صيد القاهرة أم صيد باريس؟
صديقي …
كتبت إليّ تسألني أن أصف لك ألوان الحياة في باريس، وألوان الحياة لها في نفسك معان غريبة تشوق النفس وتثير الوجد؛ فباريس عندك مدينة الفتنة واللهو والمرح والمجون، وشارع عماد الدين الذي تقضي فيه ليلك وشطرًا من نهارك يجب أن يكون في لجبه، وضوضائه، صورة مصغرة جدًّا لشوارع باريس، وقد ضاق عليك ذلك الشارع البهيج فيما أظن، فأنت تريد أن تحيا حياة أوسع وأطيب، ولو عن طريق الخيال، متأسيًا بالشريف الرضي إذ يقول:
وأنا والله عاذرك، فقد أتيح لي أن أواجه الحياة في مغاني القاهرة والإسكندرية ودمياط والمنصورة وأسيوط، ثم رأيتها جميعًا أضيق من سَم الخياط، وما عسى أن يطيب العيش بين أقوام لا يفرقون بين الهزل والجد؛ ولا يحلو لهم غير القيل والقال، وهم في أنفسهم أصغر من أن يقدروا نضرة السراء، أو قسوة الضراء، فمن حقك عليّ وأنا صديقك الذي يأسى لقلق نفسك وبلبلة خاطرك أن أتحفك ببعض الصور الناطقة من حياة باريس، ولكن ماذا أقدم لك يا صديقي؟ وماذا أختار من بين ما أرى وما أسمع؟
لكن اسمع، اسمع، فقد وجدت الجواب!
أنت بالطبع تعيش في مغاني القاهرة عيشة خالية من كل معاني السعادة لخلو القاهرة المسكينة من أودية الصيد! هذا مفهوم جدًّا، ولا موجب للمواربة لأننا بحمد الله لم نرزق مثقال ذرة من نعمة النفاق التي يرتع في ظلالها المنافقون. وكل حظك فيما أظن لا يتعدى المناوشات الصغيرة في طريق الأهرام أو طريق السويس، وأحيانًا في شارع شبرا المتواضع حين يخلو جيبك من بقايا تلك الأوراق المعدودة التي تقلبها بين يديك مرة ومرة، وثالثة، أول يوم من الشهر، ثم تتفقدها فلا تجدها في صبيحة اليوم التالي. أليس كذلك؟ بلى وما أحسبك من المكابرين!
ولكن ما رأيك في أن ذلك الصيد الذي تظفر به في بعض غدواتك أو روحاتك أطيب مساغًا وأحمد عاقبة من صيد باريس. لا تلوِ وجهك يا صديقي ولا يثقل عليك كلامي فأنا أقول الحق. إن صيدك في القاهرة حلو وديع لا يحمل المسدس ولا يحسن الضرب بالرصاص. هل فهمت الآن؟ إن صيدك يكاد يُجنُّ من الفرح حين يقع في الشباك، وقد يتأبى ويتمنع، ولكنه يتمنى أن يظل سجين الفخ أبد الآبدين. وقد يكون صيدك مسلحًا، ولكن بأي سلاح؟ سلاح الطرف الغضيض الذي يحمل في تكسره ما بقي من سحر هاروت وماروت. وقد يطمع صيدك، ولكن فيم يطمع؟ في نزهة قصيرة بالسيارة في حراسة القمر وعلى شواطئ النيل، فإن نفحته بشيء من بقايا فضلك فأنت في عينيه أكرم مَن أقلَّت الأرض وأظلَّت السماء.
أما صيد باريس فيختلف عن ذلك الصيد أشد الاختلاف، ولكن هل في باريس صيد؟ لقد بحثت كثيرًا هذه المسألة، نظرتها أولًا في أمهات الكتب وفي المعاجم والقواميس، واختبرتها ثانيًا في المسارح والمشارب والحدائق والشوارع والميادين، وسألت عنها الناس، من جميع الأجناس، وانتهيت بعد البحث الطويل إلى الحقيقة الآتية: «ليس في باريس صيد، ليس في باريس إلا ظباء هرب منها قانصوها».
هذه هي الحقيقة التي لا يمتري فيها إلا كل مغرور ومفتون، وأي لذة وأي فتنة، وأي سحر بقي لتلك الظباء الغوادر اللاتي أضناهن كيد الليل ومكر النهار؟ إن الفتاة لا تجدك إلا بعد أن تكون قد ألِفتْ جميع ضروب الختل والخداع، وفي صدر كل فتاة باريسية خاطر يوسوس وقلب يخون، ويندر جدًّا ألا يكون في جيبها سلاح محشو بأسباب الحتف والهلاك، ففي كل جريدة وكل نشرة وكل مجلة أخبار مزعجة بشعة مخيفة عن ضحايا الحب الأثيم. وإذا كنت تجد أحيانًا في الصحف المصرية صدى لحوادث الفتيات الفاتكات فذلك وَشَل قليل جدًّا إذا أضيف إلى هذه المجازر البشرية التي تقع في باريس مدينة النور فيما يزعمون.
