كوست وبيللونت
الشعب الفرنسي كله في جميع أقطاره مشغول بالحديث عن الطيارين العظيمين كوست وبيللونت، بمناسبة اجتيازهما الإطلانطيق، ففي جميع الجرائد والمجلات وفي المدارس وأندية الشباب والكهول وحفلات السيدات يتردد اسما هذين الطيارين مقرونين بالاحترام والإعجاب. وللفرنسيين حماسة عجيبة لهذا النصر المبين، ويكاد فوز هذين الطيارين يطغى على جميع الانتصارات التي شهدها الفرنسيون، فإن بطولة هذا العصر ترجع في صميمها إلى الانتصارات العلمية، وقد مضى الزمن الذي كان يعدّ فيه أسر الأعداء والنكاية بالخصوم مأثرة قومية، وأصبحنا في زمن لا فضل فيه لغير العقل والعلم وقوة الإرادة في تذليل القوى الطبيعية، وقهر آفاق السماء.
«النصر أو الموت»
ولا أكتم القارئ أني عدّلت هذه العبارة بعض التعديل فهي فيما سمعت: «الثروة أو الموت» وهم يقولون ذلك وفاقًا للجائزة العظيمة التي كانت أعدت لمن يجتاز الإطلانطيق. وإنما عدّلت هذه العبارة لأني أحسب أن القوة الروحية أعظم دائمًا من القوة المادية، فهذه الثروة التي كان ينتظرها ذانك الطياران لم تكن في معناها ومدلولها شيئًا آخر غير النصر أو المجد.
«الحياة الحرة أو الموت»
فقد امتاز الشعب الفرنسي بأنه يغفى ما يغفى ثم تكون صيحة واحدة كافية لإيقاظه، ووثبته، وفزعه إلى السيف والمدفع. وقد شقي الناس في فهم طبيعة هذا الشعب، فهو في أيام السلم شعب لين رخو ماجن خلع، لا يرجى خيره ولا يتقى شره. فإذا نُفخ في الصور قامت قيامته وهب يناضل عن شرفه في حماسة دونها حماسة الأسود في الدفاع عن حرم العرين.
على أنه من الغفلة أن يظن أن المجد ينال بلا ثمن. هيهات! فالفرنسيون ليسوا جميعًا ظرفاء مونمارتر ومونبارناس. فهناك ألوف مؤلفة لا تعرف غير سهر الليل وكدح النهار في تحقيق ما يعنيهم من المشاكل العلمية والأدبية والفنية، وهناك ناس لا يرون الشعر ولا الموسيقى إلا في تلمس أسباب السماء. والمعضلة الحقيقية التي تواجه الرجل الشرقي في حين يذهب إلى أوربا هي الشقاء في فهم عبقرية هذه الشعوب الغالبة المنتصرة التي يقال لبنيها في دروس الجغرافيا: «إفريقيا كلها محكومة بدول الغرب، وليس فيها أمة مستقلة غير الحبشة»، والشرقي يسمع ذلك ويعجب وهو لو تأمل لعرف أن السبب في تقدم الغرب هو «حب المخاطرة»، كما أن السبب في تأخر الشرق هو انعدام روح المخاطرة، فقليل من الشرقيين من يقول: «المجد أو الموت» ولو أنهم قالوها مرة واحدة لحسب لهم ألف حساب، فحب الحياة هو باب الموت وحب الموت هو باب الحياة، ولكن أكثر الناس لا يفقهون!
والثروة التي استنكرنا أن تكون سر المخاطرة في اجتياز الإطلانطيق هي شيء لا يستهان به، ولكننا تعودنا التعامي عن الواقع، فأهل أوربا وأمريكا يرون الفقر أشنع من الموت، ويتلمسون أسباب الغنى من كل جانب، ويكادون ينطقون الأرض والسماء ليعرفوا أسرار الكنوز التي وردت في أساطير الأولين.
«القبر ولا الفقر»
فلم يفهموا ما معنى ذلك، وقال قائلهم: إن الفقر ليس بعيب، ولو رجعوا إلى الواقع لرأوا الفقر مصدر العيوب، فهو الذي يذل نبلاء الأرواح، وأعزاء النفوس، وهو الذي يقعد بالرجل الشهم عما يسمو إليه من جلائل الأخطار.
ولقد يذكرون أن كوست وبللونت غنما من هذه المخاطرة نحو خمسين مليونًا من الفرنكات. ويذكرون أنهما استغلا جميع الطرق في هذا السبيل، فالأشرطة السينمائية، والصور الفتوغرافية والمحادثات مع الصحفيين، والخرافات التي أضافاها إلى سفرهما الشاق، كل ذلك دفع ثمنه بسخاء أيِّ سخاء ممن طلبوه. وقد أسرف هذان الطياران في استغلال هذه المخاطرة إسرافًا فاحشًا، ولكنه في جملته غير بعيد من طبيعة الشعب الفرنسي، فالفرنسيون مشهورون بالحرص والتفكير في الغد، والفرنسي من بين الناس جميعًا يقدر دخله وخرجه وجميع أسباب رزقه تقديرًا يتعدى خمسين عامًا من أيامه المقبلة، وهو لا يخطو خطوة واحدة إلا وقد حسب ما فيها من المنافع المادية، والتحية غالية عليه أن كان لا يُنتظر من ورائها نفع. وعلى الجملة الرجل الفرنسي حيوان مهذب، واسع الحيلة كثير التدبير، وهو أحرص من النمل في هذا الباب. ولقد أذكر أن الإسلام لا يجري على لسانهم إلا بالخير لأنه حرم المسكرات، ولكنهم لا يفهمون كيف يمكن الإيمان بالقضاء والقدر وكيف يصح التوكل، ولا أدري أنا من الذي علمهم كلمة «مكتوب» فهم يكررونها كلما بدا لهم أن يسخروا من تقاليد المسلمين!
