ إليه، أي المَيْل إلى عدم التركيز على الحادثة استنادًا إلى افتراضِ أنَّ الأحداث مُجرَّد نماذج للمباني، وتحبيذ منظور إعادة إنتاج الأيديولوجيا لا تغييرها، والمَيْل إلى تصوير الأعراف في صورة مبالَغ فيها لخضوعها الواضح للقيود. ويمثِّل هذا موقف بيشوه في أعماله الأولى. ومن أوجُه الضعف الأخرى في «الخيار البنائي» أنه لا يعترف بأولوية نظم الخطاب على أعراف خطابية محدَّدة؛ أيْ إنَّ علينا أن نعمل حسابًا للصبغة الأيديولوجية المضفاة على (أجزاء من) نظم الخطاب، لا مجرد أعراف فردية، وإمكانية وجود صبغات أيديولوجية متنوِّعة ومتناقضة. ومن البدائل عن خيار البناء تصوُّر وجود الأيديولوجيا في الحادثة الخطابية، وتأكيد الأيديولوجيا باعتبارها عملية، وتحولًا ووسيلة، ولكن هذا يمكن أن يؤدي إلى توهُّم كَوْن الخطاب عمليات تشكيل طليقة، إلا إذا صاحبَ ذلك تأكيد نظم الخطاب في الوقت نفسه.
ولدينا أيضًا النظرة النصية إلى موقع الأيديولوجيا، وهي التي نجدها في علم اللغة النقدي، وتقول: إن الأيديولوجيات توجد في النصوص. وإذا كان صحيحًا أن أشكال النصوص ومضمونها تحمل انطباع العمليات والأبنية الأيديولوجية (بمعنى أن النصوص تحمل آثارها)، فليس من الممكن استنباط الأيديولوجيات من النصوص. وذلك، كما سبق أن ذكرتُ في الفصل الثاني؛ لأن المعاني تُستنبَط من خلال تفسيرات النصوص، والنصوص تقبل تفسيرات منوعة قد تتفاوت في مفادها الأيديولوجي، ولأن العمليات الأيديولوجية تنتمي لضروب الخطاب باعتبارها أحداثًا اجتماعية كاملة — فهي عمليات تدور بين الناس — وليست مجرَّد نصوص تمثِّل لحظات داخل هذه العمليات. وأما الزعم بالقدرة على اكتشاف العمليات الأيديولوجية استنادًا إلى تحليل النص وحده فإنه يصطدم بالمشكلة التي أصبحت مألوفة الآن في علم الاجتماع الإعلامي، وهي أن «المستهلكين» (من قرَّاء ومشاهدين) يتمتعون، فيما يبدو، بحصانة تامة إزاء آثار الأيديولوجيات التي يُفترض وجودها «داخل» النصوص (مورلي، ١٩٨٠م).
وأنا أفضِّل الرأي القائل بأن الأيديولوجيا قائمة داخل الأبنية (أي نظم الخطاب) التي تُكوِّن حصاد أحداث الماضي وظروف الأحداث الجارية، وداخل الأحداث أنفسها أثناء إعادة إنتاجها وتغييرها لصياغتها للأبنية. فهي توجُّهٌ تراكمي مُطبَّع راسخ في داخل المعايير والأعراف، وكذلك عمل لا يتوقف في تطبيع مثل هذه التوجُّهات في الأحداث الخطابية ونقض هذا التطبيع.
ومن الأسئلة المهمة الأخرى عن الأيديولوجيا سؤال يقول: ما معالم النص والخطاب أو مستوياتهما التي تصطبغ بصبغة أيديولوجية؟ من المزاعم الشائعة القول بأن «المعاني» وخصوصًا معاني الألفاظ (وهو ما يُقال أحيانًا إنه «المضمون»؛ تمييزًا له عن «الشكل») هي التي تحمل الأيديولوجيا (مثل طومسون، ١٩٨٤م). ومعاني الألفاظ مهمة، بطبيعة الحال، ولكن الأهمية تنسب أيضًا لجوانب أخرى من المعنى، مثل الافتراضات السابقة (انظر الفصل الخامس) والاستعارات (انظر الفصل السادس) ومثل ترابط المعنى. وقد سبق لي أن أشرتُ في القسم السابق إلى مدى أهمية ترابط المعنى للتكوين الأيديولوجي للذوات.
