قلب المرأة
في أكثر الشوارع في باريس توجد مقاعد عمومية يجلس عليها السائرون إذا أجهدهم المشي واحتاجوا إلى الراحة بضع لحظات، لهذا الغرض وضعت تلك المقاعد، ولكنها تستعمل في بعض الأحيان لأغراض ثانوية، فمن العشاق من يستفيد من تلك المقاعد إذا جن الليل وأُسدلت عليها ظلال الأشجار، ومن الفقراء من لا مأوى له فيتخذ منها مأواه ويظل جالسًا عليها بين النوم واليقظة حتى مطلع الفجر، وليس له أن يرقد وإلا طرده البوليس. وقليلًا ما تكون تلك المقاعد موعدًا لصديقين يفضلان ألا يكون ملتقاهما في قهوة تكلفهما بضعة فرنكات، على شرط أن يكون ذانك الصديقان من الجرأة وفهم حقائق الواقع بحيث لا يهمهما الاتهام بالفقر والإفلاس. فقد رأيت من الأساتذة المحترمين من ينتظرون زملاءهم على تلك المقاعد، في حين أنه يندر أن يوجد من الطلبة والشبان من ينتظر رفيقًا له هناك.
ولهذه المقاعد مظهر آخر من الساعة السادسة إلى الثامنة مساء، فعندها يلتقي العمال الذين امتد بهم الزمن وطالت عليهم الحياة، ومع كل عامل كيس كبير فيه الخبز والجبن، وفيه كذلك كأس وسكين وشوكة. وبجانبه قارورة كبيرة فيها لتر من النبيذ الأحمر، ثم يجلسون فرادى وجماعات، وقد طالت لحاهم، واغبرت شعورهم، وعليهم خرق بالية قذرة، وقد تكون كل ما يملكون لدفع غوائل البرد الشديد.
وما هي إلا لحظة يفتح العامل فيها كيسه، ويكسر خبزه، ويملأ كأسه، حتى تدور به الأرض، وبنقله الشراب إلى عالم الأحلام. إذ ذاك تراه يسمر مع رفاقه في لطف ودعة وانشراح، كأنه رئيس الجمهورية، أو كأنه لم يقض يومه في حفر الأنفاق، ونقل الأتربة، وحمل الأحجار … ولبعض هؤلاء العمال خليلات مساكين صح فيهن قول الشاعر:
فتراهم أحيانًا وقد جلس الرجل الأشمط إلى خليلته الشمطاء يبادلها أطيب الأحاديث، ولكن للهرم والشيخوخة حكم قاهر في مثل هذه الظروف، فقد يندر أن يجري الضم والعناق بين العشاق الكهول مهما بعثتهم الراح، وهي تبعث الأموات. وكثيرًا ما ترى رجلًا وامرأة يتطارحان الشعر ويتحدثان عن كورني وراسين وموليير، فتحكم بأنه كان لهما شأن في العالم المهذب، ثم طاحت بهما الأيام.
وما أنس لا أنس عجوزًا فانية جلست إلى رفيقها على مقعد في ميدان (نوتردام) فجلست قريبًا منهما أسترق السمع وأختلس بعض أطايب الحديث، فلمحت المرأة مكاني وأقبلت تسأل: أنت إسباني يا مسيو؟ فقلت: لم تبعدي يا مدام، فقد كان لي في إسبانيا أجداد، وأنا اليوم مصري. فاندفعت تتكلم بحماسة ولباقة عن الفراعنة وتاريخ قدماء المصريين، ثم سألتني عما أحفظ من الشعر الفرنسي فأجبتها بأني حفظت كثيرًا، ولكني لا أستطيع في اللحظة الحاضرة أن أنشدها إلا مقطوعات قليلة، وكذلك كنت أنشد البيت الأول من القصيدة وأقف فتتمها هي بلا تحبُّس ولا توقف كأنها تغرف من بحر. ولكن المسكينة كانت تخلط ذلك بخطرات من الجنون حملتني على الانصراف قبل منتصف الليل، وكانت مستعدة إلى المضيّ في الإنشاد حتى الصباح!
وفي مساء الأمس بجانب السين وبالقرب من قنطرة سانت جنفييف رأيت الناس مجتمعين حول مقعد من تلك المقاعد، فنظرت فإذا امرأة تناهز الخمسين لا يزال شعرها أصفر وفيه بريق، وإن سقطت أسنانها جميعًا وظلت أشداقها خالية كثيرة التلافيف. وهي واقفة يهاجمها الناس وتهاجمهم، ولكنها تخلط جدًّا بهزل، وتنتقل في حوارها من فن إلى فن، وكلما فرغت من شوط من أشواط لجاجها مدت بصرها وعنقها وهي تقول: لقد دفعت ثمن ما شربت. فماذا تريدون! عجبًا لكم، لقد دفعت ثمن ما شربت، أنا، أنا، من دون أن أحتاج إلى مساعد ولا معين. فذكرتني بذلك المتحذلق الذي كان يقول وهو من غروره في مثل سكرها: ما لكم تكأكأتم عليَّ كتكأكئكم على ذي جنة، افرنقعوا. أو كما قال!
