ملاهي طلبة الطب
يمتاز الحي اللاتيني من بين أحياء باريس بتلك الحيوية الجذابة التي تنبعث من ساكنيه وأكثرهم شباب، ولكن سكان ذلك الحي الذين يبثون فيه من روح الابتهاج والانشراح ينقسمون إلى طبقات، ولكل طبقة خصائص ومميزات، فهناك طلبة الآداب، وطلبة العلوم، وطلبة الطب، وطلبة الحقوق.
ونستطيع أن نحكم بأن الفريق السعيد من بين هؤلاء جميعًا هم طلبة الطب، لأن طلبة العلوم والآداب والحقوق يعرفون ما ينتظرهم في دنياهم من الجهد والعناء، أليس مصير طلبة الآداب والعلوم إلى التدريس في المدارس الثانوية؟ ويكفي أن تقدر أن هذا مصير الطالب لتعرف أنه خُلق للتضحية، فإن التدريس محنة من محن الحياة لا يصبر على لأوائها غير المحتسبين الذين وطنوا أنفسهم على المجاهدة والمجالدة في سبيل أممهم، وأصحاب هذه المهنة جديرون بأن يكتهلوا قبل الأوان، لأن إحراق الدم والأعصاب في سبيل التعليم بلية لا يتحملها غير من اطمأن إلى حمل راية الجهاد، وليس في مقدور واحد من طلبة العلوم والآداب أن يطمع في غير المدارس الثانوية، لأن المدارس المالية تتطلب من المدرسين مؤهلات أهمها إجازة الدكتوراه، والدكتوراه لا يظفر بها طالب في فرنسا إلا إذا وصل به علمه وعقله إلى أن يضع قدمه بين صفوف الباحثين. وللقارئ أن يتأمل كيف يتأتى لطالب أن يُعد رسالة الدكتوراه وهو قد يتعثر في موضوع إنشاء!
وهذا المستقبل المظلم الذي يتطلب ما يتطلب من المشاق خليق بأن يحبس طلبة العلوم والآداب في أقفاص من التوقر والاحتشام. من أجل هذا تنحصر ملاهي هؤلاء الطلبة في لعب الشطرنج والبليارد ومعاكسة البنات في مدرجات السوربون، ومناوشة الأساتذة إذا اقتضى الحال!
وقد يتفضل مدير الجامعة، رفقًا بطلبة العلوم والآداب، فيقيم حفلة راقصة أو حفلتين في أبهاء السوربون، وهي حفلات طريفة يتراقص فيها الطالبات والطلاب، لولا أنها مصحوبة ببعض التكاليف، وبهذا يُحرم منها كل طالب لا يملك ثوب السهرة، أو لا يجد ٢٥ فرنكًا للاشتراك.
وهذه الحفلات تمر غالبًا في سلام، وإن كان الناس يتوقعون غالبًا أن يطلق فيها الرصاص، بسبب العداوات الخطرة التي يحترق فيها الطلاب وهم يتسابقون في كسب قلوب الطالبات، فاللهم (فوت) حفلة هذا الشتاء بخير، لأني سأكون بين السامرين!
تلك لمحة عن المساكين طلبة الآداب والعلوم. أما طلبة الحقوق فلست من أمرهم على يقين، لأني لم أدخل كلية الحقوق في باريس إلا زائرًا، ويظهر مما رأيت أن طلبة الحقوق أقرب إلى الأندية والمراقص من طلبة العلوم والآداب، ولكنهم على كل حال يُعدون أنفسهم لمهن المحاماة ومناصب القضاء، وتلك أودية من وجهات الرزق كثُر فيها الزحام وقل فيها الثراء، ولهذا يمشون مثقلين بما ينتظرون من مصاعب الحياة.
كان الله لنا ولهم، إنه نعم المعين!
•••
بقي طلبة الطب! أهلًا وسهلًا بأسعد الناس في حي الشباب!
أنا لا أعرف أيضًا طلبة الطب، ولكن حظهم من متع الحياة في باريس وصل إلى جميع الآذان، وشهدته أكثر العيون، وكلمة «طالب طب» تساوي في باريس كلمة (خليع) فقد جرت التقاليد بأن يظفر طلبة الطب بنوع من الحرية، لا نجد له شبيها إلا في كتب الأساطير، ولعل السر في ظفر طلبة الطب بتلك الحرية المرنة أنهم يصبغون ملاهيهم بالصبغة العلمية، وحظ أهل الطب قديم في هذا الباب، فقد أباحت لهم الشرائع رؤية ما لا تحل رؤيته من الحمى الممنوع. وسبحان مقسم الحظوظ!
ولكن ما هي تلك الصبغة العلمية؟
هذا سؤال له جواب طريف، فليعلم القارئ إذن أن كلمة «علم» في العصر الحاضر تقابل كلمة «دين» في العصر القديم، فقد كان القدماء يقولون: «لا حياء في الدين» إذا بدا لهم أن يخوضوا في حديث يجرح الحياء. وكذلك يقول المحدثون: «لا حياء في العلم» إذا بدا لهم أن يقوموا بتجربة فيها ما يجرح الحياء.
