التناص
قدَّمت مفهوم التناص في الفصل الثالث، مشيرًا إلى اتفاقه مع الأولوية التي أوليها للتغير في الخطاب، ولبناء أنظمة الخطاب وإعادة بنائها، وكنت أشرتُ إلى مفهوم التناص أيضًا في الفصل الثاني باعتباره عنصرًا مهمًّا في تحليل الخطاب عند فوكوه. ولنتذكر ما يقوله: «من المحال أن توجد عبارة لا تقوم، بصورة ما، بإعادة تمثيل عبارات أخرى» (١٩٧٢م، ٩٨) والهدف الذي أرمي إليه في هذا الفصل أولًا أن أزيد من إيضاح الطابع العملي لمفهوم التناص باستعماله في تحليل النصوص، وثانيًا أن أعرض بطريقة منهجية إمكانيات هذا المفهوم فيما يتعلق بتحليل الخطاب، باعتبار ذلك جزءًا من الإطار التحليلي الذي أبنيه.
سكَّتْ كريستيفا مصطلح «التناص» في أواخر الستينيات في سياق دراساتها ذات النفوذ الواسع التي قدَّمت فيها لجماهير القرَّاء في الغرب عمل باختين (انظر كريستيفا، ١٩٨٦م، أ، المكتوب فعلًا في ١٩٦٦م). وعلى الرغم من أن مصطلح التناص ليس من وضع باختين، فإن وضع مدخل تناصي (أو إذا استعملنا اللفظة التي سكَّها مدخل «عبر لغوي») لتحليل النصوص كان يمثِّل محورًا رئيسيًّا لعمله على مدار حياته الأكاديمية، وكان ذا ارتباط وثيق بقضايا مهمة أخرى، من بينها قضية النوع الأدبي (انظر باختين، ١٩٨٦م، وهي دراسة كتبها في أوائل الخمسينيات).
ويشير باختين إلى التجاهل النسبي للوظائف التوصيلية للغة داخل التيار الرئيسي لعلم اللغة، وخصوصًا إلى تجاهل طرائق تشكيل نصوص سابقة للنصوص المكتوبة والمنطوقة التي تمثِّل «استجابة» لسابقاتها، وكيف تؤثِّر هذه في نصوص لاحقة «تستبقها»، إذ كان باختين يرى أن جميع النصوص المنطوقة والمكتوبة — من أصغر مشاركة في محادثة إلى الدراسات العلمية أو الروايات — يحدِّدها تغيير المتكلم (أو الكاتب) وتتوجَّه عكسيًّا إلى أقوال المتكلمين السابقين (سواء كانت عبارات في حوار أو دراسات علمية أو روايات) وطرديًّا إلى الأقوال المتوقعة من جانب المتكلمين اللاحقين. وهكذا فإن «كل قول منطوق حلقة في سلسلة الاتصال الكلامي». أي إن جميع الأقوال المنطوقة «تسكنها» بل و«تُكوِّنها» شذرات من أقوال الآخَرين المنطوقة، وهي شذرات شبه صريحة أو كاملة، إذ يقول: «كلامنا … زاخر بكلمات الآخَرين، ويتسم بدرجات متفاوتة من الانتساب للغير أو الانتماء إلى ذواتنا، ودرجات متفاوتة من الوعي والانفصال. وهذه الكلمات الخاصة بالآخَرين تحمل في طياتها تعبيرهم، ونغمة تقييمهم الخاصة، ونحن نستوعب هذا كله، ونعيد صوغه وتأكيده» (باختين، ١٩٨٦م، ٨٩)؛ أي إنَّ الأقوال المنطوقة — التي أشير إليها بمصطلح «النصوص» — تتميَّز بطبيعة مُتناصَّة، وتتكون من عناصر من نصوص أخرى. وقد زاد فوكوه من تحديد معالم التناص بالتمييز بين «الحضور» و«الاقتران» و«الذاكرة» (انظر قسم «تشكيل المفاهيم» في الفصل الثاني عاليه).
وكنت قد ذكرتُ في الفصل الثالث أن بروز مفهوم التناص في الإطار الذي أبنيه يتفق مع تركيزي على الخطاب في التغيير الاجتماعي. وتقول كريستيفا: إن التناص يعني ضمنًا «إدراج التاريخ (المجتمع) في النص، وإدراج هذا النص في التاريخ» (١٩٨٦م، أ، ٣٩). وهي تعني بتعبير «إدراج النص في التاريخ» أن النص يستجيب إلى نصوص سابقة ويعيد تمثيلها وصوغها، ويساعد بذلك على صناعة التاريخ، ويسهم في عمليات التغيير الواسعة النطاق، إلى جانب استباق نصوص لاحقة ومحاولة تشكيلها. وهذا الطابع التاريخي الراسخ في النصوص يمكِّنها من القيام بالأدوار الكبرى التي تقوم بها في المجتمع المعاصر باعتبارها السلاح الرئيسي في التغيير الاجتماعي والثقافي (انظر المناقشة في الفصلَين: ٣ و٧). والواقع أن سرعة التحول وإعادة البناء للتقاليد النصية ونظم الخطاب ظاهرة معاصرة مرموقة، وهو ما يعني ضرورة التركيز الشديد على التناص في تحليل الخطاب.
والعلاقة بين التناص والهيمنة علاقة مهمة، إذ يشير مفهوم التناص إلى إنتاج النصوص، أي كيف تستطيع النصوص تحوير النصوص السابقة وإعادة بناء الأعراف القائمة (الأنواع، ضروب الخطاب) لتوليد الجديد منها، ولكن القدرة على الإنتاج ليست في الواقع العملي متاحة للناس باعتبارها ساحة لا حدود لها للتجديد النصي والتغيير، بل تحدها حدود المجتمع وقيوده، وتتوقف على علاقات السلطة. ولا تستطيع نظرية التناص في ذاتها تفسير أوجُه القصور الاجتماعية المذكورة، ومن ثَمَّ فهي تحتاج إلى استكمالها بنظرية عن علاقات السلطة وكيف تشكِّل المباني والممارسات الاجتماعية (مثلما تتشكَّل بفعلها). ومن المفيد بصفة خاصة الجمع بين نظرية الهيمنة (الموصوفة في الفصل السابق) والتناص. فلسوف يسمح ذلك بتحديد الإمكانات وأوجُه القصور الخاصة بالعمليات التناصية داخل ضروب معيَّنة من الهيمنة وحالات الصراع على الهيمنة، كما يتيح لنا وضعَ تصوُّرٍ لعمليات التناص وعمليات الطعن في نظم الخطاب وإعادة بنائها باعتبارها عمليات صراع على الهيمنة في مجال الخطاب، وهي التي تؤثر في الصراع على الهيمنة بالمعنى الواسع وتتأثر به.
ويميز باختين بين ما تسميه كريستيفا البُعد «الأفقي» والبُعد «الرأسي» للتناص أو العلاقات في ساحة «التناص» (انظر كريستيفا، ١٩٨٦م، أ، ٣٦). فأمامنا، من ناحية علاقات تناصية «أفقية» من النوع «الحواري» (وإن كان ما نراه عادةً في صورة مونولوجات يعتبر حواريًّا بهذا المعنى) بين النص وبين النصوص السابقة له واللاحقة عليه في سلسلة النصوص. وأوضح حالة لذلك أن الأقوال الواردة في إحدى المحادثات تضم وتتجاوب مع الأقوال السابقة، وتستبق الأقوال اللاحقة؛ ولكن أية رسالة مرسلة ترتبط تناصِّيًّا مع الرسائل السابقة لها واللاحقة أثناء تبادل الرسائل؛ ومن ناحية أخرى توجد علاقات تناص «رأسية» بين أحد النصوص والنصوص الأخرى التي تشكل سياقها المباشر أو البعيد إلى حدٍّ ما؛ أي مع النصوص التي ترتبط تاريخيًّا بها في أطُر زمنية مختلفة وبمعايير متفاوتة، بما في ذلك النصوص التي تعتبر إلى حدٍّ ما معاصرة لها.
وإلى جانب ما يعنيه التناص من ضم النص لنصوص أخرى أو استجابته لها، فلنا أن نرى أنه يضم العلاقات التي يمكن أن تكون «مُركَّبة» بينه وبين الأعراف (الخاصة بالأنواع، وضروب الخطاب، والأساليب، وأنماط النشاط — انظر أدناه) والتي تنتظم معًا لتشكيل نظام من نظم الخطاب. وفي معرض مناقشة باختين للنوع (النصي) يقول: إن النصوص قد لا تكتفي بالاستفادة من هذه الأعراف بطريق مباشرة نسبيًّا، بل إنها «تعيد تفعيلها» وذلك مثلًا باستخدامها استخدامًا تهكُّميًّا، أو بالمحاكاة الساخرة لها، أو بتبجيلها، وقد «تخلط» بينها بطرائق شتى (١٩٨٦م، ٧٩–٨٠). ويرتبط التمييز بين علاقات التناص بين النصوص وغيرها من النصوص المحدَّدة، وبين العلاقات التناصية بين النصوص وبين الأعراف، بتمييز آخَر يستخدمه محلِّلو النصوص الفرنسيين، ألا وهو التناص «السافر» والتناص «التكويني» أو «التشكيلي» (أو تييه، ريفي، ١٩٨٢م؛ مانجانو، ١٩٨٧م). فأما التناص السافر فيعني الوجود الصريح لنصوص أخرى داخل النص قيد التحليل، وهي سافرة لوجود علامات واضحة تدل عليها على «سطح» النص، مثل علامات التنصيص، ولكن أحد النصوص قد يضم نصًّا من دون وجود ما يدل عليه صراحة، ومن الممكن للكاتب أن يستجيب إلى نص آخَر بالطريقة التي يصوغ بها نصه الخاص، على سبيل المثال. وأما التناص التكويني أو التشكيلي فهو تشكيل الأعراف الخطابية التي تستعمل في إنتاجه. والأولوية التي أوليتها لنظم الخطاب تؤكد التناص التكويني. ولسوف أستخدم تعبير التناص باعتباره مصطلحًا عامًّا يشير إلى التناص السافر والتكويني عندما لا يكون التمييز بينهما قضيتي، ولكنني إذا أردت التمييز فسوف أستخدم مصطلح التركيب الخطابي بدلًا من التناص التكويني، وذلك حتى أؤكد أن تركيزي منصَبٌّ على أعراف الخطاب لا على النصوص الأخرى التي تكوِّن النص أو تشكِّله.
ويترتب على التناص تأكيد عدم تجانس النصوص، وتطبيق أسلوب تحليل يؤكِّد العناصر والخيوط المنوَّعة التي يُنسج منها النص والتي كثيرًا ما تكون متناقضة. وإلى جانب ذلك، فالنصوص تتفاوت تفاوتًا شديدًا في درجة عدم تجانسها، وهو ما يتوقف على كون علاقات التناص فيها بسيطة أو مُركَّبة. وتختلف النصوص أيضًا من حيث التكامل بين عناصرها غير المتجانسة، أي في درجة وضوح عدم تجانسها على سطح النص. وعلى سبيل المثال قد يتميز بوضوح نص آخَر مدرج في النص الرئيسي بوجود علامات تنصيص وفعل يدل على قائل هذا النص الآخَر، ومن المحتمل ألَّا يتميز بعلامات بل يمتزج بنائيًّا وأسلوبيًّا بالنص الرئيسي، وربما يكون ذلك عن طريق إعادة صياغته (انظر مناقشة تمثيل الخطاب أدناه). ويجوز أيضًا أن تكون النصوص المقتطفة قد «أعيد تفعيلها» أو لا تكون كذلك، والمقصود بالتفعيل تغيير نغمتها أو نبرتها حتى تتفق مع النغمة أو النبرة السائدة في النص المحيط بها (أي أن تتفق معه أو لا تتفق في النغمة الساخرة أو العاطفية المسرفة)، بل وقد تكون نصوص الآخَرين أو لا تكون قد انصهرت في افتراضات مجهولة المؤلف في خلفية النص، ما دامت مفترضة سلفًا (انظر مناقشة الافتراض السالف أدناه). وهكذا فقد يكون النص غير المتجانس ذا سطح نصِّي وعِر يتسم ﺑ «المطبات» وقد يكون ذا سطح أملس نسبيًّا.
في الجزء الباقي من هذا الفصل سوف أحلِّل عيِّنتَين نصِّيَّتَين لإيضاح بعض إمكانيات التحليل وفق مفهوم التناص. واستنادًا إلى هذين المثالين، سوف أناقش أبعاد التناص المهمة في بناء إطارٍ لتحليل الخطاب، ألا وهي: التناص السافر، والمركَّب الخطابي، و«التحولات» النصية، وكيف تشكِّل النصوص الهُويات الاجتماعية.