وينبغي ألَّا نفترض أن الناس على وعي بالأبعاد الأيديولوجية لممارساتهم، فالأيديولوجيات التي تتحول إلى جزء لا يتجزأ من الأعراف قد تصبح إلى حدٍّ ما مُطبَّعة وذات صبغة تلقائية، وقد يصعب على الناس أن يدركوا أن ممارساتهم المعتادة قد تتخذ لها صورًا أيديولوجية محدَّدة. وحتى حين تقبل ممارسة المرء تفسيرها بأنها تمثِّل مقاومة وتسهم في التغيير الأيديولوجي، فالمرء لا يعي بالضرورة وبالتفصيل مفادها الأيديولوجي، ونستطيع أن نقيم الحُجة على إمكان الأخذ بأسلوب من أساليب تعليم اللغة يؤكد الوعي النقدي بالعمليات الأيديولوجية في الخطاب، بحيث يزداد وعي الناس بممارستهم، ويزداد انتقادهم لضروب الخطاب المثقلة بالأيديولوجيا التي تفرض عليهم (انظر كلارك، وآخَرون، ١٩٨٨م، وكتاب فيركلف تحت الطبع، أ).
ومن الممكن ربط هذه الملاحظات الخاصة بالوعي بالقضايا المتعلِّقة ﺑ «مساءلة» الذوات. والحال المثالية فيما يعرضه ألتوسير هي حال الذات التي تكتنف الأيديولوجيا موقعه ولكنها تُخفي أفعالها ونتائجها، وتمنح الذات استقلالًا موهومًا. ويوحي هذا بوجود أعراف خطابية تصطبغ بصبغة طبيعية إلى أقصى حدٍّ، ولكن الناس في الواقع يخضعون للأيديولوجيا بطرائق مختلفة ومتناقضة، وهو ما يبدأ في إثارة الشكوك في الحال المثالية. فإذا كان الخضوع متناقضًا، بمعنى أن يكون الشخص العامل في إطار مؤسسي واحد ومجموعة واحدة من الممارسات خاضعًا ﻟ «المساءلة» من مواقع متنوعة وتتجاذبه قُوى في اتجاهات مختلفة — إن صح هذا التعبير — فقد يتعذَّر الحفاظ على التطبيع. ومن المحتمل أن يتجلى تناقض «المساءلة» على مستوى الخبرة العملية فيما يصيب المرء من تشوُّش وقلق وما يراه في الأعراف من إشكاليات (انظر «التغير الخطابي» أدناه). وهذه هي الظروف التي من المرجَّح أن ينشأ فيها الوعي و«الممارسة التحويلية» كذلك.
وهكذا فإن تناول ألتوسير لمسألة الذات يبالغ في تصوير دور الأيديولوجيا في تكوين الذوات وبالتالي يقلِّل من قدرة الذوات على العمل الفردي والجماعي باعتبارهم قُوى إيجابية، بما في ذلك المشاركة في البحوث النقدية للممارسات الأيديولوجية ومعارضتها (ارجع إلى تحفُّظاتي على فوكوه في هذا الصدد في الفصل السابق). ومن المهم هنا أيضًا أن نتخذ الموقف الجدلي الذي سبق أن دعوتُ إليه، فالذوات في مواقع أيديولوجية، ولكنها أيضًا تتمتع بالقدرة على العمل الخلَّاق لإقامة روابطها الخاصة بين الممارسات والأيديولوجيات المنوعة التي تتعرَّض لها، وعلى إعادة هيكلة الممارسات والأبنية التي تحدد المواقع. والتوازن بين الذات باعتبارها «ناتجًا» أيديولوجيًّا وبين الذات باعتبارها عاملًا فعَّالًا، من المتغيرات التي تعتمد على الأحوال الاجتماعية، مثل الاستقرار النسبي لعلاقات السيطرة.
هل جميع ضروب الخطاب أيديولوجية؟ لقد ذكرت أن الممارسات الخطابية تكتسب صبغة أيديولوجية في حدود ما تتضمَّنه من معانٍ تسهم في الحفاظ على علاقات السلطة أو إعادة بنائها. وقد تتأثر علاقات السلطة، من ناحية المبدأ، بالممارسات الخطابية من أي نمط، حتى العلمي والنظري منها. وهذا يمنع التعارض القاطع بين الأيديولوجيا وبين العلم أو النظرية، وهو ما قال به بعض مَن كتب عن اللغة/الأيديولوجيا (زيما، ١٩٨١م؛ بيشوه، ١٩٨٢م)، ولكن ذلك لا يعني أن جميع ضروب الخطاب أيديولوجية، ولا يمكن تخليصها من الأيديولوجيا. فالأيديولوجيات تنشأ في مجتمعات تتسم بعلاقة الهيمنة استنادًا إلى الطبقة، أو التمييز بين الجنسين أو بين الجماعات الثقافية وهلُمَّ جرًّا، وما دام البشر قادرين على تجاوز أمثال هذه المجتمعات، فإنهم قادرون على تجاوز الأيديولوجيا. ومن ثَمَّ فأنا لا أقبل رأي ألتوسير (١٩٧١م) عن «الأيديولوجيا عمومًا» باعتبارها المِلاط الاجتماعي الذي لا ينفصل عن المجتمع نفسه. أضِف إلى ذلك أنه إذا كانت جميع أنماط الخطاب في مجتمعنا، يمكنها أن تصطبغ بصبغة أيديولوجية من ناحية المبدأ، وفي الواقع أيضًا إلى حدٍّ ما، ودون أي شك، فإن ذلك لا يعني أن جميع أنماط الخطاب ذات صبغة أيديولوجية واحدة، فليس من العسير إثبات أن الإعلانات بصفة عامة ذات صبغة أيديولوجية أكبر من العلوم الطبيعية.