وفي لجة تلك الفورة كانت تتقدم المسكينة إلى بعض الشبان فتناوشهم في شيء من اللطف، فمنهم من كان يثبت ومنهم من كان يفرّ، وفي النهاية صمد لها شاب يقارب الثلاثين، وأخذ يلاعبها في جدّ يشوبه هزل، ومضت الملاحاة بضع دقائق والناس ينظرون لاهين ضاحكين، والمرأة تهزم حينًا وتنتصر حينًا، وبين الهزيمة والانتصار تستسلم إلى أحلامها وهواجسها فتتغنى وتتمايل وهي تدمدم: لقد دفعت ثمن ما شربت فماذا تريدون؟
وأعجب ما في الأمر أن تلك المرأة كانت تتجنى على ذلك الشاب، فتذكر أنه من بلد منحط وضيع وتصارحه بأنه من الجزائر. فكان الفتى يثور ويقول: إن بلادي أقدم حضارة مدنية من بلادكم، ونحن خير منكم. وكان ذلك يجري ونحن نظن أن الأمر مزاح في مزاح، وما هي إلا لحظات حتى اشتد اللجاج. وكانت المرأة تقول: أنا أرى الجزائر في وجهك، أنا أرى الجزائر في وجهك! ثم غُلبت على أمرها وفاضت عيونها بالدمع السخين.
وفي سورة تلك المعركة تقدمت سيدتان محتشمتان كل الاحتشام حتى لتحسبهما من عقائل القاهرة، وليس على وجههما أي أثر من آثار التلوين والتزيين، إن كان بقي في باريس امرأة لم تعرف تلوين الجباه والشفاه والخدود، فنظرت فإذا تانك السيدتان تخطوان خطوات حذرة هيوب نحو تلك المرأة التي بدد رشدها الشراب وهما يقولان: هلم إلينا يا مدام، أين منزلك يا مدام، يا مدام أين تسكنين؟ في أي شارع ومن أي حي؟ حدثينا، أجيبي، نحن معك حتى تصلي هادئة مطمئنة … كل هذا والمسكينة لا تعيرهما التفاتة واحدة لشغلها الشاغل بتلك الحرب الشعواء. وفي النهاية تغلبت السيدتان وانتزعتا المرأة من أنياب اللجاج والخصام، ومضتا بها إلى حيث تقيم … فعدت أتأمل كيف يتكون قلب المرأة وكيف تحنو على بنات جنسها في ساعات البأساء والضراء، وذكرت أن باريس مهما استسلمت واستسلم أهلها إلى الترف والفساد ستظل تحفظ في أعماقها بقايا الرفق والعطف والحنان، وأن العواطف الإنسانية ستبقى سليمة في صميمها مهما طغت عليها المظاهر وأخفاها التمدن المصنوع.
وذكرت تلك القصة القديمة التي تحدثنا أن ملكًا زعم أنه يستطيع أن يحول الخصال والطباع من حال إلى حال بالتربية والتعليم، وأن وزيره كان يخالفه في ذلك الرأي، ويحكم بأن الطبيعة هي الطبيعة لا تتحول ولا تتغير مهما لوّنتها ظروف الزمان والمكان وكان من ذلك أن عُني الملك بتربية القِط الذي كان يداعبه تربية خاصة، حتى كان القط يحمل الشمعة ويقف بين يدي سيده وهو خاشع مطيع، واستقدم الملك الوزير ليريه أن التربية والتعليم يغيران الطباع، ولكن الوزير كان أدهى وأمكر حيث وضع في جيبه فأرًا صغيرًا، فلما كانت المحاورة بينه وبين الملك بشأن القط الذي يحمل الشمعة ألقى الوزير الفأر على البساط، فرمى القط الشمعة وانطلق يعدو خلف عدوه الذي أعدته له الطبيعة!
مضت السيدتان بالمرأة إلى حيث تقيم، إن كان لمثلها منزل تأوي إليه، ولكن الحادث تفرعت عنه مشكلة، ذلك بأن الشاب الذي كان يلاحي المرأة عربي من الجزائر، والمشاهدون للنزاع أكثرهم عمال فرنسيون، والعربي الجزائري في زعم هؤلاء منحط وضيع، فكيف يتسنى له أن يلاحي امرأة أثقلها السكر وفارقها الوقار؟ وكذلك برز له اثنان يناوشانه بقارص الكلام، وهو يلاحيهما ملاحاة الأكفاء ويهاجمهما بمثل ما يهاجمانه، ذم بذم، وسباب بسباب، لكن هؤلاء جماعة وهذا واحد فرد، وهم في بلادهم وهو غريب! فوقفت أنتظر ما سيكون علني أقف في صف ذلك العربي المغترب إن جد الجد واحتدم القتال. وما هي إلا دقائق حتى فاض الشر فتقدم الفتى إلى خصومه وفي عينيه نار تتقد وقال لهم: إن كنتم تريدون الحرب فأنا عند ما تريدون وفوق ما تظنون، وإن كانت عزائمكم لا تتخطى السباب والفحش والإقذاع، فأنا أنصح لكم بالاقتصاد فإن هذا سلاح النساء والضعفاء.
كنت أظن عند هذا أن ستقع الحرب بالفعل، ولكني لمحت العمال الفرنسيين تراجعوا وتقهقروا وقال قائلهم: نحن نلومك على أن تتعرض لامرأة في سن الخمسين، هذا ينافي الذوق، هذه وقاحة، شاب مثلك لا يحسن به أن يهاجم امرأة في مثل تلك السن. أما الحرب فأنت تعرف أننا لا نجبن عنها. ولكن … ولكن …
وكذلك وقفت المشكلة عند هذا الحد وانصرف الفتى الجزائري وهو يقول: لعنة الله على الجبناء!
وبهذه المناسبة لا يفوتني أن أذكر للقارئ أن العمال التونسيين والجزائريين والمراكشيين لهم في باريس نفوذ رهيب، ولهم في كل حي عصابات تشبه عصابات الصعايدة في الإسكندرية، أفأستطيع أن أقول بأن هذا النوع من التشرد المخيف يشبه أن يكون عدوانًا بعدوان واحتلالًا باحتلال!