والجانب المشرف في اجتياز الإطلانطيق من باريس إلى نيويورك أنه محاولة فرنسية، وأن جميع أجهزة الطيارة صنعت في مصانع فرنسية، وأن ذلك المشروع الذي نجح كان لطيارين يعتزان كل الاعتزاز بالقومية الفرنسية. ومن أجل هذا أُعدَّ ذلك الاستقبال البهيج لذينك الطيارين في مدينة باريس، ففي صباح الأمس صدر منشور من حاكم المدينة يوصي فيه جميع الباريسيين أن يرفعوا أعلامهم على منازلهم، وأن يزينوا شرفاتهم بالأزهار، وأن يستعدوا لاستقبال أبطال الإطلانطيق بما توجبه المروءة والحماسة نحو رجلين خاطرا بحياتهما في سبيل العلم والمدنية، ورفعا اسم فرنسا بين شعوب العالم القديم والعالم الجديد.
ومنذ الساعة العاشرة صباحًا إلى الساعة الرابعة بعد الظهر كان أهالي باريس في نشوة لا تعدلها نشوة، فمنهم من ذهب إلى بورجيه حيث تقدم الطيارة من الهافر، ومنهم من ذهب إلى الإيليزية حيث يظفر الطياران بترحيب رئيس الجمهورية، ومنهم من ذهب إلى ميدان الأوتل ذي فيل حيث تجرى الحفلة الرسمية. كل ذلك والمطر ينهمر، والريح تعصف، والباريسيون يقابلون عبوس الطبيعة ببريق الابتسام.
وكان أجمل ما أثر في ذلك اليوم خروج الطيارين من عند رئيس الجمهورية وذهابهما مباشرة إلى قبر الجندي المجهول حيث وضعا ما أهدي إليها من الأزهار على ذلك القبر المعبود.
وقد لوحظ أن السيدات كن أكثر عددًا من الرجال، وهذا طبيعي في مدينة بعد نساؤها موحيات الحماسة، ومذكيات العزائم. وأهديت إلى الطيارين أوسمة الشرف، وساعات ذهبية وضعت أرقامها من الاثني عشر حرفًا التي تكون منها كلمتا (باريس نيويورك).
وقد سمعت المتفرجين يحاور بعضهم بعضًا عن الجائزة الأمريكية التي وضعت لمن يجتاز الإطلانطيق طائرًا. قال أحدهم لصاحبه وهو يحاوره: إن الحكومة الفرنسية لا تعطي ذهبًا ولكنها تعطي أوسمة! فتذكرت والأسى يحز في القلب بعض الحكومات الشرقية التي لا تهب المخاطرين من أبنائها ذهبًا ولا أوسمة!
على أننا لو قارنا عزائم الشباب الفرنسيين بعزائم الشباب المصريين لرأينا في المصريين شمائل توجب الزهو والاختيال؛ فالفرنسيون تشجعهم أمتهم وحكومتهم، في حين أن المصري ينهض وحده بلا مشارك ولا معين، ويقاوم المصاعب في صبر واحتساب، يقاوم حين ينجح دسائس الحاسدين والكائدين، ويقاوم حين يخفق شماتة الحاقدين وسخرية القاعدين، وفي ذلك تكبير وتجسيم للتضحيات النبيلة التي يبذلها الشباب المجتهدون في بيئات وأجواء مثقلة بأوزار التثبيط والتعويق.
فإلى الأمام يا شباب مصر، افتحوا ما شاءت لكم عزائمكم من أقطار الأرض وآفاق السماء، والله معكم وهو خير الناصرين.
الفرنسيون
«على وجوهكم تتمثل شمائل فرنسا الخالدة، فعندكم في السلم كما كان عندكم في الحرب، الشجاعة والصبر والثقة. أما الشجاعة ففضيلة القلب، وأما الصبر ففضيلة الخلق، وأما الثقة ففضيلة النفس، وكل هذه الفضائل فرنسية. إن الأجنبي لا يفهم هذا الشعب ولن يفهمه أبدًا، لا ريب في ذلك. إن هذا الشعب يُظهر في سذاجة ما لديه من النقائص السطحية في أوقات الأمان، وبذلك يحكم الأجنبي بأنه شعب فارغ. ولكنه يظهر في أوقاته العصيبة، وساعته التاريخية، بفضائل عجيبة تضمن له النصر المبين. وبين الفرنسي المتوسط والفرنسي المتفوق توجد هوة لا يعرف الأجنبي قرارها، ومن البيئات المجهولة يخرج أبطال يفزع لرؤيتهم من كان يقدر أن ليس هناك غير الفراغ.»