الحديث ذو شجون
الصديق
في الأسبوع الأخير من شهر مايو الماضي أرسلت إلى صاحب الشورى عنواني في باريس، ورجوته أن يحول الجريدة إلى هناك. وفي يوم السفر تلقيت في الصباح عددًا من الشورى فظننت خطابي لم يصل إلى إدارة الجريدة، أو أنه وصل بعد وضع هذا العدد في البريد، فلما وصلت إلى باريس في أوائل يونيه وجدت العدد نفسه قد سبقني إلى هناك، فعرفت سر المسألة، وهو سر واضح لا يزيد عن أن الأستاذ الطاهر أراد أن يودعني يوم سفري من مصر الجديدة وأن يستقبلني يوم قدومي إلى باريس، فهل يتفضل هذا «الصديق» بقبول هذه الكلمة الصادقة كلمة الاعتراف بالجميل من رجل يعرف كيف تكون الصداقة وكيف يكون الأصدقاء؟
ولعل القارئ يتلفت فيسأل كيف وضعت كلمة «الصديق» بين قوسين؟ والجواب حاضر عتيد، ولكنه كريه الطعم مر المذاق، ذلك بأن صاحب الشورى كان واسطة العقد في طائفة من الأصدقاء شاءت سجايا الناس أن يتبددوا، وقضت أهواؤهم أن تنفصم عرى المودة وأواصر المعروف، وفيهم والله من لا يزيده الإعراض إلا قربًا من النفس، واعزازًا على القلب، ومن لو تغيرت الدنيا ومن عليها، وتبدل كل شيء فيها، لبقيت وحدي أحفظ بين سرائر القلب ما كان له من خالص الود وصادق الجميل.
تبدد أولئك الأصدقاء، وبقي هذا الأخ المجاهد الذي نرجو أن يبقى وداده ذكرى طيبة لذلك العهد الذي لو بقي من تحب على ما عهدناهم فيه لكان للدنيا عندنا لون غير هذا اللون المتقلب البغيض
الذين لا يعلمون
ذكرت الشورى أن الحكومة المصرية ستقيم ضريح المغفور له سعد باشا على الطراز العربي، ثم قالت: لا على الطراز الفرعوني الذي اقترحه بعض الذين لا يعدون من مصر ولا من أوربا. وكان يكفي أن تقول: لا على الطراز الفرعوني الذي اقترحه بعض الذين لا يعلمون.
الواقع أن عددًا ضئيلًا من دعاة الوطنية المصرية «لا يعلمون» ما هي الوطنية. فهم يحسبون أن الفراعنة أقرب إلى مصر من العرب، مع أن قليلًا من صدق الحس وسلامة الذوق يكفي للاقتناع بأن مصر الحديثة مدينة من البداية إلى النهاية للحضارة الإسلامية. وأنه إن صح لأي قطر أن يتبرأ من العرب فلن يصح ذلك لمصر التي لم يكفها أن تستفيد من حضارة العرب، بل نهضت غير مرة بأعباء الحضارة العربية ونشرتها في كثير من الأقطار، وهي اليوم مطمح أنظار العرب والمسلمين الذين يودون أن يفتح الله لهم أبواب المجد من جديد. وما ذلك على الله بعزيز
وبهذه المناسبة أذكر أنني كثيرًا ما ألاقي في باريس رجالًا من الحجاز والشام والعراق وكثيرًا ما نتداول الرأي في إنهاض الأمم العربية، فما يروعني إلا شكواهم من أن مصر لا تقول بأنها أمة عربية.
والواقع أيضًا أن مصر لا «تقول» بأنها أمة عربية، ولكنها «عربية بالفعل»، فليت إخواننا في الشرق العربي لا يطالبوننا بأن «نقول» إننا عرب؛ فإن القول لا يغني فتيلًا. وحسب مصر أن تنبض حقًّا بإحياء الآداب العربية، وأن تكون مكاتبها ومدارسها وجرائدها ومعاهدها وأنديتها مصانع لإيقاظ الروح العربي وميادين لبعث ذلك المجد الدفين.