سهرة في قهوة الجامع
صديقي الأستاذ أحمد الزين
تحيتي إليك من هذه الديار التي طالما تشوقت إليها، وحننت إلى ربوعها العامرة، وقرأت أخبارها فيما تُرجم عن حياتها إلى اللغة العربية.
وبعدُ فقد كنت سألتني أن أكتب إليك، ووعدتك مخلصًا بذلك، وهأنا أفي بالوعد، فسامحني أولًا أن لم أقل «هأنذا» فإنها ثقيلة ولم يلتزمها إلا المتكلفون، وأنت تعرف إلى أي حد يُملُّني التكلف؛ ويثقل عليّ التزام ما لا يلزم في الكتابة وفي الحديث.
لقد ذكرتك يا صديقي؛ ولكن حاشا أن يمر ببالك قول عنترة العبسي
لا تذكر هذا لأنك تعرف أولًا أن الله كتب علينا أن نعيش في سلام هو شر من الحرب، فلا رماح ولا سيوف، وتعرف ثانيًا أنه ليس فيك أي سمة من سمات الملاحة حتى نذكر بسماتك العذاب، وهذا لا يجرحك بالطبع، لأنه ما حاجتك إلى الجمال وقد وقفت حياتك على مغازلة الصحف البالية في دار الكتب المصرية. إنما يحتاج إلى الجمال أديب متأنق تقضي عليه تكاليف الحياة بأن يلتقط الأسرار في صالات الرقص وأبهاء الوزراء، أمثال فلان وفلان، وقد أراحك الله من كل ذلك، فاحمده حمد المخلصين على أن منحك فقط بنية متواضعة وذهنًا ثاقبًا، ولسانًا فصيحًا يصل بك إلى ما تريد، أو بعض ما تريد، في عصر لا تغني فيه بلاغة القلم ولا فصاحة اللسان.
لقد كنت نسيتك يا صديقي، ولم يذكرني بك إلا قهوة الجامع في باريس، فقد سافر خاطري إلى قهوة الحلمية الجديدة بالقاهرة، حيث تقضي سهراتك في صحبة أصدقائنا الأساتذة محمد الهراوي وحسن القاياتي وكامل كيلاني ومحمد عبد المطلب. وحيث تشربون ما لذ وطاب من قهوة أبي الفضل لا قهوة أبي نواس. وأنا لا أتهمكم يا صديقي بأنكم تؤثرون قهوة أبي الفضل لأنها رخيصة، كلا، معاذ الله أن يمر بخاطري ذلك، فأنا أعرف أنك لا تعاقر الراح لأنها لا تتناسب على الأقل مع رجل معمم يحمل إجازة الأزهر الشريف، وصديقنا الهراوي رجل محتشم أشد الاحتشام، والسيد حسن القاياتي من سلالة أبي هريرة رضي الله عنه! وأخونا كامل كيلاني مشغول بتدبير صحته؛ وهو عافاه الله مهدم لا يخاطر بحياته في منازلة الصهباء. يبقى الشيخ عبد المطلب وهو رجل لو رأته الكأس لولت هاربة إلى حيث لا تعود، فليس منها وليست منه، مهما حشر نفسه في زمرة الشعراء! وبهذه المناسبة تستطيع أن تطمئن على أخيك من هذه الناحية، فأنا أيضًا لا أشرب الراح، أو على الأصح لا أشربها ألا مُشعشعة مقتولة لا ترخي المفصل، ولا تزيغ البصر، ولا يسري روحها إلى قرارة الأسرار وليس لي منها — يعلم الله — صبوح ولا غبوق ألا حين أبكي عهدًا سلف، أو أطرب إلى عهد مأمول. وقد صحا القلب، والحمد لله، فلم تبق داعية إلى معاقرة الشراب، وتذكر الأحباب. وأغرب ما يمر بخاطري في هذه اللحظة حديث الشيخ يوسف الدجوي حين كان يقول في دروسه بالأزهر إنه لا يشرب إلا الماء، ويعلق على ذلك بقوله: والماء مع هذا شراب الحمير! وكنت إذ ذاك أعجب كيف يتحسر مثل هذا العارف بالله على أن لم يرزق من الشراب إلا ما يشاركه فيه الحمير. ثم عرفت بعد ذلك أن الكلام قديم، وأنه يرجع إلى الأخطل الشاعر النصراني المعروف. وهذا الكلام له معناه على كل حال، فأكثر الناس يتنسكون كارهين، ولا يعزيهم إلا ما يرجون أن سيكون من الحريق المختوم في دار النعيم. والرحيق المختوم سر لا يعلمه إلا الله، فقد كان أو نواس يصف قهوته بأنه ختم عليها من عهد نوح. وستعرف بعد عمر طويل إن كان مصيرك إلى الجنة كيف يقول شعراؤها في ذلك الختم الذي ورد ذكره في القرآن الشريف، على أنه سيكون هناك أيضًا رحيق غير مختوم، ستكون هناك أنهار كاملة من عتيق الشراب؛ وستنسى يا سيد أحمد تلك القهوة السوداء التي تتصبح بها كل يوم في دار الكتب المصرية، والتي يلقانا بوجهها البُني القاتم صديقنا الأستاذ أحمد زكي العدوي كلما زرناه في مكتبه، حتى كدنا ننقطع عن زيارته فرارًا من وجهها الآدم المحبوب!
والدور الذي مطلعه «على روحي أنا الجاني»، والدور الذي فيه «امتى أشوف أنس الجميل» وقد طربت إلى هذه الأغاني حتى كدت أقترح عليهم أن يغنوني «صيد العصاري يا سمك» أو «يا نخلتين في العلالي يا بلحهم دوا»، أو «الفؤاد ناوي ونادر، إن جفاك ما عاد يعود لك» لولا أن صديقًا أفهمني أن مثل هذا الاقتراح له ثمن في مثل هذه القهوة، وأنا كما تعلم فقير أو بخيل!
وبهذه المناسبة أرى من واجبي أن ألومكم على التهاون في الأنس بالموسيقى، فأنا لا أذكر أني رأيتك مرة في حفلة غناء تهز رأسك وتقول: الله! الله! ولم أر الهراوي أيضًا يطرب لمثل ذلك، ولعله يتوقر عن تشجيع الغناء، وإن كان يشجع الكتاب والمؤلفين، والسيد حسن القاياتي يجلس دائمًا في ركن مظلم إن ذهب إلى حفلة ساهرة، وأخونا كامل ترك تقاليده الجميلة حين كان يفتش عنا بحماسة لا حد لها لنسمع معه أغاني الآنسة ملك أو عبد اللطيف البنا أو صالح عبد الحي. والشيخ عبد المطلب لا يطربه المغني إلا إن رفع عقيرته وصاح:
وانصرافكم عن الموسيقى والغناء هو سبب تخلفكم في الشعر فقد أصبحت شياطينكم مستأنسة لا تفزع إلى واديها الأول وادي الجن وادي عبقر الذي نسبت إليه العبقرية، كما أن السر في نبوغ شوقي هو تهالكه الفاضح على الموسيقى والغناء، ولولا السهرات الطروبة المجنونة التي يقضيها شوقي في بيئات اللهو والطرب والتمثيل والغناء لمات شيطانه منذ أزمان! وقد كانت تكونت في مصر عصابة لقتل شوقي، وأعدت لذلك «نبوتا» غليظًا اسمه الديوان، ومع ذلك مات الديوان وانهزمت العصابة وبقي شوقي يطغى كالحية النضناض. إني لألومكم على ترك الموسيقى لومًا عنيفًا، ولا ألوم نفسي لأني تركت الشعر وتركت معه عالم الأحلام. وصناعتي الآن كما تعرف: مؤلف كتب، ومنشئ مقالات، ومدرس، وهي أثافٍ ثلاث. والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل!
