الأدباء وأساتذة الآداب
والفرق بين الوصفين مرجعه أن رجال الأدب كسبوا معارفهم الأدبية والفنية والعلمية عن طريق الدراسات الشخصية. أما أساتذة الآداب فهم قوم وصلوا إلى مناصبهم عن طريق الألقاب التي تمنحها الجامعات لمن يظهرون التفوق في العلوم والآداب عن طريق الدراسات الجامعية الدقيقة.
وكذلك يفرق الجمهور الفرنسي بين رجال الأدب وأساتذة الآداب، وهو فرق رسمي، ولكن له دلالته وله معناه، فإن رجال الأدب لا يصلون إلى المكاسب المادية إلا عن طريق الصحافة والتأليف وإلقاء المحاضرات.
أما أساتذة الآداب فلهم مناصبهم وكراسيهم في وزارة المعارف وفي المعاهد والكليات. ومن الصعب أن تحكم بأفضلية أولئك أو هؤلاء، فإن من الحق أن الدراسات الجامعية مُثقلة بأعباء الجهود والمشاق، ولا يصل الرجل إلى لقب من ألقاب الجامعة إلا بعد عناء مُعجز وشقاء موصول. ومن الحق كذلك أن الأديب الذي حرمته الظروف من الدرجات والألقاب لا يستطيع السيطرة على الجمهور المثقف إلا بعد دراسات شخصية طويلة لا يصبر عليها إلا الأقلون.
وهناك فرق ظاهر بين رجال الأدب وأساتذة الآداب من حيث الإنتاج، فرجال الأدب حين يشتغلون بالترجمة أو التأليف يوجهون جهودهم إلى المسائل التي تمس أذواق الجماهير ومشاعرهم وعواطفهم، بنوع خاص، فهم لذلك يهتمون بالقصص والروايات، وما إلى ذلك مما يستطيب الجمهور الإقبال عليه في أوقات الفراغ. أما أساتذة الآداب فيحرصون على التأليف في الموضوعات الصعبة المعقدة التي لا تجد من يُقبل عليها غير الطلبة والمدرسين، ومن شاكلهم من عشاق البحث العميق.
ولهاتين الوجهتين مزايا وعيوب. فرجال الأدب يؤثرون في الجماهير تأثيرًا بليغًا، لأنهم يخاطبون الناس باللغة التي يفهمون ويسايرونهم في درس مشاكلهم الروحية والعقلية بطريقة خلابة قد تصل بهم إلى الإسفاف وإلى ضياع الكرامة في بعض الأحيان. وأساتذة الآداب يؤثرون في جماهير قليلة العدد، هي جماهير الطلاب، ولكنهم يبالغون في التحفظ والتصون إلى درجة مملة. ومنهم من يصل به الأمر إلى أن يصاب في عقله بالزمانة والضيق. ومن هنا صح ما نجده في بعض الأوساط الفرنسية من التحامل على رجال الجامعة ورميهم بالحمق وضيق العقل، والفرنسيون يصفون الرجل الضيق الذهن بأن عقله جامعي، ويسمون رجال الجامعة «فيران المكاتب»!
ومن النادر أن تجد من رجال الجامعة من يستطيع التأثير المباشر في الجماهير، فقد كان إرنست رينان أكبر أساتذة الأدب في عصره، ثم تقدم للانتخابات فلم يكن له من عواطف الناخبين نصيب، ذلك بأن الرجل تعود مخاطبة الجماهير المثقفة، وتعود الاعتماد على ذكاء من يستمعون إليه، فلما واجه سواد الشعب التبس عليه الأمر وغاب عنه وجه الصواب.
أما رجال الأدب فهم أقدر الناس على كسب المعارك الشعبية؛ لأن لديهم من الكياسة ومرونة الذهن والخلق ما يقربهم من أنفس الجماهير، وحسب القارئ أن يعرف أن الذين يخوضون معارك الانتخاب في فرنسا يجب على الأقل أن يكونوا ألفوا إدمان الشراب، ولم ذلك؟ لأنهم لا يلتقون بناخبهم إلا في القهوات، وهي ملتقى الأهالي في الأقاليم. فمن واجب المرشح أن يذهب إلى القهوة وأن يسأل كل قادم عليه: ماذا تطلب؟ وإذ ذاك يشربان معًا. وهذه هي الوسيلة لكسب الأصوات!
فماذا يصنع أساتذة الأدب في هذه الحال وهم قوم تلفت أمعاؤهم من كثرة الجلوس، ولم تُبق فيهم مراجعة المعاجم، ونقد النصوص الأدبية والفنية والعلمية، بقية من نضارة الجسم، وصفاء الذهن، ورقة الحس، يستطيعون بها فهم ما اختلف وتنافر من أذواق الناس وميولهم ومذاهبهم في الحياة؟!
