ماذا يملك رئيس الجمهورية الفرنسية
صديقي …
لقد ظلمتني حين كتبت تسألني أن أفصل لك بعض الأنظمة الدستورية في فرنسا الحاضرة، فأنا رجل حبب إليّ أن أهتم بالماضي من حياة الشعوب، وهذا نفسه جانب من جوانب الضعف في حياتنا العلمية والأدبية، وهو ضعف يكاد يُقصر شره على أمم الشرق، فالمصريون مثلًا يعرفون من أخبار الأمويين والعباسيين ما لا يعرفون من أخبار الفاطميين والمماليك، حتى إذا وصلت إلى العهد الأخير الذي تكونت فيه مصر الحديثة وجدت سواد المتعلمين يجهل ذلك العهد تمام الجهل، ومن أجل هذا كانت حماستنا لدراسة التاريخ حماسة فاترة، لأننا نبدأ بدراسة ما لا تمسنا دراسته، وننتقل بأذهاننا وعقولنا إلى أجيال بعيدة لا تربطنا بها غير روابط ضعيفة أصبحت على أهميتها في ضمانة التاريخ. ولو أننا ابتدأنا فدرسنا حياتنا السياسية والاجتماعية والأدبية لكان نشاطنا أوفر، وإحساسنا أعمق، وفهمنا أدق. لأن العصر الحاضر أقرب إلينا، وأعلق بنفوسنا وعقولنا وقلوبنا وحواسنا، وهو لذلك جدير بأن يجعلنا أكثر استعدادًا لفهم العصور التي خلقته وكونته ووصلت به إلى صورته الحاضرة. وإنك لتعلم أنه لولا اهتمام الشبان في مصر بمتابعة الحوادث اليومية لكان من الممكن أن تجد عددًا كبيرًا من طلبة المدارس الثانوية يجهلون كيف ابتدأت النهضة الأخيرة في سنة ١٩١٨، وأنا حين أقول (١٩١٨) متأكد أن بعض الشبان سيتلفت ويقول: «هذا خطأ، إن النهضة المصرية الأخيرة ابتدأت سنة ١٩١٩.» ويندر جدًّا أن تجد من الشبان من يميز جيدًا كيف ابتدأ مصطفى كامل وكيف انتهت حياة محمد فريد، لأن الكتب المدرسية لا تعنى بذلك، وهي حين تعنى به تذكره مقتضبًا مخطوفًا لا يغني ولا يفيد. وقل مثل ذلك في الشئون الأدبية، فإن الشبان يعرفون عن امرئ القيس وزهير، على بعد العهد، ما لا يعرفون عن البارودي وإسماعيل صبري، وقد لقيت في باريس شابًّا من «البوسنة» يحفظ قصيدة إمام العبد في مناجاة الأهرام! فحدثني بربك كم شابًّا في المدارس الثانوية يعرفون من هو إمام العبد وكيف ناجى الأهرام! وعساك لا تجد من يعرف أمام العبد غير من ساجلوه واكتووا بأهاجيه مثل شوقي وحافظ ومطران.
وهذا الجهل الذي نرمي به شباننا مصدره أنهم يكتفون في الأغلب بما يتلقونه في المدارس الثانوية، وأساتذة تلك المدارس يحدثون الطلبة عن كل شيء إلا ما يختص بالعهود الأخيرة، وعساك تذكر مهرجان شوقي، فقد كان من المقرر أن تلقى عنه محاضرة في الجامعة المصرية، وكانت الكلمة للدكتور طه حسين أفتذكر ما قال؟ لقد ألقى محاضرة عن الأخطل، بحجة أن الجامعة لا يدرس فيها غير الأموات من الشعراء!
وهذا الإحجام عن دراسة العهود القريبة والحاضرة له سبب، ذلك أننا في مصر تغلب علينا الوساوس الشخصية، ونكاد نقع صرعى لمناوشات الأحزاب، فهناك كتب عن «التربية الوطنية» لمدارس المعلمين عرض فيها المؤلفون لحوادث العهد القريب ثم أغفلوا عامدين اسم «سعد زغلول» لأن اسمه قد يثير حقد بعض الناس!
وبعد فهذه مقدمة ضرورية طويت فيها السبب الذي أحجمت من أجله عن موافاتك بما سألت. وأنا محدثك اليوم عما يملك رئيس الجمهورية الفرنسية لأنه على أي حال «مسيو» كما يقول الباريسيون، ولا تنتظر مني تفصيلًا طويلًا لأني رجل ملول، ولا أقول هيوب، فقد أقدمت يوم جدَّ الخطب غير وجل ولا هياب، وما عهد الثورة ببعيد.