العينة الأولى: تقرير إخباري
وسوف أركِّز على «رواية» أو «تمثيل» الكلام في المقالة (انظر الوصف المعياري الجيد له عند ليتش وشورت، ١٩٨١م). وسوف أستعمل في الواقع مصطلحًا آخَر، لأسباب أذكرها فيما بعد، وهو «التمثيل الخطابي». والتمثيل الخطابي شكل من أشكال التناص الذي يتسم بوجود أجزاء من نصوص أخرى داخل النص، وعادةً ما ينص على ذلك صراحة إما باستخدام علامات تنصيص وعبارات تشير إلى الراوي (مثل «قالت» أو «زعمت ماري أن …») والتمثيل الخطابي يشكِّل بوضوحٍ جانبًا رئيسيًّا من جوانب الأخبار: إذ يعني تمثيل ما هو جدير بأن يكون خبرًا من أقوال الناس، ولكن له أهمية بالغة أيضًا في أنماط خطابية أخرى، مثل تقديم الأدلة في المحاكم، وفي السياقات السياسية، وفي المحادثات اليومية التي لا يكف الناس فيها عن رواية ما قاله الآخَرون. والواقع أن أهمية التمثيل الخطابي لم تلقَ عمومًا حقها من التقدير، سواء باعتبارها عنصرًا من عناصر النصوص اللغوية أو باعتبارها بُعدًا من أبعاد الممارسة الاجتماعية.
وقد اخترتُ هذه المقالة خصوصًا لأن بين أيدينا معلومات غير متاحة في العادة لعامة القرَّاء، ألا وهي الوثيقة التي يدور الحديث عنها في المقالة (دار المطبوعات الحكومية، ١٩٨٥م) ومن ثم نستطيع أن نقارن بين التقرير الخبري والأصل المطبوع، ونركِّز حول أسلوب تمثيل الخطاب.
وعادةً ما نميِّز في الأقوال المروية بين ما يُسمَّى التمثيل الخطابي «المباشر» و«غير المباشر». انظر مثلًا: حذرت السيدة ثاتشر زملاءها في مجلس الوزراء قائلة «لن أقبل الآن أيَّ انحطاط»، فهذا مثال للخطاب المباشر، وانظر «حذرت السيدة ثاتشر زملاءها في مجلس الوزراء بأنها لن تقبل آنئذٍ أيَّ انحطاط»، فهذا مثال للخطاب غير المباشر. وكل منها يتضمَّن عبارة تذكر الراوي («حذرت السيدة ثاتشر زملاءها في مجلس الوزراء») يتلوها تمثيل للخطاب. أما في حالة الخطاب المباشر فإن الكلمات «الممثلة» مكتوبة بين علامات تنصيص وأما الزمن و«العلامات الإشارية»، أي الكلمات التي تتعلق بزمن القول المنطوق ومكانه مثل كلمة «الآن» في هذا المثال، فتنتمي للكلام «الأصلي». ويوجد حد صريح بين «صوت» الشخص المروي عنه وصوت «الراوي»، وكثيرًا ما يُقال إن الخطاب المباشر يستخدم الألفاظ نفسها التي نطق بها المتكلم. وأما في الخطاب غير المباشر فتختفي علامات التنصيص، ويتخذ التمثيل الخطابي شكل جملة في موقع نحوي ثانوي بالنسبة للجملة الراوية، وهي علاقة يدلُّ عليها الحرف «أن» (أو إن). ويتحول الزمن والعلامات الإشارية من أجل إدراج منظور الراوية، فكلمة «الآن» مثلًا تتحول إلى «آنذاك». ويقل وضوح الفصل بين صوتي الراوية والشخص المروي عنه، وقد تكون الكلمات المستخدمة لتمثيل خطاب الأخير كلمات الراوي نفسه لا كلمات المروي عنه.
ولنقارن بعد ذلك بين هذه العناوين والفقرة الافتتاحية بالأصل الوارد في وثيقة دار المطبوعات الحكومية:
ينبغي أن تنظر الحكومة في استخدام سلاح البحرية وسلاح الطيران في القيام بواجبات الاستطلاع الجوي وبالرادار وفي عرض البحر. ومن ثَمَّ فنحن نوصي بتكثيف إنفاذ القوانين ضد تجار المخدرات، من جانب الجمارك والشرطة والأجهزة الأمنية، وربما القوات المسلحة.
وعندما مزجت الصحيفة بين صوت الوثيقة وبين صوتها، قامت بترجمة الصوت الأول إلى ألفاظ الصوت الأخير. وتتعلق المسألة في جانب منها بالمفردات، فالوثيقة لا تستخدم كلمات مثل «استدعوا»، أو «معركة» أو «قتال» أو «هائل»، أو «غزو»، أو «مهربي المخدرات» أو «مروجيها». والقضية قضية استعارة أيضًا؛ إذ تلتقط الصحيفة الاستعارة التي تعتبر التعامل مع تجار المخدرات بمثابة خوض حرب ما — وهي التي تستخدم في الوثيقة مرة واحدة — وتنقل صوت الوثيقة إلى إطارها الخاص. والعنوان يتضمَّن تطويرًا لهذه الاستعارة بصورة لا نجدها إطلاقًا في الوثيقة، ألا وهو فكرة التعبئة («استدعوا») للقوات المسلحة، ويصدق الشيء نفسه على اعتبار تهريب المخدرات «غزوًا». والمسألة تتعلَّق أخيرًا، أيضًا، بترجمة التوصيات الحذرة في التقرير إلى مجموعة «مطالب».
ولكن هل هذه «لغتها الخاصة» حقًّا؟ إن عملية الترجمة اقتضت بعض التحولات من المصطلح المشروع للغة المكتوبة في اتجاه مفردات اللغة المنطوقة («فتجار المخدرات» أصبحوا «مروِّجين» لها، و«القوات» تستخدم من دون وصفها بالمسلحة) ومن المونولوج الكتابي (الكلام على لسان شخص واحد) إلى حوار المحادثات (فالمطلب الوارد في العنوان يوحي بالحوار ضِمنًا) واستثمار الاستعارة (التعبئة من أجل الحرب) ذات الأصداء في الخبرة الشعبية والأساطير؛ أي إنَّ التحول، باختصار، تحول من الوثيقة الرسمية إلى الكلام الشائع، أو بالأحرى إلى «تصور الصحيفة الخاص للغة الجمهور الذي تخاطبه أساسًا» (هول، وآخَرون، ١٩٧٨م، ٦١). ويرتبط هذا بميل موردي الأخبار إلى القيام بدور «الوسطاء»، أي الأشخاص الذين «يُنمُّون» خصائص تعتبر مميزة للجمهور «المستهدف»، وعلاقة تضامن مع ذلك الجمهور المفترض، والذين يستطيعون أن ينقلوا أنباء أحداث جديرة بالمعرفة إلى الجمهور ﺑ «المنطق السليم» لذلك الجمهور، أو بصورة نمطية منه (هارتلي، ١٩٨٢م، ٨٧).
وقد بدأت أجهزة الإعلام بصفة عامة، في الآونة الأخيرة، التحول إلى هذا الاتجاه، وعلينا أن ننظر في سبب ذلك. فعلى أحد المستويات نجد فيه انعكاسًا لما يوصف بأنه بُعد مهم من أبعاد النزعة الاستهلاكية، أي انتقال السلطة، أو انتقالها ظاهريًّا، من المنتج إلى المستهلك. فأجهزة الإعلام تعمل في سوق تنافُسية تقتضي اجتذاب القرَّاء والمشاهدين والمستمعين في سياق سوقي تعتبر مبيعاتها أو مراتبها فيها عوامل حاسمة من أجل البقاء. ويمكن تفسير الاتجاهات اللغوية التي أشرتُ إليها بأنها مظهر تحقيق واحد للاتجاه الأعم والأشمل عند المنتجين لتسويق سلعهم بطرائق تحقِّق لهم الحدَّ الأقصى من التواؤم مع أساليب حياة المستهلكين وما يطمحون إليه من أساليب الحياة (وإن كنت أودُّ أن أضيف أنهم يعملون على بناء الناس باعتبارهم مستهلكين وأساليب الحياة التي يطمحون إليها).
ومع ذلك فالعملية أشد تعقيدًا من ذلك. فالأحداث الجديرة بمكانة الأخبار تنشأ عند مجموعة من الأشخاص المرتبطين بأجهزة الإعلام والمتمتعين بمزية القدرة على الاتصال بها، والذين يعاملهم الصحفيون باعتبارهم مصادرَ موثوقًا بها، والذين يمثِّل الخطاب الإعلامي أصواتهم على أوسع نطاق ممكن، وهذه الأصوات الخارجية يغلب إيضاحها وتحديدها بصراحة في بعض أجهزة الإعلام، وهي مسألة أعود إليها أدناه، ولكن عندما تترجم أقوالهم إلى صورة الصحيفة للغة الشائعة، كما هو الحال في هذا المثال، فإن التعمية تنشأ حول حقيقة الذين تمثل الصحيفة أصواتهم ومواقعهم. فإذا حدث أن اتخذ تمثيل أصوات أصحاب السلطة من الأفراد والجماعات في السياسة والصناعة … إلخ، بصورة اللغة اليومية (ولو بلغة محاكاة وغير حقيقية في جانبٍ منها) فسوف تنهار الهُويات والعلاقات والمسافات الاجتماعية؛ إذ إن تمثيل كلام أصحاب السلطة بلغة من الممكن أن يستعملها القرَّاء أنفسهم يسهل عليهم قبول معانيهم؛ أيْ إنَّ لنا أن نعتبر أن أجهزة الإعلام تقوم بعمل أيديولوجي، وهو نقل أصوات السلطة بصورة متنكِّرة خفية.
الصورة التقليدية لرئيس الخدم في أحد القصور الملكية تجعله شخصية عامة، وإن تكن هامشية، من حيث دوره ووظيفته، لا باعتباره فردًا، ولكن صوت رئيس الخدم في القصر الملكي في هذه الحالة صوت الكلام الشائع، سواء في الخطاب المباشر الذي يمثِّله في آخِر المقالة أو في الإشارة إلى أنه يلبس حذاءً رياضيًّا. وترجمة (هذه الشخصية العامة) إلى المجال الخاص للأفراد العاديين يؤكِّدها تعبير مثل «يترك عمله» بدلًا من «يستقيل من منصبه». ويتضح في الوقت نفسه نقلُ أفراد الأسرة المالكة أنفسهم إلى المجال الخاص ذو المغزى الأكبر؛ إذ يُشار إلى الأميرة ديانا في جميع الصحف الشعبية بالمقطع الأول من اسمها (وهو «داي») وإن كان ذلك لا يستخدم في الحياة اليومية إلا بين أفراد الأسرة والأصدقاء، وهو ما يوحي بأن الأسرة المالكة تشبهنا في استعمال أمثال هذه الأسماء المختصرة، وبأننا (الصحفيين والقرَّاء) نستطيع أن نشير إلى ديانا بالصورة المختصرة، «داي»، كأنما تربطنا بها علاقة ودٍّ وثيقة. والمعاني المُضمَرة في هذا الاستخدام الشائع للاسم المختصر تجد التعبير الصريح عنها في بقية الخبر، في الألفاظ المنسوبة لرئيس الخدم إذ يقول: إنها «لطيفة»، و«عادية»، و«متواضعة» و«طبيعية».
ويشير كريس (١٩٨٦م) إلى إعادة بناء مماثلة في الصحافة الأسترالية للحدود التي تفصل العام عن الخاص. وهو يبيِّن التضادَّ بين صورتَين من صور التغطية الصحفية للخبر الخاص بإلغاء تسجيل «اتحاد عمال البناء» أيْ سلبه حصاناته النقابية؛ إذ تعامل إحدى الصحف هذه الحادثة باعتبارها حدثًا عامًّا (أي جماهيريًّا) وتعالجها الصحيفة الأخرى باعتبارها حدثًا خاصًّا (أيْ شخصيًّا) مركِّزة على الشخص وعلى شخصية رئيس الاتحاد نورم جالاجر. ويتضح التضاد في الفقرتَين الافتتاحيتَين للمقالتَين.