الهيمنة
يمثِّل مفهوم الهيمنة عماد تحليل جرامشي للرأسمالية الغربية والاستراتيجية الثورية في أوروبا الغربية (جرامشي، ١٩٧١م؛ بوسي، جلوكمان، ١٩٨٠م) وهو متناغم مع مفهوم الخطاب الذي أدعو إليه، ويقدِّم صورة نظرية للتغيير فيما يتعلَّق بتطوُّر علاقات السلطة بحيث يسمح بالتركيز بصفة خاصة على التغيير الخطابي، ولكنه يتيح لنا في الوقت نفسه أن نرى كيف يسهم في عمليات التغيير الأوسع نطاقًا، وكيف تشكِّله هذه العمليات في الوقت نفسه.
والهيمنة تعني الزعامة أو القيادة، مثلما تعني السيطرة في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والأيديولوجية في مجتمع من المجتمعات. والهيمنة خضوع المجتمع كله لسلطة إحدى الطبقات الأساسية وَفْق التعريف الاقتصادي، بالتحالف مع القوى الاجتماعية الأخرى، غير أنها لا تتحقَّق أبدًا إلا بصورة جزئية ومؤقتة، باعتبارها «توازنًا غير مستقر». وقضية الهيمنة قضية بناء تحالفات، والتكامل مع الطبقات الثانوية لا السيطرة عليها وحسب، إما من خلال تقديم بعض التنازلات لها، وإما بوسائل أيديولوجية، من أجل الحصول على رضاها. والهيمنة بؤرة لصراع دائم حول المسائل المتسمة بأقصى درجة من عدم الاستقرار بين الطبقات والكتل، في سبيل بناء تحالفات وعلاقات سيطرة/تبعية أو الحفاظ عليها أو كَسْرها، متخذة أشكالًا اقتصادية وسياسية وأيديولوجية. والصراع على الهيمنة يقع على جبهة عريضة، تتضمَّن مؤسسات المجتمع المدني (التعليم والنقابات والأسرة) مع التفاوت المحتمل بين المستويات والمجالات المختلفة.
ومفهوم الأيديولوجيا في هذا الإطار يستبق كلَّ ما أتى به ألتوسير (بوسي، جلوكسمان، ١٩٨٠م، ٦٦)، إذ إنه يركِّز، مثلًا، على التجسيد المضمر واللاواعي للأيديولوجيات في الممارسات (التي تتضمنها باعتبارها «مبادئ» نظرية مضمرة)، وحيث تعتبر الأيديولوجيا «تصوُّرًا للعالم لا يبدو إلا مضمرًا في الفن وفي القانون وفي النشاط الاقتصادي وفي تجليات الحياة الفردية والجماعية» (جرامشي، ١٩٧١م، ٣٢٨). وإذا كانت فكرة «مساءلة» الذوات تمثِّل جانبًا من التفاصيل التي أتى بها ألتوسير، فإننا نجد في جرامشي تصوُّرًا للذوات باعتبارها أبنية أقامَتْها أيديولوجيات منوَّعة مضمرة في الممارسات، وهو ما يمنحها طابعًا «تركيبيًّا غريبًا» (١٩٧١م، ٣٢٤)، وكذلك تصور «المنطق السليم» باعتباره مستودعًا للنواتج المنوَّعة للصراعات الأيديولوجية في الماضي، وهدفًا دائمًا لإعادة البناء في الصراعات الراهنة. وفي إطار «المنطق السليم» تكتسب الأيديولوجيات الصفة الطبيعية أو التلقائية. أضِف إلى ذلك أن جرامشي كان يرى «مجال الأيديولوجيات في صورة تيارات تشكيلات متضاربة أو متداخلة أو متقاطعة» (هول، ١٩٨٨م، ٥٥–٥٦) وهو ما كان يشير إليه بتعبير «المُركَّب الأيديولوجي» (جرامشي، ١٩٧١م، ١٩٥). ويعني هذا أن يَنصَبَّ التركيزُ على العمليات التي تُبْنى بها المركَّبات الأيديولوجية، ويُعاد بناؤها، وتتعرض للربط بينها، وإعادة ربطها (توجد مناقشة مهمة للهيمنة والربط في لاكلاو وموف (١٩٨٥م) وهي تمثِّل سابقة لتطبيقي هذه المفاهيم على الخطاب، وإن كانت تخلو من تحليل نصوص فعلية، وهو ما أراه جوهريًّا لتحليل الخطاب).
