من غربة إلى غربة
بين القاهرة وباريس
صديقي فؤاد
كتبت إليَّ تقول: «في مصر فراغ لغيابك، وفي قلوبنا شوق لحديثك.» فهل لك أن تعيرني قلبك لحظة واحدة لأحدثك عما فعل في نفسي خطابك الجميل؟
إنك لتذكر كيف كنت أعيش في مصر، وتذكر كيف كانت تمضي الأيام والشهور ولا تتاح فرصة صغيرة أتحدث فيها إلى صديق، أو أذهب إلى حفلة ساهرة، أو أشهد منظرًا من مناظر اللهو والطبيعة على ضفاف النيل. وأصدقائي الذين يراسلونني في باريس هم أنفسهم الذين كنت أراسلهم في القاهرة على قرب المزار، يوم كانت أعمالي لا تسمح بملاقاة من في طريقي منهم بالقاهرة أو من يجاورني في مصر الجديدة، ويوم اطردت الشواغل اطرادًا مزعجًا لا يترك فراغًا في صباح ولا هدوءًا في مساء.
ولكن هل من الحق أن ضرورات العمل والجد هي وحدها التي كانت تحبسني في قفص من حديد؟
ما أظن ذلك، فقد كانت هناك ساعات مختلسة أقضيها على الشواطئ وفي الحدائق، وكانت هناك لحظات يومية أقضيها في المترو صباحًا ومساء، وكان في هذه وتلك ما يكفي لمتعة النفس، وطمأنينة القلب، وراحة الروح. فهل أجدى ذلك عليَّ شيئًا؟
وهل غير من قلقي واضطرابي؟ وهل نقل نفسي إلى قرار أو سكون؟
الحق أن المشكلة الباقية الخالدة هي أزمة القلب، فأنى لا أعرف أشقى من ذلك الصاحب الذي يسكن بين الضلوع، إنه صاحب ولكنه في الوقت نفسه عدو وحبيب، قد سعدت به وشقيت، ومت وحييت، وأنا به بين حزن دائم وفرح مخطوف. ولا أستطيع أن أصف لك كدر الساعات التي كنت أقضيها على شاطئ النيل في هدآت المساء، ولا تستطيع أن تقدر كيف كان انقباضي وضجري من مناظر الرائحين والرائحات، والغادين والغاديات، على ذلك الشاطئ الخالد الذي شهد ما شهد من وثبات النفوس وخفقات القلوب في مدى ما لا يعلم إلا الله من طوال الأجيال.
فهل يمكنك أن تقدر أن ذلك كان مرجعه إلى خذلان في الحب أو إخفاق في المجد؟
أنا لا أحسب ذلك، فإني رويت من الحب ريًّا لا ظمأ بعده، ولم أترك لغيري غير أوشال، وكلما أرسلت الخاطر لأشهد ما كان من غفلات الصبا وغوايات الشباب عدت وأنا قرير العين، جذلان الفؤاد.
والمجد؟ أنا لم أخفق في سبيل المجد يومًا من الأيام حتى أقول مع الطغرائي.
وأوضح من ذلك أني أخطو في سبيل العلم والأدب خطوات هادئة طبيعية، لم يلهبها حقد، ولم تشعلها منافسة، ولم يجر في خاطري يومًا أن أسرع الخطأ لأسبق هذا أو ألحق ذاك. وما شعرت — يشهد الله — بالحقد على متقدم، أو الشماتة بمتخلف.
وقد تدهش إن حدثتك أنني أنظر إلى الشهرة وبعد الصيت بعين يسودها الحياد منذ جئت إلى أوربا في سنة ١٩٢٧، فوجدت الدكتور سنوك قد نشر عني رسالة باللغة الهولندية، ولقيني المسيو ماسينيون فهنأني وأخبرني أن الدكتور سنوك قلما يفعل ذلك، فوقفت أختبر نفسي وأمتحنها لأعرف إلى أي حد وصل بي الارتياح، ثم لم أجد إلا فراغًا مطلقًا. وفي كثير من الأحيان يلقاني أفراد من الأجانب الذين يهتمون باللغة العربية فينشدونني شعري فأقف أتأمل أثر ذلك في نفسي ثم لا أجد أيضًا إلا فراغًا مطلقًا. وقد اقتنعت بأن الصيت والشهرة لا يعدوان أن يكونا من الخرافات فإنه لا أثر لهما في نفسي وأنا حي، فكيف أهتم بما يكون لهما من الأثر بعد الممات!
