تحليل النصوص: بناء الواقع الاجتماعي
يركِّز هذا الفصل أساسًا على جوانب التحليل النصي المتصلة بالوظيفة الفكرية للغة وللمعاني الفكرية، أي ﺑ «بناء الواقع الاجتماعي» على نحو ما ذكرته في العنوان. وإذَن فإن مدار التأكيد هنا هو دور الخطاب في الدلالة والإحالة (ارجع إلى التمييز بينهما في أواخر الفصل الثاني) حيث تتضمَّن الدلالة دور الخطاب في تكوين نظم للمعرفة والعقيدة، وإعادة إنتاجها، والطعن فيها، وإعادة بنائها، ولكن المسألة لا تزيد على كونها مسألة تأكيد، فمن المحتوم أن تتداخل هذه مع الوظيفة العلائقية ووظيفة بناء الهُوية، وهما اللتان ناقشتهما في الفصل الخامس.
وأنا أناقش هنا عيِّنتَين رئيسيتَين للخطاب، الأولى مقتطفة من كُتيِّب خاص بالرعاية السابقة للوضع، موجَّه إلى الأمهات الحوامل وأزواجهن، والثانية مجموعة الخُطب التي أشرت إليها من قبل، وهي التي ألقاها وزير في الحكومة البريطانية، هو اللورد يَنْجْ، حول ثقافة «المبادرة الفردية». وأما الموضوعات التحليلية المحدَّدة التي أعرض لها فهي: الروابط والتَّحاجُّ، والتعدي والثيمة، ومعنى الكلمات، والصياغة، والاستعارة. فإذا نظرنا إليها من حيث انتماؤها إلى الفئات التحليلية الواردة في الفصل الثالث وجدنا أن الموضوعات الثلاثة الأخيرة يشملها عنوان عام هو المفردات، وأن الموضوع الأول ينتمي إلى التماسك، والثاني إلى النحو.
(١) الروابط والتَّحاجُّ
(٢) الرعاية السابقة للوضع
الهدف الأساسي للرعاية السابقة للوضع أن تكفل لك اجتياز فترة الحمل والوضع وأنت في تمام الصحة. ومن المحتوم إذَن أن تتطلب سلسلة من الفحوص والاختبارات على امتداد فترة حملك. وكما ذُكر عاليه، سوف تتلقين هذه الرعاية إما من المستشفى المحلي الذي تتبعينه، وإما من الممارس الطبي العام الذي تعتادينه، وهو الذي يعمل في حالات كثيرة بالتعاون مع المستشفى.
ومن المهم الحضور لإجراء أول فحوصك والتبكير بهذا قَدْر الطاقة؛ فقد يكون لديك بعض المتاعب الطفيفة التي يستطيع الطبيب تداركها فتعود بالفائدة على بقية فترة حملك. والأهم بصفة خاصة أنك بعد زيارتك لطبيبك وحَجْز مكان لك في مستشفى محلي سوف تتلقين في العادة تأكيدًا بأن كل شيء يسير سيرًا طبيعيًّا.
(٣) الزيارة الأولى
تتضمن زيارتك الأولى استعراضًا شاملًا لصحتك في الطفولة، وأيضًا حتى اللحظة التي أصبحت فيها حاملًا. وفي بعض الأحيان قد تعاني المرأة من متاعب طبية معيَّنة لا تدري بها، مثل ضغط الدم المرتفع، ومرض السكري، وأمراض الكليتين — ومن المهم التعرف على هذه المشكلات في مرحلة مبكِّرة، إذ إنها قد تكون لها آثار خطيرة في مسار الحمل.
وسوف يحتاج الطبيب والداية إلى الإحاطة الكاملة بجميع مشكلاتك الصحية السابقة، وإلى مناقشة ظروفك الاجتماعية أيضًا، ونحن نعلم علم اليقين أن الظروف الاجتماعية يمكنها أن تؤثِّر في نتيجة الحمل. ولهذا السبب سوف يطلبان منك التفاصيل الخاصة بمسكنك وبعملك الحالي. وسوف يحتاجان إلى أن يعرفا أيضًا إن كنت تدخنين أو تشربين الكحول، أو إن كنت تتناولين أية عقاقير وصفَها لك طبيب أو أصحاب الصيدليات، إذ إن جميع هذه المواد يمكن أحيانًا أن تضر بتطور الجنين ونموه.
(٤) الفحص
سوف توزنين حتى يمكن تقدير الزيادة اللاحقة في وزنك، وسوف يُقاس طولُ قامتك لأن القصيرات بصفة عامة لديهن أحواض أصغر قليلًا من ذوات الطول الفارع، وهو أمر لا يدعو إلى الدهشة. وسوف تخضعين بعد ذلك لفحص جسدي كامل، يتضمن فحص ثدييك وقلبك ورئتيك وضغط دمك، وبطنك وحوضك.
والغرض من هذا تحديد أية ظواهر شاذة قد تكون موجودة، وإن لم تكن قد سببت لك أية مشكلات حتى الآن، ومن شأن فحص المهبل تيسير تقييم الحوض ابتغاء فحص حالة الرحم وعنق الرحم والمهبل. وكثيرًا ما تؤخذ لُطاخة مهبلية أيضًا في هذا الوقت لفحصها واستبعاد وجود أي تغيير مبكِّر يؤدي إلى الإصابة بالسرطان مما قد يوجد في حالات نادرة.
وسوف نبدأ بتحليل بعض جوانب تماسك النص وبناء الجمل في هذه العيِّنة؛ وذلك تمهيدًا للنظر في الأسلوب المستخدم لإقامة الحجة، وأنواع معايير العقلانية التي تفترضها سلفًا، وسوف يتيح لنا هذا النظر في أنواع الهُوية الاجتماعية التي تُبنى في النص، وخصوصًا الصوت الطبي العلمي والجو الخلقي فيه.
ولنبدأ بطريقة بناء الجمل في القسم الأخير وعنوانه الفحص، وهو الذي يتكون من فقرتَين، تتكون كلٌّ منهما من ثلاث جمل. فإذا استثنينا الجملة الأخيرة في الفقرة الأولى والجملة الأولى من الفقرة الثانية وجدنا أن كلَّ جملة تتكوَّن من عبارتَين (أي إنهما جُمل بسيطة) يربطهما حرف أو أداة تدل على الغرض أو السبب، والنظام المجرد هو:
العبارة الأولى ¬ حتى/لأن/ﻟ (من أجل) العبارة الثانية.
بل إن الجملتَين اللتين استثنيتهما ذواتا نسق يتفق جزئيًّا مع هذا النسق، لأن الرابط في كلٍّ منهما رابط يتعلَّق بالغرض، فالجملة الأولى في الفقرة الثانية تبدأ بعبارة «والغرض من هذا»، واسم الإشارة «هذا» يحيلنا إلى الجملة الأخيرة في الفقرة الأولى. والواقع أن نسق الجمل التي ترتبط برباط الغرض أو السبب، وكذلك العبارات داخل الجمل، نسق يتكرَّر على امتداد العيِّنة كلها. والرسالة التي يرسلها هذا النسق رسالة بث الاطمئنان؛ أي إن كل شيء يحدث في إطار الرعاية السابقة للوضع له سبب قوي. وإذا كان مَن يُراد اطمئنانُه واضحًا، فإن مَن يقوم ببث الاطمئنان، على وجه الدقة، أقل وضوحًا.
فلنحاول تبيان ذلك بالنظر إلى المشاركين، أي من يشاركون في هذا النص باعتباره جزءًا من الممارسة الخطابية، ومَن يشاركون في عمليات الرعاية السابقة للوضع التي يصوِّرها النص، وأما المشاركون في النص فهم (١) قرَّاء النص الذين تعنيهم الرعاية المذكورة مباشرة في معظم الأحوال (باعتبار أنهم من النساء الحوامل) أو ممَّن يشاركون في هذه الرعاية (باعتبارهم أزواجهن) و(٢) منتجو النص، واسم المؤلف غير مذكور، ولكن اسم المحرِّر (وهو أستاذ متخصِّص في أمراض النساء والولادة) وأسماء فريق التحرير مذكورة. وأما المشاركون في الرعاية السابقة للوضع فهم (١) الحوامل و(٢) العاملون بالمهن الطبية. والعلاقة بين القرَّاء باعتبارهم مشاركين، وبين النساء باعتبارهن مشاركات في الرعاية المذكورة واضحة، فمعظم القراء يوشكون أن يصبحوا مشاركين في هذه الرعاية، ومعظم هؤلاء يوشكون أن يصبحوا من الطائفة الأولى، ولكن العلاقة بين منتجي النص والمشاركين في الرعاية المذكورة أقل وضوحًا إلى حدٍّ ما، فمن ناحية المبدأ قد يتبنى منتجو النص منظور الحوامل، أو المشتغلين بالمهن الطبية، أو لا يتبنون هذا المنظور أو ذاك.
ومن الواضح في هذه الحالة أن منتجي النص ينتمون إلى المهن الطبية، وأكثر الأدلة تصريحًا بهذا ما نقرؤه في الفقرة الثانية من القسم الذي يحمل عنوان «الزيارة الأولى»، فالجملتان الأولى والثالثة من هذه الفقرة تتنبئان بما سوف يحتاج أفراد المهن الطبية إلى معرفته والسؤال عنه. والجملة الثانية تشرح سبب السؤال، ولكن المعرفة الطبية التي يقيم هؤلاء ممارساتهم عليها تتخذ صيغة واضحة المغزى وهي «ونحن نعلم»؛ فإن كلمة «نحن» تمثِّل حلقة الانتقال الدقيق من الإشارة إلى منتجي النص باعتبارهم مشاركين في عملية الخطاب إلى الإشارة إلى أن أفراد المهن الطبية مشاركون في عملية الرعاية السابقة للوضع.
