ليلة على شاطئ المانش
أخي الأستاذ أنيس ميخائيل
أكتب إليك هذه الرسالة من «رُوان» مدينة الماضي والأحلام والفن الجميل، ولعلك تسأل كيف هويت إلى هذه البلاد. وإني لمخبرك بأني ضجرت من باريس، وفكرت في اختبار الأقاليم الفرنسية، لأرى كيف يعيش أهالي الريف. وأرشدني أحد أصدقائي الفرنسيين إلى نورمنديا، أغنى الأقطار الفرنسية وأقربها إلى سحر الطبيعة، وأحفلها بالغابات والحدائق والبساتين. وهي سياحة فنية خالصة لا يشوبها إلا غرض واحد، ولكنه غرض علمي، هو زيارة المسيو ديمومبين في هوتو، وقد رأيت أن أمضي أولًا إلى الهافر ثم أعود منها إلى روان. ولا تسأل كيف كان جمال الطريق، فقد تأنقت الطبيعة تأنقًا لا مثيل له في هندمة نورمنديا وتتويج حُزونها وسهولها ووديانها بكل رائع شائق من الأزهار والأشجار وخمائل الكروم، ففي كل واد، وفي كل نجد، وفي كل سهل، ترى المنازل الريفية الصغيرة منثورة في سحر وروعة كأنها أمان مجسمة تركت مهادها من القلوب واحتلت بساط الخضراء، وحيثما ألقيت بصرك من نافذة القطار رأيت الأهالي ناعمين وادعين ومن حولهم مواشيهم وأطيارهم وما جمعوا من طيب المحصول. وقد عرفت بهذه السياحة النورمندية كيف اتفق لبرناردين دي سان بيير أن يكون شاعر الطبيعة، وأن تزاحم مؤلفاته مؤلفات جان جاك روسّو، فإن لمناظر الوطن الأول وذكرياته أثرًا قويًّا في تكوين العقل والحس والخيال
كانت أكلة لذيذة في مطعم المحطة بالهافر، مضيت من بعدها أبحث عن مأوى في أحد الفنادق، ولكن كيف والفنادق قليلة وليس فيها مكان واحد غير مشغول، لقد قضيت ساعتين كاملتين أبحث عن مكان أضع فيه أمتعتي، وأبيت فيه، ولكني لم أجد شيئًا، فرأيت آخر الأمر أن ألجأ إلى البوليس أسأله كيف ينام الغريب في ليلة مطيرة باردة على شاطئ المحيط. فأسرع البوليس إلى التليفون وأخذ يستعلم من جميع الفنادق عن غرفة أي غرفة يقضي فيها أحد القادمين سواد الليل، فأجيب بأن الفنادق كلها مشغولة وقد يرجى أن توجد أماكن خالية غدًا أو بعد غد إن كان هذا القادم من الصابرين. وهذا الصبر يا صديقي شيء يتواصى به الناس ولكنهم لا يعرفونه، وكيف يصبر من قضى نهاره في السفر على قضاء الليل هائمًا يتنقل من مشرب إلى مشرب ومن ناد إلى ناد! وقفت قليلًا أتدبر أمرى في مثل هذه الأزمة المفاجئة التي لا تمر ببال من يقدم إلى ثغر من الثغور الأوربية ثم رأيت أن أضع حقيبة السفر في مكتب الأمانات بالمحطة، وأن أعود إلى المدينة أقضى فيها الليل ساهرًا على أي حال.
ولكن هذا الإخفاق لم يمنعني من المحاولة، والمرء يعجز لا المحالة، فأخذت أسأل الناس في طريقي عن منزل آوي إليه فساقتني المصادفة إلى سيدة عَوان، فقلت: هل من مأوى يا مدام؟ فأجابت: عندي إن شئت! فقلت: بكم؟ فأجابت: (المبيت وكل شيء بمائة فرنك) فأطرقت استحياء وقلت في نفسي: المبيت مفهوم. ولكن (كل شيء) هذا ما معناه؟
إن كل شيء اسم لمجلة مصرية، ولكن يظهر أنه هنا اسم لشيء آخر معلوم! ثم رفعت بصري إليها وقلت: المبيت فقط يا مدام، والله الغني عن كل شيء! فقالت: من أين قدمت؟ قلت من باريس. فقالت: ولكن مع هذا يظهر أنك أجنبي عبيط! فقلت: تشتميني في بلدكم! الله يسامحك يا مدام! وخليتها وانصرفت.
