إلى باريس
قبل الرحيل
بعد شهور طوال أسهرتُ فيها ليلي، وأشقيتُ فيها نهاري، صحت مني العزيمة على العودة إلى باريس. وكانت نشوة فرح تشبه نشوات الطفل حين يحدثه أهله عن سفر سعيد، وكدت أكتب إلى خلصائي: أيها الأصدقاء، أنا عائد إلى باريس! ولكني توقرت، وكتمت فرحي، وأقبلت أعد ما لم أكن أعددته من المفكرات والمذكرات ... والملابس! وانطوت الأيام بسرعة خاطفة، ومضيت إلى «سنتريس» لتوديع أبي وأهلي وأصدقائي، وكان مني ما تعودته من الجمود حيال تلك الدموع الحِرار التي يسكبها الوالد — لا عدمته — كلما أسلمني إلى رفق الله ولطفه في سفر بعيد. ومضت بي السيارة وهي تحمل مني قلبًا راضته الأيام بعد الجُموح، وعلّمته كيف يجمد ويتحجر أمام أهوال الفراق.
وجاء صباح السبت الأخير من يونيه، وإذا أنا أمضي بأقدام ثابتة إلى محطة «باب الحديد»، وفي انتظاري أصدقاء قلائل جدًّا ثلاثة أو يزيدون! وغاب عن ذلك اليوم أصدقاء كنت آمل أن أراهم هناك. وهمَّ القطار بالقيام فحسدت المسافرين الآخرين، لأن مودعيهم كانوا من الجنس اللطيف الذي يحسن التوديع، ويقدم إليه أصلح وقود من التقبيل، ثم التلويح بالمناديل البيض! واكتفيت من مودعي الفضلاء بعبارات: فتح الله عليك، وجعلك من السالمين الغانمين!
فاللهم تقبل من عبادك الصالحين!
في الباخرة
مرت الساعات بين القاهرة والإسكندرية وأنا مقسم الفكر، منتشر الروية، أنظر تارة في الصحف، وأخرى إلى ما نمر به من الحقول، حتى أسلمنا القطار إلى الباخرة في غير عناء. ونقلت أمتعتي إلى مكاني في السفينة، ثم جاءت ساعة الغداء فشغلنا عن توديع الإسكندرية، إن كانت تحتاج منا إلى توديع، وهيهات! فقد تمادت بنا مظالم الحياة وكدنا لا نعرف ما الوطن وما فراقه؛ إذ كنا في بلادنا غرباء، والمظلوم في وطنه غريب.
وُضعت المائدة، وأقبلت أتخير مكاني بين المسافرين والمسافرات، فلمحت مكانًا خاليًا بين سرب من الظباء، فبادرت إلى احتلاله، وإذا صديق من زملائي الفرنسيين يقول: ماذا تريد يا مسيو مبارك؟ هذا مكان مشغول!
ماذا أريد؟ ماذا أريد؟!
الخبيث يعلم ما أريد، ولكنها الأثرة والغيرة واللؤم، كل أولئك حمله على إقصائي عن المكان المنشود!
ورجعت أتلفت علني أجد مكانًا طيبًا بين جيرة يخفق لهم القلب، وتهفو إليهم الجوانح، فلم أجد بعد البحث الطويل. وانتهى بي المطاف عند طرف من المائدة فيه اثنتان من العجائز، وفيه رجل مصري. أما العجائز فالقارئ يدرك أن الأنس بهن محال. والرجل المصري، ما حاجتنا إليه، وقد تركنا في مصر خمسة عشر مليونًا غير آسفين! على أن المصري في مثل هذه الأحوال قد يكون هو «الإنسان» الذي عناه الشاعر حين قال:
وكذلك مرت أيامي في الباخرة والملائكة مستريحون لم يكتبوا فيما أظن سطرًا واحدًا في صحيفة السيئات، وأحسبهم يتورّعون عن تقييد تلك الخواطر «البريئة» التي كانت تمضي في التحسر على ما فات من مجاورة الحسان! على أن الغي في بعض الأحوال قد يكون أطهر من الرشد. وقد يكون الإثم الجارح أسلم عاقبة من التقى المصنوع!