ومع ذلك فلدينا حالة واحدة تمثِّل الفصل بين هاتين الصفتين، وهي الجملة الثانية في الفقرة الأولى من القسم الذي يحمل عنوان «الفحص»، ونقصد بها التعليق المضاف في آخِر الجملة، وهو «وهو أمر لا يدعو إلى الدهشة»، فهو تعليق يوحي لنا بأنه صوت عالم الحياة الذي ينطق به لسان «المريضة» المتوقعة، أو حتى لسان أفراد المهن الطبية إذا تنحَّوْا عن صفتهم المهنية (ارجع إلى مناقشة ميشلار لأصوات عالم الحياة في تحليله لعيِّنة الخطاب الطبي التي نوقشت أعلاه)، ولكن لاحظ التضاد بين الصوتين، الصوت الذي نسمعه هنا والصوت الذي نسمعه في الجزء الثاني من الجملة الأولى الذي يقول: ﻟ «أن القصيرات بصفة عامة لديهن أحواض أصغر قليلًا من ذوات الطول الفارع»، وهي العبارة التي تقدِّم السبب. فالصوت هنا صوت طبي؛ لأن كلمة «حوض» مصطلح طبي، والعبارة تتكون من مقولة قاطعة النبرة، نقول إنها تقوم على أدلة طبية. وهي تمثِّل المقتطف كله تمثيلًا أصدق، إذ إن معظم الجمل السببية ينطقها الصوت الطبي. وأما الاحتراز في هذه المقولة («بصفة عامة») فترجع أهميته إلى أن به غموضًا يوحي بالانتقال إلى صوت عالم الحياة، من ناحية، كما يوحي من ناحية أخرى بالحذر والتدقيق اللذين يتميز بهما الجو الخلقي الذي نربط بينه وبين الطب العلمي.
وإذا شئنا التلخيص قلنا: إن تحليل التماسك النصي في هذه العيِّنة يطلعنا على نوعية من التحاج (أي بناء الحجة) ونوعية من العقلانية، ومن ثَمَّ يُسمعنا الصوت الطبي العلمي والجو الخلقي فيها. فإذا استندنا إلى هذا المثال في إصدار حكمٍ عامٍّ قلنا: إن أنماط النصوص تتفاوت في أنواع العلاقات التي تُنشئها بين عباراتها، وأنواع التماسك النصي التي تفضلها، وإن أمثال هذا التفاوت قد تكون لها دلالة ثقافية أو أيديولوجية. وتجتمع هذه الاختلافات في التماسك النصي مع غيرها، فتؤدي إلى اختلافات شاملة في «النسيج» (هاليداي، ١٩٨٥م، ٣١٣–٣١٨) الخاص بأنماط النصوص، أي بالنوعية الشاملة لبناء العبارات لتكوين نص من النصوص. ومن الأبعاد الأخرى للتفاوت بعد «الثيمة»، التي تناقش في القسم التالي، والطرائق التي تتميز بها «المعلومات المفترضة» (أي التي يقدِّمها منتج النص باعتبارها معروفة أو ثابتة سلفًا) عن «المعلومات الجديدة» (هاليداي، ١٩٨٥م، ٢٧١–٢٨٦؛ كويرك وآخَرون ١٩٧٢م، ٢٣٧–٢٤٣)، والطرائق التي تكتسب بها الصدارة بعض أجزاء النص، وتبقى أجزاء أخرى منه في خلفيته (هُووِي، ١٩٨٣م). ومن جوانب التغير الخطابي التي ربما كانت أقلَّ وضوحًا من سواها ولكنها قد تكون جديرة بالبحث فيها، جانب التغييرات في النسيج والتماسك النصي، فهل من الصحيح، على سبيل المثال، أن بعض أنماط الإعلام الجماهيري التي استعمرتها أساليب الإعلان (مثل الدعاية الحكومية حول بعض القضايا مثل مرض الإيدز) تتجلى فيها تغييرات في هذه الجوانب، وإن صح هذا فكيف ترتبط أمثال هذه التغييرات بضروب التغيير في نوعيات العقلانية والجو الخلقي؟
إن الإعلان يبدأ بسؤال، تتلوه إجابات متتابعة، أو بتعبير أدق، بسؤال غير مباشر للقارئ (أي طلب موجَّه إلى القارئ للنظر في سؤال ما) يعقبه إجابة مقترحة ممكنة (تتكون من جملتَين)، وهذا نظام بلاغي يستخدم على نطاق واسع في الإعلانات. ومن المحتمل أن تتميز به النوعيات البلاغية المختلفة، مثل أنماط السرد، في النظم التي تستعملها.
وتدل المغايرة في التصريح أيضًا على ضرورة التمييز بين مستويين في تحليل التماسك النصي: الأول تحليل علاقات التماسك الوظيفية، مثل التي وصفناها عاليه، والثاني تحليل علامات التماسك الصريحة الموجودة على سطح النص، مثل أدوات الربط المشار إليها. والأخيرة جديرة بالاهتمام أيضًا لا لتحديد مدى صراحة تمييز العلاقات الوظيفية فقط، بل أيضًا بسبب وجود اختلافات مهمة بين أنماط النصوص، وهي التي تظهر في أنماط علامات التمييز التي تشيع فيها. ويميز هاليداي (١٩٨٥م، ٢٨٨–٢٨٩) بين أربعة أنماط رئيسية للعلامات المستخدمة في التماسك النصي السطحي وهي «الإحالة» و«الحذف» و«الربط» و«التماسك اللفظي». وهنا أيضًا لا أستطيع أن أقدِّم إلا الخطوط العريضة لهذه الأنماط. أما الإحالة فتعني إحالة القارئ إلى جزء سابق من النص، أو إحالته إلى جزء مقبل من النص، أو إحالته إلى شيء خارج النص كسياق النص أو السياق الثقافي الأوسع نطاقًا له، باستخدام وسائل معينة مثل الضمائر الشخصية، وأسماء الإشارة، وأداة التعريف. وأما الحذف فيعني استبعاد «مادة» يمكن الحصول عليها من جزء آخَر من النص، أو الاستعاضة عنها بكلمة بديلة، بحيث تنشئ رابطة تحقِّق التماسك بين جزئي النص (انظر على سبيل المثال حذف «ورقة من نوع البستوني» (في لعبة من ألعاب الورق، أي الكوتشينة، تُسمَّى البريدج) في الجزء الثاني من الحوار التالي: «لماذا لم تقدم ورقة من أوراق البستوني؟» — «لم يكن في يدي أي منها»). وأما الربط فقد أشرنا إليه من قبل إشارات كثيرة، فهو تحقيق التماسك باستخدام كلمات الربط وتعبيراته، وهي التي نُطلق عليها وَفْق التقاليد أسماء حروف العطف وأدواته (مثل الواو والفاء، و«إذ إن» و«لما كان» … إلخ) إلى جانب ما نطلق عليه — اصطلاحًا — تعبير «التوابع الرابطة» (هاليداي، ١٩٨٥م، ٣٠٣) أو «الوصلات» (كويرك وآخَرون، ١٩٧٢م، ٥٢٠–٥٣٢) مثل «ومن ثَمَّ»، «وبالإضافة إلى هذا»، «أو بعبارة أخرى». وأما التماسك اللفظي فيعني تحقيق التماسك من خلال تكرار الألفاظ، أو الربط بين الكلمات والتعابير بعلاقات المعنى (انظر ليتش، ١٩٨١م) مثل الترادف (حمل المعنى نفسه) أو «الإدراج الدلالي» (ومعناه إدراج دلالة لفظ في دلالة لفظ آخَر، كما هو الحال بين الأسماء العامة والخاصة) أو ربط الكلمات والتعبيرات التي «تتصاحب» أو يقترن بعضها بالبعض (هاليداي، ١٩٦٦م)، أي تنتمي إلى المجال الدلالي نفسه، وعادةً ما توجد معًا (مثل «الغليون»، و«الدخان»، و«التبغ»).
ومن الخطأ أن نتصور أن أنماط علامات التماسك السطحي المذكورة مجرَّد خصائص موضوعية للنصوص. إذ لا بد أن يتولى مفسِّرو النصوص تفسير علامات التماسك في إطار بنائهم لقراءات مترابطة المعنى لكل نص من النصوص؛ فما التماسك النصي إلا عامل واحد من عوامل ترابط المعنى، فعلى سبيل المثال، لا يستطيع المرء أن يحدِّد الألفاظ المتصاحبة في نص من النصوص إلا إذا نظر في تفسير مفسِّري النصوص في هذا الصدد، أي تحديد العناصر التي يرى المفسِّرون وجود علاقات فعلية بينها، ولكن علينا أن ننظر نظرة دينامية أيضًا إلى علامات التماسك، من منظور مُنتج النص، إذ إن منتجي النصوص يقيمون علاقات تماسك من أنواع محدَّدة في غضون جعل المفسِّر يشغل موقع الذات. ومن ثَمَّ فإننا إذا نظرنا إلى التماسك النصي هذه النظرة الدينامية فربما اكتشفنا أنه من الطرائق المهمة ﻟ «العمل» الأيديولوجي الجاري داخل النص.