وهناك فروق بين حياة هذين الصنفين من المتأدبين، فروق قلما يتنبه إليها الجمهور الذي ينتظر كل شيء، ولا يطالب نفسه بشيء.
فأساتذة الآداب قد يحسدون على ما يظفرون به من مناصب الدولة، فهذا موظف فني في وزارة المعارف العمومية، وذاك مدرس في مدرسة من كبريات المدارس الثانوية، وذلك أستاذ في كلية الآداب، وهي مناصب قد تحمي أصحابها من التفكير في هموم المعاش. ولكن هل يفكر أحد في حقيقة البلاء الذي يعانيه أساتذة الآداب؟ أين المنصف الذي يقدر المصاعب التي يقاسيها الباحث حين يسجن نفسه طائعًا أو كارها في مكتبه لا يفارقه في صباح أو في مساء؟ من الذي يفهم الآن كيف كان يقول الفراء: «أموت وفي نفسي شيء من حتى؟» من الذي يعرف أن الباحث قد يقضي أعوامًا طويلة في تحقيق كلمة أو تصحيح غلطة، وهو يرى ذلك كل شيء في حين أن الجمهور قد يراه نوعًا من الوسواس؟ أين النافذون إلى بواطن الأمور الذين يعرفون أن أساتذة الآداب قد يحتاجون إلى لحظة من لحظات المرح والطبش ليقوا أنفسهم عواقب الحبس بين المكاتب والجدران، ثم لا يستطيعون؛ لأن الرأي العام قد يرميهم بالتبذل والإسفاف؟
وكم من مرة يقول الناس: ماذا يصنع الأستاذ فلان؟ لقد سكت منذ زمان!
وذلك الأستاذ لا يستطيع الجواب لأنه لا يضمن الاحترام إن أجاب: لقد شغلتني «حتى» في هذه السنوات!
ماذا يصنع أساتذة الآداب في عصر الأحجام والمكاييل والأوزان! إن القارئ لا يشتري الكتاب في هذه الأيام قبل أن يعد الصفحات، وأساتذة الأدب مساكين قلما يحسنون الإسهاب؛ لأن عملهم عمل تهذيب وتجريد، ومهنتهم تقضي عليهم بالنفرة من محاسن التزويق والتهويل. فيا ويح رجال المعاني في دولة الألفاظ!
إنها لتضحية خطيرة أن يقبل الرجل أن يكون من أساتذة الآداب في هذا الجيل، تضحية تصغر بجانبها عظائم التضحيات؛ لأن الأستاذية مهنة قلما تُجازَى بحفظ الجميل، ولا يخفف من همومها في أنفس أصحابها إلا فكرة واحدة، هي أن الأستاذ يقف حيث يقفه الواجب، فهو جندي في الجيش لا يليق به غير الامتثال، وعليه أن يصبر كلما بدت لعينيه بروق الشهرة وبعد الصِّيت، لأن الأستاذية الحقة لا تكتمل قوتها إلا في ظلال الخمول.
إن الأستاذ المخلص لواجبه قد يُنْسَى كل النسيان، وقد تُجرح نفسه جرحًا بليغًا حين يجد من يسأله: من أنت؟ فإن المسكين لا يستطيع أن يجيب: (أنا الذي شرحت الرسالة العذراء) أو (أنا صاحب نظرية الصور الشعرية) فإن هذه في نظر السواد توافه لا يحسب لها حساب!
وبعد هذا كله يبقى الله عز شأنه الذي لا يضيع أجر المحسنين فهو حسب الأساتذة ونعم الوكيل!
•••
ورجال الأدب، أو الأدباء، كيف حالهم؟
لقد أشرت إلى أنهم أبعد أثرًا في الجمهور من أساتذة الآداب، ولكن تعال ننظر ما حظ هؤلاء المحسودين.
إن كثيرًا منهم يعملون في الصحافة، وبيد كثير منهم إسقاط وزارات وإقامة وزارات، وفيهم من يؤلف أو يترجم روايات جذابة تنفذ إلى أعماق النفوس، فهل نستطيع مع هذا أن نعدهم سعداء؟
إن الأديب لا ينبغ إلا إذا ارتطم في الغواية والبؤس، وتلك سنة الطبيعة منذ خُلق الأدب إلى اليوم، ويكاد يكون من المستحيل أن يكون لرجال الأدب روح إلا إن صهرتهم الهموم والأحزان.
أضف إلى ذلك أنهم لا يؤثرون في قرائهم إلا إن تأثروا هم بما في الحياة من لين وبأساء. ولا يقع شيء من هذا إلا إن عاشروا الناس وشاركوهم في جدهم وهزلهم، وحلمهم وجهلهم، وعقلهم وجنونهم، وعرفوا ما الهدى وما الضلال، وما الشك وما اليقين، وهذا كله أتحسبه بلا ثمن؟ هيهات! فمن ثمنه العِرض والعافية والمال!