ونرى هنا، من جديد، أي إعادة رسم الحدود بين العام والخاص تتضمَّن الأسلوب مثلما تتضمَّن المادة، مثل استخدام الاسم الأول والزمن المضارع في العنوان، والتعليق الفظ في العبارة المنسوبة إلى جالاجر.
وتلعب أجهزة الإعلام دورًا مهمًّا في مجال الهيمنة؛ فهي لا تعيد إنتاج العلاقة بين المجالَين العام والخاص فقط، بل تعيد بناءها أيضًا، والاتجاه الذي حددته هنا يتضمَّن تفتيت التمييز بينهما؛ بحيث تُختزل الحياة العامة والخاصة في نموذج للفعل الفردي والدافع الفردي، بل وفي نموذج للعلاقات القائمة على ما يُفترض أنه الخبرة الشائعة في الحياة الخاصة. وأهم عامل في تحقيق ذلك هو إعادة البناء في داخل نظام الخطاب الخاص بالعلاقات بين «الكلام الشائع» وشتَّى أنماط الخطاب العام الأخرى.
العيِّنة الثانية: «دليل حامل البطاقة الائتمانية إلى باركليكارد»
العينة الثانية، المستعارة من فيركلف (١٩٨٨م، أ) هي المضمون اللغوي لنص بعنوان «دليل حامل البطاقة الائتمانية إلى باركليكارد» (أي بطاقة بنك باركليز). ويشغل النص الثلث الأعلى من صفحتَين متقابلتَين، وتشغل المساحة الباقية صورة فوتوغرافية لموظفة استقبال يابانية مبتسمة، وهي تقدِّم قلمًا إلى عميل (لا يظهر في الصورة) للتوقيع، فيما تتصور، على مستند القيد المشار إليه في النص (وأرقام الجمل من إضافتي).
استعمالها سهل: لا تحتاج حتى إلى معرفة اللغة
حيثما ترى علامة «فيزا» تستطيع تقديم بطاقة باركليكارد الخاصة بك عندما تريد أن تدفع (١).
وسوف يضع موظفُ المبيعات بطاقتَك ومستندَ البيع في طابعة لتسجيل اسمك ورقم حسابك (٢).
وسوف يستكمل بيانات المستند، وبعد التأكُّد من صحة التفاصيل ما عليك إلا توقيعه (٣).
وسوف تتسلَّم نسخة من المستند، وينبغي لك الاحتفاظ بها لمقارنتها بحسابك في البنك، وتصبح البضاعة ملكًا لك (٤).
هذا كل ما في الأمر (٥).
ولك أن تستخدم بطاقتك بالكثرة التي تريدها، بشرط ألَّا تتأخر مدفوعاتك، وألَّا تتجاوز حد الائتمان المتاح لك (وهذا مطبوع على الحافظة التي تحتوي بطاقتك) (٦).
وأحيانًا يضطر المحل إلى الاتصال تليفونيًّا بمقر باركليكارد للحصول على تصريح بالمعاملة المالية (٧).
وهذا إجراء روتيني نشترطه، فنحن نتأكد وحسب من أن كل شيء على ما يرام قبل السماح بالبدء في التعامل (٨).
وابتغاء التعامل السريع مع هذه المكالمات، تعمل باركليكارد حاليًّا على إنشاء نظام أوتوماتيكي جديد (٩).
وسوف يؤدي هذا إلى توفير وقتك، ولكن أرجوك أن تلاحظ أن أية تعاملات يمكن أن تؤدي إلى تخطِّي السقف الائتماني لباركليكارد يحتمل أن ترفض فعلًا (١٠).
ومن المهم التأكُّد من أن سقفك الائتماني كافٍ لتغطية مشترياتك ومسحوباتك النقدية (١١).
وعندما تريد أن تنتفع بعرض بيع شيء والدفع بالبريد فإرسال رقم بطاقتك أسهل كثيرًا من إرسال شيكات أو حوالات نقدية (١٢).
كل ما عليك أن تفعل هو أن تكتب رقم بطاقتك في الخانة المحدَّدة في استمارة الطلب، ووقِّع باسمك وأرسلها (١٣).
أو إذا أردتَ حجز تذاكر للمسرح، فلك أن تحجز مقاعد المواصلات أو حتى تشتري التذاكر تليفونيًّا، ما عليك إلا أن تذكر رقم بطاقتك، ويمكن خصم التكاليف من حسابك عند باركليكارد (١٤).
سوف تكتشف أن باركليكارد يمكن أن تجعل الحياة أيسر كثيرًا (١٥).
ينصَبُّ تركيزي بالنسبة لهذه العينة على المركَّب الخطابي (التناص المكون) في إطار صراع على الهيمنة والتغيير، وعلى الأحوال والآليات الاجتماعية الخاصة بظهور نمط خطابي جديد يتكون من خلال تشكيلٍ مستحدَثٍ من الأنماط القائمة، وخصوصًا ظهور خطاب هجين يجمع بين المعلومات والدعاية (الإعلام والبيع). والمزيج الخاص في هذه العيِّنة مزيج من النظم المالية والإعلان؛ فالنص يعرض شروط الانتفاع بخدمة بطاقة ائتمان معينة، هي باركليكارد، ويحاول في الوقت نفسه أن «يبيعها». وهكذا فإن منتجي النص يعملون في حالتَين ويشغلون موقعَين من مواقع الذات في الوقت نفسه، كما يضعون القرَّاء في مواقع متناقضة. والتناقض الرئيسي هو علاقة السلطة بين البنك والجمهور؛ فالبنك من زاوية معينة «صاحب السلطة» الذي يقوم بتوصيل النظم إلى «الخاضع للسلطة»، وهو من زاوية مقابلة منتج «خاضع للسلطة» يحاول بيع شيء إلى المستهلك («صاحب السلطة»). (المقصود أن المنتج يخضع لسلطة المستهلك في القبول أو الرفض) وفي الموقف معانٍ تتعلَّق بالعلائق بين الأشخاص، بالمعنى الذي نجده عند هاليداي.
ويتجلَّى في النص نسق التناوب على مستوى الجمل بين نمطَي الخطاب الخاص بالنظم المالية وبالإعلان، إلى الحدِّ الذي نرى فيه أن بعض الجمل تنتمي بوضوح معقول إلى هذا النمط أو ذاك. فالعنوان مثلًا يشبه الإعلان، والجملة رقم (٦) تشبه بندًا في اللائحة المالية. وفي النص جمل أخرى، مثل (١٢) و(١٤) يتراوح معناها بين هذا وذاك، ولكن بعض الجمل التي تنتمي بصفة عامة إلى أحد النمطين تتضمَّن بعض آثار النمط الآخَر. ففي الجملة رقم (٦) مثلًا، وفي كل مكان في النص، يُخاطَب القارئ بضمير المخاطب المفرد. والمخاطبة المباشرة من الأعراف التي تدل على الألفة في فنون الإعلان الحديثة. وفي هذا الدليل صفحة مستقلة عنوانها «شروط الاستعمال»، ومقارنتها بهذا النص مفيدة، إذ ترصد ثلاثة عشر شرطًا، ببنط طباعي بالغ الصغر، ولا نجد فيها خلطًا بين الأنماط، ولا مخاطبة مباشرة للقارئ. وفيما يلي أحد الشروط الواردة فيها:
(٢) لا بد من توقيع حامل البطاقة عليها، ولا يجوز استعمالها إلا (١) من جانب حاملها؛ و(٢) طبقًا لشروط استعمال باركليكارد السارية في وقت استعمالها، و(٣) في حدود السقف الائتماني الذي يخطر البنك به حامل البطاقة من حين لآخَر؛ و(٤) للانتفاع بالتسهيلات التي يتيحها البنك من وقت لآخَر فيما يتعلَّق بالبطاقة.
وكلمة «وحسب» والتعبير المقابل لها «ما عليك إلا»، المستعملان في النص (في الجمل (٣) و(٨) و(١٣) و(١٤) تنتميان إلى الإعلان. فالصيغة تقلِّل إلى الحد الأدنى ما يجب على العميل أن يفعله، ومن ثَمَّ فهي تخفِّف من سلطة منتج النص، وتوحي بالتحول في اتجاه سلطة المستهلك. إنها تنقل معنى البساطة ذا المكانة الجوهرية في الإعلان: «إنه أمر سهل». ولدينا حالة مختلفة إلى حدٍّ ما تتعلَّق بتجنُّب معانٍ من شأنها أن تكون إشكالية في إطار هذا المزج بين الإعلام والبيع. فعلى سبيل المثال، يتوقع المرء أن تفصح اللائحة المالية بصراحة عما هو مطلوب من العميل، كما هو الحال في المقتطف من «شروط الاستعمال» عاليه. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن النص يشير إلى عشرة إجراءات مطلوبة من العميل، فإن التعبير الصريح عن الإلزام لا يرد إلا في حالة واحدة («وعليك الاحتفاظ به لمقارنته») وحتى في هذه الحالة فإن صيغة الإلزام ضعيفة («ينبغي لك» لا «يجب عليك»). انظر مناقشة الأفعال «النوعية» أو المساعدة في الفصل التالي).
وأما كلمات النص المطبوعة بالبُنْط الأسود — الجملتان (١٠) و(١١) — فهي أوضح الأجزاء انتماءً للنظم التي تقتضي الالتزام بها، ومع ذلك فإن الصياغة تتضمَّن قدرًا كبيرًا من تخفيف هذا الإلزام، فالمعنى الذي تعبِّر عنه الجملة رقم (١٠) قد يُغضب العميل، ولكن يخفِّفه المعنى «الافتراضي» أيْ صيغة «يمكن أن» وصيغة «يُحتمَل أن»، كما إن عبارة «يُحتمَل أن ترفض» مذيَّلة بكلمةٍ تُستخدَم في المراوغة وهي «فعلًا» (كأنما يمكن أن يكون احتمال الرفض نظريًّا أو فعليًّا). أضِف إلى هذا أن المبني للمجهول يعني عدم تحديد فاعل الرفض، وإذا كان من اليسير أن يُستنبَط من السياق أنه البنك، فإن النص لا يُبرز ذلك. وفي الجملة رقم (١١) نرى أن التزام حامل البطاقة مُعبَّر عنه تعبيرًا غير شخصي، (فعبارة «من المهم التأكُّد» كان يمكن أن تكون «لا بد أن تتأكد») وهي تتحول بغرابة إلى ضرورة السيطرة على سقف الائتمان، وهي التي يسيطر عليها البنك، بدلًا من أن توصي بعدم تجاوزه.
والمزج بين المعلومات الخاصة بالنظم المالية وبين الإعلان يمكن تفسيره باعتباره صورة من صور رد الفعل إزاء معضلة تواجهها بعض المؤسسات، مثل البنوك، في السوق الحديثة، إذ إنَّ القطاعات الاقتصادية خارج الإنتاج السلعي يزداد أخذها بالنموذج السلعي وإطار النزعة الاستهلاكية، وتتعرَّض لضغوط معيَّنة حتى تقدم أنشطتها «مجمعة» في صورة سلع، وأن «تبيعها» ﻟ «المستهلكين». ويتسبب هذا في صعوبة خاصة للبنوك، فمحاولات أنشطتها التنافُس مع السلع الاستهلاكية يقضي بأن تذعن لسلطة المستهلك، وتجعلها جذَّابة وبسيطة ومتحرِّرة من القيود إلى أقصى حدٍّ، ولكن الطبيعة الخاصة ﻟ «البضائع» التي تعرضها تُحتِّم أن يخضع انتفاع المستهلكين بها لقواعد وضمانات. وليست هذه المُعضِلة مما ينفرد به العمل المَصْرفي، فهي تنشأ في صورة مختلفة إلى حدٍّ ما في التعليم؛ إذ إن الضغط الرامي إلى «بيع المنتج» يواجهه ضغط لحمايته من الآثار المفسدة للسوق. وتتجلى المُعضِلة في «نموذج» العلاقة التناصية بين المعلومات المالية والعناصر الإعلانية في النص، وبخاصة الحقيقة المذكورة عاليه، وهي أن النص يتراوح بين الجمل التي تنتمي في المقام الأول إلى أحد الطرفَين لا للآخَر. ومن شأن هذا أن يوحي بأنَّ نمطَي الخطاب يحاولان بصعوبة أن يتعايشا في النص، بدلًا من أن يتكاملًا تكامُلًا تامًّا (انظر بداية القسم الثاني حيث الحديث عن علاقات التناص).