ومثل هذا التصور للصراع على الهيمنة القائم على ربط العناصر، والفصل بينها، وإعادة ربطها، يتفق مع ما سبق أن قلته عن الخطاب، مثل النظرة الجدلية للعلاقة بين الأبنية الخطابية والأحداث؛ ورؤية الأبنية الخطابية باعتبارها نظمًا للخطاب تتخذ صورة تجمعات للعناصر غير المستقرة إلى حدٍّ ما؛ واتخاذ رؤية للنصوص تركِّز على تناصها وكيف ترتبط بنصوص وأعراف سابقة وتفصح عنها. ويمكن النظر إلى أحد نظم الخطاب باعتباره الواجهة الخطابية للتوازن المتناقض وغير المستقر الذي يشكِّل الهيمنة، وإلى الربط وإعادة الربط عنها في نظم الخطاب باعتباره إحدى «الغنائم» في الصراع على الهيمنة. أضِف إلى ذلك أن الممارسة الخطابية، وإنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها (بما في ذلك تفسيرها) يعتبر واجهة للصراع على الهيمنة الذي يسهم بدرجات متفاوتة في إعادة إنتاج نظام الخطاب القائم أو تغييره (كأن يكون ذلك مثلًا من خلال الربط ما بين النصوص والأعراف السابقة في إنتاج النصوص) وأيضًا من خلال العلاقات الاجتماعية وعلاقات السلطة القائمة.
فلنضرب مثالًا من الخطاب السياسي للسيدة ثاتشر (رئيسة وزراء بريطانيا السابقة)، نستطيع تفسيره باعتباره إعادة ربط داخل النظام القائم للخطاب السياسي، ما دام يربط أو يجمع بين ضروب الخطاب التقليدية المحافظة، والليبرالية الجديدة، والشعبية، في مزيج جديد، كما كان يشكِّل خطاب سلطة سياسية لم يسبق له مثيل من جانب امرأة في موقع الزعامة. وإعادة الربط الخطابية تجسد مشروع هيمنة يرمي إلى تكوين قاعدة وبرنامج عمل سياسيين جديدين، ويعتبر في ذاته واجهة للمشروع السياسي الأكبر الرامي إلى إعادة هيمنة الكتلة المرتكزة على البرجوازية في ظروف اقتصادية وسياسية جديدة. ويبين وصف خطاب ثاتشر على هذا النحو من جانب هول (١٩٨٨م) وفيركلف (١٩٨٩م، أ) كيف يمكن إجراء تحليل استنادًا إلى مفهومٍ للخطاب يشبه المفهوم الذي عرضتُه عاليه، وبمنهج يفسِّر المعالم الخاصة للغةِ النصوص السياسية عند ثاتشر (وهو ما لا يفعله هول). وينبغي أن أضيف أن نظام الخطاب الذي يتضمَّن إعادة الربط المذكور يتسم بالتناقض، إذ تتعايش فيه العناصر السلطوية مع العناصر الديمقراطية وعناصر المساواة (فعلى سبيل المثال نجد أن ضمير الجمع للمتكلم (نحن) الذي يوحي ضِمنًا بأن المتحدث يتكلَّم باسم الناس العاديين، يتعايش مع ضمير المخاطب النكرة (أي الذي يعني «المرء») في عبارة مثل «أفلا تشعر بالضيق من استمرار هطول المطر؟») وأن عناصر الموقف الأبوي تختلط بعناصر الموقف النسوي. أضِف إلى ذلك أن إعادة الربط بين نظم الخطاب لا تتحقق في الممارسة الخطابية المنتجة فقط، ولكن أيضًا في التفسير؛ إذ إن إدراك معنى نصوص ثاتشر يقتضي وجود مفسرين قادرين على إقامة الصِّلات الكفيلة بترابط المعنى بين هذه العناصر غير المتجانسة، ويتمثَّل جانب من جوانب مشروع الهيمنة في تكوين ذوات المفسرين الذين تبدو لهم أمثال هذه الصِّلات طبيعية وتلقائية.