إن الكاتب الذي تقرأ له فيشعرك الحكمة وفصل الخطاب ليس في حقيقة الأمر إلا رجلًا بائسًا ضل طريق الرشاد، وهو في أكثر الأحوال موزع القلب بين الحب والكأس، فإن سمعت عن ضلالات الكتاب والشعراء، أو حدثك النقاد عن بؤس ميسيه أو بيرون أو بودلير فاعلم أنك أيها القارئ كنت بعض السبب في شقاء هؤلاء، فقد ارتبطت حياتهم بحياتك، وكُتب عليهم أن يكون نجاحهم أو إخفاقهم متصلًا بإعجابك بهم، أو انصرافك عنهم، وإنك أيها القارئ قد لا تعرف نفسك؛ فإن لك شهوات ونزغات خفية يغيب أكثرها عنك، ويفهم أولئك البؤساء حاجتك إلى من يطلعك عليها في حديث شائق خلاب. والأدب في صميمه لا يخرج عن ذلك، فهو حديث مسلسل عن الأهواء والشهوات والنوازع والميول: من حب وبغض، وبسط وقبض، وأثرة وإيثار، وحقد وصفاء، وإقبال وإعراض.
والكاتب لا يصل إلى مرضاتك حتى يضيع نفسه، لأنه لا يمد يده إلى مكتبه فيخرج الرسائل محبَّرة موشَّاة بلا تعب ولا عناء، وإنما يتنقل من حي إلى حي، ومن ملعب إلى ملعب، ومن ناد إلى ناد، ويرى الحلو والمر، والطيب والخبيث، وما يزال كذلك حتى تتفتح أسرار قلبه، وسرائر نفسه، ثم يعود فينقل روحه، ويسكبها على بياض القرطاس.
أتفهم ذلك؟
نعم.
إنك لا تدركه تمام الإدراك! وأنت نفسك مطمئن إلى أن رجال الأدب لا خلق لهم ولا دين. ومن أجل هذا تتحدث عنهم بما تعرف وما لا تعرف، وتضيف إليهم كل ما يمر ببالك من المنكرات!
ومن حسن الحظ أن الدين والخلق من الشئون النسبية، فقد يكون لهؤلاء الذين تجرحهم ضمائر أطهر من الماء، وأصفى من سماء مصر، وقد يكونون في عربدتهم أقرب إلى الله من بعض المتجملين المتوقرين الذين يلقون الناس وهم بيض الوجوه سود القلوب!
إن ألفريد دي ميسيه الذي بكى لبؤسه وشقائه ألوف الألوف من القراء، هذا الرجل كان يتشهى البؤس، وكان يحسد رفاقه على ما (ينعمون) به من الضجر والاكتئاب، وما زال يتباكى حتى بكى وأبكى. أفتدري لم كان يتلهف على هذا الحظ المشئوم؟ لأن الجمهور كان ينتظر أدباء أدمت قلوبهم الأشجان وأصمتْهم الخطوب.
فماذا أعددت أيها القارئ لرحمة أولئك المساكين؟ لا شيء! اللهم إلا أن تبسط فيهم لسانك الحديد، كأنهم لم يشقوا في سبيلك ولم يفتحوا لك ميادين العواطف والأحاسيس، وكأنك لم تتخذ شعرهم ونثرهم ذخيرة للحظات اللذة وأيام الشقاء، فقد كانوا ولا يزالون أوتارًا لوثبات الفرح ونبرات الأنين.
فأي الصنفين أشقى: رجال الأدب أم أساتذة الآداب؟
لقد عرضت عليك حظوظ هاتين الطائفتين في نزاهة وإخلاص، فاحكم بما تشاء.
•••
أما بعد فهذه خواطر مرت بالنفس حين تقدم المسيو هوج لابير ليلقي محاضرته عن ذكريات الحي اللاتيني، وهو من رجال الأدب الذين سمحت لهم الشهرة بأن يُدعوا لإلقاء محاضرات بأجر معلوم، مائتي فرنك أو تزيد، وقد لمحت هيئته لأول وهلة فأدركت أنه حريص على تملق أهواء الجمهور، وفي الرجل ذلاقة وطلاقة تليقان بخشبة المسرح لا كرسي المنبر، وفي وجهه وقوامه وشمائله بقايا من الشباب تدل على أنه خليق بأن تكون له ذكريات عن الحي اللاتيني، فإنه حي لا يفهمه إلا من رزق نصيبًا من نضارة الصبا، وصفاء الروح. ومع هذا لم يتحدث عن الحي اللاتيني بما كنت أنتظر من رجل قضى شبابه في حي السوربون، وإن كان هذا لا يمنع أن الجمهور صفق له أكثر من عشرين مرة. فماذا قال ذلك المحاضر وما هو إحساس من يعيشون بذلك الحي الذي يسمى حي الشباب؟ وكيف يفهمه الغريب حين يفاجأ بما فيه من غرائب وأعاجيب؟