والنصوص التي تجمع بين الإعلام والدعاية أو الإخبار والبيع شائعة في مختلف نظم الخطاب المؤسسية في المجتمع المعاصر. وهي تشهد بحركة استعمار إعلانية منطلقة من مجال تسويق السلع بمعناه الضيق إلى شتى المجالات الأخرى. وللمرء أن يُرجع ذلك إلى الموجة العالية الراهنة (التي ترتبط في بريطانيا بثقافة «الأعمال الحرة») في عملية التسليع الطويلة الأجل، ودخول مجالات جديدة في السوق، وانتشار النزعة الاستهلاكية. والمعتقد أن النزعة الاستهلاكية تستتبع انتقالًا في السلطة النسبية للمنتج والمستهلك في صالح الأخير، وإن يكن من غير المؤكَّد إنْ كان هذا الانتقال حقيقيًّا أم ظاهريًّا.
ولظاهرة التسليع وانتشار النزعة الاستهلاكية وخصائص السوق آثار واسعة النطاق في نظم الخطاب، وهي تتراوح ما بين تغلغُل ظاهرة إعادة بناء نظم الخطاب المؤسسية تحت تأثير الحركة الاستعمارية لخطاب الإعلان والتسويق والإدارة، وبين «إعادة الوصف» التي نشهدها في كل مكان للجماهير والعملاء وطلاب العلم، وهلُمَّ جرًّا باعتبارهم «مستهلكين» أو «زبائن». وتؤدي هذه الاتجاهات المقاومة إلى الصراع على الهيمنة على بناء نظم الخطاب، وإلى مُعضِلات يواجهها منتجو النصوص ومُفسِّروها الذين يحاولون العثور على طرقٍ للتكيُّف مع الاستعمار، أو احتوائه، أو القضاء عليه (انظر الفصل السابع أدناه).
التناص السافر
- التناص التتابعي: ويعني تتابع ظهور مختلف النصوص أو أنماط الخطاب بالتناوب في أحد النصوص، كما هو الحال في جانبٍ من العيِّنة رقم ٢.
- التناص المطوي: ويعني أن أحد النصوص أو الأنماط الخطابية مطوي بوضوح داخل نص أو نمط خطابي آخَر. وهذه هي العلاقة بين «الأساليب» التي حدَّدَها لابوف وفانشيل في الخطاب العلاجي (انظر المناقشة في الفصل الثاني).
- التناص المختلط: حيث تمتزج النصوص أو أنماط الخطاب امتزاجًا أشد تركيبًا وبطريقة يصعب معها الفصل بينها.
وسوف أناقش التناص السافر من حيث علاقته بما يلي: التمثيل الخطابي، والافتراض المسبق، والنفي، والميتاخطاب، والسخرية. (وقد وجدت مينجينو، ١٩٨٧م مصدرًا بالغ الفائدة في هذه المناقشة.)
التمثيل الخطابي
أستخدم مصطلح «التمثيل الخطابي»، مفضِّلًا إيَّاه هنا على المصطلح التقليدي «رواية الكلام»؛ لأن هذا المصطلح (١) أدق في نقل المعنى المقصود، وهو أنَّ مَن «يروي» الخطاب يختار منه بالضرورة ما يمثِّله بطريقة معيَّنة، و(٢) لأن التمثيل لا يقتصر على الكلام، بل يشمل الكتابة، ولا يقتصر على المعالم النحوية، بل يشمل التنظيم الخطابي وجوانب أخرى منوعة للحادث الخطابي، مثل ظروفه، والنغمة التي قيل بها ما قيل … إلخ (انظر فيركلف، ١٩٨٨م، ب، للمزيد من التفاصيل).
وتختلف الأنماط الخطابية لا في طرائق تمثيلها وحسب للخطاب، بل أيضًا في أنماط الخطاب التي تمثِّلها ووظائف الخطاب في النص الممثِّل لهذه الأنماط. وهكذا تنشأ اختلافات فيما يُقتطَف، ومتى وكيف ولماذا اقتُطِف ما يُقتطَف ما بين المواعظ والبحوث العلمية والمحادثات. ومن المتغيرات الكبرى في كيفية تمثيل الخطاب قضية البتِّ فيما إذا كان التمثيل يتجاوز المضمون الفكري أو «الرسالة»، ويشمل بعض جوانب الأسلوب الخاص بالألفاظ الممثلة وسياقها. ويقول فولوسينوف (١٩٧٣م، ١١٩–١٢٠): إن بعض الثقافات تزيد عن غيرها في الاتكاء على الرسالة وحدها، وهو ما يصدق على بعض الممارسات الخطابية داخل أية ثقافة من الثقافات وداخل ثقافتنا نفسها.
ويؤكِّد فولوسينوف (وربما يكون اسمًا مستعارًا لباختين) وجود تفاعل دينامي بين الخطاب المُمثَّل والخطاب الذي يُمثِّله. ولقد أوضحت العينة الأولى مثلًا كيف يمكن للأصوات أن تمتزج. ومن جديد نلحظ وجود تغايُر كبير بين أنماط الخطاب، وهو ما يمكننا أن نفسِّره بوجود معيارين متداخلين: (١) ما مدى صراحة ووضوح الحدود الفاصلة بين الخطاب المُمثَّل والخطاب الذي يمثِّله، و(٢) إلى أي مدى يُترجَم الخطاب الممثَّل إلى صوت الخطاب الذي يمثِّله.
وإلى حدٍّ ما تعتمد درجة «الحفاظ على الحدود» على الخيار ما بين التمثيل المباشر والتمثيل غير المباشر؛ فالأول يحاول على الأقل أن يعيد إنتاج الكلمات نفسها المستخدمة في الخطاب المُمثَّل، وإن لم يكن ذلك يتحقَّق في كل حالة، كما بينت العينة رقم ١. وأما الخطاب غير المباشر فإنه، على العكس من ذلك، يتضمَّن التباسًا معيَّنًا؛ إذ لا نستطيع القطع فيما إذا كانت الألفاظ الأصلية قد أُعيد إنتاجها أم لا. وبعض المعالجات لهذا الموضوع (انظر مثلًا ليتش وشورت، ١٩٨١م) تشير إلى وجود فئة أخرى هي «الخطاب غير المباشر الحر» حيث لا توجد جملة تحدِّد الراوي، وحيث يتميَّز ﺑ «الصوت المزدوج» بمعنى المزج بين الخطاب الممثَّل والخطاب الذي يمثِّله، كما نرى في العنوان الوارد في العينة رقم ١، مثلًا، وهو «استدعوا القوات في معركة المخدرات!»
ويقول فولوسينوف أيضًا: إنه من المحال البتُّ في معنى الخطاب المُمثَّل من دون الرجوع إلى وظيفته وسياقه في الخطاب الذي يمثِّله. ومن الأمثلة الجيدة استخدام «علامات التنصيص المفزعة» — أي وضع كلمات مفردة أو تعبيرات قصيرة بين علامات تنصيص — كما نجد في الأمثلة الصحفية التالية «التحقيق في مؤامرة تجسُّس «بناتية»»، «عرض «نهائي» بتعديل الأجور». والتعابير الموجودة في علامات تنصيص مفزعة تُستخدم ويُحال إليها في الوقت نفسه، إذ إن العلامات المذكورة تبيِّن أنها تنتمي إلى صوت خارجي. وإلى جانب ذلك فمن الممكن أن تقوم بالمزيد من الوظائف المختلفة المحدَّدة، مثل إقامة مسافة تفصل بين الكاتب وبين الصوت الخارجي، أو استعمال «سلطتها» في دعم موقفه، أو الإشارة إلى أن الاستعمال جديد أو مؤقَّت، أو تقديم كلمة جديدة. وعلى غرار ذلك للمرء أن يستخدم الخطاب المباشر في بناء الخطاب المُمثَّل أو عرضه.
وأما وضع الخطاب الممثَّل في سياق معيَّن فيتخذ أشكالًا كثيرة، وانظر إلى هذا المثال من العيِّنة رقم ١: «أصدرت لجنة مجلس العموم تقريرًا يتضمَّن هجومًا يزيد في شدته عما شهدناه منذ سنوات، ويرأس اللجنة السير إدوارد جاردنر المحامي وعضو البرلمان عن حزب المحافظين، ويحذِّر التقرير في نبرات توحي بالخطورة قائلًا: «إن المجتمع الغربي يواجه …»» أي إنَّ تحديد سياق الخطاب الممثل، والمكانة الرفيعة لرئيس اللجنة، ونبرات الخطاب «الخطيرة»، كلها عوامل تؤكِّد ثقل وزنه وأهميته. لاحظ أيضًا كلمة «يحذِّر» (التي اختارها الكاتب، مفضِّلًا إياها على كلمات أخرى مثل «يقول» أو «يبين» أو «يشير إلى»). والواقع أن اختيار فعل التمثيل، أي الذي يمثِّل «فعل الكلام»، له مغزاه في جميع الحالات. وعلى نحو ما نرى هنا، نجده يمثل القوة الكامنة في ألفاظ الخطاب الممثَّل (أي طبيعة الفعل الذي يؤديه التلفُّظ بشكل معيَّن للكلمات) وتلك مسألة تتعلَّق بفرض تفسير معيَّن على الخطاب الممثَّل.
الافتراض المسبق
وبعض مناقشات الافتراضات المسبقة (انظر لفنسون، ١٩٨٣م، الفصل الرابع، حيث يورد عرضًا شاملًا) تعاملها بصورة غير تناصية، أي باعتبارها مقولات مقدَّمة إلى منتجي النصوص الذين يسلمون بصحتها، ولكن هذه النظرة تكتنفها مشكلات: إذ إنها تستتبع القول مثلًا بأن الجملة التالية «التهديد السوفييتي خرافة» ذات دلالة متناقضة، ما دام مُنتِج النص يسلم (وفق هذه النظرة) بوجود تهديد سوفييتي ويزعم عدم وجود مثل هذا التهديد. أما إذا نظرنا إلى الافتراضات المسبقة نظرةً تناصية، وتصورنا أن المقولات المفترضة سلفًا تمثِّل أسلوبًا لإدراج نصوص الآخَرين في المقولات، فلن يكون لدينا أي تناقض: أي إن تعبير «التهديد السوفييتي» والافتراض المسبق الذي يشير إليه مصدر نص آخَر (أو نص «أجنبي» بتعبير باختين) وأن الكاتب يطعن فيه. وعلينا أن نضيف أن ذلك «النص الآخَر» ليس — في كثير من حالات الافتراضات المسبقة — نصًّا آخَر مفردًا أو يمكن تحديده والتعرُّف عليه، بل «نص» ضبابي يرادف الرأي الشائع (أي ما يميل الناس إلى قوله، أو الخبرة النصية المتراكمة). وهكذا فإن تعبير «التهديد السوفييتي» في هذه الحالة، على سبيل المثال، تعبير نستطيع جميعًا أن نتعرف عليه باعتباره قالبًا مُستخدَمًا على نطاق واسع، أو بتعبير بيشوه، تعبير «سابق البناء»، يجري تداوله بصورته الجاهزة.
وفي إطار المدخل التناصي للافتراض المسبق، أي حين تشكل المقولة المفترضة سلفًا أمرًا يسلِّم به مُنتِج النص سلفًا، فإن لنا أن نفسِّر هذه المقولة من حيث علاقاتها التناصية مع النصوص السابقة لمُنتِج النص نفسه، وتوجد حالة خاصة لهذا المدخل ترد فيها المقولة مثبتة في جزء من أجزاء النص، ثم يُشار إليها باعتبارها مفترضة سلفًا في بقية النص.
وينبغي أن نشير إلى أن الافتراضات المسبقة، سواء كانت قائمة على النصوص السابقة لمنتج النص أو على نصوص الآخَرين، قد تتسم بالتلاعب مثلما تتسم بالصدق. أي إنَّ مُنتِج النص قد يقدِّم مقولة باعتبارها مُسلَّمًا بها من جانب شخص آخَر، أو باعتبارها ثابتة من جانبه، كذبًا أو زيفًا وبقصد التلاعب. والافتراضات المسبقة أساليب فعَّالة في التلاعب بالناس، ذلك لأنه يصعب الطعن فيها في حالات كثيرة. فإذا وجدنا مُشارِكًا في مقابلة شخصية إعلامية يطعن في أحد الافتراضات المسبقة الواردة في سؤالٍ موجَّه إليه، فما أيسرَ أن يظن الناس أنه يتحاشى مناقشة القضية. والافتراضات المسبقة القائمة على التلاعب تفترض أيضًا وجود ذوات مفسرة تتمتع بخبرات وافتراضات نصية معيَّنة سابقة، وبذلك تسهم في التكوين الأيديولوجي للذوات.
