هادم اللذات
لنا صديق في باريس مفتون بالجلوس في بول ميش، وتلك أكبر مُتعة أن يشهد الغادين والغاديات، والرائحين والرائحات، في حي الشباب
وهو في أغلب الأحيان يجلس وأمامه كأس وفي يده سيجارة، ثم يرمي بعينه وبفؤاده إلى اقتناص ما يرى وما يدرك من أسرار الجمال، وهو في تلك اللحظات أشعر الناس؛ لأنه يتحول إلى جذوة من الشعور والإحساس
وقد جلس في صباح اليوم كعادته وكان قد أجهد نفسه بالليل في دراسات مضجرة تقتل الأعصاب، فرمى ببصره علَّه يشهد من روائع الحسن ما يذهب السآمة عن عقله المكدود، ولكن نظره اصطدم بمنظر السواد على باب المنزل الذي يواجهه، فعرف أن هناك مأتمًا، وأن هذه ساعة بكاء وانتحاب عند الجيران المجهولين.
وهنا استولى عليه الخوف، ومر بخاطره الحديث الذي يقول: تذكروا هادم اللذات.
ولكن ذلك الصديق عاد فألقى على دنياه نظرة ساخرة، ثم ألقى على نفسه هذا السؤال:
إذا كانت دنيانا ستنقضي بمثل ما انقضت به دنيا هذا الميت فلمَ نتحفظ ونتبلد ونتوفر فرارًا من سفالة المنافقين الذين يأمرون بما لا يأتمرون به، وينهون عما لا ينتهون عنه؟ أليس الحزم أن نغنم دنيانا قبل أن تفوت متأسين بأبي الحسن التهامي إذ يقول:
وما كادت تفرغ الكأس حتى نُقل الميت ونُزع السواد وعاد الشارع والسابلون إلى الجذل المألوف. وبذلك اطمأنّ صاحبنا إلى أن الحياة أقوى من الموت، كما أن الصراحة أشرف من النفاق، ولكن أكثر الناس لا يفقهون!