شهداء السين
شهداء السين. إي والله! وكم للسين من شهداء
إننا لا نتحدث في هذا المقال عن ضحايا الحب، ولا عن الصرعى الذين تنقل الجرائد أخبارهم صباح مساء، فإن باريس من بين مدن العالم تمتاز بهذه المآسي الشنيعة المزعجة التي تقع بين العشاق في كل حي من أحيائها العديدة. ولعل السر في هذا يرجع إلى أن أهل هذه المدينة شديدو الحساسية، سريعو التأثر والانفعال. والباريسي بطبعه رجل قلق كثير الوساوس والشجون، ويزيد في هذا سيادة النظام الخطر، نظام المخادنة، وهو نظام لا يقصر شره على الأعزاب وحدهم، وإنما يتعداهم إلى الأزواج، فليس من المستغرب هنا أن يكون لكل زوج خليلة ولكل زوجة خليل. والقوم قد درجوا على الشر حتى لا يرجى لهم شفاء، فحوادث الحب والخيانة هي كل ما يجري في المسارح ودور السينما، وكل ما يجري أيضًا في الدراسات الأدبية التي يتلقاها الشبان في المعاهد والجامعات. ولنظام المخادنة خيره وشره؛ فهو خير لأنه شبه دواء لهذا الجنون المستعر جنون الشباب، وهو شر مستطير لأنه يخلق من الفساد الخلقي والاجتماعي أمراضًا كثيرة أيسرها الموت الذريع كلما هبت رياح الشقاق.
لا نتكلم هنا عن ضحايا الحب، وإنما نتكلم عن شهداء الفاقة والبؤس، فإن باريس لم تستطع ولن تستطيع أن تصير أهلها جميعًا سعداء، وكيف يمكن ذلك ونحن في عصور لا تعرف ما القناعة وما الزهد وما الرضا بالقليل، وقد عَفَتْ منها جميع الرسوم الدينية التي كانت تحمل الناس بقوة العقيدة على الرضا بأرزاقهم وحظوظهم في الحياة، ومن النادر أن ترى كنيسة مزدحمة بأسراب المؤمنين والمؤمنات، حيث تلقى العظات والكلمات الحكيمة للتأسي بالأنبياء والقديسين ممن قضوا أعمارهم ينتظرون ما تسوق إليهم الرحمة الإلهية من صنوف البر والإحسان. إنما يعيش أهل باريس في التطلع بعضهم إلى بعض وحسد من يجد لقمته في الصباح وحساءه في المساء، وقد يتشوفون إلى من تواتيه الظروف فينحدر إلى الحانة يعب ما طاب له من ألوان الشراب. تلك هي حياة أهل هذه المدينة التي تأكل أبناءها كما تفعل القطة المجنونة، وليس في الدنيا مدينة يموت فيها الإنسان جوعًا إذا نفدت دراهمه غير باريس، وتشبهها لندرا وبرلين في هذا الجانب المظلم. فليس ازدهار المدن في الواقع إلا مُتعة للأغنياء والموسرين، أما الفقراء فلهم من المدن المزدهرة حظ البأساء والضراء.
•••
كنت أمس في الساعة الحادية عشرة صباحًا أمشى على شاطئ السين فما راعني إلا فتى يلقي بنفسه في الماء، وسرعان ما تجمع الناس.
وفي دقائق معدودة جاء البوليس وجاء رجال الإسعاف، وفي هذه الأثناء مرت بالخاطر أخيلة كثيرة وأطياف شتى من صور الحياة، من عسى أن يكون هذا الفتى؟ ومن أي طبقة؟ وما هي محنته؟ وكيف استسلم إلى هذا المصير الفاجع؟ وكيف بدا له أن يودع باريس؟ وكيف كان حقده على الوادعين والوادعات، والآمنين والآمنات، قُبيل اللحظة التي أقدم فيها على هذا الجرم الفظيع؟ وما الذي كان يمر بباله من نعماء هذه الدنيا وبأسائها، حيث حملته رجلاه إلى هاوية الفناء؟ وكيف كان شعوره بالموت والحياة، والعدم والوجود؟ وفيمن كان يفكر؟ وإلى من كان يحن ويشتاق؟ وعلى من كان يعتب؟ وكيف كان يتمثل ظلام الهلاك؟
مرت هذه الأسئلة بالخاطر مر الطيف، ثم رفعت بصري أتأمل ما أمامي، فإذا رجال الإسعاف قد نزلوا في فُلك صغير يبحثون هنا وهناك عن جثة الغريق ولكنهم لا يهتدون، وبعد لحظة تراءى للمتجمهرين شبح على الماء فأهابوا بالبحارة، فمضى بعضهم في فُلكه حتى أدرك ذلك الشبح، ولكنه لم يجده إنسانًا إنما هي لفافة من الورق تطفو على وجه الماء، فعاد البحار يبحث في مكان آخر، وبعد عشر دقائق عثرت أسنان الملاقط على جثة الغريق فرفعوه، وما كاد يبدو وجهه حتى حسبه الناس ينُوس، ورجوا أن يكون فيه رمق من الحياة، وزادهم طمعًا في نجاته ما بدا من بريق شعره، ونضارة جسمه. وجاء الطبيب فخلع عن المسكين ملابسه، وشرط أذرعته فخرج الدم يتصبب، وبُدئت عملية التنفس الصناعي في مهارة ونشاط.