رجال الدين
في أكثر المرات أجد في سفري طوائف من الراهبين والراهبات. ولى في كل مرة ملاحظات وتأملات؛ ومشاهداتي في هذه المرة أمتع وأنفع، وإلى القارئ البيان:
الجنس اللطيف لطيف دائمًا، فالراهبة أعقل من الراهب وأبعد من الفضول، كتابها في يدها دائمًا، تقرأ آياته في تقى وإخلاص. وقد لاحظت أن بين الراهبات فتيات يقطر من وجوههن ماء الحسن، ويترقرق في أعطافهن ماء الشباب، وفيهن من سحر الجفون آيات بينات، فبدا لي أن الله عز شأنه أخذ يتخير لنفسه أطايب الجمال، ورأيت أن التقوى لا تصلح إلا من مثل تلك الوجوه الملاح. وليس من العنف في شيء أن نصارح القارئ بأنه لا خير في تقوى كثير من الناس، لأن أكثرهم لا يتقى الله إلا حين يعجز عن الإثم والفسوق، فهي تقوى ضرورة ورياء، لا تقوى بر وإيمان. وبعض الأتقياء لئام لا ينهون عن الغي إلا حسدًا لأهله على ما آتاهم الله من نعم المال والجمال والشباب، ولو أنهم ظفروا بسبب من أسباب الفتك لودعوا التقى وهم فرحون. وحسن السلوك عند أشباه الأبرار أشبه بسلوك العبيد، فهو في جملته ضرب من الصعلكة ولون من ألوان الموت، وهم يعلمون ذلك، ولكنهم يتكلفون الرضا بحظهم من الصلاح!
الراهبة أعقل من الراهب، كذلك أفترض، فقد كان معنا في الباخرة راهب شنيع الإسراف، لا يرضيه نبيذ المائدة، لأنه شراب عادي يبذل بسخاء للجميع، فكان يطلب لحسابه أجود أنواع الشراب، ثم يدعو من حواليه من الشواب النواهد إلى التفضل بمشاركته في ذلك الوِرد المباح! يفعل ذلك، وأنا أنظر إليه وملء جوانحي حقد وضغن، فهو يفعل كل ما يريد ويظل قديسًا، وأنا لا أفعل شيئًا ثم يهاجمني ذلك الزميل الفرنسي اللئيم قائلًا: ماذا تريد يا مسيو مبارك؟!
والنفاق نعمة عظيمة عرف قيمها اللئام فأوغلوا فيها، وافتنوا في جمع أسبابها. والصراحة محنة اقتنع أصحابها بأنها أساس الرجولة والنبل، فأسرفوا في العناد حتى لا أمل في ردهم إلى الحد المعقول. وأنا والله غير نادم، فليظفر من شاء من الأحبار، والرهبان، والأشياخ، بما شاء من طيبات الحياة، تحت ستار التقى والدين، فتلك كلها حظوظ سافلة لا يفرح بها إلا الضعفاء الذين يعرفون أن مصارحة الجمهور عبء ثقيل لا ينهض بأثقاله إلا الأقوياء الأشداء.
فتاة تشكو الفراق
كان ذلك حظي من رفقة المائدة، ولم يكن بد من السعي الحثيث للترويح عن النفس، وقد وصلت بعد جهد إلى التعرف إلى فتاة كانت تغني في مسرح … بالقاهرة، وهي فتاة ناهد حسناء، رشيقة القد، مشرقة الجبين، وفي عينيها النجلاوين بقايا خطيرة من سحر هاروت وماروت الذي ورد ذكره في القرآن، وفي صوتها غنة موسيقية كأنها غنة الظبي الوليد، ولأناملها رقة جذابة تفيض بالكهرباء، وفي خطراتها تكسّر وتثن أين منهما الغصن المطلول، ولها رفق بارع في إذكاء نار الحب والوجد فيمن تختار من أصحاب القلوب … هي فتاة فرنسية تعوّدت اللهو بالأشخاص، وبالأشياء، وبالأوطان، فلم يعد يهمها من تلقى ولا من تفارق، ولم تعد تفكر أي أرض تسكن، وإلى أي وطن تعود. ولكنها فيما تقول وقعت أخيرًا في أشراك الحب، بعد إذ سخرت بآلاف المحبين، وبعد إذ بُذلت في مرضاتها التضحيات الخطيرة بلا حساب. أما الإنسان الذي استطاع أن يكويها بناره، وأن يردها وهي صاغرة إلى زمرة الأشقياء، فهو شاب مصري فقير، لا يجد أسباب اللهو في أحياء القاهرة، ولكنه يملك فقط عينين ساجيتين، وشبابًا قويًّا، وجاذبية تميد لهولها الجبال.
كم ساعة قضتها تلك الفتاة وهي تبث إليَّ شكواها من مرارة الفراق، وكم لوعة ثارت في صدري من حنينها إلى سواي، وكم خلوة حلوة على ظهر السفينة استمعت فيها إلى أنفاسها الحِرار وهي تتكلف أسباب الصبر الجميل!
أيها العاشقة الحسناء!
أنا أيضًا … شاب فقير!