النفي
كثيرًا ما تُستخدم الجمل المنفية لأغراض جدلية. انظر على سبيل المثال إلى العنوان التالي المنشور في صحيفة ذا صن: «لم أقتل المخبر! المتهم الذي يُحاكَم بتهمة السطو يلجأ إلى الهجوم» الجملة المنفية الأولى تقوم على افتراض مُسبق، في نص آخَر، يقول إن الشخص المتكلم هنا قتل أحد مخبري الشرطة. وهكذا فإن الجمل المنفية تحمل أنماطًا خاصة من الافتراضات المسبقة التي تعمل من خلال التناص؛ إذ تضم نصوصًا أخرى لا لسبب إلا للطعن فيها ورفضها (انظر الحديث عن الجمل المنفية في ليتش، ١٩٨٣م) (لاحظ أن جملة «التهديد السوفييتي خرافة» تعمل بالطريقة نفسها، فعلى الرغم من أن الجملة ليست منفية من زاوية النحو، فإنها منفية من زاوية الدلالة، كما يبيِّن الشرح الذي يقول «التهديد السوفييتي ليس حقيقيًّا»).
الميتاخطاب
الميتاخطاب شكل خاص من التناص السافر، حيث يميِّز مُنتِج النص بين مستويات مختلفة في النص الخاص به، ويقيم مسافة بينه وبين مستوى معيَّن من مستويات النص، فيعامل النص الذي أبعده عنه كأنما كان نصًّا خارجيًّا آخَر (انظر مينجنو، ١٩٨٧م، ٦٦–٦٩). ويمكن إنجاز ذلك بطرائق مختلفة، أحدهما استعمال المراوغة (براون ولفنسون، ١٩٧٨م) باستعمال تعبيرات مثل «نوع من» أو «ما يعتبر»، للإشارة إلى أن بعض التعبيرات يمكن أن تكون قاصرة (مثل «كان في موقفه نوع من الأبوية»). أو قد يُشار إلى أن التعبير ينتمي إلى نص آخَر أو إلى أعراف مختلفة (مثل قولك: «كما كان يمكن «س» أن يصفه»، «من الزاوية العلمية») أو باعتباره استعاريًّا («إذا لجأنا إلى التعبير الاستعاري»). ومن الطرائق الأخرى الممكنة أن يشرح الكاتب التعبير أو يعيد صياغته (وسوف أعود لإعادة الصياغة في الفصل الخامس). فقد يلجأ أحد الوزراء إلى شروح لمصطلح أساسي (عسير) مثل «الهمة» في سياق خطاب يُلقيه عن «ثقافة الإنجاز الفردي» قائلًا «نتميز في مطلع حياتنا بوفرة الهمم، بالمبادرة، بالقدرة على تبين الفرصة السانحة واغتنامها بسرعة».
والميتاخطاب يعني ضِمنًا أن المتكلم يقف فوق خطابه أو خارجه، وأنه في موقف يتيح له أن يتحكم فيه أو يتلاعب به. وتترتب على هذا دلالات طريفة للعلاقة بين الخطاب وبين الهُوية (الذاتية)؛ إذ يبدو أنه يعارض الرأي القائل بأن الهُوية الاجتماعية للمرء تعتمد على الموقع الذي يشغله في أنماط خاصة من الخطاب. ولهذه القضية جانبان. فمن ناحية معيَّنة نرى أن المسافة الميتاخطابية التي تفصل بين المرء وبين خطابه الخاص يمكن أن تؤيد الوهم الذي يقول: إن المرء دائمًا يسيطر سيطرة كاملة عليه، وإن خطاب المرء ثمرة من ثمار ذاتيته لا العكس. ومن الطريف في هذا الصدد أن الميتاخطاب يبدو شائعًا في أنماط الخطاب التي يستفيد فيها المرء من إظهار سيطرته على خطابه، كما يحدث في النقد الأدبي أو في الأشكال الأخرى للتحليل الأكاديمي في العلوم الإنسانية. وفي مقابل ذلك أقول: إنني أؤكِّد النظرة الجدلية إلى العلاقة بين الخطاب والذاتية: فالذوات قائمون إلى حدٍّ ما داخل الخطاب ويكوِّنهم الخطاب إلى حدٍّ ما أيضًا، ولكنهم مع ذلك يشتبكون في ممارسات تطعن في الأبنية الخطابية (نظم الخطاب) التي تقيمهم في هذه المواقع وتعيد هيكلتها. ويتضمن ذلك حالات إعادة الهيكلة القائمة على دوافع من الاعتبارات الجدلية والأهداف التلاعبية؛ فما الشروح التي قدَّمَها الوزير عاليه إلا «هندسة دلالية» (ليتش، ١٩٨١م، ٤٨–٥٢). فالذي قد يبدو باعتباره إيضاحًا بريئًا لمعنى «الهمة» يمكن تفسيره باعتباره تعريفًا ذا دافع سياسي وأيديولوجي (للمزيد من المناقشة ارجع إلى فيركلف، ١٩٩٠م، أ، والفصل السادس أدناه).
السخرية
تدور الأوصاف التقليدية للسخرية حول «قول شيء ليعني شيئًا آخَر»، ومثل هذا الشرح محدود النفع؛ لأن ما يفتقده هو الطبيعة التناصية للسخرية؛ أيْ إنَّ القول الساخر «يرجع صدى» قول شخص آخَر (سبيربر وويلسون، ١٩٨٦م، ٢٣٧–٢٤٣). فلنفترض على سبيل المثال أنك قلت «الجو اليوم صَحْوٌ يصلح للنزهة وتناول الطعام في الخلاء»، ومن ثَمَّ نخرج للنزهة وتسقط الأمطار فأقول: «الجو صَحْوٌ يصلح للنزهة». وهنا يصبح قولي ساخرًا لأنه يرجع صدى قولك، ولكن التفاوت قائم بين المعنى الذي أعبِّر عنه، إذا صحَّ هذا التعبير، بترديد قولك، وبين الوظيفة الحقيقية لقولي وهو التعبير عن موقف سلبي من نوع ما إزاء قولك، أو حتى إزاءك أنت، سواء كان الغضب أو التهكُّم أو ما عداهما. ولنلاحظ أن السخرية تعتمد على قدرة المفسرين على إدراك أن معنى النص الذي يمثِّل الصدى ليس المعنى الذي قصده مُنتج النص. وقد يتوقَّف هذا الإدراك على عوامل مختلفة: مثل التفاوت الصارخ بين المعنى الظاهر وسياق الحال (وهو سقوط المطر في المثال السابق) أو على مفاتيح في نبرات صوت المتحدِّث أو في النص المكتوب (مثل وضع الألفاظ بين أقواس مربعة) أو على افتراضات المفسرين عن معتقدات أو قيم منتج النص (فعبارة «نحن واعون كلَّ الوعي بالمنجزات الاقتصادية للشيوعية» سوف يدركُ بسهولةٍ أنها ساخرةٌ مَن يقرءون بانتظامٍ صحيفة الديلي تلغراف (اليمينية) في بريطانيا، أو إذا وردت في خطاب يُلقيه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية).
التداخل الخطابي
سبق لي أن أكدتُ، بألفاظ مختلفة، في الفصل الثالث، مبدأ التداخل الخطابي (أو التناص التكويني) بأن قلت: إن نظم الخطاب تتمتَّع بالأولية على الأنماط المعيَّنة للخطاب، وأن الأخيرة تتكوَّن باعتبارها تجميعات لعناصر مختلفة من نظم الخطاب. كما قلت: إن مبدأ التداخل الخطابي يتحقَّق على مستويات مختلفة، منها: النظام المجتمعي للخطاب، والنظام المؤسسي للخطاب، ونمط الخطاب، بل وحتى العناصر التي تشكِّل أنماط الخطاب. كما إن استخدام نموذج الهيمنة يشير في الاتجاه نفسه، وهو ما يؤدي إلى صورة لنظم الخطاب باعتبارها توازنات مزعزعة، إذ تتكون من عناصر غير متجانِسة داخليًّا، أو تناصية في تكوينها، وتتسم بحدود فاصلة يُعاد ترسيمها باستمرار في غضون الفصل بين نظم الخطاب وإعادة ربطها في غمار الصراع على الهيمنة.
وأريد أن أتناول في هذا القسم قضية أنواع العناصر التي تجتمع لتكوين أنماط الخطاب. كنت قد أكَّدتُ تنوُّعها في المناقشة السابقة، والطابع المتغير لنطاقها: فهي تتراوح ما بين نظم تناوب الأدوار في الكلام إلى المفردات، والسيناريوهات الخاصة بالأنواع من أنباء الجرائم، ومجموعات أعراف التأدُّب، وهلُمَّ جَرًّا. لكنه من الممكن تصنيف العناصر التي تشكِّل نظم الخطاب، وهي التي يمكن الربط بينها في أنماط الخطاب، بحيث ينشأ عدد صغير من الأنماط الرئيسية، وتتمثَّل خصائصها في مفردات خاصة ونظم لتناوب أدوار الكلام، وهلُمَّ جرًّا. المصطلحات المستخدمة على نطاق واسع لهذه الأنماط ما يلي: «النوع»، «الأسلوب»، و«النطاق الدلالي»، و«الخطاب». وهكذا يمكن للمرء أن يتحدث عن «نوع المقابلة الشخصية»، أو «أسلوب المحادثة»، أو «النطاق الدلالي لكتب الطهي» أو «الخطاب الطبي العلمي».
ومن مزايا استخدام أمثال هذه المصطلحات أنها تمكِّننا من أن نتبيَّن في تحليلاتنا الفوارق الرئيسية في النمط بين عناصر نظم الخطاب التي لولا هذه المصطلحات لغفلنا عنها، وبهذا تتضح لنا الجوانب التي تمثِّل الأعراف فيها قيودًا على الممارسة الخطابية. كما أنه من الأيسر استخدام إطار تحليلي يتضمَّن عددًا صغيرًا من الفئات المحدَّدة وذات الفوارق الواضحة، كما إن بعض المصطلحات يستخدمها علماء الاجتماع على نطاق واسع في تحليل الثقافة الشعبية على سبيل المثال (بينيت، ووولاكوت، ١٩٨٧م)؛ وهكذا فإن استخدامها في تحليل الخطاب يساعد في إيضاح قيمتها المنهجية لعلماء الاجتماع. ويَصدُق هذا على مصطلح «النوع» و«الخطاب» المستعملَين في الإشارة إلى نمط معيَّن من أنماط الأعراف (أي الإشارة إلى «خطاب» و«ضروب الخطاب») بدلًا من الإشارة بصفة عامة إلى استعمال اللغة باعتباره شكلًا من أشكال الممارسة الاجتماعية (وهو المعنى الذي استعملت المصطلح أساسًا فيه حتى الآن، ولنذكر مناقشة مصطلح «الخطاب» في المقدمة)، ولكن لذلك بعض المثالب؛ إذ إن عناصر نظم الخطاب بالغة التنوُّع، وليس من اليسير دائمًا البَتُّ في أنَّ ما يتعامل المرء معه نوع أم أسلوب أم خطاب أم شيء آخَر. أيْ إنَّ وضع إطار تحليلي يتسم بالجمود الشديد قد يؤدي إلى عدم رؤية تعقيدات الخطاب. وهكذا فإن علينا أن نلتزم بالحذر في استخدام هذه المصطلحات، مدركين أن كلًّا منها يشير بالضرورة إلى مجال متنوِّع وغير متجانس، وأنه سيصعب علينا في بعض الأحيان استخدامها بدوافع صحيحة، وربما اضطُرِرنا إلى اللجوء إلى استعمال مصطلحات أشد غموضًا مثل «نمط الخطاب» (وهو الذي كنت أستخدمه حتى الآن في الإشارة إلى أيِّ نمط من أنماط الأعراف). وعلينا أن ندرك أيضًا استحالة وجود قائمة محدَّدة من الأنواع أو الأساليب أو ضروب الخطاب، وأننا نواجه دائمًا ما يبدو لنا قرارات تعسُّفية إلى حدٍّ ما (وفق نقطة انطلاقنا في التحليل) حول كون النص مثالًا منفصلًا لأحد هذه الأنماط أم لا.
