ذكريات حي الشباب
حي الشباب في باريس هو الحي اللاتيني، وهو حي الشباب بأجمل وأشرف وأبلغ ما تنطق به هذه الكلمة، وليس في الدنيا التي رأيناها بأعيننا أو سمعنا عنها بأذاننا أو قرأنا أخبارها في أساطير الأولين، ليس في الدنيا كلها بقعة تتفتح فيها أزاهير الشباب وتندى أوراقه، وتتمايل أغصانه، ويتأرج عبيره، كما يرى رواد الحي اللاتيني في باريس.
ولا يعرف المرء صنعة الله، جلت قدرته، ألا في ذلك الوادي من أودية الوجود، وأن لحظة واحدة في بول ميش (تصغير بولفار سان ميشيل) لتقنع الجاحد بأن الله أجل وأعلى من أن تتطاول إلى نقد صنعته أوهام المكابرين، تعالى الله عما يصفون!
وما ظنك بواد تكاد أرضه تنطق بحب من يجري عليها من أسراب الملاح؟ ما ظنك بقطعة من الدنيا جمعت أرق ما يملك العالم من نضارة الشباب، وروعة الجمال؟
الحي اللاتيني هو حي الشباب، وليس في قدرة أفصح الكتاب وأبلغ الشعراء أن يثني على ذلك الحي بما هو أهله، وقصارى المفتون به أن يقول: حي الشباب، حي الشباب!
لقد ذكرت للقارئ في كلمة سالفة أن المسيو هوج لابير ألقى محاضرة عن ذكريات ذلك الحي، والآن أفصل الكلام بعض التفصيل: لقد وقف المسيو هوج وابتدأ محاضرته بصراخ عنيف: الشباب! الشباب! الشباب!
ثم أخذ يهذي بكلمات شجية كادت تجري لها دموع السامعين، وقد تأملت المسيو هوج لابير فإذا هو رجل قد امتد به الزمان، ولكن فيه بقايا من رشاقة وصباحة تدل على أنه قضى في الحي اللاتيني ليالي قصيرة من ليالي الشباب المطلول.
لقد ذكرتني لوعة المسيو هوج على شبابه بلوعة منصور النميري إذ قال:
وقول الآخر:
تكلم المحاضر عن الحي اللاتيني في أدواره التاريخية وذكر عدة نوادر وقعت من طلبة الطب وطلبة الحقوق، وأظرف ما جاء على لسانه حوادث الطلبة الذي كانوا «يأكلون» إيجار المساكن، فقد وقع غير مرة أن امتنع بعض الطلبة عنادًا ومكابرة عن دفع أجرة المسكن، وكان ذلك يجري بين دُعابة المالكين وابتسامهم؛ «لأن المفلس يغلب الحاكم» كما يقول المصريون!
ومن نوادر ذلك الحي أن أحد الطلبة دخل دكان بعض الحلاقين ومعه عشرة من الرفاق، وكان الجو مطيرًا وبيد كل منهم مطرية مثقلة بالماء، فما كادوا يستقرون بمطرياتهم حتى تحول الدكان إلى بحيرة، أو كاد! وهنا قال الحلاق: من الأول؟ فأجابه ذلك الطالب في هدوء: أنا الذي جئت لأصلح من شعري، وهؤلاء جميعًا في معيتي!
وهذه نكتة لا يدرك قيمتها إلا من عرف جو باريس، وأهل باريس، فهم قوم لا يحتملون مطلقا أن يروا إنسانًا لا يغمرهم بالمال، فكيف إذا رأوه لا يغمرهم بغير الماء!
وقد وقع لبعض الأساتذة في كلية الطب أن أولع الطلبة بمهاجمته وهو يلقي محاضراته، ولكن كيف؟ كانوا يرمونه بقطع من النقود تساوي في قيمتها أرباع الملاليم، وكان الفريق الراضي عن ذلك الأستاذ يرميه بباقات الأزهار، فكانت تتجمع أمام الأستاذ وعن يمينه وعن شماله عشرات الباقات ومئات الملاليم، وهو يتلقى ذلك كله بين الحوقلة والاسترجاع، فإذا انتهى من محاضرته جمع الأزهار والنقود ووضعها جميعًا في محفظته، ثم خرج يتوسم الوجوه ليوزع النقود على الفقراء، وليهب الأزهار للغيد الحسان!