أضف إلى ذلك أني مقتنع بأنه لا يشقي نفسه في سبيل الشهرة والصيت غير صغار الناس، فهناك أفراد لا يتقدمون ولا يتأخرون إلا حيث ينتظرون الجزاء. وكم شهدت من أناس يقتتلون حول الشهرة، وإن الرجل منهم ليصفرّ وجهه وتأخذه الرعدة والقشعريرة حين تقع عينه على كلمة هوجم بها، أو لوم وجِّه إليه. وكم رأينا من أذلاء لم يذلهم غير حاجتهم إلى ثناء الناس، وكم رأينا من أدعياء في عالم الشعر والكتابة والتأليف يستجدون الصحفيين استجداء ليقال هذا مؤلف بارع، وذاك كاتب مجيد، وذلك شاعر بليغ! وأنت تعرف أني نشرت طائفة من المؤلفات، وتعلم أن الصحف لم تعرها ما تستحق من نقد أو تشجيع، فلتعرف إذن أني كنت أهدي مؤلفاتي إلى محرري الجرائد فكانوا يقولون في لطف، أصنع معروفًا واكتب لنا كلمة في تقريظ كتابك لننشرها في أقرب فرصة، فكنت أبتسم ثم أنصرف ولا أعود. ومنذ ذلك اليوم أنظر إلى تقريظ الكتب نظر السخرية، إذ أعرف أن أكثر التقاريظ من وضع المؤلفين.
أنا قليل الرغبة في سماع الثناء وقليل الاهتمام بما يوجه إلي من نقد، وإني لأعرف أن هناك ناسًا ينبحونني كلما ذُكرتُ عندهم أو جريت في خواطرهم كما تنبح الكلاب القمر حين ترى خياله على صفحات الماء. وفي يقيني أن الرجل كل الرجل هو الذي يهتدي بوحى ضميره غير مأخوذ بلوم أو ثناء.
فما عسى أن تكون تلك الوحشة القاتلة التي لا تفتأ تغزو قلبي وتفتك بأحشائي؟ وما مصدر تلك الأشجان التي لا أتذكرها إلا فزعت يوم كان المترو يشارف محطة الحمامات ثم يغادرها إلى كوبري الليمون، وأروع ما كنت أقاسي في تلك المنطقة كان يقع في اللحظات الدامية، لحظات الغروب حين تواجهني الشمس بتسليمة التوديع، والشفق من حولها يشبه الخدود الداميات، إنها لحظات مفزعة مخيفة كان قلبي يجتازها في وجيب وخفوق، وكنت فيها أشعر الناس إن كانت حقيقة الشعر أنه وجد وإحساس لا قوافٍ وأوزان.
وليست تلك اللحظات على قسوتها بأقل خطرًا من الساعات التي أقضيها بعد العشاء على شواطئ السين في هذه الأعوام، وإني لأشعر أن هذا النهر يدرك ما بيني وبينه من علائق وصلات، فأنا في باريس غريب، وهو فيها كذلك غريب، فقد يندر أن يرى هذا النهر ساهرًا غيري يمشي وحده في سكون الليل من قنطرة إلى قنطرة، ومن شاطئ إلى شاطئ، كأنه موكل بمراقبة السفن وعدّ الأمواج!
وما أحسب نهر السين رأى قبلي من يتلمس روحه وأسراره فيصغي إلى خريره في قنطرة أوسترليتز ثم يسافر ليسمع هديره في رُوان. على أنني لم ألق منه شيئًا من الجزاء، فقد كنت ولا أزال أسايره بنفس حيرى وقلب محزون.
ما هي إذن أسرار الغربة التي أعانيها في القاهرة وأقاسيها في باريس! إنها لا ترجع إلى خذلان في حب ولا إخفاق في مجد، أتظنها ترجع إلى غدر الأصدقاء؟
اللهم غفرًا! فأنا لا أحفظ عن أصدقائي غير الجميل. ويضاف إلى ذلك أنني لم أقدّر في حياتي أن الصداقة مما يوضع في موازين المنافع، إنما الصداقة علاقة روحية تبنى على أساس الصدق والإخلاص ونسيان النفس، ولم يقع ما يكدر صفوي غير أحداث صغيرة مرت بالقلب ومضت كما تمضي آثار النسيم على وجه المحيط، وكان مبعث الأسى أنني كنت دائمًا أفترض أصدقائي من الملهمين الذين يعلمون ما كان وما سيكون من أسرار النفوس، ثم كنت أتلفت فجأة فأجدهم كسائر الناس يستمعون اللغو ويصدقون الأراجيف، هنالك كنت أحزن وآسى، ولكن حزني ما كان يقع لأني علقت بأصدقائي أملًا ضاع، إنما كان حزني وأساي لشعوري بالغربة في عالم الأرواح، فأنا رجل أفهم أن الصديق ينبغي على الأقل أن نوفر عليه أتعاب المحاماة في الدفاع عن نفسه لدى الأصدقاء، وأفهم أن الصديق لا ينتظر منه فقط أن يتغاضى عن هفوات صديقه، إن كان له هفوات، بل يجب أن تعمى عينه وتصم أذنه إن وجد ما يوجب تعقب الأصدقاء المختارين.
وأشد ما يزعجني أنني مريض بالوفاء، وأرى من النذالة والخسة وحقارة النفس أن تكون الصداقات كالأثواب تغير تبعًا للأيام والفصول، ويتخذ بعضها للأفراح وبعضها للأحزان، وأربأ بنفسي أن يقال: هذا صديق غدر وصاحب خان!
ويعز علي أن يحرم صديقي من مناصرتي ووفائي، ولكن كيف وأنا رجل لا عم لي في الحكومة ولا خال؟ ألا فلتعلم أنني أعتقد أن البر لا يوجد إلا حيث أُوجد، وأن الصداقة لا تكون إلا حيث أكون.