فلننتقل الآن إلى مناقشة الأنماط، واضعين هذه الشروط نصبَ أعيننا. فأما المصطلحات التي سوف أستخدمها فهي «النوع»، و«نمط النشاط»، و«الأسلوب»، و«الخطاب»، وعلى الرغم من أن أنماط هذه العناصر تتمتع باستقلال معيَّن عن بعضها البعض، فإنها ليست متكافئة على وجه الدقة. «فالنوع»، خصوصًا، يشمل الأنماط الأخرى، بمعنى أن الأنواع تتفق اتفاقًا وثيقًا مع أنماط الممارسة الاجتماعية الأخرى (انظر أدناه) ونظام الأنواع الذي ينشأ في مجتمع معيَّن وفي وقت معيَّن يحدِّد التكوينات والتشكيلات من الأنماط الأخرى التي تقع فيه. أضِف إلى ذلك أن الأنماط الأخرى تختلف في درجة استقلالها إزاء النوع، أي في مدى قابليتها للاشتباك الحر مع مختلف الأنواع ومع أنماط العناصر الأخرى. وترتيبها من حيث الأقل استقلالًا إلى الأكثر استقلالًا هو: نمط النشاط، فالأسلوب فالخطاب. ويهمنا بصفة خاصة، من منظور هذا الكتاب، التغير في نظام الأنواع وتأثيره في تشكيلات العناصر الأخرى. ومع ذلك، فإن أحد نقاط مفهوم النوع الذي أتبنَّاه هنا (وهو باختيني في جوهره) أنه يسمح لنا أن نحدِّد الأوزان الصحيحة للقيود التي تفرضها الأعراف على الممارسة الاجتماعية، وإمكانية التغيير والطاقة الخلاقة.
وسوف أستعمل مصطلح «النوع» في الإشارة إلى مجموعة أعراف تتمتَّع نسبيًّا بالاستقرار وترتبط بنمط من أنماط النشاط المعترف به اجتماعيًّا، وتجسده إلى حدٍّ ما، مثل «الدردشة» غير الرسمية، أو شراء بضائع من دكان ما، أو مقابلة شخصية للحصول على وظيفة، أو فيلم تليفزيوني وثائقي، أو قصيدة، أو مقال علمي. و«النوع» لا يشير ضِمنًا إلى نمط نصي معيَّن وحسب، ولكنه يشير أيضًا إلى عمليات معيَّنة لإنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها. فعلى سبيل المثال، لا يُعتبر المقال الصحفي والقصيدة في العادة نصَّين يختلفان اختلافًا شاسعًا وحسب، بل إنهما يختلفان اختلافًا بيِّنًا في طرائق إنتاجهما (فالأول مثلًا منتج جماعي، والثاني منتج فردي) ويختلفان تمامًا في طرائق توزيعهما، وفي استهلاكهما؛ إذ يتضمَّن الأخير نظُمًا مختلفة للقراءة والتفسير. وهكذا فإن النوع يتجاوز التمييز بين «الوصف» و«التفسير» الذي قدمته في الفصل الثالث.
وتُعتبر الأنواع، طبقًا لباختين (١٩٨٦م، ٦٥) «أدوات الانتقال من تاريخ المجتمع إلى تاريخ اللغة»؛ أيْ إنَّ التغييرات في الممارسة الاجتماعية تتجلَّى على مستوى اللغة في جوانب التغيير في نظام الأنواع، وهي إلى حدٍّ ما من نتائجها. وأنا أطبق هنا، في إشارتي إلى نظام الأنواع، مبدأ أولوية نظم الخطاب الذي قدمته في الفصل الثالث؛ أيْ إنَّ أيَّ مجتمع، أو مؤسسة معيَّنة أو مجال معيَّن في هذا المجتمع، لديه تشكيل خاص للأنواع، وهو التشكيل الذي يظهر في العلاقات الخاصة بينها، ويشكِّل بذلك نظامًا معيَّنًا. ويقبل التغييرَ، بطبيعة الحال، كلٌّ من النظام والتشكيل المذكورَين.
فإذا ركَّزنا على النوع باعتباره نمطًا نصِّيًّا، وجدنا أن كلَّ نوع محدَّد يرتبط ﺑ «بناء تكويني» محدَّد، حسبما يدعوه باختين (١٩٨٦م، ٦٠) أو — بالمصطلح الذي سوف أستخدمه — ﺑ «نمط نشاط معيَّن» (وهي فئة أستعيرها من لفنسون ١٩٧٩م). ويمكن تعريف نمط النشاط من حيث التتابع البنائي للأفعال التي يتكوَّن منها، ومن حيث المشاركون في هذا النشاط، أي في مجموعة مواقع الذات التي يشكِّلها المجتمع ويعترف بها فيما يتعلَّق بهذا النمط من النشاط. فعلى سبيل المثال، نرى أن النشاط الخاص بشراء سلع من دكان الخضراواتي يشارك فيه «الزبون» و«عامل المبيعات» باعتبارهما من أنماط الذوات، وسلسلة من الأفعال، بعضها اختياري أو متكرِّر على النحو التالي: الزبون يدخل المحل وينتظر دوره، العامل يُحيِّي الزبون (فيرد الزبون التحية ويتبادلان كلمات ودودة) ثم يسأل الزبون عما يريد؛ يحدِّد الزبون ما يريد شراءه (وربما يسبق هذا حديث عابر مثل «ما أحوال التفاح هذا الأسبوع؟» ويجيء الرد «النوع الأخضر ممتاز»)؛ يأتي العامل بالمطلوب (يزن التفاح ويضعه في الكيس … إلخ) ويعطيه للزبون (وربما يتناقش الزبون مع العامل حول جودة التفاح أو حول زيادة وزن الكمية … إلخ)؛ الزبون يشكر العامل، العامل يذكر السعر، الزبون يدفع، العامل يعطي الباقي للزبون ويشكره، الزبون يشكر العامل ويحيِّيه مودِّعًا؛ العامل يرد التحية. وكما يبيِّن هذا المثال، نجد أن نمط النشاط كثيرًا ما يضع حدودًا لنطاق الخيارات المُمكِنة ولا يحدِّد نسقًا معيَّنًا. انظر ما تقوله رقية حسن في هاليداي وحسن (١٩٨٥م) حيث تقدِّم رأيًا في النوع يؤكِّد البناء التكويني.
ويرتبط النوع عادةً بأسلوب معيَّن، وإن كان من الممكن في حالات كثيرة أن تُتَّخَذ أساليب بديلة، فمن الجائز أن تكون المقابلة الشخصية «رسمية» أو «غير رسمية». ومصطلح الأسلوب، مثل سائر المصطلحات التي أستخدمها، يصعب تحديده بدقة، كما إنه يُستخدَم بطرائقَ متفاوتةٍ. ولنا أن نعتبر أن الأسلوب يتغيَّر من زاوية معايير ثلاثة: أولها «المدلول»، والثاني «الصورة»، والثالث الشكل البلاغي للنص، إذا استخدمنا مصطلحات علم اللغة المنهجي (هاليداي، ١٩٧٨م). فالأساليب تختلف، أولًا، من حيث «المدلول» (أو الفَحْوى) والمقصود به نوع العلاقة القائمة بين المشاركين في أيِّ تفاعل. ووفقًا لذلك نستطيع تصنيف الأساليب من حيث كونها «رسمية» أو «غير رسمية» أو «حكومية» أو «حميمة» أو «عارضة» وهلُمَّ جرًّا. ونستطيع تصنيفها، ثانيًا، من حيث «الصورة» أيْ إنْ كانت مكتوبة أو منطوقة أو تجمع بين هذا وذاك (كأن تكون مكتوبة بغرض الإلقاء، أو مكتوبة كأنما هي منطوقة، أو منطوقة كأنما هي مكتوبة). وهكذا نستطيع تصنيف الأساليب باعتبارها منطوقة أو مكتوبة أو منطوقة كأنما هي مكتوبة وهلُمَّ جرًّا. ولنا أن نستخدم أيضًا مصطلحات تعبِّر من جانب معيَّن عن «الصورة»، وأيضًا عن المدلول أو النوع أو الخطاب، مثل «أسلوب المحادثة»، و«الأسلوب الرسمي المكتوب»، و«الأسلوب غير الرسمي المكتوب»، و«الأسلوب الأكاديمي»، أو «الأسلوب الصحفي» وهلُمَّ جرًّا. وتختلف الأساليب، ثالثًا، من حيث الشكل البلاغي، ويمكن تصنيفها وفق مقصدها من «إقامة الحُجَّة» (أسلوب التَّحاجِّ) أو «الوصف» أو «العرض الشارح».
وأما أكثر أنماط العناصر استقلالًا (بخلاف النوع) فهو «الخطاب» (انظر كريس، ١٩٨٨م؛ وكريس وثريدجولد، ١٩٨٨م، حيث تُناقش العلاقة بين «النوع» و«الخطاب»)، وتتفق ضروب الخطاب بصفة عامة مع أبعاد النصوص التي تناقش تقليديًّا من حيث «المضمون»، و«المعاني الفكرية»، و«الموضوع»، و«المادة» وهلُمَّ جرًّا. ولديَّ سبب وجيه يبرِّر استخدامي «الخطاب» بدلًا من هذه المصطلحات التقليدية؛ إذ إنَّ الخطاب طريقة معيَّنة من طرائق بناء المادة، ويختلف مفهومه عن مفاهيم المصطلحات السابقة في أنه يؤكد أن خيوط المضمون أو موضوع المادة — وهي مجالات معرفية — لا تدخل النصوص إلا في شكل وسيط يتجسَّد في أبنيتها الخاصة. ومن المفيد في هذا الصدد اختيار مصطلحات لضروب الخطاب المحدَّدة بحيث تشير إلى المجال المعرفي الخاص بالخطاب، وأيضًا إلى الطريقة الخاصة التي يُبنى بها، كأن نقول مثلًا «الخطاب الطبي العلمي — التقني» (أي الطب باعتباره مجالًا معرفيًّا مبنيًّا من منظور علمي تكنولوجي، على عكس ضروب الخطاب المرتبطة بشتى ألوان الطب «البديلة»)، أو أن نقول «ضروب الخطاب النسوي الخاص بالحياة الجنسية» (أي الحياة الجنسية باعتبارها مجالًا معرفيًّا مبنيًّا من وجهات النظر النسوية). وضروب الخطاب بهذا المعنى قضية رئيسية عند فوكوه (انظر الفصل الثاني عاليه). وكما ذكرتُ آنِفًا، تتمتع ضروب الخطاب باستقلال أكبر من أنماط العناصر الأخرى؛ أي إنه على الرغم من وجود قيود مهمة وقواعد توافق بين «أنواع» معيَّنة وضروب خطاب محدَّدة، فإن الخطاب — مثل الخطاب الطبي العلمي التقني — يرتبط معياريًّا ﺑ «أنواع» مختلفة (المقالات العلمية، المحاضرات، الاستشارات وهلُمَّ جرًّا) ويُمكن أن يظهر في شتى «الأنواع» الأخرى (المحادثات، وبرامج النقاش التليفزيونية، بل وفي الشِّعر أيضًا).
وترتبط «أنواع» معيَّنة بطرائق خاصة للتناص (السافر)؛ إذ تختلف اختلافًا تامًّا، على سبيل المثال، طرائق التمثيل الخطابي ووظائفه ومرات وروده في التقرير الإخباري عنها في الحديث الودي أو في المقال العلمي. وهكذا تنشأ طرائق متضادة وممارسات مختلفة للتمثيل الخطابي في الأنواع المختلفة من الأنشطة الاجتماعية وفقًا لما يكتسبه خطاب الآخَرين من دلالات وقِيَم متفاوتة. فعلى سبيل المثال لا يتوقَّع أحد أن يكون المحضر الحرفي للأقوال في محادثة ما، أو حتى في قاعة محكمة، ملتزمًا بالألفاظ التزامًا تامًّا، على عكس ما نراه عندما يرد مقتطف من بحث علمي في سياق بحث آخَر. أضِف إلى هذا أن بعض صور تمثيل كلام الآخَرين في محادثةٍ ما كثيرًا ما تحاول تقديم بعض جوانب الأسلوب الذي قيل به ذلك الكلام، وإنْ كان ذلك نادرًا في التقارير الإخبارية. ونقول بصفة أعم: إن درجة ظهور نصوص أخرى في نصٍّ ما تعتمد على النوع، مثلما تعتمد عليه أشكال التناص السافر المستعملة وأساليب عمل النصوص الأخرى داخل أحد النصوص.