ومما يؤثر عن شجاعة الطلبة ونُبلهم في ذلك الحي أن إدارة الجامعة غضبت مرة على بعض الأساتذة وقررت فصله، وكان الطلبة معجبين بمواهبه، فكانوا يذهبون في صبيحة كل يوم إلى منزله، ويكرهونه على الذهاب إلى الجامعة لإلقاء محاضرته، وكان ذلك يقع بدون أن تجرؤ إدارة الجامعة على التدخل خوفًا من ثورة الطلاب، وفي نهاية العام ذهب الطلبة متجمهرين إلى مجلس النواب فحملوه على أن يقرر إعادة الأستاذ إلى منصبه، ورد ما ضاع من مرتبه في العام الذي فصل فيه، وكانت هزيمة منكرة لمدير الجامعة عرف فيها كيف ينتصر الشباب الحي على الكهولة الباغية التي تمشي إلى الفناء!
وقد استطرد المسيو لابير فذكر الشعراء والكتاب الذين كانوا يستمدون وحيهم من الحي اللاتيني، وأنشد الجمهور قطعًا من شعر ميسيه وفرلين وبودلير، وقد صفق الحاضرون أكثر من عشرين مرة للذكريات الطريفة التي رواها لهم خطيب حي الشباب.
•••
وأريد الآن أن أذكر بعض ما شاهدته بنفسي في الحي اللاتيني، وأذكر أولًا أنني كنت أكتب في جريدة الأفكار سنة ١٩١٩ مقالات في إصلاح الأزهر والمعاهد الدينية بإمضاء «الفتى الأزهري» وكان مما اقترحته حينذاك أن تنشأ حديقة أمام الأزهر، وحديقة في فنائه، ليكون شبيها بالسوربون محفوفًا بالحدائق الغناء، والرياض الفيحاء، فلما جئت إلى باريس سنة ١٩٢٧ كان أول ما فكرت فيه الذهاب لاستنشاق الهواء في بساتين السوربون، فماذا وجدت، لم أجد في فناء السوربون ولا حولها شجرة واحدة، ودهشت إذ رأيت فناء السوربون يشبه صحن الأزهر تمامًا، فلا نجم ولا شجر ولا نبات ولا ماء!
يا عجبًا! ما الفرق إذن بين جامعة الأزهر وجامعة باريس؟ أما كان يستطيع الفرنسيون الكسالى أن يغرسوا في فناء السوربون شجرة أو شجرتين ليصح ظني فيهم، ولتصدق المقالات التي كتبتها في جريدة الأفكار وأثبتها في كتاب البدائع؟!
ولكن مهلًا! فهناك على مقربة من السوربون وعلى بُعد دقيقتين اثنتين حديقة لكسمبور، وهي حديقة أولى بها أن تسمى (جنة الحي اللاتيني) لأنها تشبه من بعض الوجوه الجنة التي وُعد بها المتقون، ففيها السدر المخضود، والطلح المنضود، والظل الممدود، والماء المسكوب، وفيها الحور العين، والولدان المخلدون، وإن كانوا لا يطوفون بأكواب وأباريق وكأس من معين.
هي تشبه بعض الشبه الجنة التي وصفت في القرآن، والفرق بين الجنتين أن الجنة القرآنية لا يسمع فيها المؤمنون لغوًا ولا تأثيمًا، إلا قيلًا سلامًا سلامًا. أما الجنة اللاتينية فبستان أنيق طالما رنت فيه القبل الأثيمة، وتمت فيه مواعيد اللهو والمجون. وقد تكون تلك الجنة اللاتينية أشهر مهد من مهود الغواية الفطرية التي يقع فيها الشباب بوحي الطبيعة، قبل أن تصطبغ نفوسهم بلؤم الفجار وخبث الماجنين.
وحديقة لكسمبور لها عهدان متمايزان: عهد الربيع والصيف، وعهد الخريف والشتاء، وأقسى أيامها هو العهد الأخير، ففي الخريف تتساقط أوراق الأشجار رويدًا رويدًا في حالة تثير الأسى والشجن، فإذا جاء الشتاء عادت الأشجار مجللة بالسواد كأنها في حداد، وفي هذا العهد لا تزار لكسمبور إلا لمامًا، وقد تطيب زيارتها في أيام الجليد حيث تبدو أرضها ناصعة بيضاء كثنايا العروس.
أما عهد الربيع والصيف فهو عهد الحب والشباب في لكسمبور، فما شئت من حسن منثور، وغزل رقيق، ودعابة يتبادلها المتحابون المتعاشقون، وعطف تتجاذبه القلوب التي هيأتها الطبيعة لكسر أغلال الوجد المكبوت.