ويُعتبر الإعلان المنشور في المجلة، الذي أوردناه قبل صفحتَين، مثالًا يوضِّح هذه المسائل، إذ إن أي تفسير مترابط المعنى لتلك الفقرة يعتمد على جهد كبير في الاستنباط، الذي يرتكز على إعادة بناء روابط التماسك القائمة على الكلمات المتصاحبة، وهي التي ينشئها منتج النص، أي الربط بين «الدبلوماسيين ومديري الشركات»، وبين «يوحي بعلو المكانة من دون المظهرية الجوفاء»، وبين «سلوك الذين اغتنوا بوجودهم عن إثبات سمو منزلتهم»، أي إننا نستطيع أن ندرك معنى النص إذا افترضنا أن الإيحاء بعلو المنزلة من دون المظهرية الجوفاء سِمة تميز الدبلوماسيين ومديري الشركات (بعد نقلها هنا إلى السيارة)، وأن الدبلوماسيين ومديري الشركات يسلكون سلوك مَن اغتنى بوجوده عن إثبات سمو منزلته. ولاحظ أن هذه العلاقات الخاصة بالتصاحب اللفظي ليست من النوع الذي يمكن أن تجده في أحد المعاجم (على عكس العلاقة مثلًا بين «الكلب» و«ينبح»)؛ بل إن منتج النص هو الذي أنشأها في هذا النص. وعندما أنشأها المنتج فإنه كان يفترض في الوقت نفسه وجود مفسِّر «قادر» على إدراك علاقات التصاحب المذكورة؛ وفي حدود نجاح المفسرين في تلبية متطلبات الموقع الذي يشغلونه، ينجح النص في أداء العمل الأيديولوجي الخاص ببناء ذوات ترى أن هذه العلاقات تتفق مع المنطق السليم (انظر مناقشة الإخضاع في أواخر الفصلَين الثالث والرابع).
(٥) التعدي والثيمة (المبتدأ)
عادةً ما يُشار إلى البُعد الفكري للبناء النحوي للعبارة، في علم اللغة المنهجي، بمصطلح «التعدي» (هاليداي، ١٩٨٥م، الفصل الخامس)، وهو يتناول أنماط النشاط المشفَّر في العبارات، وأنماط المشاركين فيها (وكلمة «المشارك» هنا تشير إلى عناصر العبارات). وقد لقي هذا الجانب، كما قلت في الفصل الأول عاليه، اهتمامًا بالغًا في التحليلات التي أُجرِيَت في مبحث اللغويات النقدية (انظر فاولو وآخَرين، ١٩٧٩م؛ كريس وهودج، ١٩٧٩م؛ كريس، ١٩٨٨م؛ هودج وكريس، ١٩٨٨م). ويوجد نمطان رئيسيان من هذا النشاط: أنشطة أو عمليات «علائقية»، إذ يحدد الفعل علاقة معيَّنة بين العناصر (يكون، يصبح، ينتمي … إلخ)؛ وأنشطة أو عمليات «فعلية»؛ حيث نجد فاعلًا ومفعولًا به يقع عليه فعل الفاعل، وسوف أقول في هذا القسم كلمة أو كلمتين عن «الثيمة»، وهو مصطلح يعني هنا بُعدًا من الأبعاد النصية لنحو العبارة، ويتعلَّق بالمواقع التي تشغلها عناصر العبارة وفقًا لمدى صدارة أو بروز المعلومات التي يمثلها كل عنصر (أي إذا كان في موقع المبتدأ ذي الصدارة أم لا).
ومن الملامح الواضحة الخاصة بالعمليات القائمة على الفعل في المقتطف الذي أوردناه من كُتيِّب الرعاية السابقة للوضع، أن النص نادرًا ما يشير إلى الحوامل باعتبارهن «فواعل» في البناء النحوي. فأما الفواعل في العمليات القائمة على الفعل فهم أفراد المهن الطبية في حالات كثيرة (وبصورة مضمرة أيضًا لأن العبارة مبنية للمجهول والفاعل «محذوف»، مثل «سوف توزنين») أو كيانات غير بشرية (مثل «الأحوال الاجتماعية» و«المواد» في الفقرة الثانية بالقسم الذي يحمل عنوان «زيارتك الأولى») وعلى العكس من ذلك نجد أن الحوامل أو سماتهن البدنية كثيرًا ما يُشار إليهن («أنت»، «طوق قامتك») في حالة المفعول به في العبارات «الفعلية»، ومن الصحيح أيضًا أن الضمير «أَنْتُنَّ» (الذي يشير إلى الحوامل) نادرًا ما يكون في موقع البداية ذات الأهمية الإعلامية في العبارة، أي في موقع الثيمة (أي المبتدأ) (وانظر ما يلي ذلك أدناه).
وأناقش الآن القضايا التي أثارها هذا المثال بقَدْر أكبر من التعميم، فأبدأ بالتعدي، ثم أنتقل إلى البناء للمعلوم والمجهول، والتعبير الاسمي، والثيمة (المبتدأ/الفاعل).
وبعض الأمثلة التوضيحية التي استخدمتها عاليه «أطلقت الشرطة النار على ١٠٠ متظاهر» و«مات ١٠٠ متظاهر» و«موت ١٠٠ متظاهر» تدل على إمكان وجود مغزى سياسي وأيديولوجي لاختيار نمط العملية. فنجد على سبيل المثال أن إحدى القضايا ذات الأهمية الدائمة تتمثَّل فيما إذا كانت تقارير أجهزة الإعلام عن الأحداث المهمة تصرِّح بالفاعل، وبالعِلِّية وبالمسئولية أم تتركها غامضة. وتصور الأمثلة الواردة أعلاه فئة معيَّنة من الأحداث التي تبرز فيها هذه القضية باستمرار، وهي قضية العنف والعنف المؤدي إلى الموت. وهكذا يبيِّن «ترو» (١٩٧٩م) أن التوجُّه السياسي لإحدى الصحف يحدِّد اختيار أنماط العمليات الخاصة بالدلالة على حالات الموت أثناء المظاهرات السياسية في جنوب أفريقيا، ومن ثَمَّ يحدِّد إذا ما كانت المسئولية عن هذه الحالات منسوبة إلى فاعل صريح وهُوية هذا الفاعل. وعلى غرار ذلك أن الحروب والبطالة والتدهور الصناعي والحوادث الصناعية يُشار إليها أحيانًا باعتبارها مجرَّد أحداث تقع وحسب، ويُشار إليها في أحيان أخرى باعتبارها أفعالًا لها فواعل، وقد تكون هذه البدائل مجالًا للصراع السياسي والأيديولوجي. ويصدق هذا نفسه على دلالة العمليات الخاصة بالرعاية السابقة للوضع في المثال السابق، وقضية اعتبار الحوامل فواعل لأفعال معيَّنة أم مجرد أهداف للأفعال.
ويشترك التعبير الاسمي مع المبني للمجهول في إمكان حذف الفاعل، وفي ضروب الدوافع المنوعة من وراء ذلك، وتعمل الصيغتان في الاتجاه نفسه في عبارة «الفحص الطبي الشامل سوف يجري بعدها»؛ وكما ذكرت من قبل نجد أن الجمع بين المبني للمجهول دون ذكر الفاعل مع صيغة النوعية ذات التنبؤ القاطع يدعم صوت الطب العلمي في الكُتيِّب من خلال الإيحاء بأن المرأة تخضع لإجراءات مجهولة الفاعل ولا تتغير قط؛ والعبارة الاسمية («الفحص الطبي الشامل») هنا — من دون تحديد الفاعل — تدعم ذلك الإيحاء، وقد يتضمَّن التعبير الاسمي أيضًا حذف مشاركين آخَرين إلى جانب الفواعل؛ فعلى سبيل المثال نجد أن الفاعل والهدف/المفعول به محذوفان من العبارة التالية، «إذ إنها تتطلب سلسلة من الفحوص والاختبارات على امتداد فترة حملك».
فالتعبير الاسمي يحوِّل العمليات والأنشطة إلى حالات وأشياء، ويحوِّل المجسدات إلى مجرَّدات، فعلى سبيل المثال، تختلف الإشارة إلى عمليات مجسَّدة في الحمل الذي قد لا يتطوَّر تطوُّرًا طبيعيًّا عن الإشارة إلى تحديد «أية ظواهر شاذة قد تكون موجودة»، فهذه تنشئ فئة جديدة من الكيانات المجرَّدة. ويعتبر إنشاء الكيانات الجديدة مَعْلمًا من معالم التعبير الاسمي الذي يتسم بأهمية ثقافية وأيديولوجية كبرى، خذ مثلًا إعلانًا عن جراحة التجميل يقول في عنوانه الرئيسي: «جمال المظهر يمكن أن يستمر طول عمرك!» إذ إن عبارة «جمال المظهر» تعبير (مُؤوَّل من عمليَّات علائقية مجسَّدة مثل «إن مظهرك جميل!») أي إنه يحوِّل صفة موضعية مؤقَّتة إلى حالة أو خصيصة راسخة، فيصبح لها كيان خاص يمكن الالتفات إليه والتلاعب به ثقافيًّا بعد ذلك (إذ يُمكن مثلًا غرسها وتنميتها ورعايتها؛ ويمكن أن يُقال إنَّ حُسن المظهر يأتي للناس بالحظ الحسن، أو بالسعادة أو بالمتاعب)، ومن ثَمَّ يجد المرء أن التعابير الاسمية نفسها تقوم بدور الأهداف بل والفواعل في العمليات. (للمزيد من مناقشة خصائص التعبير الاسمي ارجع إلى كريس وهودج، ١٩٧٩م، الفصل الثاني.)