فَلْأُحاول الآن إيضاح مجموعة أنماط العناصر المذكورة فيما يتعلَّق بالعيِّنة الأولى الواردة أعلاه. النوع تقرير إخباري، وربما يتضمَّن أيضًا نوعًا فرعيًّا هو التقرير الإخباري في الصحف الشعبية، وهو يتضمَّن تشكيلًا من أساليب مختلفة تنتمي لأنواع فرعية أخرى (انظر أدناه). ونمط النشاط يُنشِئ موقعَين من مواقع الذات: موقع مُقدِّم الخبر (وهو المؤلِّف المفرد الخيالي للتقرير، ما دامت هذه التقارير تُنتج إنتاجًا جماعيًّا) وموقع متلقِّي الخبر (أي القارئ). وهو يتضمَّن البناء التتابعي التالي: العناوين (عنوانان في هذه الحالة) حيث فحوى الموضوع؛ والملخَّص (فقرتان استهلاليتان) تتضمَّنان صورة أكبر قليلًا لفحوى الموضوع، التفاصيل (فقرتان أخريان)، التطوير (سائر الخبر باستثناء الفقرة الأخيرة ذات العنوان الفرعي «الأرباح») وهو ما يشير إلى الإجراءات التي ينبغي اتخاذها (للاطلاع على بناء المواد الخبرية انظر فان دييك، ١٩٨٨م). ومن الجدير بالذِّكر أيضًا أن بناء الموضوع يقوم على تقديم حل للأزمة؛ فالعنوان وجانب كبير من التقرير يعرضان الأزمة، والفقرة الختامية القصيرة تقدِّم الحل.
ويتسم التقرير بالتركيب فيما يتعلَّق بالأسلوب، فلنبدأ بالطريقة البلاغية، وهي تقديم المعلومات. وَلْنقُل بمزيدٍ من الدقة: إن النص يبني صورةَ مُقدِّم الخبر باعتباره مصدرًا للمعرفة والمعلومات، وصورةَ القارئ باعتباره المتلقِّي السلبي لها، ويتكوَّن التقرير من مقولات قطعية مُطلَقة من النوع الذي عادةً ما تنشره الصحف عن الأحداث، على الرغم من أن تلك الأحداث عادةً ما تكون غير مُؤكَّدة وتقبل شتَّى التفسيرات. ومن المهم في هذه الحالة أن ننظر كيف ترتبط الطريقة البلاغية بأبعاد الأسلوب المبنية على المدلول وعلى الشكل. فالأسلوب «عاميٌّ» من حيث المدلول، فالكتَّاب يحاكون كلام العامة، كما سبق أن ذكرتُ، كأنما كانت العلاقة بين مقدِّمي الأخبار ومتلقِّيها علاقة تناظُر وعلاقة «عالم الحياة» (بالمعنى لدى هابرماس، ١٩٨٤م). والأسلوب من النوع «المنطوق» ويشبه أسلوب المحادثة. وهذا التشكيل الأسلوبي يبدو متناقضًا؛ لأن الطريقة البلاغية تنشئ مواقع غير متناظرة للذات، وتوحي بالملامح «الرسمية» للكتابة في المؤسسات العامة، وهي التي تتناقض مع العناصر غير الرسمية لأسلوب المحادثة في عالم الحياة.
التناص والتحولات
ترتبط ببعض الممارسات المعيَّنة داخل المؤسسات وفيما بينها «سلاسل تناصية» معيَّنة، وهي سلاسل من أنماط نصوص يرتبط بعضها بالبعض من خلال تحوُّلات معيَّنة، بمعنى أن كلَّ حلقة في السلسلة تتحول إلى حلقة أخرى أو إلى أكثر من حلقة واحدة بطرائق منتظمة يمكن التنبؤ بها (فيما يتعلَّق بالتحوُّل، انظر كريستيفا، ١٩٨٦م، أ؛ هودج وكريس، ١٩٨٨؛ وانظر مناقشة علم اللغة النقدي في الفصل الأول عاليه). وهذه السلاسل تتابعية أو أفقية، على عكس علاقات التناص الرأسية التي نوقشت في القسم السابق تحت عنوان التداخل الخطابي. وتحديد السلاسل التناصية التي يدخلها نمط مُعيَّن من أنماط الخطاب مفيد في تحديد «توزيعه»، ولك أن ترجع إلى المناقشة السابقة لإنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها. ومن الأمثلة البسيطة السلسلة التي تربط ما بين الاستشارات الطبية وبين السجلات الطبية؛ إذ من المعتاد أن يحول الأطباء النوع الأول إلى النوع الثاني. ولما كانت توجد أعداد منوَّعة هائلة من الأنماط المختلفة للنصوص، فمن المحتمل، من ناحية المبدأ، أن توجد أعداد هائلة بل يصعب تحديدها من السلاسل التناصية فيما بينها. ومع ذلك فمن المحتمل أن العدد الفعلي لهذه السلاسل محدود، فالمؤسسات والممارسات الاجتماعية ترتبط بطرائق محدَّدة، وهو جانب من جوانب البناء الاجتماعي الذي يمثِّل قيدًا على السلاسل التناصية. (بل إن دراسة السلاسل التناصية الفعلية أسلوب من أساليب الفهم العميق لهذا البُعد من أبعاد البناء الاجتماعي.)
وقد تتسم السلاسل التناصية بالتركيب الشديد، مثل ما يتعلَّق منها بنصوص الدبلوماسية الدولية والمفاوضات الخاصة بالأسلحة. فإذا ألقى الرئيس جورباتشيف خطابًا رئيسيًّا، فسوف يتحوَّل إلى نصوص من أنماط منوَّعة في أجهزة الإعلام في كل بلد من بلدان العالم، إذ يتحوَّل إلى أنباء وتحليلات وتعليقات من جانب الدبلوماسيين، وإلى كتب ومقالات أكاديمية، وإلى خطب أخرى تشرحه، أو تقدِّم تفصيلات له، أو ترد عليه، وما إلى هذا بسبيل. ومن ناحية أخرى، فمن المُحتمَل أن يقتصر تحوُّل مقولةٍ قيلت أثناء محادثة عارضة إلى صِيَغ أعادَ المشاركون في المحادثة صوغهم لها، وربما إلى أنباء يحملها الآخَرون عنها. وهكذا فإن أنماط النصوص المختلفة تتفاوت جذريًّا فيما تدخله من شبكات التوزيع وسلاسل التناص، ومن ثَمَّ فيما تتعرض له من أنواع التحولات. وعلى الرغم من أن واضعي خطاب جورباتشيف لا يستطيعون التنبؤ بالتفصيل بالحلقات الكثيرة لإنتاج النصوص واستهلاكها، فمن المُحتمَل أن يبنوه بأسلوب مناسب لردود الأفعال المتوقَّعة من الأنماط الرئيسية للجمهور. وتعتبر أمثال هذه التوقعات المركَّبة، كما سبق أن ذكرت، مصدرًا للالتباس وعدم التجانس، ومن الأرجح أن تكون النصوص ذات سلاسل التناص المركبة أقرب إلى الاتصاف بهذه الخصائص من غيرها.
وقد تكون التحولات بين أنماط النصوص في سلسلة تناصية ذات ضروب منوعة، فقد تتضمَّن أشكالًا من التناص السافر، مثل التمثيل الخطابي، وقد تكون على العكس من ذلك غير مركزة؛ إذ إن ما يمكن تفسيره بأنه عناصر مشتركة بين أنماط نصية مختلفة قد يتجلَّى على مستويات مختلفة وبطرائق تتفاوت تفاوتًا جذريًّا، فقد يتبدَّى في المفردات طورًا، أو في السرد والاستعارات طورًا آخَر، أو في الاختيارات من الأشكال النحوية المتاحة، أو في طريقة تنظيم الحوار. فعلى سبيل المثال، قد نجد في كتاب عن النظرية التربوية وصفًا نظريًّا لتمرين تعاوني يشترك الجميع فيه على قدم المساواة في قاعة الدرس، ونلاحظ أن الكتاب يركِّز على تشكيل مفردات موضوعه أساسًا، في حين أن التمرين المذكور قد يعبِّر عن النظرية نفسها من خلال تنظيم الحوار بين المعلم والتلاميذ، وقد تظهر النظرية في حديث في غرفة الأساتذة (أو في مقابلات شخصية بحثية) في صورة الاستعارات التي يستخدمها المعلِّم في الحديث عن تلاميذه وعلاقته بهم (كأنْ تُثار قضية عمل التلاميذ في «مجموعات» أو «فِرَق» أو حتى على شكل «فصائل أداء المهمات»).
فلننظر في مثال واقعي مقتطف من كتاب فيركلف (١٩٩٠م، أ). كانت الخطب التي ألقاها اللورد يَنْجْ عندما كان وزيرًا للتجارة والصناعة في الفترة من ١٩٨٥م إلى ١٩٨٨م عنصرًا رئيسيًّا من عناصر بَلْوَرة مفهوم «ثقافة المبادرة الفردية» وممارساتها وسياساتها. وكان اللورد يَنْجْ هو الذي غيَّر اسم وزارته إلى «وزارة المبادرة الفردية». وقد أخضع في خُطَبه تعبير «المبادرة الفردية» إلى عملية هندسة دلالية (وهي تناقش بمزيد من التفصيل أدناه، في الفصل السادس) بحيث غدت الكلمة تجمع عددًا من الصفات المرتبطة بتنظيم العمل وإدارته، وفق مفهوم دعاة ثقافة المبادرة، بما في ذلك الاعتماد على النفس والإنجاز الفردي. وتوجد فيما يظهر علاقة في هذه الخطب بين البناء النظري للذوات القادرة على المبادرة، أي «النفس ذات الهمة»، وبين الدعاية التي قامت بها وزارة التجارة والصناعة لصالح «مبادرة الإنجاز الفردي» التي أتى بها يَنْجْ؛ إذ يتحول مضمون مفردات الخطب هنا إلى أسلوب توصيلي معيَّن.
وقد أصدرت وزارة التجارة والصناعة كُتيِّبًا يتضمَّن مقالًا يعالج «مبادرة التسويق» بصفة خاصة، وتلخصه على النحو التالي: «جوهر التسويق الجيد تلبية حاجات عملائك، لا إنفاق الوقت والمال في إقناعهم بالحصول على ما لديك. وهكذا فمن المهم، سواء كنت تبيع ما لديك داخل البلد أو خارجها، أن تفهم السوق وتفهم منافسيك.» ويأتي هذا الملخَّص في قسم التوجُّه الافتتاحي للمقال، وهو يشبه باقي أقسام التوجُّه في المقال، في أنه يتكون من مقولات مباشرة قاطعة عن الممارسة التجارية، وهي مقولات لا بد أن تبدو بديهيات لجمهور التجار الذي يخاطبه الكُتيِّب، أو تتضمَّن تهديدًا، مثل التهديد الوارد في الجملة الثانية، لبعض الأعمال التجارية. والملاحظ أنها جملة منفية بمعنى أنها تفترض سلفًا أن بعض هذه المنشآت التجارية تبذل الوقت والمال في محاولة إقناع الناس بشراء ما لديها. ومن ثَمَّ فللمرء أن يتوقَّع أن يجد القرَّاء من رجال الأعمال في أمثال هذه التوجُّهات مصدر ضيق و/أو إساءة لهم. لكنني أتصوَّر أنهم سوف يفسِّرونها تفسيرًا مختلفًا تمامًا. فذو «الهمة» — بالمعنى الذي يقصده يَنْجْ — شخصٌ يستطيع أن يتكلم وأن يُصغي لغيره دون لف ولا دوران، وربما يكون الهدف الذي تحاول هذه التوجُّهات تحقيقه يجمع بين إضفاء هُوية المبادرة على الوزارة المذكورة، وتقديم نموذج للشخص الذي يتمتع بالهمة وسلوك المبادرة إلى التجار. أي إن طبيعة «النفس ذات الهمة» تظهر، لا في مفردات الخُطَب وحسب، بل أيضًا في أسلوب الكتابة (الذي يوحي بأسلوب الكلام) في الكُتيِّب.
ومن المحتمل أن تشكل السلاسل التناصية علاقات تحويل مستقرة نسبيًّا بين أنماط النصوص (مثل العلاقات بين الاستشارات الطبية والسجلات الطبية أو النظم المعتادة لتحويل التقارير إلى مقالات صحفية)، ولكن هذه سرعان ما تصبح خطوط توتُّر وتغيير، وقنوات استعمار واستثمار لأنماط النصوص، ومسارات للطعن في العلاقات ما بين أنماط النصوص. وهذا هو نهج تفسير السلاسل التناصية المرتبطة بثقافة المبادرة؛ إذ تتعرض النصوص في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الاجتماعية وأجهزة الإعلام، بل والدعاية الرسمية، مثل ما نشهده في كتيب وزارة التجارة والصناعة، للاستعمار من جانب معانٍ مرتبطة بثقافة المبادرة النابعة من بعض المصادر، مثل خطب ينج، لإكسابها أيديولوجيات المبادرة والاستراتيجيات السياسية لليمين الجديد، أي إن الخطوط والقنوات القائمة داخل السلاسل التناصية تُستغَل لتحقيق أغراض استراتيجية.
