جواب الأستاذ السباعي
إلى الأستاذ النابغة الدكتور زكي مبارك
قرأت بمزيد الشكر والإعجاب كملتك التي دبجتْها عني يراعتك الرشيقة، فطرحت عن كاهلي عبأ من الهم ما كان لشيء خلافها أن يريحني من فادحه، وأطفأت عن كبدي شُواظًا من الكمد ما كان لغيرها أن يجيرني من قادحه، ولا عجب يا سيدي، فكثيرًا ما كنت أشعر أثناء قراءتي بدائع مُلَحك ونفائسك بائتلاف بين طبعك وطبعي، وامتزاج بين روحي وروحك، ولقد طالما وددت لو التقيت بك فتحادثنا وتسامرنا، ولكن قضى الله ألا يحصل التعارف بيننا إلا ونحن على طرفي الكرة الأرضية وبيننا المهامه البيد والآكام، والتنائف الفِيح والآجام، وسهول ووديان، وبحار وخلجان، وألّا يصلك صوتي أو يصلني صوتك إلا بعد أن يجوب شطري قارتين، ويقطع دفتي عالمين، ويمر بالجم العديد من أجناس الناس وصنوف البشر وشتى المدنيات واللغات والثقافات، فحيا الله رسالتك تلك الزكية المباركة التي
سيدي! لقد مضى عليَّ شهور وأيام، بل دهور وأعوام، وأنا أبكي مصاب الإنسانية في مصابي، وأندب ما بها من كوارث المحن وما بي، وأضج لوعة وأنينًا، وأنتحب حرقة وحنينًا، وتارة أُرغي وأزبد، وأبرق وأرعد، حتى يخيل إلي أن أعين النجوم ترنو إليَّ شفقة وعطفًا، وتدمع عليّ بقطرات النور أسفًا ولهفًا، وأن الريح تُعوِل معي أسى ووجدانًا، والموج يصطفق حسرة لي وتحنانًا، كل ذلك ولا أسمع من بني آدم ولا من بنات حواء كلمة عزاء، أو صوتًا يلبى الدعاء، ولا أجد معونة آس، ولا إسعافة مُواس، كلا، ولا متعجب لي ولا متألم، ولا متبرم ولا متسخط ولا مستنكر، لا مدح ولا قدح، ولا استحسان ولا استهجان، ولا بسط ولا «قبض» كأني أهتف بكلماتي بين رسوم بالية وأطلال، أو أعكف على أصنام وأوثان، وكأني أضرب في حديد بارد، وأصيح في واد، وأنفخ في رماد، وكأني مع هذا الجيل الأصم الوسنان كما قال القائل:
وكذلك تعودت في هذا الشعب الحي «الحساس» أن أتقرب وأقابل بالصد والإعراض، وأتزلف وأُلقى بالجفوة والانقباض، وأستدني وأستعطف وأصادَم بالنفرة والابتعاد، وأسهر في صناعة القلم وأسهد وأُكافأ ممن أسهر على مصلحتهم بالوسن والرقاد، وأزلف للناس المنة تلو المنة واليد إثر اليد وأجازى بالكفر والإلحاد، حتى ألفت من القوم هذه المخزيات المخجلات، ووطنت نفسي على اليأس من كل خير، وتوقع كل شر.
وأصبحت حرفة القلم عندي بعد ما كان لها في سالف الزمن من السرور واللذة كاسفة حزينة، جافة جدبة، ناضبة مقفرة من الطرب والأنس، بل من العزاء والسلوة. وأصبح القلم في يدي أشد بؤسًا ومسكنة من المزمار في يد الشحاذ المتسول، ترى نغمه أقرب إلى أنة الثكلى منه إلى رنة المسرور، وأشبه بصوت النعي منه بصوت البشير، وكذلك صرير القلم في يدي أشبه شيء بصرير أعواد النعش، ولا عجب فإنما قلمي نعش لنفائسه يحملها من المهد إلى اللحد، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وعلى هذه الحال من اليأس والقنوط ومن الجمود والركود كنت يا سيدي حين هبطتْ عليَّ كلمتك من أفق المدنية وسماء النور — نور العلم والعرفان، والأمل والأماني — فأطفأتْ لوعتي، وشفتْ غلتي، وحركتْ همتي، وأنهضتْ عزمتي:
ولقد كنت قبل ورود رسالتك تائها حيران في بحار الأدب والأمواج من حولي جامدة، والأمواه آسنة راكدة، وسفينة الأدب واقفة معطلة ناشبة بين صخور الفقر والإفلاس، والنحس واليأس، فلم يك صوتك إلا نفحة من نفحات الإيمان، وروحًا من الله وريحان، فأبدلتنا من الموت حياة ومن القنوط رجاء، وأعلمتنا أن لله معشرًا أصفياء، وقومًا أتقياء. ولو لم يكن غيرك يقرأ كلماتي لكان حسبي بك مشجعًا ومقدرًا، ومؤيدًا وناصرًا.
لقد داعبتنا طويلًا في كلمتك يا سيدي، وتالله ما رأيت أرق منك مداعبًا، ولا ألطف مفاكهًا ومطايبًا.
ولقد فتحت علينا باب موضوع الغانيات وهذا باب لا يسد، والخروج منه أسلم ألف مرة من الدخول فيه، وماذا أقول في الغانيات إلا قول بعضهم:
إني يا سيدي لا أعرف سحرة ولا مشعوذين أشد مهارة وحذقًا باختتالنا واحتبالنا واختبالنا لدى كل فرصة سانحة، وبسبب وبدون سبب، ولمجرد اللهو بنا والعبث بعواطفنا — بأقدس عواطفنا وأسماها — ولمجرد الضحك علينا من النساء، وتراهن يلعبن بنا ألاعيبهن بمنتهى البساطة، وبمنتهى الجرأة والوقاحة، وبمنتهى الحذق والبراعة، وهذا يا سيدي طبعهن ودأبهن يأتينه من مطلع الشمس إلى غروبها، ومن غروبها إلى مطلعها. وأعجب العجب أنهن في ذلك جميعه سواسية لا فرق ولا خلاف بين الصالحات والفاسدات، والطيبات والخبيثات، والجريئات والخفرات، والرقيقات والقاسيات.
هذه نفثة من يراعتي المحطمة، متاع إلى حين، وأرجو أن أوفق إلى أمثالها، ولا تحرمنا تحفك وملحك، أبقاك الله للأدب ذخرًا، والسلام.