ولك أن تسأل يا صديقي عن سر هذا الوباء الخلقي الذي يفتك بالناس في باريس، وتوضيح ذلك سهل، فإن جمهرة الفتيات اللائي تتكون منهن عصابات الإثم والغواية ينشأن عادة من طبقات فقيرة، والطبقات الفقيرة هنا هي طبقات العمال، والعامل الفرنسي في الأغلب رجل خشن جاف تشقيه مهنته ويضنيه عمله، فإذا شبت له طفلة ألحقها بعمل من الأعمال يكون غالبًا في دار من دور التطريز، وفي تلك الدور طبقات مختلفة من النساء يعرفن جميعًا كيف ينظم الهندام الفتان، وكيف يكون للمرأة اللبقة أصحاب وأخدان. وكذلك تقضي الفتاة يومها في بيئة لينة تقتل الوقت بالعمل وبالتحدث عما وقع لفلانة مع فلان، والفتاة الحدَثَة طُلَعة متشوِّفة تصغي لكل حديث، وتتطلع إلى كل قادم، وتتأمل كل حركة، وتميل مع كل ريح. فإذا جاء المساء عادت إلى مأواها فوجدت أمها في ثيابها الخلقة، ولقيت أباها كعادته قذر الثياب عابس الوجه لا يعطف ولا يلين، ثم تقدم المائدة فتراها باردة لا طعم لها ولا لون، لأنها مائدة عمال فقراء يتقاسمون اللقمة ويتناهبون الحساء، فترجع الفتاة إلى ذاكرتها تستحضر ما سمعت طول اليوم من وصف المآدب والموائد حيث كان النساء العاملات يعددن بإسهاب وإطناب ما كان من ترف وفتنة ورفاهية مع الأصدقاء والخلان.
ومن تلك اللحظة تتسع الهوة بين الفتاة وبين أهلها، فهي بينهم في سجن مظلم لا نوافذ له ولا أبواب، وتمر الأيام تلو الأيام وهي تفكر وتدرس وتقارن بين حالتها التعسة وحالات رفيقاتها اللائي يمرحن في بحابح النعيم، وتسأل نفسها: أيكون هؤلاء الرفيقات من بيوتات أغنى وأقدر على جلب أسباب المرح والرغد والإقبال؟ ثم يتضح لها بعد البحث أن النشأة تكاد تكون واحدة وأن هؤلاء اللاهيات المرحات لا يمتزن عنها إلا بشيء واحد، شيء واحد فقط لا أكثر ولا أقل، وذلك الشيء الواحد ما هو وما عسى أن يكون؟ هو الصديق!
الصديق! نعم هو الصديق الذي يغير الفتاة من حال إلى حال، وهو من أمرها على كل شيء قدير، ولكن كيف السبيل إلى هذا الكنز الثمين؟ كيف؟ كيف؟ ذلك ما تحار فيه الفتاة، لأنها لا تزال في أول عهدها بالحياة، وهي ككل فتاة ناشئة تحمل في صدرها بقايا طيبة من عناصر الخجل والحياء، وكذلك تقضي عدة أسابيع أو عدة أشهر وهي فريسة الهواجس والبلابل والتأملات السود، لأنها أضعف وأوهن من أن تصارح أمها أو رفيقاتها بتلك الحاجة الملحة، حاجة الفتاة الشقية العذراء إلى الصديق.
وفي أثناء هذه الأزمة الخطيرة تتأمل وهي في دار من دور السينما فإذا فتى يسارقها النظر ويهدي إليها طيف ابتسامة، فتعود المسكينة إلى نفسها فإذا قلبها يخفق، وبصرها يزيغ، وتدمدم في فرح مشوب بالخوف: هذا صديق! ثم تجرؤ رويدًا رويدًا فتبادله النظرات والبسمات في هدوء متكلف مصنوع، لأنها صارت كالثمرة الناضجة تنتظر أول هزة لتودع الدوح وتهوي إلى الأرض!
ويتلاقى العاشقان على الباب، فيقول الفتى: مدموازيل! فتجيبه الفتاة: مسيو! ويقف الأمر لأول مرة عند هذا الحد، فإذا مضت الفتاة إلى بيتها قضت الليل كله أرقة مهتاجة لا تعرف السبيل إلى القرار. هذا فتى رشيق حلو الشمائل مليح الهندام، يظهر أنه تلميذ في مدرسة ثانوية أو طالب في إحدى كليات الجامعة، أو موظف ناشئ في إحدى المصالح العمومية، ألا يكون هذا هو الصديق المنشود؟
وفي اليوم التالي تبكر الفتاة إلى نفس الملهى علها تجد رفيق الأمس، وما أشد سرورها حين تراه ينتظرها على الباب وهو في رُواء آنق وأروع، وقد أخذ زينته، وموّج شعره، وأصلح من هندامه، وأحضر لها باقة من الزهر النضير.
هذا يا صديقي شعر بديع يقع على قلب الفتاة موقعًا أخاذًا يأسر منها العقل والحواس … ثم تمضي الأيام في فتنة متصلة أنت أعرف بما لها من دقائق وتفاصيل، إلى أن يقع الخطر، وهذا الخطر يبدو لأول وهلة بسيطًا مأمون العواقب لأنهما قد تواعدا على الزواج، ولكن كيف يكون ذلك والفتى قد نشأ في بيئة غنية وقد أرسله والداه ليتم دراسة الطب أو الحقوق في باريس، ومن الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يعينه أهله على التزوج من فتاة فقيرة ليس لها مهر ولا ثروة، والمهر والثروة هما أساس الزواج في أوربا وخاصة في باريس.
وكذلك يفترق العاشقان بعد أن تكون الفتاة قد ألقت نفسها إلى الأبد في هاوية الشقاء. ومن هنا ينشأ الحقد الخالد حقد الفتاة اللعوب على كل فتى جميل، فإن سمعتَ أن فتاة باريسية سلبت عاشقها ما يملك، أو ضربته بالمسدس، أو طعنته بالسكين، فأعلم يا صديقي أنها تنتقم من عاشقها الأول، وكل عاشق هو في عينها صورة مكررة لذلك الغادر الختال …
افهم هذا واقنع بصيد القاهرة، واذكر أخاك بخير، والسلام.