الحب في باريس وفي ليفربول
صديقي «ن …» شاب جميل الوجه، طيب القلب، سليم الذوق. عرفته لأول مرة في القاهرة في صيف سنة ١٩٢٥ وقد فرقتنا الأيام بعد ذلك، فذهب إلى ليفربول، وبقيت أنا موزع الجهد، مقسم القلب، بين القاهرة وباريس.
وفي هذا اليوم صادفته هائمًا في حديقة لكسمبور، فتعانقنا وتبادلنا أطيب التحيات، وسألته وسألني عما لقي وما لقيت، ودعوته إلى لحظة نقضيها في قهوة داركور أمام السوربون.
جلسنا، وتحدثنا، وشربنا.
لكني لاحظت أن صديق سنة ١٩٢٥ غير صديق سنة ١٩٢٩، فقد كان الصديق الأول في سذاجة، وطهارة، ونبل، وإخلاص. أما الصديق الثاني فهو إنسان مداور، ماكر، خبيث، محتال، لا تصل إلى قلبه إلا عن طريق النفاق.
ابتدأ فلعن باريس؛ وأهل باريس؛ ومحبي باريس. فقلت: استئن من فضلك! فأجاب: العفو يا بيه!
باريس في رأيه مدينة دعارة وفسق ومجون وشهوات، وليس فيها على حد تعبيره إلا فاسق أو ختَّال، وقد انطلق كالقذيفة يصف الفرنسيين بأشنع ما حوت القواميس من قبيح الصفات والنعوت، ثم اندفع يقابل بين الأخلاق الإنجليزية والأخلاق الفرنسية، فكان الإنجليز في رأيه ملائكة، وكان الفرنسيون شياطين. هنالك ابتسمت، وقلت: الآن يا صديقي اطمأننت عليك!
فقال: وكيف؟
قلت: كنت في شك من أمرك، فقد كنت أخشى أن تعيش في بلاد الإنجليز بدون فائدة، كما هو حظ كثير من أعضاء البعثات المصرية، أما الآن فقد عرفت أنك استفدت!
قال: هذا غريب. أنت لم تختبرني حتى تعرف إلى أي حد وصلت.
قلت: بلى، قد اختبرتك، وإن لم أوجه إليك سؤالًا، ولم أسمع منك جوابًا، فإنّ حملتك الشعواء على الأخلاق الفرنسية تدل أوضح دلالة على أنك أُشربت أخلاق الإنجليز وسجاياهم. وقد علمتني التجارب التي كوت يدي، وأشاطت دمي، وأيأستني من صفاء الطبيعة البشرية، وأقنعتني بأن الإنسان حيوان لئيم، علمتني تلك التجارب أن أجهر الناس صوتًا في الدفاع عن الفضيلة هم المنافقون! وأنت يا صديقي تتأفف من هواء باريس، وتعلن أن جوها مشبع بأوزار الغواية والفسوق، وفي هذا دليل على أنك أصبحت إنجليزيًّا صميمًا، ونحن نرسل أبناءنا إلى إنجلترا ليتخلقوا بالأخلاق الإنجليزية، فلم تضع إذن الدنانير اليومية التي أنفقت عليك، فلطالب البعثة في كل يوم دينار، كأنه ابن الملك في أساطير الأولين!
قال الصديق، وعلى وجهه بوادر الألم والغيظ: أوضح. فأني لا أدرك تمامًا أي هدف ترمي، ولا أي وجه تريد.
قلت: يجب أن تعلم أن الإنجليز أقدم الناس عهدًا بالنفاق. وأنا لا أتكلم عنهم من الوجهة السياسية، فقد يكونون في السياسة صرحاء! إنما أتكلم عن الأخلاق، الإنجليز يعملون كل شيء، ويكتمون كل شيء، يقترفون أشنع المنكرات، ويظهرون دائمًا سيماء الطهر والعفاف. والويل كل الويل لمن يفتضح أمره بينهم، فإنه لا محالة مطرود منبوذ. وهم في هذا يعملون كما كان يعمل الإسبرطيون قديمًا، فقد كانوا يعاقبون السارق لا لأنه سرق، ولكن لأنه لم يعرف كيف يخفي السرقة ويمشي في ثياب الأبرياء.
