محمود بيرم
في طريقي إلى المنزل الذي أقيم فيه حديقة صغيرة يؤمها الناس من جميع الطبقات إلى وَهْن من الليل، وهي حديقة تهوي إليها نفسي فأخترقها في الصباح وعند المساء، ويعجبني فيها تمثال فولتير، ذلك الرجل المعجز الذي علم الكتاب كيف يسخرون وكيف يرتابون، وعلى وجهه تلك الابتسامة الساخرة التي لا ندري كيف استطاع الصخر وهو أصم أن يحفظ منها صورة ناطقة، ويعجبني فيها أيضًا أولئك النسوة النبيلات يخرجن إليها في الضحى وفي الأصيل، ومعهن أطفالهن يمرحون ويلعبون، فأتذكر والأسى يلذع قلبي أولئك الصبية الأعزاء يحيطون بي في حديقة المنزل ليمنعوني من الخروج و … من الرحيل!
في يوم الثلاثاء الماضي وأنا اخترق تلك الحديقة في الساعة الثامنة قبل الغروب لمحت طائفة من الجرائد المصرية في يد إنسان لا أعرفه، وعلى وجهه مسحة من سماحة الشرق، وكتلة من أثرة الغرب، فقلت:
– سلام عليكم (بخفة ونشاط)
– عليكم السلام (بتثاقل وبرودة)
– لا تُرَع أيها الرجل، فأنا أريد أن ألقي نظرة على هذه الجرائد لا أكثر ولا أقل، وأنا والله فاعل ذلك رضيت أم غضبت!
– اقرأ، ولكن أسرع فإني ذاهب إلى العشاء، فقد شغلني قبلك هذا الفتى بجانبك إذ رجاني أن أسمح له بنظرة سريعة ينظر بها أخبار مصر والشرق، كما يقول، أما أنت فبارك الله لك في هذه الجرأة، ألست تريد أن تقرأ هذه الجرائد رضيت بذلك أم غضبت؟ ولا أدري والله ماذا أصنع إذا حاولت منعك وفيك هذه الجرأة وهذا الهجوم، وقد تكون قوي البطش، سليط اللسان!
ثم سكت، وأخذت أقرأ تارة وأدرس وجهه تارة أخرى:
هذا شاب قصير، نحيل، متضعضع، مهدود، لم تبق أيامه من جسمه باقية، وهو لذلك ضيق الصدر لم يستطع أن يتكلف البشاشة لرجل بدأه بالتحية، وإنه ليحمل رزمة من الجرائد المصرية. وهذا الحمل الثقيل يدل على أنه مغرم بتتبع الحياة في مصر بألوانها السياسية والأدبية. فيا ليت شعري من هو؟
– أنت هنا منذ زمان أيها الأخ؟
– منذ عشر سنين!
– عشر سنين؟ وماذا تصنع؟
– عامل في أحد المصانع
– وما الذي ابتلاك بهذه الجرائد وأنت عامل؟
– هذه بلوى قديمة!
– منذ متى؟
– منذ كنت أحرر المسلة. فأنا محمود بيرم التونسي
أهلًا وسهلًا!
وحضرتك؟
زكي مبارك
أنت الدكتور؟ الله يسامحك! كيف نسيت أن ترسل إليّ نسخة من كتاب الأخلاق عند الغزالي. لا … بل كيف استبحت لنفسك أن تهاجم ذلك الفيلسوف … إلى آخر ما قال
أيها القارئ!
أتذكر صيف سنة ١٩١٩م أن كنت لم تشهد ذلك العهد وذلك العام الميمون فاسأل من شهدوه ومن اكتووا بناره يخبروك أن محمود بيرم التونسي كان شاغلًا لجميع الأندية المصرية بمجلته الصغيرة اللذاعة (المسلة) وهو — مع احترامي لمن يشتغلون بالرسائل الفكاهية في مصر؟ — رجل ممتاز له طابع خاص. ولقد رأيته في حالة محزنة، فقد سقط عليه في ذلك اليوم برميل بيره في المصنع الذي يعمل فيه. ولكن الله لطف فلم يُصب إلا بجرح خفيف، أتم الله شفاءه وعافاه
بعد أن تعارفنا تطلقت أسارير وجهه، وأخذ يسألني عن مصر وعن صحف مصر وعن الصحفيين الذين يطلبون منه أن يراسلهم مجانًا وهو في أشد الحاجة إلى المال، وعن الذين يستطيعون أن يسهلوا له سبيل العودة إلى مصر ولكنهم لا يفعلون!
ثم تناولنا معًا طعام العشاء. وطفنا طويلًا على شواطئ السين، وأسمعني مواويله وأزجاله القديمة التي كانت تضحك ناسًا وتبكي آخرين، في سنة ١٩١٩، وأسمعني كذلك طائفة من المقامات الهزلية التي تضحك الثكلى، خصوصًا مقامة «الفقي» الذي خرج يصطاد امرأة، والذي «شال العزال» إلى المحطة!؟
وانتهى المطاف إلى إحدى الحدائق العمومية التي تظل مفتوحة إلى نصف الليل، وكان بيرم أفندي قد تعب، فطلب أن نجلس قليلًا على أحد المقاعد، ولكنا وجدناها جميعًا مشغولة، فاضطرنا تعبه إلى أن نجلس على مقعد فيه عاشقان يتناجيان، والأدب في باريس لا يسمح بإزعاج العشاق، وظل الفتى يقبل الفتاة وهي بين يديه كأنها الغصن المطلول، وكأننا لسنا هنا وكأنهم ليسوا هناك؟
– لا تحسب يا دكتور أن هذا فسق، فقد يكون هذا العناق مقدمة زواج.
– اطمئن! فأنا أعتقد أن هذا الغزل المكشوف أسلم وأشرف من تلك السرائر المظلمة والقلوب السود التي تطوى عليها جوانح الغَدَرة الفَجَرة ممن يدّعون الفضيلة، والله بما يعملون عليم!
ثم هممنا بالعودة إلى منازلنا بعد سهرة جميلة نفينا بها أشجان الاغتراب.
– اسمع يا محمود أفندي، أنا سأكتب عنك مقالة.
– أنت تمزح. ألم يبق لديك ألا أن تكتب عن بيرم بعد أن نسيه الناس؟