هذه باريس وهذا باريس
صديقي …
لقد ألف الناس في مصر والشرق أن يلحظوا في باريس صيغة التأنيث، فهم يقولون (باريس الجميلة الفتانة)، ولكن الفرنسيين يعطون لعاصمتهم القوية صيغة التذكير، وإنهم ليقولون (باريس القوى القهار)، فما هو السبب في ميل الشرقيين إلى تأنيث هذه المدينة؟ السبب واضح، لأن الشرقيين يتوهمون هذه المدينة مدينة اللهو والدعارة والفسوق، فهم لذلك يعطونها اسما لينًا مؤنثًا يتناسب مع ما يحسبونه ينهار فيها من أركان الأخلاق، أما الفرنسيون فيعرفون فضل عاصمتهم ويعلمون أنها قوية جبارة غالبت الأعداء ونازلت الخطوب زمنًا غير قليل، ثم ظفرت من ذلك كله بمجد باق خالد تغلب عليه سيما البشر والابتسام، إذ لم يعد في حاجة إلى التبرم والعبوس.
أتذكر أنك سألتني غير مرة أن أحدثك عن باريس؟ إذن فاعلم أن صمتي عن جوابك لم يكن جهلًا لقدرك، ولا تهاونًا في حقك، ولكني ظننتك تنتظر مني جوابًا يساير الفكرة التي ينتظرها الشرقيون ممن يصف باريس، لذلك استبحت لنفسي الإغضاء عنك، وأنت أنت في ودك الصادق وعهدك المتين. واليوم، أتدري لم فكرت في جوابك؟ لسببين: الأول لرد التحية الجميلة التي حيتني بها جريدة الصباح والتي وعدت في ختامها القراء بأني سأوافيهم بشيء عن الحياة في باريس، والثاني لأن هذا اليوم — يوم ١٤ يوليه — أخرجني عن وقاري، فتركت عملي وخرجت أهيم كالثائر المجنون أتلمس أسباب الحياة في هذه المدينة الصاخبة التي أغوت من أغوت، وأضلّت من أضلّت، وهدَت من هدت من العالمين، فلم أجد أمامي إلا ذكرى النصر والحرب والسيف والمدفع والبأس والصبر والكفاح، وما شئت يا صديقي من الأسماء والمسميات التي خلقها الله لتمجيد البطولة والرجولة والقوة والبأس الشديد.
ولقد تعودت في الأعوام الماضية أن أشهد الحفلة القومية التي يعرض فيها الجيش صباحًا في ساحة النجم عند قبر الجندي المجهول، فبكرت من يومي هذا أسابق الناس إلى ذلك الميدان لعلي أجد مكانًا صالحًا أقضي فيه ساعات الاستعراض، ولكني علمت مع الأسف أن مجلس الوزراء قرر إلغاء هذه الحفلة في هذا العام فرارًا من وقدة الحر الذي هاجم باريس منذ يومين اثنين، وكنا في بداية هذا الصيف نشكو شدة البرد. وكذلك حُرم الباريسيون من ذلك المنظر الرائع منظر الجنود مدججة بالسلاح تذكِّر من عساه يغفل وينسى بأن الوطن لا يُحرس بغير القوة، وأن الأمة التي عُرفت في العالم كله بأنها صاحبة الفضل في نشر المبادئ الإنسانية هي أيضًا لا تعيش بغير القوة، وأنها في وجودها وعظمتها مدينة لقوة اليأس وصدق النضال.
أفهمت الآن أن باريس شيء غير الذي تعلم وغير الذي يتوهم الناس؟
لقد ألقيت في الشتاء الماضي محاضرة في نادي الموظفين عن تأثير المرأة في المجتمع الفرنسي، فلما نُشرت خلاصتها في بعض الصحف لقيني أحد الذين طالت إقامتهم في باريس وأفهمني بلطف أنني لم أعرف باريس. ولا أزال حتى الآن أجد من يلومني على حسن الظن أسديه إلى باريس. ألا فلتعلم يا صديقي أن الذي أحدثك به عن هذه المدينة هو الحق كل الحق، والذين يعرفوني يعلمون علم اليقين أني تغلغلت في أعماق الحياة الفرنسية وأنه لم يصل أحد إلى مثل ما وصلت إليه من الألفة الصافية والصلات العميقة مع الذين عرفتهم وصادقتهم وعاشرتهم من الفرنسيين في باريس وغير باريس. فالمرأة الفرنسية الصميمة الأصيلة يغلب عليها النبل والطهر والعفاف، وإن نبرة واحدة من صوتها الرنان لتبدل الأرض غير الأرض والسموات، وإنها لتذل من تُذل، وتُعز من تعز، وهي في مكانها كالطود الراسخ لا تُغلب ولا تُنال. ولو كانت المرأة الفرنسية هينة إلى الحد الذي يتوهمه الأفاقون الذين ترميهم المقادير تحت أقدام المومسات في باريس لما أنجبت فرنسا شاعرًا ولا كاتبًا، ولظل أهلها فقراء العواطف موتى الإحساس. والذين تراهم يتحدثون عن باريس ذلك الحديث الوقح المجرم المأفون هم قوم لا يزيدون في أخلاقهم ولا معارفهم عن شواذ الفلاحين في مصر حين يجيئون القاهرة عمدًا ليطفئوا حرارتهم الحيوانية في بعض البؤر الموبوءة ثم يعودون إلى أهليهم فيعطونهم من القاهرة صورة تجرح الطبع والذوق وتبغض الرجل المهذب في مظاهر المدنية وآثار النهوض.
