الشيخ عبد الباقي سرور
في هذه المدينة وفي مثل هذه الأيام من العام الماضي، تلقيت رسالة من صديقي الأستاذ الشيخ عبد العزيز صقر شاهين ينعي إليَّ فيها رجل العلم والفضل والنبل الشيخ عبد الباقي سرور نعيم. فألقيت الرسالة على مكتبي، ثم عدت إليها فقرأتها مثنى وثُلاث وربُاع، وأخذت أستنجد الدمع وأستصرخه وهو يتأبى ويتمنع حتى عدت طُعمة للجوى اللاعج اللافح، لا يطفئه دمع، ولا يسكنه نحيب ففررت من غرفتي أتلمس أسباب العزاء على شواطئ السين، وفي الحدائق التي تزخر بجموع اللاهين واللاهيات من أهل باريس، فلم يزدني ذلك إلا حزنًا إلى حزن، وخيّل إليَّ أن الدنيا كلها بما فيها من لهو وضحك وعبث ومجون لا تحمل في جوفها غير مرارة الداء الدويّ الذي طال عناده وحار فيه الأطباء.
ثم رجعت أبحث عن كلمة أودع بها ذلك الصديق الراحل فلم يُفتح عليَّ بشيء، فطفقت أتلهى وأتعزى بالفقرات التي كتبت عنه في الشورى والأهرام، وأعجب كيف يهوي ذلك النجم وأنا مفحم لا أجد ما أقوله توديعًا لضيائه الوهاج. وأخذت أروض نفسي على الصبر، وأقنع ضميري بأن هذه طبيعة الحياة، وأن كل حيّ إلى فناء، وأتمثل أمامي أهله وأصدقاءه وقد انصرف كل امرئ إلى شأنه، ولم تبق في نفوسهم ألا ذكرى تبرق حينًا وتخبو حينًا إلى أن تطويها يد النسيان، واندفعت أعمالي الشاقة المضنية ترميني بقوة في هوة الشواغل اليومية … آه … وكدت أنسى!
غير أنني بالرغم من ضرورات الحياة الصاخبة التي كُتب عليَّ فيها أن أكون جنديًّا لا يلقي السلاح أو يموت، كنت أعود إلى نفسي لأمرح قليلًا في جوانبها الروحية، وأقرأ في ثنياتها ما أبقته يد الزمن مسطورًا في سرائر الروح الحزين، إذ ذاك كنت أشعر بالوحشة المزعجة التي رماني بها القدر يوم اختطف صديقي عبد الباقي وخلاني من بعده أشكو فقد الصديق.
أشكو فقد الصديق!
إي والله! فإن الذين عرفوا الشيخ عبد الباقي سرور وعرفوا إلى أي حد كان ذلك الرجل النبيل يعرف حقوق الأخوة؛ ويحفظ واجبات الصداقة، يعرفون أن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يوجد له في بره شبيه أو مثيل.
بقي أن أحدث القارئ عن السبب الذي أخرجني من دنياي المادية ومضى بالقلم في تقييد هذه الكلمات: ذلك أني اقتنيت منذ أيام كتابًا في أكثر من ٣٠٠ صفحة في أجمل ورق وأنقى طبع، وهو مجموعة ما قاله رجال القانون في تمجيد زملائهم قتلى الحرب، فثارت نفسي واضطربت، ألا يكون لنا أيضًا نحن شهداء؟ وهممت أكتب لجريدة الشورى كلمة عن الشهداء! فهي جريدة قريبة العهد بهذا الوتر الحساس. ولكن أين هم الشهداء وأين تلك الحروب؟ هنا أحببت أن أربأ بنفسي عن تصور العامة من أدعياء المتحمسين، ورأيت أن هناك أيضًا ميدانًا تتصاول فيه العقول لا يقل خطرًا عن الميادين التي تتخاطر فيها السيوف، وتتقاذف المدافع، ويتفانى الجنود. فإذا استباح أحد لنفسه أن ينسى ما قدمه الشيخ عبد الباقي سرور من البلاء الحسن في الثورة المصرية، فسيذكر الناس جميعًا أنه كان من أنصار الرابطة الإسلامية، وأنه جاهد في ذلك مخلصًا بقلمه ولسانه إلى أن أسلم الروح …
وسيقول السفهاء من الناس: وما هي الرابطة الإسلامية؟ وسنجيب بأنها فوق ما تعلمون يا أجهل الناس بأسباب الحياة!
فسلام عليك يا عبد الباقي وعلى شمائلك الطيبة، ورحمة الله على ودك الصادق المتين!