سبق لي أن أشرت إلى الثيمة عند مناقشة دوافع اختيار العبارات المبنية للمجهول، والمعروف أن الثيمة تعني الجزء الأول من العبارة (المبتدأ أو ما يوازيه) وأن باقي العبارة يُشار إليه أحيانًا باسم «الريمة» (تعريبًا للكلمة الأجنبية، التي تعني الخبر أو ما يوازيه) (كويرك وآخَرون، ١٩٧٢م، ٩٤٥–٩٥٥؛ هاليداي، ١٩٨٥م، الفصل الثالث)، وتحليل العبارات بهذه الطريقة يعني النظر إلى وظائفها وكيف تُبنى «المعلومات» بمفهومها العام، فالثيمة تمثِّل نقطة انطلاق منتج النص في عبارة من العبارات، وعادةً ما تتفق مع ما يُعتبر معلومات «مسلَّم بها» (وهو ما لا يعني أنها كذلك فعلًا)، أي إنها معلومات معروفة سلفًا أو ثابتة من وجهة نظر منتجي النص ومفسِّريه.
وكثيرًا ما تكون الاختيارات المميزة للثيمة طريفة فيما تكشف عنه، لا بشأن الافتراضات القائمة على المنطق السليم فقط ولكن أيضًا بشأن الاستراتيجيات البلاغية. فالجملة الثانية من المقتطف السابق من كتاب الطفل تبدأ بعبارة تقول «ومن المحتوم، إذَن، أن تتطلَّب …» تعتبر مثالًا على هذا، فكلمتا «المحتوم» و«إذَن» من الكلمات الرابطة (كويرك وآخرون ١٩٧٢م، ٤٢٠–٥٠٦)، وتؤدي وظيفتها باعتبارها ثيمات مميزة. وتحويل بعض العناصر إلى ثيمات مميزة من أساليب تصديرها أي وضعها في موقع الصدارة، وهو هنا عقلانية الرعاية السابقة للوضع؛ وهذا، كما بيَّنتُ في القسم الأخير، من شواغل منتجي النص، وهو يضفي المعنى على التماسك في المقتطف. ولدينا حالة تختلف اختلافًا طفيفًا، وهي الجملة الثانية من القسم الفرعي الذي يحمل عنوان «الزيارة الأولى»، فالثيمة هنا «في بعض الأحيان»، وتصديرها يوضِّح الانشغال الرئيسي في الرعاية السابقة للوضع باستباق المخاوف وتبديدها، وكثيرًا ما يوحي ذلك بنبرةِ تعالٍ معيَّنة.
وتلخيصًا لما سبق أقول: إنه من المفيد دائمًا الاهتمام بما يبدأ الكاتب به عباراته وجمله، لأن من شأن ذلك أن يُبصِّرنا بالافتراضات والاستراتيجيات التي يصعب التصريح بها في أي موقع.
وأختتم هذا القسم بتحليل لعيِّنة قصيرة تبيِّن كيف يتفاعل اختيار أنماط العمليات، والتعبير الاسمي، والثيمات في النصوص. والمثال التالي مقتطف من إعلان عن ندوة حول الطاقة النووية في بريطانيا:
(٦) هل نستطيع فعلًا تلبية احتياجاتنا من الطاقة دون اللجوء إلى الطاقة النووية؟
تضاعف استهلاك الطاقة على مستوى العالم كله نحو عشرين ضعفًا منذ عام ١٨٥٠م. وأمامنا رأي يقول إنَّ الطلب على الطاقة في البلدان الصناعية قد يتضاعف ثلاثة أضعاف في الأعوام الثلاثين المُقبِلة.
من الممكن اعتبار الجملة الأولى (العنوان) استعارة نحوية؛ فهي متعدية، وتبدو في صورة عبارة فعل موجَّه (فالضمير المستتر «نحن» هو الفاعل، و«احتياجاتنا من الطاقة» هدف)، ولكنها يمكن أن تُعتبر إعادة صياغة استعارية لجملة مثل «هل نستطيع فعلًا إنتاج المقدار الذي نريد استخدامه من الطاقة من دون اللجوء إلى الطاقة النووية؟» أي إن الصيغة الاستعارية تتضمَّن تعبيرًا اسميًّا («احتياجاتنا من الطاقة») بصفته هدفًا، وهو يعامل باعتباره مقولة يمكننا صوغها صياغة مختلفة (كالقول «بأننا سوف نواصل طلب المزيد من الطاقة») أي باعتبارها كيانًا سبق افتراضه. وإذا كانت هذه المقولة تقبل المناقشة، فالافتراض المسبق لا يقبل ذلك. وفي الجملتَين التاليتَين أمور مماثلة، غير أن الكيانين المفترضين سلفًا هنا في موقع الثيمة أيضًا («استهلاك الطاقة على مستوى العالم كله»، و«الطلب على الطاقة في البلدان الصناعية»، والجملة الاسمية الأخيرة هي ثيمة العبارة الثانوية التي يسبقها الحرف «إن») وهو ما يدعم موقعهما باعتبارهما «معلومات مُسلَّمًا بها»، أو معلومات يمكن اعتبارها كذلك. وهكذا فإن الاستعارة النحوية القائمة في التعبير الاسمي تتآمر مع الثيمة، إن صح هذا التعبير، على الزج بقضية مُعيَّنة في الخلفية، وهي إن كنا في الواقع نحتاج إلى هذا الكم الكبير من الطاقة.
(٧) معاني الألفاظ
يواجه المرء، سواءً كان مُنتِجًا أو مُفسِّرًا للنصوص اللغوية، وفي جميع الحالات، ما يُسمِّيه ريموند ويليامز «عناقيد» ألفاظ ومعانٍ (ويليامز، ١٩٧٦م، ١٩) لا ألفاظًا أو معاني مفردة، وإن كان من المفيد أحيانًا أن يركِّز المرء على كلمة مفردة لأغراض التحليل، على نحو ما أفعل أدناه. وتتميَّز العلاقة بين الألفاظ والمعاني بأنها ليست علاقة المفرد بالمفرد بل علاقة المفرد بالجمع والجمع بالمفرد، فاللفظ المفرد له في العادة معانٍ متعدِّدة، وكل معنًى يُصاغ عادةً صياغات متنوِّعة (وإن يكن القول بهذا مُضلِّل إلى حدٍّ ما؛ لأن اختلاف الصياغة يؤدِّي إلى اختلاف المعنى: وانظر القسم التالي)، ويعني هذا أننا حين نُنتِج نصًّا ما نواجه دائمًا مشكلة خيارات تتعلَّق بكيفية استخدام لفظٍ ما وكيفية صوغ أحد المعاني، وحين نفسِّر نصًّا ما نواجه دائمًا قرارات تتعلَّق بكيفية تفسير الخيارات التي انتهى إليها منتجو النص (أي البت في القيم التي نمنحها لها). وليست هذه الخيارات والقرارات ذات طبيعة فردية محضة: إذ إن معاني الألفاظ وصياغة المعاني من المسائل الخاضعة للتغير الاجتماعي والمنازعات الاجتماعية، وهي ظواهر لعمليات اجتماعية وثقافية أوسع نطاقًا.
سوف أبدأ بالتركيز هنا على معاني الألفاظ لا على صياغة المعاني، ثم تنعكس الآية في القسمَين التاليين، فلقد سبق أن أشار ويليامز إلى وجود «كلمات أساسية» معيَّنة، تتميَّز ببروزها ثقافيًّا وتستحق التركيز عليها في البحث الاجتماعي، وسوف أناقش مثالًا شائعًا هو كلمة «المبادرة الفردية»، وسوف أستخدم «المعنى الكامن» في المصطلح للدلالة على نطاق المعاني المرتبطة تقليديًّا بالكلمة، وهي التي يحاول المعجم تمثيلها. فالمعاجم تنظم مداخل الكلمات بطرائق تدلُّ ضِمنًا على النظرة التالية للمعنى الكامن: (١) إن المعنى الكامن ثابت؛ و(٢) إن المعنى الكامن عام شائع، بمعنى أنه مشترك بين جميع أفراد جماعة لغوية معيَّنة؛ و(٣) إن المعاني القائمة في داخل المعنى الكامن لأحد الألفاظ معانٍ مُنفصِلة، بمعنى أنها يمكن تمييزها بوضوح عن بعضها البعض، و(٤) إن المعاني القائمة داخل المعنى الكامن لكلمة معيَّنة تتصف بعلاقة تكاملية تقول: «إما هذا المعنى أو ذاك»، أي إنها معانٍ لا تجتمع معًا.
وإذا كانت الخصائص الأربع المذكورة تحقِّق نجاحًا لا بأس به في بعض الحالات، فإنها يمكن أن تكون مُضلِّلة إلى حدٍّ بعيد في حالات أخرى، خصوصًا عند اشتباك الألفاظ والمعاني في عمليات تنازع وتغيير اجتماعي أو ثقافي، ففي أمثال هذه الحالات قد تتغير العلاقة بين اللفظ والمعنى بسرعة، إلى الحد الذي يؤدي إلى زعزعة ثبات المعاني الكامنة، وقد يؤدي هذا إلى الصراع بين المعاني والمعاني الكامنة التي تتضارب نسبتها إلى ألفاظ معيَّنة (ويقول بيشوه، فيما اقتطفناه من كلامه عاليه: إن الاختلاف الدلالي مظهر من مظاهر الصراع الأيديولوجي وعامل من عوامله). أضِف إلى هذا أنَّ تغيُّر المعنى والتنازع حوله يؤديان إلى بعض التغييرات في قوة الحدود القائمة بين المعاني الموجودة داخل المعنى الكامن لكلمةٍ ما ووضوحها، بل إن التنازع قد يدور حول أمثال هذه الحدود. وقد يدور أيضًا حول طبيعة العلاقة بين المعاني الموجودة داخل المعنى الكامن لأحد الألفاظ، أي حول ما إذا كانت العلاقة تكاملية في الواقع أو مراتبية، فإن كانت مراتبية فإنها تدور حول علاقات محدَّدة بين المعاني تدل على هيمنة البعض، وعلى أن البعض الآخَر يشغل مكانة ثانوية، ولسوف أضرب أمثلة توضِّح بعض هذه الإمكانيات فيما يلي.