وأغرب ما في الأمر أن حديقة لكسمبور ليست للشباب وحدهم، فهناك كهول يتخذونها مواعيد للغرام. وقد حدث مرة أن شهدت فيها مدرسًا مصريًّا ما كنت أحسب أن الله خلقه لوجد أو صبابة أو تشبيب، حيث لا يفتح الله عليه بكلمة إلا في لوم العشاق والغَزِلين، رأيته وإلى جانبه عجوز فانية شمطاء يئس من خداعها الشيطان، وهما يتناجيان بأرق من نجوى الطير، فتذكرت قول الشاعر:
ولا تحسب أن هذه الحديقة خلقت للحب وحده! كلا فهي أيضًا أطيب مكان لمذاكرة الدروس، وهي تذكر من هذه الناحية بحدائق قصر النيل، ولكن هل يراجع الطلبة فيها دروسهم؟ قد يكون ذلك! ولكني أذكر أني ما شاهدت فيها الطلبة إلا متجمعين أسرابًا أسرابًا، يتبادلون شهي الحديث، وفي ظني أن كلًّا منهم كان يقول: بقي على الامتحان سبعة أيام. خير؛ لا يزال أمامنا وقت! وغدًا سنأخذ في المذاكرة بجد لا هزل معه! فإذا جاء الغد تجمعوا من جديد، وأخذ كل منهم مقعدًا بمليمين وعادوا يتنادرون بفاتنات الأحاديث، وشائقات الأقاصيص.
وأعجب ما يلفت النظر في شباب الحي اللاتيني أنهم لا يلتفون بعضهم حول بعض ألا قبيل الامتحان. وهم بذلك يتعاونون على قتل الوقت، وتزجية أيام الانتظار، فإذا جاء الامتحان ذهبوا بقلوب من حديد، وألقوا على القراطيس ما يحسنون وما لا يحسنون، وتركوا وزارة المعارف تفعل ما تشاء! فمن نجح منهم ذهب فباع كتبه كلها بالثمن الذي يُعرض عليه، ثم مضى يبعثر ما اقتضاه منها في مراقص مونبارناس. ومن كُتب عليه الخذلان انطلق إلى أهله يصف الممتحنين بالعنف والجبروت والرغبة في التعجيز، وهي وسيلة لا بأس بها لستر الكسوف!
أشرت إلى أن حديقة لكسمبور معهد من معاهد الحب، ولعلها لأجل ذلك تغلق أبوابها دائمًا عند الغروب، حتى لا يتمتع أحد بخلواتها في أمسية الصيف والربيع. ولكن هل معنى هذا أنها تحمل شارة الرفث والفسوق؟ لا، فكل ما يجري فيها يتقبله الناس على العين والرأس، وأستطيع أن أؤكد أن أعف المتحرجين يشهد ما يقع فيها بنفس مغمورة بالجاذبية والعطف والحنان، ولست أعرف لهذا تفسيرًا ولا تعليلًا، وأكبر الظن أن إشراق الأزهار في الحياض، وإشراق العقود في الأجياد، وعبير الشباب الذي يتأرج بين الأشجار والتماثيل، كل أولئك يلقي على الروح شُعاعًا من الرفق بما يشرد فيها من جوامح العيون، وخوافق القلوب.
وما يدرينا؟ لعلنا نحن الشرقيين الذين نقيد ذلك ونلتمس له التأويل، أما الفرنسيون فلا يرون في حديقة لكسمبور شيئًا مما نراه، فهم يرسلون إليها أطفالهم في طمأنينة تامة، بحيث يشهد المتفرج حول الفسقية عشرات الأطفال من ذكور وإناث. وبيد كل طفل سفينته المحبوبة يلقي بها في الماء وينتظر عبورها في فرح وشوق لا يفهمها غير الصبية الناشئين.
وفوق ذلك هناك ملاعب التنس، وهي ملاعب يسعى إليها البنون والبنات في أيام العطلة وساعات الفراغ. فهل تظن أن أحدًا يتحرج من إرسال بنيه وبناته إلى ذلك الوادي الجميل؟
أتريد الحق؟ إن أهل باريس لا يرون في الحب ما نراه، هو عندهم شريعة من شرائع الحياة، وقد يقع أن يتعانق فتى وفتاة فوق أحد المقاعد، وبجانبهما صبية مشغولة بكتاب تقرؤه أو شعار تحوكه، أو أمل مرموق تُقلِّبه في صدرها المفتون؛ ثم تظل في عقلها وسكونها كأن لم يكن إلى جانبها عاشقان يتناجيان بين رنين القبل وهدير العناق!
إن أهل باريس لا يعرفون الفضول؛ ولهذا كانت تلك المدينة ولا تزال أحفل معالم الصبابة بأسباب الأمان.
هذه السطور تعطي صورة مبهمة جدًّا عن جنة الحي اللاتيني، وعذري في ذلك مقبول؛ فتلك بقعة لا تسمو إلى تحديدها الأقلام، والكاتب يخدع نفسه حين يتوهم أنه قادر على وصف ما تشهد عينه، ويُجن صدره من ألوان المحسوسات والمعقولات. وحسب القارئ أن يدرك أن تلك الحديقة هي ملعب الشباب في الحي اللاتيني. وفي سحرها وجمالها تعليل بسيط لما سنعود إلى سرده من ذكريات ذلك الحي الجذاب.