وعلى أية حال فإن معظم ضروب الخطاب تتعلَّق بالصراع على الهيمنة في مؤسسات معيَّنة (كالأسرة، والمدارس، والمحاكم … إلخ) لا على مستوى السياسة القومية؛ فالأبطال (إن صح هذا التعبير) ليسوا طبقات أو قُوى سياسية ترتبط بطرائق مباشرة نسبيًّا بالطبقات والكتل، بل معلِّمون وتلاميذ، أو رجال الشرطة والجمهور، أو النساء والرجال. والهيمنة تقدِّم أيضًا نموذجًا وإطارًا في هذه الحالات. أما النموذج، في التعليم مثلًا، فيبين كيف تمارس الجماعات المسيطِرة فيما يبدو سلطتها من خلال تكوين أحلاف، وتحقيق التكامل مع المجموعات الثانوية، لا السيطرة عليها وحسب، والفوز برضاها، وتحقيق توازن قلق قد تقوضه مجموعات أخرى، وهي تحقِّق ذلك جزئيًّا من خلال الخطاب ومن خلال تكوين النظم المحلية للخطاب. وأما عن الإطار، فإن تحقيق الهيمنة على المستوى المجتمعي يتطلَّب درجة من التكامل بين المؤسسات المحلية شبه المستقلة وبين علاقات السلطة، حتى تتكون الأخيرة جزئيًّا من علاقات الهيمنة، وعندها يمكن تفسير الصراعات المحلية باعتبارها صراعات على السلطة. ويوجِّه هذا انتباهنا إلى الصِّلات فيما بين المؤسسات، وإلى الروابط والحركة بين نظم الخطاب المؤسسية (انظر الفصل السابع أدناه؛ حيث يوجد تحليل لضروب التغير التي تتجاوز نظم الخطاب المحدَّدة).
وعلى الرغم من أن الهيمنة هي الشكل التنظيمي السائد فيما يبدو للسلطة في المجتمع المعاصر، فإنها ليست الشكل الوحيد؛ إذ نرى أيضًا بقايا شكل كان أشد بروزًا يومًا ما، إذ تتحقق الهيمنة فيه بالفرض الصارم للقواعد والمعايير والأعراف. ويبدو أن ذلك يتفق مع النموذج الشفري للخطاب، أي الذي يرى الخطاب باعتباره تحقيقًا لشفرات تتميز بأطُر قوية وتصنيف محكم (بيرنشتاين ١٩٨١م) وممارسة معيارية صلبة التنظيم. وهذا يمثل عكس ما يمكن أن نسميه نموذج الخطاب «الترابطي» الموصوف آنفًا والذي ينتمي إلى شكل تنظيمي للهيمنة. والنماذج الشفرية ذات توجُّه مؤسسي إلى حدٍّ بعيد، على عكس النماذج الترابطية ذات التوجُّه الأقوى إلى الجمهور أو العملاء، قارن الصورة التقليدية لخطاب قاعة الدرس أو خطاب الطبيب والمريض بالصورة الحديثة لهذا وذاك (وأنا أناقش نماذج محددة من النوع الأخير في الفصل الخامس أدناه). ومن ناحية أخرى نجد أن مَن يكتبون عن مذهب «ما بعد الحداثة» يشيرون إلى ظهور شكل تنظيمي للسلطة يصعب تحديده بعض الشيء، لكنه يمثِّل زيادة الابتعاد عن التوجُّه المؤسسي (المرتبط بافتراض هدم مركزية السلطة)، ويبدو أنه يقترب من نموذج «فسيفسائي» للخطاب يميِّز الممارسة الخطابية باعتبارها إعادة ترابُط دائم لا يكاد يخضع لأية قيود بين العناصر. ويُشار إلى الممارسة الخطابية التي تتفق فيما يبدو مع هذا النموذج بأنها «ما بعد حداثية» (جيمسون ١٩٨٤م) وأوضح أمثلته الإعلانات (انظر فيركلف، ١٩٨٩م، أ، ١٩٧–٢١١). وسوف أعود إلى هذه النماذج الخاصة بالخطاب في الفصل السابع أدناه، في غمار مناقشة لاتجاهات عامة معيَّنة تؤثِّر في نظم الخطاب المعاصرة.
وتلخيصًا لما سبق أقول: إنني حددت، في إطار تحليل الخطاب ذي الأبعاد الثلاثة الذي عرضتُه آنفًا، الاهتمام الرئيسي برصد الرابطة الشارحة في أمثلة معيَّنة من الخطاب بين طبيعة الممارسات الاجتماعية التي تعتبر هذه الأمثلة جزءًا منها، وبين طبيعة ممارستها الخطابية، بما في ذلك الجوانب المعرفية الاجتماعية لإنتاجها وتفسيرها. ومفهوم الهيمنة يعيننا على فعل هذا؛ إذ إنه يوفِّر للخطاب إطارًا — أيْ أسلوبًا — لتحليل الممارسة الاجتماعية التي ينتمي إليها الخطاب من زاوية علاقات السلطة، أو التساؤل عما إن كانت تعيد إنتاج الهيمنة القائمة أو تعيد بناءها أو تطعن فيها، ونموذجًا، أي أسلوبًا لتحليل الممارسة الخطابية نفسها باعتبارها شكلًا من أشكال الصراع على الهيمنة، وهو الذي قد يعيد إنتاج نظم الخطاب القائمة أو يعيد بناءها أو يطعن فيها. ومن شأن هذا تأكيد صحة الصبغة السياسية للممارسات الخطابية، وما دامت صور الهيمنة تتسم بأبعاد أيديولوجية، فإن ذلك يفتح الباب أمام تقييم الصبغة الأيديولوجية للممارسات الخطابية. ومن المزايا الكبرى لمناقشة الهيمنة في السياق الحالي أنها تسهِّل التركيز على التغيير وهو الذي يمثِّل آخِر اهتماماتي في هذا الفصل.