قال الصديق: هل عاشرتهم يا سيدي حتى تحكم عليهم هذا الحكم؟
قلت: عاشرتهم قليلًا، ولكني قرأت أكثر ما نقل من مؤلفاتهم إلى الفرنسية واقتنعت كما اقتنع كثير من أحرارهم ومفكريهم بأن الحواضر الإنجليزية أوكار خبث ورياء، وأن لندن بوجه خاص تضم إلى جنباتها أخطر ما عُرف من أساليب الإثم المستور!
وأنت يا صديقي تمثل نفس الدور أصدق تمثيل، فأنت تركت ليفربول لتقضي إجازتك في باريس، والشيطان يعلم لم جئت باريس، ونصيحتي لك أن تعيش في فرنسا بنفسٍ فرنسية لا إنجليزية، فالفرنسيون تضيق صدورهم بالنفاق، ويحتقرون المنافقين. وهم حين يحبون يحبون في صراحة، وحين يبغضون يبغضون في وضوح، وقليل منهم من يحسن المداورة ويميل إلى التضليل.
لكن صديقي لم تغنه هذه الخطبة، واستمر يقبح الأخلاق الفرنسية، ويمجّد الأخلاق الإنجليزية
فما الحل، وكيف السبيل إلى هدايته؟
آه! لقد اهتديت إلى الحل.
فما هو؟
كأس من بيكون! فإن لم تغن الكأس الأولى فكأس ثانية وثالثة حتى تصفو نفسه، ويخلو رأسه من عقارب النفاق، ويعود طفلًا محبوبًا كعهدي به لا يشاري ولا يماري ولا يكذب ولا يمين.
يا غلام! هات كأسًا من بيكون!
جاءت الكأس مترعة، ونظر إليها الصديق نظرة غَزِلة، ثم شربها فتقطبت لها أسارير وجهه، وتطلقت أسرار قلبه، ودعوت بكأس ثانية فكاد من طرب يهيم، وخلته ينشد وهو نشوان:
وعُدنا نتكلم عن باريس وصراحة الباريسيين، فقال: أنا الآن معك، فباريس هي المدينة الوحيدة التي يعيش فيها المرء على فطرته، يحب ما يحب، ويبغض ما يبغض، في صراحة وجلاء. وأنا معك أيضًا في أن الإنجليز منافقون، ولكني أحب أن تعلم أنهم ليسوا جميعًا سواء.
قلت: كيف؟
قال: نحن نعيش في ليفربول، والحرية فيها تكاد تكون تامة، ويكفي في بيان ذلك أن أقص عليك النادرة الآتية:
قامت في الجامعة مناظرة موضوعها: «أيهما أحب إليك: أن تكون أحببت مرة وأخفقت، أو أن تكون خليّ القلب من نعيم الحب وعذابه؟»
وقد أعطى الطلبة لأنفسهم مذاهب من الآراء لا حد لها في المفاضلة بين الوجهتين، ثم قام في الختام مدير الجامعة وقال: «تتكلمون عن الحب؟ هذا جميل! ولكني أرى أننا مقبلون على جفاف، فقد كنت ألمح في شرفات الجامعة الطلاب والطالبات أزواجًا أزواجًا يتهادون التحيات والقبلات في خفر وحياء، وكنت أتعامى حتى لا أفرق بين حبيبين يتناجيان. أما اليوم فقد عدت أمشى في أرجاء الجامعة بخطًا مسروقة ولا تقع عيني على محب ولا محبوب.
أيها السادة! الحب في خطر! أنقذوا سمعة الجامعة!»
قص صديقي هذا الحديث، ثم نظر فرآني أفكر، فقال: ما خطبك؟ قلت لا شيء! لقد تذكرت أن هذه المناظرة ألقيت هذه السنة في الجامعة المصرية، فمن المحتم أن يكون اقترحها أحد الأساتذة الإنجليز، ومن المرجح أن يكون قد استُقدِم من ليفربول؛ فنحن نأخذ بقاياكم في العلم والحب، لو تعلمون.
وعند هذا الحد كانت صفت نفس الصديق، وتحلّل حقده المزعوم نحو باريس، وسألني عن بعض الناس في مصر، فقلت: إنهم بخير، ولا عيب فيهم إلا أنهم إنجليز أو أشباه الإنجليز، وإنك تعلم ماذا أريد!