وكان الناس يشاهدون هذا المنظر في تطلع لا يصحبه ألم ولا حزن. أما أنا فقد وقفت ذاهل اللب أنظر ما سيكون، ولعل هذا يرجع إلى أنني كدت أغرق في عهد الحداثة لولا أن أتاح الله لي مروءة ذلك الفلاح الصالح المرحوم أحمد الصواف، وقد أنقذتُ بنفسي أربعة من الغرق، أعانني الله على إنقاذهم من تلك الميتة الشنعاء ميتة الاختناق.
منظر محزن يخلع القلوب، رأيت أن أنظر فيه أخلاق الناس في باريس، وقد أدهشني أن رجال الإسعاف كانوا يتضاحكون أحيانًا وهم يجرون عملية التنفس، وزادت دهشتي حين رأيت المشاهدين يتبادلون بعض النكت في طمأنينة وهدوء، وبلغ الأمر أن فاه بعضهم بكلمة مضحكة فأغرق الناس في القهقهة بشكل مخجل مرُيب، حتى كاد البوليس يفرق جمعهم، ثم تركهم في غيهم يعمهون.
ومضت ساعة كاملة في عملية التنفس، والصريع ملقى على وجهه يقاسى جسمه الفاني ألوانا من الإجهاد، وطال بي الوقوف وقرصني الجوع فمضيت أتناول الغداء، ولا أدري كيف عدت بعد ذلك لأرى مصير الغريق، وقد رأيت الناس لم يتفرقوا، ورأيت رجال الإسعاف ماضين في عملية التنفس بنفس النشاط الذي ابتدءوا به، فلما دقت الساعة الثانية وكان قد مضى على عملية التنفس أكثر من ساعتين عرفوا أن لا أمل في ذلك الصريع الذي سقط شهيد البأساء في باريس.
وسرعان ما جاءوا بنعش صغير حملوا فيه جثة الميت، حملها رجلان اثنان وتبعهما الناس وهم يتزاحمون كأن لم يروا من قبل ميتًا يحمل على الأعناق، وسرت مع السائرين أنظر ما سيكون فرأيتهم يدخلون به المستشفى الذي يسمى (بيت الله) فعجبت كيف صحت التسمية لذلك المستشفى الذي يتلقى على الرحب والسعة من لم يبق لهم غير رحمة الله.
وقد خفت حركة الناس حين وصلوا بالميت إلى ذلك المكان إذ رأوا ملاحقته هنالك ضرب من الفضول المرذول، وأقبل عدد من السيدات في الثياب البيض ثياب التمريض، فتلقين الميت ببعض التسبيحات والدعوات.
•••
كان ذلك الحادث أمام كنيسة نوتردام وكان مفهومًا بالطبع أن الغريق من أهل ذلك الحي. ومع ذلك لم يُر أحد يهتم بالميت، فلا أهل ولا أصدقاء، ولم يُر في الحاضرين من يقول: هذا هو المسكين فلان الذي كان يعمل في مخزن فلان.
فكيف وقع ذلك؟
الجواب حاضر: ذلك أن باريس تستقدم إليها العمال الفقراء من جميع الأقاليم الفرنسية، ثم تتركهم بلا ناصر ولا معين.
وفي باريس منازل لإيواء البائسين فيها ما يسمونه «منازل الحبال»، وسميت كذلك لأن فيها حبالًا يضع عليها البائسون ثيابهم، ثم ينامون على البلاط، بأجر مقبول هو ثلاثة مليمات في الليلة، وفيها ما يسمى «بيت الشعب»، وهو بيت كبير جدًّا ينام فيه الفقراء ويتناولون لقمة في الصباح وحساء في المساء، بأجر مقبول أيضًا هو ثمانون قرشًا في الشهر. ولكن أتظن أن جميع الشبان البائسين يصبرون على مواجهة الحياة في بيت الشعب ومنازل الحبال؟ هيهات! فقد غرست في أبنائها روح الترف، وعلمتهم كيف يثورون على أوضاع الاجتماع، كما غرست فيهم روح السخرية، وعلمتهم كيف يشهدون مصارع المنتحرين في هدوء مطبوع.
باريس! أيتها الطاحونة العاتية! أيتها الدنيا الغادرة! كم فيك من قلب مفطور! وكم فيك من دم مطلول! ومع ذلك لا تزالين أمل الآمل وأمنية المتمني، ومأوى ما ندَّ وشرد من ألباب الشعراء وعباقرة الفنون.
حديث المائدة
كنا خمسة على المائدة وكانت ربة الدار تسأل كل واحد عما عمله في يومه، فابتدأ أحدنا وقال: في هذا اليوم تغديت في فرساي، في مطعم أنيق لم تقع العين على مثله، فأكلنا كيت وكيت، وشربنا ذيت وذيت، وأخذ يعدد أصناف الطعام والشراب بشكل شائق جذاب، حتى كاد لعاب الحاضرين يسيل شوقًا إلى ذلك الطعام الموصوف.
قلت: ومن الذي هداك إلى ذلك المطعم يا سيدي؟ فأجاب: إنه قسيس، ولا يعرف قيمة الطعام غير رجال الدين! فهم وحدهم أهل الخبرة الدقيقة بمختلف المطاعم وحانات الشراب!