(٥) التغير الخطابي
يركِّز هذا الكتاب على التغير الخطابي في علاقته بالتغير الاجتماعي والثقافي؛ والمبرِّر المنطقي لكتابته مذكور في «المقدمة» ويقول إنه النظر في العمل الذي يؤديه الخطاب في الحياة الاجتماعية المعاصرة. والواقع أن لدينا بؤرتَين تتفقان مع الجدلية الدائرة بين نظم الخطاب والممارسة الخطابية أو الحادثة الخطابية. فالمرء يحتاج، من ناحية معيَّنة، إلى أن يفهم عمليات التغيير في الصورة التي تتخذها في الأحداث الخطابية، ويحتاج من ناحية أخرى إلى التوجيه حتى يعرف كيف تؤثِّر إعادة الترابط في نظم الخطاب. وأناقش الآن هاتين المسألتَين بالترتيب.
للتغيير في الحادثة الخطابية أصول ودوافع مباشرة تكمن في الإشكالية التي تنشأ في أعراف منتجي النصوص ومفسريها بأساليب منوَّعة. فعلى سبيل المثال نرى أن الإشكالية التي نشأت في أعراف التفاعل بين المرأة والرجل قد انتشرت في شتى المؤسسات والمجالات. وأمثال هذه الإشكاليات تقوم على التناقضات، وهي التناقضات في هذه الحالة بين مواقع الذوات التقليدية للجنسين التي درَجَ الكثير منا على اكتسابها في أثناء التكيُّف الاجتماعي، وبين العلاقات الجديدة بين الجنسين. وعلى مستوى مختلف إلى حدٍّ ما، يمكن أن نعتبر أن الخطاب السياسي للسيدة ثاتشر قد نشأ من الإشكالية التي تعرَّضَت لها الممارسات الخطابية اليمينية التقليدية في الظروف التي اتضحَتْ فيها التناقضات بين العلاقات الاجتماعية، ومواقع الذوات، والممارسات السياسية التي نشأت منها، والعالم المتغير. وعندما تنشأ الإشكاليات يواجه الناس ما يسميه بيليج وآخَرون (١٩٨٨م) «معضلات». وكثيرًا ما يحاول الناس التغلب على هذه المعضلات بأساليب تجديدية خلَّاقة، أي بالتكيف مع الأعراف القائمة بطرائق جديدة، وبذلك يسهمون في التغيير الخطابي. ويؤدي التناص الراسخ — ومن ثَمَّ الطابع التاريخي لإنتاج النصوص وتفسيرها — إلى إقرار النزعة الخلَّاقة باعتبارها أحد الخيارات المتاحة. ويضم التغيير أشكالًا من التعدي، وتجاوز الحدود، مثل إعداد تشكيلات جديدة من الأعراف القائمة، أو الانتفاع بالأعراف في حالات تحول عادةً دون ذلك.
وأمثال هذه التناقضات والمعضلات والرؤى الذاتية للمشكلات في المواقف العملية تتجسَّد اجتماعيًّا في تناقضات بنائية وصراع على المستويَين المؤسسي والمجتمعي. فإذا تابعنا المثال الخاص بالعلاقة بين الجنسَين رأينا أن مواقع الأفراد المتناقضة في الأحداث الخطابية والمعضلات الناجمة عنها ذات أصول في التناقضات البنائية في علاقات الجنسَين داخل المؤسسات والمجتمع كله. وأما العامل الحاسم الذي يحدِّد تجليات هذه التناقضات في أحداث معيَّنة فهو علاقة هذه الأحداث بالصراعات الدائرة حول تلك التناقضات. واستقطاب إمكانيات أشد تركيبًا وتعقيدًا يعني أن الحادث الخطابي قد يمثِّل إما إسهامًا في الحفاظ على العلاقات وضروب الهيمنة التقليدية بين الجنسين وإعادة إنتاجها، مستندًا بذلك إلى الأعراف الإشكالية، وإما إسهامًا في تحويل طابع هذه العلاقات من خلال الصراع على الهيمنة، محاولًا بذلك حل المعضلات من خلال التجديد. وللأحداث الخطابية نفسها آثار تراكمية في التناقضات الاجتماعية والصراعات الدائرة حولها. وموجز القول إذَن أن العمليات المعرفية الاجتماعية يمكن أن تكون تجديدية فتسهم في التغيير الخطابي، ويمكن ألَّا تكون كذلك، طبقًا لطبيعة الممارسة الاجتماعية.