التناص وترابُط المعنى والذوات
تترتَّب على ظاهرة التناص آثار مهمة لقضية من القضايا الرئيسية في هذا الكتاب، ألا وهي تشكيل الذوات من خلال النصوص وإسهام الممارسات الخطابية المتغيرة في إحداث تغييرات في الهُوية الاجتماعية (انظر كريستيفا، ١٩٨٦م، ب؛ وثريد جولد ١٩٨٨م، وطولبوت — تحت الطبع). فإن تناص النصوص يؤدي إلى تعقيد عمليات تفسير النصوص التي نُوقِشَت عاليه، إذ يضطر المفسرون، في سبيل تحديد معاني النصوص، إلى إيجاد طرق للجمع بين العناصر المنوعة للنصوص؛ بحيث تشكِّل معنًى كليًّا مترابطًا، وإن لم يكن بالضرورة مُوَحَّدًا أو قاطعًا أو بريئًا من الالتباس. ومن اليسير أن نعتبر ذلك إنجازًا حقَّقَه المفسِّرون وحسب، وهو ما يعني ضمنًا وضع المفسرين باعتبارهم ذواتًا خِطابية فوق التناص وخارجه، أي بصفتهم قادرين على التحكُّم في عمليات خطابية منفصلة عنهم. ومثل هذه النظرة يفترض الوجود السابق لذوات اجتماعية خطابية — بصورة غير مفهومة — من قبل وقوع الممارسات الاجتماعية والخطابية، ويُغفِل إسهام هذه الممارسات في تكوين الذوات وفي تغييرها على مرِّ الزمن. والموقف الذي سوف أتخذه هنا يقول: إن التناص، وعلاقات التناص التي تتغير باستمرار في الخطاب، لا مندوحة عنها في تفهُّم عمليات تكوين الذوات. وينطبق هذا على المقياس الزمني البيوغرافي، أيْ أثناء حياة الفرد، مثلما ينطبق على تكوين الفئات الاجتماعية والمجتمعات المحلية وإعادة تكوينها.
ويقدِّم كريس (١٩٨٧م) مثالًا يؤكِّد الأهمية الاجتماعية لمثل هذه العمليات الخطابية؛ إذ يحلِّل عيِّنات من نصوص تعليمية ذات أنماط منوَّعة، ويقول: إن طبيعة تناصها تتضمَّن عناصر مشتركة مع الخطاب الإعلاني. إذ نجد، على سبيل المثال، أن الإعلانات عن مواد التنظيف المنزلية تشترك مع الكتب المدرسية المخصَّصة لدروس الإدارة المنزلية في خَصِيصة توزيع أو تقسيم خَصِيصة التنظيف ما بين فاعلين، الأول هو الإنسان — أي قارئ الإعلان أو الكتاب المدرسي — والثاني هو السلعة (مثل: «مسحوق صابون إيجاكس ينظِّف دون الشطف بالماء»، ومثل «المساحيق الدقيقة تستطيع امتصاص السوائل») وهو ما يوحي في الحالتَين أن الشخص الذي يقوم بالتنظيف «يحتاج» إلى السلعة. وهكذا فإن الكتب المدرسية وغيرها من أشكال الخطاب التعليمي، تسهم في تكوين الذوات باعتبارهم مستهلكين، كما أن العملية التعليمية تؤدِّي، من بين ما تؤدي إليه، إلى تعليم القرَّاء قراءة الإعلانات. وكما سبق أنْ ذكرنا أعلاه، نرى كيف تدل هذه الأمثلة على تكوين الفئات الاجتماعية والمجتمعات المحلية، وعلى اندماج الأفراد في مجتمعاتهم؛ ومن شأن أمثال هذه الممارسات الخطابية أن تولِّد في وقت واحد رؤية (استهلاكية) للعالم ومجتمع (من المستهلكين) يرتبط بهذه الرؤية. ويتفق هذا مع الرأي الذي يقول إن العمل الأيديولوجي للخطاب يولِّد في الوقت نفسه صورًا تمثيلية للناس في مجتمعاتهم ونُظُمًا تحكم هذه المجتمعات (انظر ديبراي، ١٩٨١م؛ ومينجينو، ١٩٨٧م، ٤٢).
ويقع مفهوم ترابط المعنى في قلب معظم تعريفات التفسير. فليس ترابُط المعنى من خصائص النصوص، كما سبق لي أن أوضحتُ، بل من الخصائص التي يفرضها المفسِّرون على النصوص، إذ إن اختلاف المفسرين (بمَن فيهم مُنتِج النص) قد يؤدي إلى توليد معانٍ مترابطة مختلفة للنص نفسه، بل وينبغي ألَّا نفهم أن المعنى المترابط معنًى منطقي مُطلَق، فنحن نرى أن النص ذا المعنى المترابط هو النص الذي يقدِّم معنًى متسقًا إلى حدٍّ معقول في نظر المفسِّر، وهو ما لا ينفي وجود حالات قلق والتباس في المعنى.
كنت قد استخدمتُ في الفصل الثالث مثالًا لإيضاح استناد ترابُط المعنى إلى الافتراضات التي يستعين بها المفسِّرون في عملية التفسير، ومن بينها افتراضات ذات طبيعة أيديولوجية. إذ نجد مثلًا أن النص الذي يقول «سوف تترك عملها يوم الأربعاء القادم. إنها حامل» نص يقوم معناه على افتراض أن النساء يتوقَّفْن عن العمل عند إنجاب الأطفال (وعند الحمل). وكنت قد ذكرتُ أن منتجي النصوص يتوجَّهون إلى الذوات المفسِّرة «القادرة» على الاهتداء إلى الافتراضات المناسبة وإقامة الروابط التي تكفل «قراءات» مترابطة المعنى. ومن الممكن توسيع نطاق هذه النظرة إلى ترابُط المعنى ودوره في التوجُّه الأيديولوجي بحيث تتضمَّن التناص، بمعنى أن النصوص تفترض وجود ذوات مفسِّرة، وتهيِّئ لها مواقع تفسيرية مُضمَرة، باعتبار أنها «قادرة» على استخدام افتراضات مستمدة من خبراتها السابقة، لمساعدتها في إقامة الروابط بين العناصر التناصية المختلفة في نص من النصوص، وبذلك تنجح في توليد تفسيرات مترابطة المعنى. وينبغي ألَّا يعني ذلك ضِمنًا أن المفسرين ينجحون دائمًا في التوفيق الكامل بين المتناقضات في النصوص؛ بل إن المفسرين قد يأتون بتفسيرات تقاوم ما في النص (انظر أدناه). ويجوز أن يصل المفسِّرون إلى توفيق جزئي أو توفيق مُصطنَع يكفي لتلبية أغراضهم المباشرة، ولكن إذا نجح المفسرون في التوفيق بين المتناقضات في تفسيراتهم فإنهم يكونون بذلك قد شغلوا مواقع الذوات المركَّبة التي أنشأتها النصوص (أو اكتسبوا الدعم من النصوص لمواقعهم القائمة).
وتتولد التفسيرات القائمة على ترابُط المعنى ما بين العناصر التناصية المنوعة في نص من النصوص لشتى أبعاد معناها في وقت واحد، أي البُعد الفكري، وبُعد العلاقة ما بين الأشخاص (وينقسم الأخير إلى معانٍ فكرية ومعانٍ خاصة بالهُوية). فنجد على سبيل المثال أن العيِّنتَين الأولى والثانية أعلاه تتضمنان معاني علائقية مركَّبة ترتبط بالطرائق التي تمزج بها بين الأساليب والأنواع غير المتجانسة. والمفسِّرون هم الذين يجدون طرائق مقبولة للجمع بين هذه المعاني العلائقية المنوَّعة. ففي حالة العيِّنة الأولى نجد أن الجمع بين المعاني العلائقية يتوسل بالتوفيق بين العلاقة القائمة بين مصدر المعلومات ومقدمها، وبين المتلقي السلبي للمعلومات، من جانب، ونجد من جانب آخَر العلاقة بين المشاركين في الانتماء إلى عالم الحياة. وأما في العيِّنة الثانية فإن ما يحتاج إلى الجمع هو العلاقة بين المُعلِن والمستهلك، والعلاقة بين المؤسسة بصفتها مصدر سن القوانين وبين أحد أفراد الجمهور باعتباره الذات (كالعلاقة بين البنك والعميل). ومن الأمثلة على النصوص التي تتضمن معاني مركَّبة متماثلة نص المقابلة الإذاعية مع السيدة مارجريت ثاتشر الذي سبق لي تحليله في فيركلف (١٩٨٩م، أ). ويتكوَّن موقع الذات المركَّب الذي يشغله القارئ من نطاق متنوِّع من العناصر (من بينها البريطاني الوطني، وربة المنزل الحريصة، والوالدان القلقان، والمقاول) ونقول مرةً أخرى: إن على المفسِّر أن يجمع بين هذه الهُويات المتناقضة في كيان مترابط المعنى. ويعلِّق هول (١٩٨٨م) تعليقًا مماثلًا على خطاب ثاتشر، ومفهوم «التكثيف» عند لاكلاو (١٩٧٧م)، يتناول عملية الجمع تفسيريًّا بين العناصر من حيث آثاره الأيديولوجية، وكلٌّ منهما يضع هذه القضايا داخل إطار نظرية للهيمنة. وأما ما يفتقر إليه تناولهما فهو وجود نصوص فعلية خاصة.
والمعنى المُضمَر فيما قلتُه إلى الآن يقول بوجود مفسرين طيِّعين، بمعنى أنهم يقبلون المواقع التي أُعدَّت لهم في النصوص، ولكن المفسِّرين ليسوا جميعًا طيِّعين. فبعضهم يتسم — إلى حدٍّ ما، وبصراحة متفاوتة المقدار — بالمقاومة. ولا يقتصر تعريف المفسِّرين، بطبيعة الحال، على كونهم «ذوات خطابية» في «عمليات خطابية معيَّنة»، بل إنهم ذوات اجتماعية ولديهم خبرات اجتماعية متراكمة، ويتمتعون بموارد ذات توجُّهات منوَّعة إلى الأبعاد المتعددة للحياة الاجتماعية، وهذه المتغيرات تؤثِّر في طرائق تفسيرهم لنصوص معيَّنة. ومن المتغيرات الأخرى إجراءات التفسير الخاصة المتاحة لهم، والتي يستفيدون بها، في ذلك المجال الخاص من مجالات الممارسة الخطابية؛ فالقدرة على القراءة النقدية، على سبيل المثال، ليست موزَّعة بالتساوي بين جميع المفسرين في جميع الظروف التفسيرية.
وقد تجنح القراءات «المقاوِمة»، إلى حدٍّ ما، إلى الفصل بين عناصر التناص المترابطة في نص من النصوص، فقد يبدي المفسِّر، على سبيل المثال، اعتراضًا على العناصر الإعلانية في العيِّنة الثانية، فيقرؤها قائلًا: إنَّ بطاقة «باركليكارد» «تحاول أن تبيع لي شيئًا». وفي غمار هذه العملية يضيف المفسِّر بُعدًا آخَر للتناص إلى النص باستحضار نصوص أخرى للتأثير في تفسيره، وقد تنتمي في هذه الحالة إلى تحليلات علم الاجتماع أو البحوث السياسية النقدية للنزعة الاستهلاكية. وتمثِّل «القراءات المقاومة» إحدى طرائق الصراع على الهيمنة فيما يتعلَّق بالترابط بين العناصر التناصية. وإذا كانت تؤدي في العادة إلى عمليات إنتاج نصوص تصوِّر الصراع على الهيمنة بأشكال أشد صراحة، فإن ذلك ليس بالضرورة هو الحال دائمًا، ومن المهم أن ننظر في طرائق تفسير المفسرين للنصوص حتى نستطيع التوصُّل إلى التقييم السليم لفاعليتها السياسية والأيديولوجية. (ولك أن ترجع إلى انتقادي للغويات النقدية الذي يتبع نهجًا مماثلًا في الفصل الأول عاليه، وانظر استعمال مفهوم «القرَّاء المقاومين/القراءات المقاومة» في كريس (١٩٨٨م).)