أما الأدلة على هذه النماذج البديلة للمعنى الكامن فمصدرها النصوص، والنموذج المعجمي يتفق مع النصوص التي تُنتَج وتُفسَّر من خلال التوجُّه المعياري إلى المعنى الكامن، إذ يعامله هذا التوجُّه بصفته شفرة يتبعها أو يختار ما يختاره من داخلها. وقد نجد أمثلة صالحة في البحوث أو المقالات التي يكتبها التلاميذ أو الطلاب في العلوم الطبيعية. وأما النموذج الذي أطرحه فيجد المساندة في النصوص ذوات التوجُّه الإبداعي للمعنى الكامن، إذ تعامله باعتباره موردًا متغيِّرًا ويمكن استغلاله كالمثال الذي أسوقه أدناه، فالنصوص الإبداعية تتميز بحالات غموض والتباس في المعنى، وبالتلاعب البلاغي بإمكانيات المعنى الكامنة للألفاظ. والنصوص الإبداعية تستخدم بالضرورة إمكانات المعنى الكامنة موردًا لها، ولكنها تسهم في تفكيكها وإعادة هيكلتها، بما في ذلك إعادة ترسيم الحدود والعلاقات ما بين المعاني.
أبدأ الآن فحص كيفية استعمال كلمة «المبادرة» (الفردية) في خطب اللورد يَنْجْ، وزير التجارة والصناعة في حكومة السيدة ثاتشر (١٩٨٥م–١٩٨٨م)، وأحد الشخصيات البارزة في تصوير تلك الحكومة ﻟ «ثقافة المبادرة» (الفردية) (انظر فيركلف، ١٩٩٠م، أ، حيث تفاصيل الخطب والمزيد من التحليل). ولقد سبق لي من قبل أن أشرت إلى هذا المثال في الفصل الرابع إيضاحًا للتحوُّلات التناصية؛ ولكنني أفحصه هنا خصوصًا باعتباره مثالًا لمعالم معنى الألفاظ، وهو مثال يوضِّح كيف يمكن استثمار معنى كامن أيديولوجيًّا وسياسيًّا في غضون التكوين الخطابي لمفهوم ثقافي أساسي.
- (١) النشاط: «الإقدام على أعمال جسورة أو شاقة أو هائلة.»
- (٢) النوع: «الميل أو الاستعداد إلى الاشتغال بأعمال تتميَّز بالصعوبة أو المخاطرة أو الخطر؛ جرأة الروح أو الهمة العالية.»
- (٣) التجارة: هذا هو المعنى الذي تكتسبه «المبادرة» عندما توصف بأنها خاصة أو حُرة، أي باعتبارها مشروعًا تجاريًّا خاصًّا.
وأنا أشير إلى هذه المعاني الثلاثة مجتمعة باعتبارها معنى «المبادرة» (الفردية)، ولكن المعنى الخاص بالنوع يتضمَّن تضادًّا بين الصفات المتعلِّقة بالنشاط التجاري تحديدًا (مثل القدرة على استغلال فرصة سانحة في السوق)، وبين الصفات الشخصية الأعم (مثل الاستعداد لخوض المخاطر).
وتستخدم كلمة «المبادرة» (الفردية) في خطب الوزير ينج بمعناها التجاري، ولكن من دون أن توصف بأنها «خاصة» أو «حرة»، وهو ما يزيد من الالتباس في معنى الكلمة؛ فمن ناحية المبدأ نجد أن أي استعمال للكلمة يسمح بتفسيرها بأي معنى من هذه المعاني الثلاثة أو بمعنى يجمع بين أكثر من معنى منها. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن معظم استعمالات «المبادرة» (الفردية) ذوات معانٍ مُلتبِسة وتفيد الجمع بين المعاني الثلاثة، فإن السياق يقلِّل من إمكان هذا الالتباس، بما في ذلك السياق اللغوي المباشر الذي تقع فيه الكلمة إلى حدٍّ ما. وللسياق اللغوي نوعان من التأثير؛ النوع الأول استبعاد معنى واحد أو أكثر، والنوع الثاني الإبراز النسبي لأحد المعاني من دون استبعاد المعنيَين الآخَرين، وسوف ترِد الأمثلة على ذلك أدناه.
ويشكِّل المعنى الكامن للفظ «المبادرة» (الفردية) وإمكان التباس معناه «موردًا» يستغله الوزير ينج في خطبه استغلالًا استراتيجيًّا. فاختلاف الخطب يؤكِّد المعاني المختلفة لا بتشجيع معنى دون سواه، بل بتشكيل تجمُّعات مُعيَّنة من المعاني، ومراتب معيَّنة للعلاقات البارزة من بين معاني «المبادرة» (الفردية)، وهي التي يمكن أن تعتبر مناسبة لأهداف استراتيجية أوسع نطاقًا، وخصوصًا الإسهام في إعادة تقدير قطاع الأعمال الخاص الذي فقد بعض الثقة فيه بإقامة رابطة بين المشروعات التجارية الخاصة وبين الصفات التي تتمتع بقيمة ثقافية عالية لعلو الهمة، ويُعتبر هذا مثالًا للتداخل الخطابي الاستراتيجي، بسبب تأكيد عناصر مختلفة من المعنى الكامن للكلمة في الأنماط المختلفة للخطاب.
وفيما يلي مثال من خطاب ألقاه الوزير ينج في مارس ١٩٨٥م، إذ قال: «مهمة الحكومة إيجاد الجو الذي يمكن للمبادرة (الفردية) تحقيق الرخاء فيه»، وتقع هذه الجملة مباشرة بعد فقرة تشير إلى المشروعات التجارية الخاصة، ومن ثَمَّ فهي تبرز المعنى التجاري من دون إقصاء المعاني الأخرى، أي إن المرء يمكن أن يستعيض عن لفظ «المبادرة» (الفردية) بأحد التعبيرات الثلاثة (المشتركة في معنى اللفظ) وهي «المشروعات التجارية الخاصة»، و«أنشطة المبادرات» و«الأفراد ذوو الهمم العالية»، من دون إحداث تناقض دلالي في السياق اللغوي للجملة. وفي حالات أخرى في الخطاب نفسه تنشأ علاقات الإبراز من خلال جوانب أخرى للسياق اللغوي، كأن يكون ذلك مثلًا من خلال الربط بين «المبادرة» (الفردية)، وبين تعبيرات أخرى مثل «المشروعات التجارية الخاصة ومهمة خلق الثروة»، فهذه عبارة تؤكِّد المعنى التجاري، وأما عبارة «المبادرة الفردية والهمة العالية» فهي تؤكِّد المعنى الخاص بالنوع، وإن كان السياق اللغوي السابق يضعها في طرف السُّلَّم الخاص ﺑ «الصفات التجارية».
ويركِّز خطاب ثانٍ أُلقي في يوليو ١٩٨٥م على مُنْشئي الأعمال التجارية (والمقاولات) وهو التركيز الذي يتجلَّى في أسلوب إقامة مراتب هرمية للفظة المبادرة (الفردية)، يزداد فيه إبراز المعنى الخاص بالنوع. ويتميَّز هذا الإبراز النسبي بنائيًّا في بعض الحالات من خلال الربط بين «المبادرة» (الفردية) وبعض التعبيرات التي تعزل المعنى الخاص بالنوع عن سواه، مثل ما يلي «فيه إضرار بالمبادرة (الفردية)، والهمم الغريزية العالية للأفراد»، و«تشجيع المبادرة (الفردية) وتشجيع الأفراد من ذوي الهمة العالية». ولكن أشد الجوانب بروزًا هو الطرف الخاص بالصفات التجارية في سُلَّم هذه المراتب، وهكذا نجد أن بناء معاني المبادرة (الفردية) يهيمن عليه المعنى التجاري، مثلما يحدث في الخطاب الأول.
وأُلقي خطاب ثالث في نوفمبر ١٩٨٧م، ويشد الانتباه هنا عدد الحالات التي يقلِّل فيها السياق اللغوي من التباس المعنى، ويفرض المعنى الخاص بالنوع، كما نرى فيما يلي: «أدى إلى رفع مهارات الأفراد وشحذ هممهم»، «أن نعترف بالطابع المهني والهِمَّة العالية للمديرين»، «أن نستفيد من مواهب الأفراد وهِمَمهم». ففي كل حالة يفرض الوزير المعنى الخاص بالنوع من خلال التنسيق بين المبادرة (الفردية) وأحد الأسماء التي تدل على الصفات الشخصية، واستخدام أشباه جمل (بالإنجليزية) (مثل ﻟ «الأفراد» (والمضاف إليه بالعربية لا يحتاج إلى حرف جر) وغيرها) وهي التي تنسب «المبادرة» (الفردية) باعتبارها صفة، بطبيعة الحال، إلى (فئات معيَّنة من) الأشخاص. أضِف إلى ذلك أن الصفات المشار إليها أقرب إلى الطرف الشخصي على سُلَّم المراتب مما نجده في الخطابين السابقين. ومع ذلك فإن هذا مجرَّد اختلاف في الإبراز، إذ تظل نسبة كبيرة من الحالات مُتَّسِمة بالالتباس والتردُّد بين المعاني الثلاثة، بل إن السياق اللغوي في بعض الحالات لا يزال يؤكِّد المعنى التجاري (مثل: «لقد تغيَّر المناخ كله فيما يتعلَّق بخلق الثروة والمشروعات التجارية الفردية»).