وأعتقد فوق ذلك أن الصداقة الصحيحة هي النعمة الباقية، والعز المقيم، من أجل ذلك يعز عليَّ أن يُحرم صديق من وفائي وإن تغير وحال. وكم حملني الواشون على مهاجمة بعض الناس، ثم عز عليَّ أن أكون أقل رفقًا وعطفًا من كثيِّر بن عبد الرحمن إذ يقول:
وعساك تذكر أني كنت في صف الحزب الوطني حين كان يهاجم سياسة سعد باشا طيب الله ثراه، ألا فلتذكر أن حماستي كانت تفتر في مهاجمة ذلك الرجل حين ألمح فهمه للصداقة وحرصه على الأصدقاء، فقد كنت أرى في ذلك الجانب كل معاني النبل وجميع دلائل الرجولة والإخلاص، فإن الرجل الذي لا يخلص لصديقه لا يعرف كيف يخلص لوطنه، لأن العواطف متشابكة الأصول والفروع يمد بعضها بعضًا. وقد عابوا عليه رحمه الله أنه صرح بحرصه على إيثار الأقرباء، وأنه قال لو استطعت لأقمت دولة زغلولية لفظًا ومعنى ودمًا. وفاتهم ما في الصراحة من معاني الشمم والشجاعة والإباء، فإن كل رجل في الدنيا يتمنى لو استطاع أن يكون من أقربائه أمة موحدة، ولكن أين من يجد من قوة نفسه وصراحة يقينه ما يساعده على مثل ذلك التصريح.
والرجل لم يكن طاغية حين قال ما قال، فإنه علل فكرته تعليلًا يُقره العقل والذوق حين صرح بأنه يقرب من يثق به ويعتمد عليه.
والذين عابوا على سعد باشا إيثاره لأصدقائه وأقربائه لم يستطيعوا إقناع أحد بأنهم بَرَرة أطهار. فقد كانت لهم مآرب وأغراض، ولم يكونوا يؤثرون من يؤثرون وفقًا للنزاهة الأفلاطونية. بل التبس عليهم الأمر فكانوا لا يفرقون بين العدو والصديق، لأنهم لم يصادقوا غير أنفسهم ومنافعهم، ولم يقتربوا من أحد أو ينفروا منه إلا وفقًا لما لهم من كيد مدفون، أو حقد مكنون.
وأعود إليك يا صديقي فأخبرك أن الأزمة الباقية هي أزمة القلب، فقد فهمت كل شيء، وعرفت كل شيء، وبقي قلبي كالغابة المجهولة في ضمير الظلماء، فإن قلت لك إني أشكو خيبة في الحب أو إخفاقًا في المجد، أو غدرًا من الأصدقاء، فاعلم أن هذه كلها محرجات هينة تزعج النفس لحظة ثم تزول، وأكاد أحسب أن الناس يتخذون من الحب والصداقة والمجد علالات لقلوبهم وأرواحهم، وأظنهم كذلك ينزعون إلى الأحزاب السياسية والدينية والاجتماعية لينسوا ما في أنفسهم من القلاقل والثورات.
وأنا لم أنجح في شيء من ذلك، لأن استقلال إرادتي حال بيني وبين الاندماج التام في هيئة من الهيئات أو حزب من الأحزاب، فأنا عند أنصار الحزب الوطني شعبي يناصر الوفديين، وعند الوفديين خيالي يتشبث بالملحقات من زيلع إلى جغبوب.
وأنا بين المؤمنين ملحد، وبين الملحدين مؤمن، وأنا بر عند الفجار، وفاجر عند الأبرار، فأنا في كل بيئة أجنبي وفي كل أرض غريب.
وهنا يكون الفزع الأكبر إذ أعود إلى قلبي وجهًا لوجه، وهو قلب خطر. والموت عندي أهون من مواجهة ما فيه من أهوال وخطوب، فليت شعري أين المفر؟ ومتى يكون القرار؟
ويرحم الله المتنبي إذ قال:
ذكرى الزهراء
«ولكن برشلونه ليست كل إسبانيا وليست قهوة الزهراء كل مدريد.»
قهوة الزهراء! أي ذكرى تثيرها كلمة «الزهراء» من معالم الفردوس الإسلامي المفقود! ومن العجيب أن كلمة «الزهراء» في نطق الفرنجة أوضح من كلمة «الحمراء» عند بعض المصريين الذي يسمون بعض معالم الغناء في القاهرة والإسكندرية «الهمبرا» مجاراة لتحريف الأوروبيين، وكان أولى لهم لو نطقوها «الحمراء» ولكنهم لا يعرفون!
لقد مضى كثير من العهود القديمة، والناس يذكرون فقط أن مُلك العرب بالأندلس كان عهد عظمة للإسلام، ولا يذكرون بجانب ذلك أنه كان متنفسًا للشرق كله بدون نظر إلى الديانات والأجناس، فمن لأهل الشرق من يغنيهم هذا البيت الحزين: