الحديث ذو شجون
وردت هذه الكلمة الجامعة في القرآن المجيد، ولرجال الدين فيها تأويلات طريفة، فقد سئل بعضهم كيف يصح أن يكون القرآن لم يفرط في شيء وهو لم يتكلم عن الأسلاك البرقية وخطوط سكة الحديد؟ فأجاب: لقد أشار الكتاب العزيز إلى كل ذلك بقوله وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
ولقد مر بالخاطر هذا التأويل حين قرأت ما كان بين معالي وزير الأوقاف ودولة النحاس باشا، فقد استطاع الإمام أن يقرأ على المصلين: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ * عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ * أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ * كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب.
والشيخ الكارم حين تخير هذه الآيات كان يرمي بالطبع إلى أن القرآن لم يفرط في شيء، حتى الرد على وزير الأوقاف!
غير أنه من المستظرف أن نشير إلى أن الآيات القرآنية لها مع حلمي باشا عيسى تاريخ عجيب: فقد كان وزيرًا للمواصلات في إحدى الوزارات السابقة، وماتت قرينة الأستاذ الشيخ شاكر، فذهب الوزير للتعزية، ولكنه لم يكد يطأ أرض السرادق حتى صاح القارئ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا فقال بعض الحاضرين: شكر الله سعيك يا وزير المواصلات!
شيء ثقيل
وبمناسبة صلاة النحاس باشا نرجح أن ستفكر بعض الدوائر الوزارية في مسابقة المصلين. وعلى ذلك ينتظر أن يتكرر الدرس الذي أخذه رشدي باشا عن سعد باشا، رحمة الله على الجميع!
وتفصيل ذلك أن السلطان فؤاد (جلالة الملك) لما تولى السلطنة في أيام الحرب أخذ يصلي الجمعة بمواظبة في مساجد القاهرة، وكان من المفروض أن يصحبه رئيس الوزراء ووكيل الجمعية التشريعية، وهناك اضطرب رشدي باشا لأنه كان قليل العلم بأركان الصلاة، فلما التقى مع سعد باشا قال له:
«الحقني يا سعد، الله يسترك، أنت يا حبيبي كنت في الأزهر وصليت على الأقل مليون صلاة، وما أظن أنك نسيت، فما رأيك فيمن يريد أن يتتلمذ لك حتى يتعلم فروض الصلاة؟»
وكانت ضحكات وفكاهات، فقد أخذ سعد باشا يعلم زميله الفاتحة والتحيات، ولكن ذلك لم ينفع، لضعف ذاكرة رشدي باشا، ولصعوبة الموضوع!
وأخيرًا قال سعد باشا لزميله: ما عليك، أنت ستصلي بجواري وتصنع كما أصنع، وهذه كل الحكاية.
وقد ذهبوا بالفعل للصلاة، غير أنه لسوء الحظ كان الأمام يطيل الركوع والسجود، فقال رشدي باشا بالفرنسية وهو ساجد: شيء ثقيل!
وفي ذلك الحادث الطريف قال حافظ بك إبراهيم:
والإشارة في البيت الأخير إلى اللورد اللنبي … وستبقى المشكلة على ما كنت عليه، ففي الوزراء من نسي تقاليد الصلاة، ومنهم من لا تخطر له في بال إلا أن قرأ أن مظاهرة قامت بعد صلاة الجمعة في حي سيدنا الحسين!
لوعة السباعي
للأستاذ محمد السباعي فضل كبير على أكثر أدباء اللغة العربية، وترجمته لكتاب الأبطال كانت ولا تزال من أبدع ما تزدان به مكاتب المتأدبين، ولا أدري لم لا يطبع ذلك الكتاب طبعًا يتناسب مع ما يستحقه من الخطر والجلال.
ناشدتكم الله يا أهل هذا الجيل إذا وقعت كلمتي هذه في أيديكم مصادفة فلا تهزءوا بها، ولا تسخروا منها، ولا تتهموني بأني اشتكي آفة موهومة ونكبة خيالية، محتجين بأن العواطف من كواذب الإحساسات، وأن آلام الحب أوهام وأحلام، وأن التعقل والتروي خير ملكات النفس وأصح وظائفها، وأنه لا حقائق في هذه الحياة إلا البورصة والسمسرة والبنك والأسهم والسياسة والنقابات ومائدة الطعام ومائدة القمار وصحة البدن وقوة العضلات، الخ.
المسألة إذن جدّ في جدّ، والأستاذ السباعي في خطر، ولكن كيف السبيل إلى إنقاذه وشباب هذا الجيل لا يكاد أحدهم يظفر بقطعة حب حتى يأخذها ويجري إلى السطوح!
أيتها المحاولة ستر جمالك! حرمتنا سورة الحسن منظومة في صحيفة محياك فقرأناها في صحيفة الطبيعة منثورة، فأنت لم تحتجبي ما دمنا نراك في الصباح المنير، والجدول النمير، فهلا منعت النجم لمعانه، والبرق سريانه، والنهر جريانه، والطير ألحانه؟
الحمد لله! الآن اطمأننت على الأستاذ السباعي، فلا شقاء ولا عناء، وقديمًا علل نفسه بمثل ذلك من قال:
وقد مرت بي أزمات تشبه أزمات الأستاذ السباعي، وسأجتهد في الاكتفاء بنور الصباح، ولمعان النجم، وسريان البرق. ولكن، وا أسفاه! أنا أعيش الآن في بلاد لا يُرى فيها شمس، ولا قمر، ولا نجم، ولا برق. فكيف العزاء؟
أتريد الحق يا سيد سباعي؟ العشق نعيم على أن تكون لك حبيبة كتلك التي زعمت أنها تزورك سرًّا في بعض الأحايين، أما الطواف بالديار، وتقبيل الآثار، فهو في عالم الحب يشبه أزمة القطن في عالم الاقتصاد، فما أحوجك إذن إلى صدقي باشا جديد!
تزوج يا مسيو راسين
الحمد لله على تقطع أسباب الأمل، هذا الغدر والغش والخيانة هو قصارى حظ الإنسان من المرأة التي يهوى … هذه عكارة الكأس بعد رشفك رحيقها … هذا هو الشمع الذي تنتهي إليه بعد أخذك العسل من قرص الخلية، هذه جيفة الحب القذرة.
وقد ذكرتنا هذه الكلمة ما كان من شأن راسين الشاعر الفرنسي، فقد كان المعروف أنه ترك التأليف المسرحي غضبًا من تحامل النقاد على رواية فيدر، ثم ظهر بعد البحث أنه كان يتهيأ في سريرة نفسه للرجوع إلى الحياة الدينية، فقد كان له رؤساء روحيون يكرهون التمثيل والممثلين، وقد صبر على مغاضبتهم له طوال أيام الشباب، فلما أخذ عوده في الذبول فكر في هجر التأليف المسرحي والرجوع إلى حظيرة الكنيسة. وكذلك ذهب إلى رئيسه الروحي يطلب إليه أن يُعده لحياة الرهبان. ولكن رئيسه كان يعرفه كما يعرف نفسه، وكان يقدر أنه سيظل طوعًا أو كرهًا زير نساء، وأنه لن يتوب عن جولاته في ميادين باريس، وإذ ذاك قال له: خير من هذا كله أن تتزوج يا مسيو راسين!
فما رأي الأستاذ السباعي فيمن يطلب إليه أن يكتب مقالًا عنوانه: تزوج يا مسيو راسين!