ونستطيع أن نرصد في الخطب حركة داخلية في اتجاه إعادة هيكلة المعنى الكامن ﻟ «المبادرة» (الفردية) نحو رفع مكانة المعنى الخاص بالنوع وبالصفات الشخصية العامة في طرف سُلَّم المراتب الخاصة بالنوع. وهذه الحركة تمثِّل في ذاتها جانبًا من جوانب تطوُّر استراتيجية «المبادرة» (الفردية) لحكومة المحافظين على امتداد السنوات العشر الأولى من حكومة السيدة ثاتشر. ففي الجزء الأول من هذه الفترة، كان الافتراض القائم يقول بإمكان خلق ثقافة «المبادرة» (الفردية) من خلال الإجراءات الاقتصادية إلى حدٍّ كبير (مثل تخفيض مكانة السلطات المحلية في مجال الإسكان والتعليم العالي)، ولكن الوزراء بدءوا في نحو منتصف الثمانينيات يقولون: إن المطلوب مجموعة من التغييرات في «الثقافة وعلم النفس» (وهي عبارة نايجيل لوصون)، ومن ثَمَّ فقد بدءوا يضعون — من خلال مبادرات وزارة التجارة والصناعة، على سبيل المثال، ومن خلال عناصر «المبادرات» (الفردية) في التعليم والتدريب — نماذج لنشاط المبادرة (الفردية) والهمم العالية في النفوس، بحيث ترتبط ارتباطًا جوهريًّا بالتجارة ولكنها تؤكِّد مجموعات من صفات المبادرات (الفردية) والهمم العالية (انظر موريس، ١٩٩٠م، حيث يورد تحليلات تفصيلية لهذه التغيرات). ويتجلَّى استمرار تغيير التأكيد المذكور داخل التوجُّه التجاري أيضًا في الخلط غير المتجانس بين معاني المبادرة (الفردية) الذي أشرت إليه في الخطاب الثالث عاليه.
ويوجد تماثُل بين قيام الوزير ينج بإعادة الهيكلة الاستراتيجية للمعنى الكامن «للمبادرة» (الفردية) وإعادة هيكلة نظم الخطاب التي ناقشتها في الفصل الثالث عاليه من حيث نموذج الهيمنة. فالواقع أننا نستطيع فعلًا تفسير النجاح في الظفر بقبول معانٍ محدَّدة للألفاظ، ولهيكلة معيَّنة لمعناها الكامن، باعتباره نجاحًا في تحقيق الهيمنة. ومن ثَمَّ فلنا أن نطلق على النموذج الذي وصفته في بداية هذا القسم «نموذج هيمنة» على معاني الألفاظ، وهو نموذج صالح للتطبيق لا على الخطب السياسية فقط، بل أيضًا في البحث في معاني الألفاظ في التعليم والإعلان، وهلُمَّ جرًّا.
(٨) الصياغة
أنتقل في هذا القسم إلى الجانب الثاني من طبيعة العلاقة بين اللفظ والمعنى القائمة على المقابلة بين الجمع والمفرد؛ أي تعدد أساليب صوغ المعنى في ألفاظ (بالنسبة للصياغة انظر ماي، ١٩٨٥م، ١٦٦–١٦٨، وعن وضع المعنى في ألفاظ انظر هاليداي، ١٩٧٨م، ١٦٤–١٨٢). وقد سبق لي أن ذكرت أن منظور المفردات الذي يركِّز على الصياغة يتناقض مع النظرة القائمة على المعاجم إلى المفردات. فالمعاجم تمثِّل جزءًا من جهاز توحيد وتقنين اللغات (ليث، ١٩٨٣م) وهي ملتزمة دائمًا، إلى حدٍّ ما، بنظرية توحيدية للغة مجتمع من المجتمعات، ومفردات المعاجم مفردات معيارية بصورة مُضمَرة، إن لم تكن أيضًا صريحة، ما دامت تعمد إلى تقديم الصياغات ومعاني الألفاظ السائدة باعتبارها الصياغات والمعاني الوحيدة.
ولكن القول ﺑ «تعدُّد أساليب صوغ المعنى في ألفاظ» مُضلِّل، إذ يوحي بوجود المعاني سلفًا قبل صوغها في ألفاظ بطرائق منوعة وبأن المعاني ثابتة مهما تنوعت الصياغة. وهكذا فمن الأفضل أن نقول بوجود طرائق بديلة في جميع الأحوال ﻟ «الدلالة» (كريستيفا، ١٩٨٦م، ب) – أي لإضفاء المعنى — على مجالات معيَّنة من الخبرة (البشرية) وهو ما يسمح ﺑ «التفسير» بأسلوب معيَّن، ومن منظور محدَّد، نظريًّا كان أو ثقافيًّا أو أيديولوجيًّا. فالمنظورات المختلفة لمجالات الخبرة تستتبع طرائق مختلفة لصوغها في ألفاظ؛ وهذه هي الزاوية التي ينبغي لنا أن ننظر منها إلى الصياغات البديلة، مثل التعبير عن قدوم المهاجرين (إلى بريطانيا) بلفظ مثل «التدفُّق» أو «الفيضان» لا باعتباره «نشدانًا» لحياة جديدة، وإذَن فإن المرء حين يغيِّر الصياغة يغيِّر المعنى في الحقيقة (ولكن أرجو ألَّا ينسى القارئ تحفُّظاتي السابقة على المبالغة في التعبير عن العملية الإيجابية للدلالة على الواقع أو تكوين هذا الواقع بطريقة تتجاهل وجود هذا الواقع سلفًا وقدرته على المقاومة، باعتباره مجالًا سبق تكوينه من «الأشياء» المشار إليها في الخطاب).
- (١)
عقدوا اجتماعات لتشجيع الناس على أن يزدادوا وعيًا بحياتهم.
- (٢)
عقدوا جلسات لرفع مستوى الوعي.
ويؤدي خلق الأبنية اللفظية إلى نقل بعض المنظورات الخاصة بمجالات معيَّنة للخبرة إلى نطاقات معرفية أوسع، قد تكون نظرية أو علمية أو ثقافية أو أيديولوجية، وهي تُولِّد في حالات مثل هذه الحالة فئات ثقافية جديدة مهمة، وربما كانت آثارها ضيِّقة النطاق، إذ يتضمَّن إعلانٌ عن إحدى عيادات جراحات التجميل عددًا من الأبنية اللفظية (مثل «إزالة جيوب العيون»، و«تهذيب الأنف»، و«بسط الغضون»، و«تصحيح الآذان الخفاشية») وهي أبنية ذوات دلالة أيديولوجية، بمعنى أنها تمنح جراحات التجميل مفردات «علمية»، والظهور على الأقل بمظهر العمل في مجال معقَّد؛ ومن ثَمَّ فإنها تزعم ضِمنًا أنها تتمتَّع بالمكانة الرفيعة للعلاج القائم على العلم.
ولننظر في مثال آخَر مُقتطَف من مقال عنوانه «التوتُّر ورجل الأعمال: سيطِرْ على التوتُّر من أجل صحتك» (لوكر وجريجسون، ١٩٨٩م)، وهو مقال يرجع أصداء مذهب الإدارة الجديد الذي يقول: إن مفتاح النجاح في الأعمال التجارية المعاصرة يكمن في جودة القوى العاملة والتزامها (أي الأشخاص باعتبارهم «موارد بشرية» إذا استعرنا ألفاظ المقال نفسها).
(٩) الاستثمار في إدارة التوتُّر
إدارة التوتُّر (أي السيطرة عليه) تيسِّر استخدام المهارات الشخصية الذي يؤدي بدوره إلى تحسين الأداء والتشغيل الفعَّال والإدارة الناجحة لأية منظمة، واستثمار مبلغ صغير في إعداد دورات وبرامج لإدارة التوتُّر كفيل بأن يؤثِّر تأثيرًا كبيرًا في مستوى أرباح المنظَّمة. لا شك في أن أعظم أرصدة المنظمة يتمثَّل في موظفيها، وصحتهم وأداؤهم هو ما نراه في كشوف الحساب في آخِر المطاف. مَن يتحكَّم في التوتُّر، بالصحة والنجاح يظفر.
من الجوانب البارزة للتشكيل التناصي هنا مزج نوعَين (من أنواع الكتابة): نوع المقال العلمي ونوع الإعلان (ويمثِّل الأخير السجع في «الشعار» الختامي)، ولكن قضيتي الرئيسية هي التشكيلة من أنماط الخطاب في النص. فلدَينا أولًا خطاب المحاسبة، وهو الذي يستمد النص منه الإشارة إلى الموظَّفين باعتبارهم «أرصدة» و«موارد». ولدينا ثانيًا التوسع في خطاب إدارة المنظَّمات؛ بحيث يشمل مجال «النفس» الذي يتجلى في تعبير «إدارة التوتُّر». ولدينا ثالثًا خطاب إدارة الأفراد، الذي يضم هو أيضًا تطبيقًا لخطاب تكنولوجيا الآلات على الأشخاص (إذ يحدِّد قيم الأفراد من حيث أداؤهم)، ويتوسَّع في مفهوم المهارات، إذ يجعله يتجاوز استعمالها التقليدي في الإشارة إلى قدرات العمل اليدوي حتى يشمل القدرات غير اليدوية، وإن كانت قدرات خاصة بصورة تقليدية («مهارات شخصية»).