فلننتقل الآن إلى البُعد النصي للخطاب. إن التغيير يخلف آثارًا في النصوص تتخذ شكل تواجد عناصر متناقضة أو غير متسقة، كأن تكون ضروبًا من المزج بين الأسلوبَين الرسمي وغير الرسمي، والمفردات التقنية وغير التقنية، والعلامات الدالة على السلطة أو على الألفة، وأشكال من التراكيب المميزة للكتابة والتراكيب المميزة للغة المنطوقة وهلُمَّ جرًّا. فإذا كُتب لاتجاه معيَّن من اتجاهات التغيير أن يشيع ويصبح مقبولًا، أي أن يكتسب صلابة العُرف الجديد الناشئ، فإن النصوص التي كانت تبدو للمفسرين متناقضة الأسلوب في البداية سوف تفقد ما كانت توحي به من أنها «قص ولصق» وتبدو بلا ثغرات. ومثل هذا التطبيع لا غِنى عنه في إنشاء ضروب جديدة من الهيمنة في مجال الخطاب.
ويؤدي بنا هذا إلى المسألة الثانية التي نركِّز عليها وهي نظم الخطاب. فلما كان منتجو النصوص ومفسروها يجمعون بين أعراف خطابية وشفرات وعناصر بطرائق جديدة في الأحداث الخطابية التجديدية، فإنهم ينتجون بصورة تراكمية تغييرات بنائية في نظم الخطاب: أي إنهم يفكِّكون نظم خطاب قائمة، ويعيدون هيكلة نظم خطاب جديدة، أي ضروب هيمنة خطابية جديدة. وقد تؤثِّر أمثال هذه التغييرات البنائية في نظام الخطاب «المحلي» فقط لإحدى المؤسسات، وقد تتجاوز المؤسسات وتؤثر في النظام المجتمعي للخطاب. ومن ثَمَّ ينبغي أن يستمر انتقال التركيز، أثناء إجراء البحوث في التغيير الخطابي، بين الحادث الخطابي وأمثال هذه التغييرات البنائية، لأنه من المُحال تقدير قيمة الأول وأهميته لعمليات التغير الاجتماعي الأوسع نطاقًا، من دون الاهتمام بالأخير، تمامًا مثلما يستحيل تقدير مدى إسهام الخطاب في التغيير الاجتماعي دون اهتمام بالأول.
فلأضرب أمثلة توضِّح القضية التي يمكن للمرء أن يبحثها في إطار دراسات التغير في نظم الخطاب، مشيرًا إلى نمطَين متصلَين من أنماط التغيير التي تؤثِّر حاليًّا في النظام المجتمعي للخطاب (وسوف أتوسَّع في مناقشة هذين في الفصل السابع أدناه). الأول إضفاء الديمقراطية ظاهريًّا على الخطاب بالتقليل من الدلائل السافرة على التفاوت في السلطة بين الأشخاص الذين تتفاوت سلطتهم المؤسسية، أي: مثلًا بين المعلمين والتلاميذ، وبين المديرين والعمال، وبين الآباء والأطفال، وبين الأطباء والمرضى، وهو ما يتضح في الكثير من المجالات المؤسسية. والمثال الثاني هو ما سبق لي أن أسميته ﺑ «الطابع الشخصي المُصطنَع» (فيركلف، ١٩٨٩م، أ) أي اصطناع نبرة الحديث الشخصي بين اثنين فقط في الخطاب العام الموجَّه للجماهير (في الصحف والراديو والتليفزيون). ولنا أن نربط هذين الاتجاهين بانتشار خطاب المحادثة وانتقاله من المجال الخاص لعالم الحياة إلى المجالات المؤسسية. وقد رسخت جذور هذين الاتجاهين الاجتماعيين الخطابيين من خلال الكفاح، ولكن رسوخ جذورهما محدود، الأمر الذي ينذر بأن عناصرهما غير المتجانسة سوف يتضح تناقضها الذي يؤدي إلى المزيد من الصراع والتغيير.