وبعد لحظات رأيت سيدة تتوجه إلى جماعة في قهوة وتقول: إن سألكم سائل عن مكان للنوم فأرسلوه إلينا فإن لدينا غرفة خالية. فتقدمت إليها وقلت: أنا ذلك السائل المنشود! فأجابت على الرحب والسعة. ومضيت معها بقلب فرح طروب، ولم أكد أدخل تلك الغرفة حتى تقدمت إلى فتاة تسأل أن كنت أشكو البرد وأحتاج إلى وقود. فتلفت فإذا فتاة هيفاء، ساحرة الطرف أسيلة الخد، واضحة الجبين، لا أذكر أني رأيت مثلها في باريس. فاندفعت في طيش ونزق أقيدها بأسباب الحديث، وقلت: أنت نورمندية يا مدموازيل؟ فأجابت: لا، ولكني بريتانية. فقلت: يا للشرف؟ أنت إذن بلدية إرنست رينان؟ فقالت: ومن هو إرنست رينان؟ فقلت: الفيلسوف الكبير مؤلف كتاب مستقبل العلم، وكتاب حياة المسيح. فقالت: لا أعرفه. قلت: عجبًا، إن الشيخ بخيت يعرفه وقد نقض فلسفته في محاضرة ألقاها بالجامعة المصرية سنة ١٩٣٤، فقالت: ومن الشيخ بخيت؟ فقلت: تجهلين هذا أيضًا؟ هذا فيلسوف عظيم، وهو صاحب كتاب (منحة العبيد في علم التوحيد) وكتاب …
ولم أكد أصل إلى هذا الحد من المحاورة حتى سمعت الجرس يدق دقًّا عنيفًا متواليًا وإذا ربة المنزل تصيح: ماري! انزلي، ماري! انزلي، ليست هذه ساعة التلكؤ والفضول … ونزلت الفتاة مسرعة، وعرفت أن ربة المنزل لئيمة، وأنها أبخل وأضن وأحقد من أن تسمح لزائر بمحاورة هذه الشقراء الهيفاء، فأسررتها في نفسي وأقسمت لأتركن هذه الغرفة لتصفر فيها تلك العجوز الشمطاء … ثم خرجت متعللًا بأن الغرفة لا توافقني لأنها تطل على الفناء، وكنت أحسبها تشرف على الميدان …
ولكن إلى أين أذهب والمطر ينسكب بشدة كأفواه القرب بحيث لا تغني في دفعه المطرية — ولا أقول الشمسية لأنا هنا نتقي بها المطر لا الشمس! — إلى أين يذهب الغريب في هذه المدينة الموحشة وقد انتصف الليل أو كاد!
إلى شاطئ المانش لأرى ما يفعل ذلك الأهوج المجنون بالسفن، ولا تستكثر هذا الوصف فإن الذي لا يرى المانش لا يعرف كيف يكون جنون البحر وهوج الرياح، وأن السفن لتكاد تتحطم على الشاطئ من قسوة الأمواج. ولا تسأل كيف قاسيت في تلك الليلة، فإني لا أذكر أني قضيت ليلة أطيب منها ولا آنس ولا أروح في حياتي، وقد عذرت عشاق الطبيعة الصاخبة وعرفت كيف يكون طعم الحياة في مواجهة الأخطار، وعرفت إلى أي مدى يجني المترفون على أنفسهم حين يأبون إلا أن يعيشوا في كنف الطمأنينة والهدوء.
وشد ما كان صدري يثور بالنشوة والطرب كلما تصورت أن الحياة أتاحت لي أن أعيش ليلة على النمط الذي كان يعيش عليه شعراء الإغريق! وكم خاطر شعريّ طاف بقلبي! وكم أمنية عذبة مرت بالنفس وكادت تحملني على أن أتحول إلى بحار يبحث عن أسباب رزقه في مصاحبة ذلك العُباب المجهول!
فلما كانت الساعة الثالثة صباحًا نزلت إلى اليم أنظر ما يفعل الصيادون، وهم هناك مئات بين رجال ونساء وصبية وكهول، يجمعون ما تسمح به الشواطئ من مختلف الأسماك. وساعة واحدة بين أولئك القوم تشعرك بجمال النشاط والسعي في طلب الرزق الحلال، وحياتهم كذلك صورة صادقة للإنسان القديم. فقد تغير كل شيء إلا هذا النمط من استغلال شواطئ البحار. فأي شيء هذه الحياة الرادعة التي نحياها في سجن ما أبدعت المدنية من ألوان التقاليد؟ وأين نحن من ذلك المرح اللاجب الذي يحيا في ظلاله من يعيشون على سواعدهم من شياطين الصيد. لقد ظللت في هذه النزهة الطبيعية إلى مطلع الشمس، ثم عدت إلى المدينة فوجدتها لا تزال أمامي أضيق من سم الخياط، فأخذت القطار إلى رُوان.