ويمثِّل هذا المقتطف تحوُّلًا مهمًّا يجري الآن في أماكن العمل، وهو تحوُّل يرتبط بالتغير التكنولوجي وأساليب الإدارة الجديدة، إذ إن الخصائص «الشخصية» للموظفين، التي كانت تُعتبَر فيما مضى أمورًا خاصة تقع خارج النطاق المشروع لتدخل أصحاب العمل، يُعاد تعريفها اليوم باعتبارها مما يقع داخل نطاق التدخُّل المذكور. وهكذا أصبحت مشكلات توتُّر العاملين من القضايا التي يَهتم بالنظر فيها — بصورة مشروعة — المسئولون عن شئون الأفراد. وتدل المقتطفات من هذا النوع على المحاولات التي تبذل لتوليد خطاب جديد خاص بمكان العمل وتتجلى فيه القضايا المذكورة، بحيث يستفيد من شتى أنماط الخطاب التي تنتمي تقليديًّا إلى مكان العمل (مثل المحاسبة، وإدارة المنظَّمات، وتكنولوجيا الآلات، وإدارة الأفراد). ويتجلى تشكيل أنماط الخطاب المذكورة في مفردات الحديث عن الموظفين وقدراتهم ومشكلاتهم (الصحية).
ومن المفيد مقارنة صياغة مجالات معيَّنة من منظورات خاصة من حيث الكثافة النسبية، أي من حيث عدد الصياغات المختلفة (بما في ذلك الأبنية اللفظية) التي ولدتها هذه المجالات، والتي يُعتبر عددٌ كبير منها أشباهَ مترادفات، وقد نشر هاليداي بحثًا مهمًّا (عام ١٩٧٨م) يستخدم فيه مصطلح «التكدُّس اللفظي» في الإشارة إلى كثافة الصياغة في مجال من المجالات، وسوف أستخدم أنا مصطلح «التكدُّس الصياغي»، ويُعتبر التكدُّس الصياغي مؤشِّرًا على «الانشغال الشديد»، كما يدل على وجود «خصائص أيديولوجية» معيَّنة في المجموعة المسئولة عنها (فاولر وآخرون، ١٩٧٩م، ٢١٠)، ومن الأمثلة عليه صياغة القدرات اللغوية في تقرير كنجمان عام ١٩٨٨م عن تعليم اللغة الإنجليزية في المدارس البريطانية (وزارة التعليم والعلوم ١٩٨٨م). فمن بين الصياغات نجد «المقدرة»، و«الفعالية»، و«الإجادة»، و«السهولة»، و«الخبرة»، و«المهارة»، ويبدو أن هذا التكدُّس الصياغي يرتبط بانشغال التقرير برسم صوة أيديولوجية للغة باعتبارها مجموعة من المهارات التقنية المحدَّدة التي يمكن تعليمها، ويمكن اكتساب المعرفة بها بأسلوب النماذج، وهذه نظرة إلى اللغة تؤكِّد الإنتاج التقليدي المناسب، وتفسير الجوانب الفكرية للمعنى (انظر فيركلف وإيفانيتش، ١٩٨٩م).
منتج الإعداد المهني عادةً ما يكون برنامجًا، ومن ثَمَّ فإن تصميمه وتنفيذه من العناصر الرئيسية لعملية التسويق، وينبغي أن يبدأ انطلاقه مِن حاجات مَن يمكن أن يُصبحوا زبائن وعملاء ومن الفوائد التي ينشدونها.
تسير إعادة الصياغة هنا جنبًا إلى جنب مع إعادة الهيكلة الدلالية التي ناقشتها في القسم السابق، وانظر كيف يحل «التصميم» بصراحة في مرتبة ثانوية بعد «التسويق» في الجملة الثانية، الذي يُعتبر جانبًا من عملية تتضمَّن مفهوم «تصميم برنامج التدريب» وتُدرجه في معنًى أعمَّ ويرتكز إلى قاعدة تجارية للتصميم.
(١٠) الاستعارة
النظرة التقليدية إلى الاستعارة تعتبرها مَعْلمًا من معالم اللغة الأدبية، ولغة الشعر بصفة خاصة، ولا تراها مناسبة لأنواع اللغة الأخرى، ولكن الدراسات الحديثة للاستعارة (بمعنى لغة المجاز عمومًا) تُقيم حُججًا قوية على خطأ هذا التصوُّر (ليكوف وجونسون ١٩٨٠م)، فلغة المجاز مُتغلغِلة في جميع أنواع اللغة، وجميع أنواع الخطاب، حتى في الحالات التي لا تبشِّر إطلاقًا بذلك، مثل ضروب الخطاب العلمي والتقني، أضِف إلى ذلك أن العبارات المجازية ليست مجرَّد زخرفات أسلوبية سطحية للخطاب، إذ إننا حين نختار الدلالة على أمور معيَّنة بتعبير مجازي معيَّن دون غيره، فإننا نبني واقعنا بطريقة معيَّنة دون سواها، وهكذا فإن لغة المجاز تبني الطريقة التي نفكِّر بها والطريقة التي نتصرَّف بها، ونظُم معارفنا ومعتقداتنا، وذلك بأشكال عميقة وأساسية.
وتُعتبر طريقة التعبير المجازي عن مجال معيَّن من مجالات الخبرة قضية من القضايا المتنازع عليها داخل الممارسات الخطابية وحولها، إذ نجد على سبيل المثال أن بعض العاملين في مجال التعليم العالي يُعارضون معارضة شديدة التعابير الاستعارية المستمدة من السلع والاستهلاك (كالقول بأن «المواد الدراسية لا بد من إعدادها في صورة حزم متكاملة؛ بحيث تصبح وحدات يريد المستهلكون شراءها») وكان من بين جوانب التغيُّر الخطابي جانبٌ ترتبَّت عليه نتائج ثقافية واجتماعية مهمة، وهو التغير في التصوير المجازي للواقع، فإذا أردنا متابعة هذا المثال قلنا: إن التشكيل المجازي للتعليم وغيره من الخدمات في صورة الأسواق يُعتبر عنصرًا قويًّا من عناصر التحوُّل لا في الخطاب وحسب، بل أيضًا في التفكير وفي الممارسة في هذه المجالات (انظر ما يلي).
- (١) كانت قضية الدفاع المحور الرئيسي لهجومها على حزب العمال وزعيمه نيل كينوك (هيئة الإذاعة البريطانية، القناة الأولى، ٢٦ مايو).
- (٢) بدأ الليلة في جنوب ويلز الهجوم المضاد الذي شنَّته السيدة ثاتشر (هيئة الإذاعة البريطانية، القناة الأولى، ٢٦ مايو).
- (٣) كان هجوم السيدة ثاتشر جزءًا من جهد حزب المحافظين على جبهتَين لإيقاف تقدُّم حزب العمال (هيئة الإذاعة البريطانية، القناة الثانية، ٢٦ مايو).
- (٤) قام حزب العمال بالدفاع دفاعًا مستميتًا عن موقفه رغم انهزامه يوم أمس (صحيفة فاينانشال تايمز، ٢٧ مايو).
- (٥) كانت حركة الكماشة التي قام بها حزب المحافظين وحلفاؤه ضد حزب العمال تتضمَّن هجمة شرسة من جانب ديفيد أوين (صحيفة ذا إندبندنت، ٢٦ مايو).
والقضية تقدِّم بطبيعة الحال استعارة حربية جاهزة إلى أجهزة الإعلام، ومن الآثار العملية لها، كما يبيِّن المؤلِّفون، أنْ أصبحَ من بالِغ الصعوبة على حزب العمال أو أي حزب آخَر أن يدعو في أجهزة الإعلام إلى سياسة دفاعية مبنية على غير تلك النظرة التصادمية الفظَّة للعلاقات الدولية (المصوغة في صورة «التصدي للبلطجية»، والردع، وما إلى ذلك بسبيل؛ انظر أدناه).
أضِف إلى ذلك أن الحملات الانتخابية لا تجري في الواقع على شكل مواجهات مباشرة أو تبادُل الحُجج بين الخصمَين وجهًا لوجه، فما تلك إلا الصورة التي تبنيها أجهزة الإعلام، إذ تقوم هذه الأجهزة باختيار المادة وتنظيمها وتمثيلها، بحيث تختزل التعقيد والتشويش في الحملة وتنسقها في حجة جاهزة أو منازلة منتظمة تتتابع فيها الضربات والضربات المضادة. ومن ثَمَّ تبرز صورة هذا التراشق باعتباره واقعًا يقتصر دور أجهزة الإعلام على نقله، بحيث تُخفي آثار الجهود التي بذلتها أجهزة الإعلام نفسها في بناء ذلك الواقع. ومن الآثار العملية الأخرى أن التغطية الإعلامية نفسها تشكِّلها الاستعارة المذكورة، إذ نجد على سبيل المثال نسقًا للتناوب في كل يوم بين «الهجمات» التي يشنها أحد الأحزاب و«الهجمات المضادة» التي يشنها حزب آخَر، بل إن الأحزاب السياسية تكيف حملاتها حتى تتفق مع «الواقع» التي تبرزه صورتها في أجهزة الإعلام. فإذا صورت هذه الأجهزة أحد الأحزاب في صورة مَن سدَّد «ضربة» قوية يومًا ما، شعر الحزب الآخَر بضرورة إعداد مادة لتقديمها في مؤتمرات صحفية أو خطب معيَّنة، إذا كان المستشارون الإعلاميون يرون أن هذه المادة يسهل تصويرها في صورة «ضربة مضادة». وهكذا، وباختصار، نجد أن للاستعارة آثارًا في تغطية الحملة، وفي الحملة نفسها.