في باريس اليوم نحو خمسة ملايين من السكان، أفيعيش هؤلاء الناس جميعًا بفضل الرذيلة؟ هذا محال. فلم يبق إلا أن نقف عند حدود العقل والمنطق فنتصور أن مثل هذه المدينة — وفيها نحو مليون من الأجانب — لا تخلو من أماكن تسود فيها الرذيلة ويغلب الشيطان. ولكن هل خطر ببال أحد من الذين هاجموا باريس أن يحدثونا عما فيها من المعاهد والمدارس والكليات والمتاحف والمعامل والملاجئ والمستشفيات. وهل خطر ببال أحد منهم أن يذكر أن الرجل قد يعيش في باريس بضع سنين ثم لا تقع عينه على منزل يُبنى أو منزل يهدم، حتى لأتصور أنا أن الله خلق هذه المدينة مرة واحدة يوم خلق الأرض والسماء؟! وهل فكر أحد من الذين رأوا باريس أن يلاحظ أن سكة حديد المترو التي تسير تحت الأرض ومن فوقها المنازل والقصور والحدائق، ومن فوقها أيضًا نهر السين بفروعه التي تزخر بالموج والسفين، أقول هل لاحظ أحد من هؤلاء أن هذه الخطوط الحديدية فاقت وهي حقيقة كل ما كان يتصوره الناس عن أعمال الجن وهي خيال؟ وهل اتجه فكر أحد من الذين يُجرِّحون باريس إلى أن رواد المكاتب وحدها ممن يسايرون الحركة العلمية في أرجاء العالم يزيدون أضعافًا مضاعفة على رواد الملاهي والملاعب والمشارب، في حين أن نعيم الحواس له عند أهل باريس قيمته، وأن اللهو عندهم قد يُقترف وله سحره وله معناه، وله فضله في تلوين الحياة الإنسانية بلون البشر والفتون، إذ كانوا قومًا جدهم جد وهزلهم جد؟
صديقي!
هذا باريس! ولا أقول: هذه باريس!
فإن كانت عندك ذخيرة من المال فتعال أعلمك كيف يضع الرجل درهمه في سبيل المجد والشرف، وكيف يستطيع أن يستقي ماء الحياة من منبع الحياة، فهنا معاهد العلوم والفنون والآداب. وإن كنت تريد أن تضيع مالك في الفولي بيرجير والمولان روج فإني أوصيك بتقويم عزمك وتهذيب نفسك لتبقى لك نعمة المال والشباب والعرض المصون.
أيها الناس!
لكم باريس، ولي باريس، والسلام
الطلبة عندنا وعندهم
الطلبة في جامعة باريس يشبهون إخوانهم في الجامعة المصرية في كثير من الوجوه، وهم جميعًا شياطين، فحيثما جلست فسهام ونشاب تخف لها الأحلام وتطيش العقول، وأكثر ما تصوّب القذائف إلى الفتيات اللاتي يتلقينها في جذل وابتسام.
وأظرف ما أذكر من حوادث الطلبة في الجامعة المصرية كان في قصر الزعفران سنة ١٩٢٦ حيث نثر الطلبة مسحوق الفلفل بين المقاعد، وكان الدكتور طه حسين يحاضر في انتحال الشعر الجاهلي وكنت بجانبه، فلم تصبنا ولله الحمد شظية من شظايا الفلفل، غير أن صديقنا الأستاذ الههياوي كان قد حضر ليعرف إلى أي حد كان انتحال الشعر الجاهلي! فجلس بين الطلبة وهو أقصر منهم، ويظهر أن خياشيمه كانت ضعيفة فأخذ يعطس وحده باستمرار ساعة كاملة، وأنا أشهد صابرًا ما يقاسيه المسكين من خطر العاطوس المجهول! فإن تذكر أستاذنا الدكتور طه حسين أنه عطس مرة في الجامعة المصرية فليعرف الآن أن ذلك لم يكن مصدره البرد، وإنما كان مصدره الفلفل المسحوق. وليس بسر ما أذعته أو عطسته على أكثر من مائتين! أليس كذلك؟