وأظرف ما في تجارب كلية الطب في باريس أنها تقع، كما يقتضي العلم، بحضور الأساتذة والطلبة والطالبات، ولتلك التجارب معان خاصة يفهمها الألباء، ولا حرج على من يدرس العلم في أصوله وتفاصيله على المنهج الحديث.
وفي هذه النقطة يختلف حظ رجال العلوم ورجال الآداب فليس لأديب مهما جل خطره، وسلمت نيته، أن يشرح على طريقته ما يحب أن يشرح من المشاكل الجنسية، لأنه لو فعل لا تهمه الناس بالرغبة في إذاعة أسباب الفسق والمجون، ولكن العالم يدخل تلك المضايق في طمأنينة وأمان بلا رقيب ولا حسيب، وهو فوق ذلك مشكور السعي، محفوظ المقام، فله أن يدرس ما شاء من المسائل الجنسية، وله أن يفسر دراساته بالرسوم والتصاوير، وليس لكائن من كان أن يتهمه بسوء النية؛ لأنه يتكلم باسم العلم، ولا حياء في العلم كما لا حياء في الدين.
وهذه الخطة قد عرفها الأدباء الأقدمون، فقد بدا مرة لأبي العلاء المعري أن يذيع بين معاصريه آراء الزنادقة والمرتابين، فعمد إلى تلك الحيلة الملفوفة، وهي شرح آراء الزنادقة مصحوبة بلعنهم وتسفيههم، وبذلك تم له ما أراد من عرض آراء الملحدين في رسالة الغفران.
•••
أترانا بذلك نحرّم على أهل الطب أن يقوموا بما يوجبه الدرس من التجارب العلمية؟ هيهات أن يكون ذلك ما نرمي إليه. ولكنا ننقل في تحفظ ما سمعنا من قيامهم ببعض التجارب الجنسية في الحفلات الموسمية، وهذه مسألة لا نحب الإفاضة فيها، لأنها خطرة التفاصيل، ولأن علمنا بها لم يتعد السماع، وما أكثر ما نسمع في حي الشباب!
فلنكتف إذن بسرد ما شهدناه بأعيننا وشهده معنا ألوف الألوف:
في نهاية العام الدراسي يقوم طلبة كلية الطب في باريس بمهرجان مشهود، حيث يشترك الطلبة والطالبات في مواكب سيارة تجوس شوارع المدينة، ويكفي في خطر هذه المواكب أن يكون الطالبات عاريات الأجساد، اللهم إلا سِترًا رقيقًا جدًّا يكف عادية المكان المرموق!
وقد رأيت في أحد هذه المواكب فتى عريانًا وهو يحمل لوحة كتب عليها: (الباريسي الحقيقي يجب أن يأخذ السيلان ولو مرة، فمن الواجب أن يكون رئيس الجمهورية أخذه ألف مرة!)
ورأيت فتاة عريانة في أشنع حالة ومعها علم كتب عليه (جيش الخلاص) وجيش الخلاص هذا جمعية كبيرة تعمل لسلامة الأعراض، وطهارة الأخلاق!
وللقارئ أن يتصور بقية التفاصيل، فهنا يكون تداعى المعاني وتنادي أشتات الخيال، فإني لا أريد باسم الأدب أن أنقل ما يقع باسم العلم في باريس؛ فإن العالم يباح له ما لا يباح للأديب، وحرية التعبير من جملة الأرزاق!
وبعدُ فهل هذا شر كله؟ أم خير كله؟ الجواب عند رجال الدين والأخلاق. أما أنا فأسجل في تحفظ بعض ما تراه العيون.
وزير مراكش
في باريس الآن وزير مراكش المقرئ. وهو رجل كهل. تقول الجرائد الفرنسية: إنه يحب فرنسا حبًّا شديدًا، وإنه مستعد لتقديم أولاده ضحية في الدفاع عن فرنسا إذا اقتضى الحال، وقد دعي بالأمس إلى زيارة السوق الكبير فذهب إليه في الساعة السابعة صباحًا، والسوق قائم على قدم وساق، وقد أطعموه هنيئًا مريئًا طعامًا خاصًّا أعد لفطوره، فارتاح إليه. وطلب الوصف ليعمل مثله في المغرب إذا جاء العيد، وقد أبدى فيما يقال مهارة عظيمة في تعرف الأسماك والنص على القديم منها والجديد.
ولنا أن نقول إن الوزير الذي يقدم أولاده عن طيب خاطر للدفاع عن فرنسا لو قدمهم للدفاع عن بلاده لكان أجدى وأشرف، ولكن صدق شوقي حين يقول: «الذليل بغير قيد مقيد، كالكلب لو لم يُسَدْ لبحث عن سيد!»