ويشير جارتون ومونتجومري وتولسون (١٩٨٨م) أيضًا إلى القوة الأيديولوجية ﻟ «السيناريو» في تغطية قضية الدفاع في انتخابات عام ١٩٨٧م، وهم يستخدمون مصطلح «نص التمثيل» الموازي عند غيرهم لمصطلح «القصة»، في الدلالة على السيناريوهات النمطية وسلاسل الأحداث المرتبطة بها، وهي التي تمثِّل جانبًا من «المنطق السليم» ذي الجذور العميقة في ثقافة من الثقافات، والكثير من السيناريوهات تستند إلى قاعدة استعارية، إذ يناقش شيلتون (١٩٨٨م، ٦٤) على سبيل المثال كُتيِّبًا أصدرته وزارة الدفاع البريطانية لإقناع الناس بضرورة زيادة الأسلحة النووية البريطانية:
(١١) كيف تتعامل مع بلطجي
اضطُر العديد مِنَّا للتصدي إلى أحد البلطجية في مرحلةٍ ما من مراحل حياتنا، والإجابة الوحيدة أن تقول له «ابتعد عني وإلا سوف تأسف»، وأن تملك القوة القادرة على إثبات صحة كلامك.
وهنا نجد أن ما يسميه شيلتون سيناريو البلطجة (بمعنى أن «البلطجي دائمًا ما يهاجم مَن هم أضعف منه، ولذلك فالطريقة الوحيدة لتجنُّب مهاجمتك هي أن تبدو قويًّا») يستخدم للتعبير الاستعاري عن العلاقات الدولية في صورة علاقات بين الأفراد، والنمط الأولى للبلطجة بالمعنى المقصود هو ما يسود بين تلاميذ المدارس (حيث يفرض الأضخم حجمًا سيطرته على مَن هم أضعف منه). ويبيِّن جارتون ومونتجومري وتولسون (١٩٨٨م) أن هذا السيناريو وغيره يمثِّل الطرائق التي استخدمتها أجهزة الإعلام في تحويل أحد التصريحات الرئيسية التي أدلى بها نيل كينوك، زعيم حزب العمال، إلى (استعارة حربية) وبناء هذه الاستعارة إعلاميًّا.
وطرائق التصوير المجازي للأحداث التي تخلُّ بالتوازن الاجتماعي النسبي (مثل الحروب والأوبئة والكوارث البيئية غيرها) في أجهزة الإعلام وفي غيرها تعيننا على أن ننظر نظرة ثاقبة في قِيَم إحدى الثقافات ومشاغلها، فعلى سبيل المثال بحثت سونتاج (١٩٨٨م) الصور المجازية لمرض الإيدز (نقص المناعة المكتسب). وهي تقول: إن الصورة المجازية الرئيسية للمرض هي صورة «الطاعون»، فالإيدز مثل الطاعون مصدره أجنبي، ويرتبط في أصوله بالأجانب، إذ يُعتبر أنه نبعَ في أفريقيا، وتحيطه هالة عنصرية الروابط النمطية بين السود وبين «الطابع الحيواني والانحلال الجنسي». وترتبط استعارة الطاعون أيضًا باستعارة حربية: فمرض الإيدز يمثِّل غزوًا وهو غزو، بمزيد من التحديد، قام به العالم الثالث لأوروبا وأمريكا، وتفسير الإيدز يشبه تفسير الطاعون في كونه يمثِّل «حُكمًا على أحد المجتمعات» بسبب التسيُّب الأخلاقي، وتضيف قائلة: إن البعض يستخدم مرض الإيدز بصورة سياسية، وأسلوب ينمُّ عن كراهية الميول الجنسية المثلية، بقصد قهر «مجتمع الإباحة»، ولكن هذه الاستعارة تتسم بجوانب متناقضة وإشكالية، إذ لا يتمتع أحد بالحصانة من الطاعون أو الإيدز، ومع ذلك فإن هذا التعميم يعرض للخطر البناء الأيديولوجي المهم للإيدز باعتباره مرض «الآخَر»، بمعنى أن مرضهم يشكِّل تهديدًا لنا «نحن».
الخاتمة
بهذا أختتم مناقشة الخصائص التحليلية للنصوص التي شغلت الفصلين الخامس والسادس. وسوف أضم الموضوعات التي ناقشتها بعضها إلى بعض في الفصل الثامن بصورة مختصرة باعتبارها جزءًا من الخطوط الإرشادية اللازمة لتحليل الخطاب، ومن المناسب أن أذكِّر القرَّاء هنا بالإطار الثلاثي الأبعاد لتحليل الخطاب الذي قدمته في الفصل الثالث، والأبعاد هي: تحليل الخطاب باعتباره نصًّا، وباعتباره ممارسة خطابية، وباعتباره ممارسة اجتماعية، حتى أؤكِّد أن تحليل النص ليس مما ينبغي عزله عن سواه. فمن اليسير أن ينغمس المرء انغماسًا شديدًا في تعقيدات النصوص إلى الحدِّ الذي يجعله يرى أن تحليل النص غاية حميدة في ذاتها. ولا شك في وجود بعض أشكال تحليل الخطاب التي تنحو هذا المنحى، مثل الأشكال التي كان يعنيها بورديو عندما وصف تحليل الخطاب بأنه «انتكس فاتخذ أشكالًا للتحليل الداخلي التي يتعذَّر الدفاع عنها» (١٩٨٨م، ١٧)، فعلى العكس من ذلك أريد أن أؤكِّد أن التحليل لا يمكن أن يتكوَّن فحسب من وصف النصوص بمعزل عن تفسيرها (وقد سبق لي أن ميَّزتُ بين هذه المصطلحات عاليه)، وهكذا فإنني دأبت على تفسير النصوص الموصوفة في هذا الفصل والفصل السابق. وللتفسير ضرورة على مستويين: أحدهما محاولة تفهُّم معالم أحد النصوص باعتبارها عناصر في ممارسة خطابية، وخصوصًا باعتبارها «آثارًا» لعمليات إنتاج النصوص (بما في ذلك الجمع بين العناصر والأعراف غير المتجانسة الخاصة بالتناص والتداخل الخطابي) وباعتبارها أيضًا «مفاتيح» في عمليات تفسير النصوص. ويتشابه هنا وصفي لما يفعله المحلِّل، ووصفي في الفصل الثالث لما يفعله مفسِّرو النصوص، إذ إن المحلِّلين يحتاجون أيضًا إلى الموارد التي يتمتعون بها باعتبارهم أفرادًا ذوي كفاءة في مجتمعاتهم، حتى ولو استخدموا هذه الموارد بانتظام أكبر، وأما المستوى الآخَر للتفسير فهو محاولة فهم معالم أحد النصوص وتفسير المرء لكيفية إنتاجها وتفسيرها، من خلال اعتبارها جوانب دفينة في ممارسة اجتماعية أوسع نطاقًا. وكنت في عمل سابق لي قد ميزت بين هذين المستويين للتفسير بالإشارة إلى الأول بمصطلح «التفسير» فقط، وإلى المستوى الثاني بمصطلح «الشرح» (فيركلف، ١٩٨٩م، أ، ١٤٠–١٤١).
ليس الوصف مُنفصِلًا عن التفسير على نحو ما يُفترض في حالات كثيرة، فالمرء باعتباره محلِّلًا (وباعتباره مفسِّرًا عاديًّا للنصوص) يقوم بالتفسير حتمًا طول الوقت، ولا توجد مرحلة من مراحل التحليل تُعتبر وصفًا محضًا. ومن ثَمَّ فإن تحليل المرء لنص من النصوص يتشكَّل ويتلوَّن بتفسيره لعلاقته بالعمليات الخطابية والعمليات الاجتماعية الأوسع نطاقًا، بل إن نسخ نص منطوق يتضمَّن حتمًا التركيز على تفسير له (انظر الحديث عن النسخ في الفصل الأخير) واختيار المرء ما يصفه يعتمد على ما انتهى إليه من قبل من تفسير، وبالإضافة إلى ذلك فإن ما أسميه المعالم التحليلية للنص تتسم في حالات كثيرة بامتزاج شديد بينها وبين التفسير، فعلى سبيل المثال سوف تجد أن أنساق التلازم اللفظي في النصوص التي حللتها في إطار تحليل التماسك النصي ليست أنساقًا موجودة وجودًا موضوعيًّا في النص، بل هي، إن صح هذا التعبير، أنساق «وُضعت» في النص نتيجة تفسير المرء له. وهكذا فإن الأمر لا يقتصر على أن الوصف والتفسير يلزم كل منهما للآخَر، بل إنهما أيضًا يمتزجان ويختلط أحدهما بالآخَر.
ويتشابه المحلِّل والمشارك في جوانب أخرى، فالتحليل يؤدي إلى إنتاج نصوص يجرى توزيعها واستهلاكها اجتماعيًّا مثل غيرها من النصوص، وخطاب التحليل — مثل أي خطاب آخَر — يمثِّل شكلًا من أشكال الممارسة الاجتماعية: فله علاقة جدلية بالأبنية الاجتماعية، وله موقعه الذي تحدِّده علاقته بالصراع الاجتماعي، وهو يقبل الاصطباغ بصبغة أيديولوجية وسياسية، فالمحلِّلون ليسوا فوق الممارسة الاجتماعية التي يحلِّلونها بل إنهم في داخلها. ومن ثَمَّ فللمرء أن يتوقع أن يتسموا بأقصى قَدْر ممكن من الوعي الذاتي إزاء الموارد التي ينهلون منها في تفسير الخطاب، وإزاء طبيعة الممارسة الاجتماعية للتحليل نفسه، أي بالأبنية التي تتحكَّم فيها، وتوجهها إلى مواقع الصراع، ونتائج هذا التوجُّه وآثاره في ضروب الصراع والأبنية.