وينجذب الناس إلى قهوة الجامع في باريس لعدة أسباب: منها القهوة التركية البديعة التي تنقلك إلى عالم غير عالمك في لطف ساحر أخاذ، ومنها الشاي المنعنع الطريف الذي يذكر بقول السيد عبد العظيم القاياتي:
ومنها النساء الجميلات اللائي يطفن بأركان القهوة بعد العشاء فيسحرن السامرين. وأكثر هؤلاء الجميلات يردن من ألمانيا والنمسا وأمريكا في طلب الحب والغرام. وهن يذكرنني بموسم السياحة في مصر حين تهب أرواح الشتاء، وموسم السياحة في مصر شيء لا تعرفه يا سيد أحمد ولا يعرفه أحد من زوار قهوة الحلمية، هو موسم بديع تُجْلب فيه إلى مصر عرائس العالم القديم والجديد، ومن الفرض الواجب على كل غانية مُترفة أفاض الله عليها من نعمة المال والجمال أن تزور مصر في الشتاء التماسًا لبركات سيدي (أبي الهول) صاحب الأنف المجدوع! ولا تكون السيدة أنيقة حقًّا حتى تستطيع أن تقول وهي تحاور أترابها الساحرات: «حينما جلست في سفح الهرم أمام أبي الهول» أو «حينما ركبت الجمل وطفت حول الأهرام» أو «حينما ركبت الحمار وتوجهت إلى مقبرة توت عنخ أمون» إلخ، إلخ. والسيدة التي لم تمكنها ظروف الحياة من التحدث بمثل ذلك تتوارى خجلًا وحياء إذا خاض النساء في حديث مصر وما فيها من عجائب وغرائب. موسم السياحة هذا يا صديقي فرصة عظيمة للشبان المصريين يعرفون به طرائف الحسن المجلوب من وراء البحار، ويقضون بسببه ليالي سعيدة لم يشهد مثلها خوفو ولا عمرو بن العاص. وأخوك يعرف هذا الموسم معرفة جيدة، وليس معنى ذلك أن لي فيه حوادث وتجارب سعيدة أو شقية، كلا، فأنت تعرف أن حملي ثقيل، وأن أعمالي لا تمكنني من اقتناص أمثال هذه الفُرص الشوارد، وقد يمضي العام ولا أعرف كيف طعم السهر في مغاني القاهرة، ولكن عندي في هذا الموضوع كتاب معتبر خط يد اسمه «منحة الفتاح، في حوادث السواح» وهو كتاب ممتع لم يدع صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها من حوادث السائحين والسائحات، وما يقع للشبان المصريين مع الأمريكيات والألمانيات. وفي النية طبعه ونشره تعميمًا للفائدة، وإن كنت أخشى أن يصرف الطلبة عن الاستعداد للامتحانات، وتنظيم المظاهرات، ومصر الآن في دور جدي خطير من حياتها السياسية والدستورية والاجتماعية. على أنه لا مانع على كل حال أن يأخذوا من كل شيء بطرف، مجاراة لأمثالهم في الأمم الحية المستقلة، ونحن بحمد الله أحياء ومستقلون. أليس كذلك؟!
•••
كل ما في قهوة الجامع جميل ولا عيب فيها إلا أن اسمها قهوة الجامع، وأنها بالفعل في جناح من مباني الجامع. فإذا ركب إنسان سيارة وقال: إلى الجامع، فإن السائق لا يمضي به إلا إلى القهوة، وأكثر السائحين والسائحات لا يفرقون بين الجامع والقهوة، حتى لأخشى أن يظن أكثرهم أنه هكذا تكون مساجد المسلمين، وفي هذا عار وخزي يندى له جبين الرجل الغيور. فما الذي يضر الجماعة الذين يديرون شئون الجامع لو نقلوا هذه القهوة إلى نقطة بعيدة عنه إن كان لا بد لهم من قهوة عربية في باريس؟!
ومع هذا نجد للعشاق حركات وإشارات ينفر منها الذوق، ويمجها الطبع، ولا تجمل مطلقا بمحل يتصل ببيت من بيوت الله.
إن باريس تحتمل كل شيء، وأهلها لا يخجلون من شيء، ولكني لا أحسبهم مع ذلك يفهمون أن من السائغ المقبول أن تتصل بأماكن العبادة أجنحة دنيوية خَطِرَة يجري فيها اللهو واللعب، مهما قيل إن الغرض منها شريف، وإنه لا يقع فيها إلا اللهو المباح …
لقد كنت أصلي في المسجد ثم أنتقل إلى القهوة متمثلًا بقول الشاعر:
وبعد فإني أرجو أن يقع خطابي من نفسك موقع القبول، وأن تبلغ تحياتي إلى صديقنا عبد الله حبيب وسائر زملائك الفضلاء. والسلام.