ومن جوانب انفتاح نظم الخطاب على الصراع أن عناصر أيِّ نظام من نظم الخطاب لا يتضمَّن قيمًا أو أشكالًا لصبغة أيديولوجية ثابتة. ولننظر مثلًا في جلسات المشورة؛ إنها، فيما يبدو، أسلوب بريء من إصدار التعليمات أو الأحكام، بل نهج للتعاطف مع الناس والتحادث معهم حول أنفسهم ومشاكلهم في جلسات تقتصر على فردَين فقط. ورغم أن جلسات المشورة ذات أصول علاجية، فإنها تشيع الآن باعتبارها تقنية معينة في العديد من المجالات المؤسسية، نتيجة لإعادة بناء نظام الخطاب إعادة لها مغزاها، ولكن هذا التطوُّر أصبح ذا معنى شديد الالتباس من الزاويتَين الأيديولوجية والسياسية. فمعظم مقدِّمي المشورة يرون أنهم يقدِّمون مساحة فردية للأشخاص في عالم تزداد معاملته لهم بصفتهم أصفارًا، وهو ما يجعل جلسات المشورة تبدو ممارسة مضادة للهيمنة، وتجعل استعمارها لمؤسسات جديدة تزداد أعدادها بانتظام يبدو تغييرًا تحرُّريًّا. ومع ذلك فإن جلسات المشورة تستخدم اليوم بديلًا مفضَّلًا عن الإجراءات التأديبية السافرة في مؤسسات منوعة، وهو ما يجعلها تبدو في صورة تقنية من تقنيات الهيمنة ما دامت تُدخل بعض جوانب الحياة الشخصية للأفراد، ببراعة خفية، إلى مجال السلطة. ويقع الصراع على الهيمنة، فيما يبدو، من خلال جلسات المشورة وانتشارها في جانب منه، ويقع حولها في جانب آخَر منه. ويتفق هذا مع ما يقوله فوكوه: «ضروب الخطاب عناصر تكتيكية أو سدود تعمل في ميدان علاقات القوة؛ ومن الممكن أن توجد ضروب مختلفة بل ومتناقضة من الخطاب داخل الاستراتيجية نفسها؛ وعلى العكس من ذلك تستطيع أن تنتشر من دون تغيير شكلها من استراتيجية معيَّنة إلى استراتيجية أخرى معارضة لها» (١٩٨١م، ١٠١).
ومن الممكن أن يسهم استكشاف اتجاهات التغيير داخل نظم الخطاب إسهامًا كبيرًا في المناظرات الجارية حول التغيُّر الاجتماعي. فمن الممكن البحث في إضفاء طابع السوق — أي التوسُّع في نشر النموذج السوقي في مجالات جديدة — من خلال النظر في الظاهرة الحديثة وهي الاستعمار الواسع النطاق لنظم الإعلانات وغيرها من أنماط الخطاب (انظر فيركلف، ١٩٨٩م، أ، والفصل السابع أدناه). وإذا كان إضفاء الديمقراطية على الخطاب والطابع الشخصي المُصطنَع يمكن ربطهما بإضفاء قَدْر من الديمقراطية الحقة على المجتمع، فمن الممكن أيضًا ربطهما بإضفاء طابع السوق عليه، خصوصًا إزاء التحول الظاهر في ميزان السلطة من المنتج إلى المستهلك، وهو ما يرتبط بالنزعة الاستهلاكية وأنواع الهيمنة الجديدة المترتبة عليها. وقد يكون من المفيد أيضًا وجود بُعد خطابي في المناظرات الدائرة حول الحداثة وما بعد الحداثة. فعلى سبيل المثال: هل يمكننا أن نرى أن إضفاء الديمقراطية والطابع الشخصي المُصطنَع وانتشار المحادثة ووصولها إلى المجالات المؤسسية يمثِّل إلغاء الفوارق بين المجالين العام والخاص (جيمسون ١٩٨٤م) أم تفتيتًا للممارسات المهنية التي كانت تتمتع بأبنية متماسكة من قبل؟ (في الفصل السابع مناقشة أوفى.)
الخاتمة
يحاول المدخل الذي عرضتُه في هذا الفصل للخطاب وتحليل الخطاب إقامة التكامل بين منظورات ومناهج نظرية منوعة بحيث يصبح — وفق ما أرجوه — أسلوبًا فعَّالًا لدراسة الأبعاد الخطابية للتغير الاجتماعي والثقافي. ولقد حاولتُ الجَمْع بين جوانب معيَّنة من رأي فوكوه في الخطاب وتأكيد باختين للتناص؛ فالأول يتضمَّن تأكيدًا بالغ الأهمية لخصائص الخطاب التي يبنيها المجتمع، والأخير يؤكد «النسيج» النصي (هاليداي وحسن، ١٩٧٦م) أي تكوين النصوص من خيوط من نصوص أخرى، وكلاهما يشير إلى الطريقة التي تَبْني بها نظُمُ الخطاب الممارسةَ الخطابيةَ، وكيف تعيد هذه الممارسة بناء تلك النظم. كما حاولت أن أقيم النظرة الدينامية للممارسة الخطابية وعلاقتها بالممارسة الاجتماعية الناجمة من التلاقي المذكور في إطار الصورة النظرية التي رسمها جرامشي للسلطة والصراع على السلطة من زاوية الهيمنة. واستفدتُ في الوقت نفسه من بعض التقاليد الأخرى في علم اللغة، وتحليل الخطاب القائم على النص، واستعمال الإثنومنهجية الخاصة بتحليل المحادثة في التحليل النصي. وأعتقد أن الإطار الذي نشأ يسمح للمرء فعلًا بالجمع بين العلاقة الاجتماعية والخصوصية النصية في إجراء تحليل الخطاب، والتناول المباشر للتغيير.