ولتعلم أولًا أن غرام فرنسا بالنظام الجمهوري غرس في نفوس أبنائها الحقد على العهود الملكية، وهذا الحقد قد أفسد عقول كثير من أساتذة التاريخ. حتى رجال السوربون، فمن النادر أن يتكلموا عن ملوكهم بعبارات الاحترام، والغالب عليهم أن يخوضوا في أحاديث ملوكهم خوضًا أثيمًا. وقل منهم من يفرق بين الحياة الاجتماعية والحياة الشخصية، حتى إنك لتدرك أنهم لا يصلحون أن يكونوا أساتذة تاريخ. والفرنسي كما تعلم من أذكى الناس، وهو يوجّه ذكاءه أحيانًا توجيهًا خطرًا حين يؤرخ الملوك، ويكفي أن أذكر لك أن بعض أساتذة السوربون أخذ مرة يعدد مثالب ملك من ملوكهم الماضين ثم ختم محاضرته بالعبارة الآتية إذ قال:
«وبعد هذا كله لا ينبغي لنا أن ننسى أن ذلك الملك أتى بحسنة غطت على جميع سيئاته: وهي أنه تفضل فمات»!
وهذه العبارة تريك إلى أي حد يبرع أولئك القوم في إلقاء النكتة … وقد انقضى عهد الملكية بخيره وشره، ولم يبق له من الأنصار إلا أقلية ضئيلة لا يحسب لها حساب، أفتدري ما نصيب رئيس الجمهورية في فرنسا الحاضرة؟
اسمع وأعجب أيها الصديق.
إن رئيس الجمهورية الفرنسية يشابه تمام المشابهة ذلك الخليفة العباسي الذي قال:
فهو يملك كل شيء، وليس بيده شيء. إن رئيس الجمهورية الفرنسية له حقوق تفوق حقوق الملوك، فهو بحكم الدستور الفرنسي يملك من السلطة أكثر مما يملك ملك الإنجليز وملك البلجيك؛ وهو مع هذا أضعف من أصغر فلاح في إنجلترا أو بلجيكا. وأصغر فرنسي يملك من الحرية الشخصية ما لا يملك ذلك الرئيس … وإليك بعض البيان:
رئيس الجمهورية الفرنسية يملك حل البرلمان، فالنواب والشيوخ يعيشون تحت رحمته، إن شاء أبقى عليهم، وإن شاء مزقهم شر ممزق، وتركهم يخطبون وداد الناخبين من جديد، ويا له من عبء ثقيل!
ولكن مهلًا! فإن ذلك الرئيس بحكم الدستور لا يملك حل مجلس النواب إلا إذا صادق مجلس الشيوخ، وهيهات أن يصادق الشيوخ على حل مجلس النواب، لأن النواب إليهم الأمر في انتخاب الشيوخ، وبذلك تتلاشى سلطة رئيس الجمهورية على البرلمان.
رئيس الجمهورية له حق العفو، فبيده أن يعفو عمن حكم عليهم بالإعدام أو قُضي عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة، فهو بذلك سيد ترجى رحمته ويخشى غضبه.
ولكن عفوًا! فإن رئيس الجمهورية لا يملك حق العفو إلا إذا اقترحته اللجنة الخاصة بذلك في وزارة الحقانية.
وعلى هذا ضاع فضله في إنقاذ من أشقاهم القضاء. وقد يحدث أن يقتنع هو ببراءة بعض المتهمين، ولكنه مع ذلك لا يملك أن يتدخل أو يتعقب، لأن الدستور لا يجيز له ذلك، وهو للدستور من الخاضعين.
رئيس الجمهورية هو الذي يرأس مجلس الوزراء فلا يُقضى بشيء إذن وهو غائب.
ولكن رويدًا! فإن الوزراء هم الذين يُعدون كل شيء، ويقضون في كل شأن، وليس لرئيس الجمهورية أكثر من شرف الحضور، وليس له بحكم الدستور أن يناقض الوزراء، وله فقط أن يبدي ملاحظاته. وللوزراء أن يخالفوه إن شاءوا، وأن يوافقوه إذا أرادوا. وقد كان يقع حين كان بوانكاريه رئيسًا للجمهورية، وكان كلمنصو رئيسًا للوزارة، ألا يفكر رئيس المجلس في دعوة رئيس الجمهورية، فكان بوانكاريه لا يعلم بموعد انعقاد المجلس إلا حين تصله برقيات هافاس!
رئيس الجمهورية مطلق التصرف في جميع أعماله ومشيئاته يُولي من يشاء، ويعزل من يشاء، ويعطي ويمنع كيف أراد.
ولكن هذا كله لا قيمة له، وليس فيه أثر للحرية الشخصية إذا لاحظنا أن الدستور الفرنسي ينص على أن أعمال رئيس الجمهورية وتصرفاته لا تعمل عملها المنشود إلا إذا وُضع إمضاء الوزير المختص بجانب إمضاء الرئيس.
ولا تدهش إذا قلت لك إن رئيس الجمهورية الفرنسية لا يملك حق مخاطبة الجماهير، فإن سألت ما معنى ذلك فإني مخبرك بأن رئيس الجمهورية ليس له أن يُعدّ الخطب التي يلقيها في الحفلات الرسمية، وإنما يكتبها الوزراء بأنفسهم ثم يقدمونها إليه مطبوعة، وفي أكثر الأحيان يجلس الرئيس من الوزير مجلس التلميذ من الأستاذ، حيث يُريه الوزير المواطن التي يخفض فيها صوته والمواضع التي يتكلم فيها بشدة، وفقًا للقاعدة المأثورة: «لكل مقام مقال»!
ولك أن تسأل بعد ذلك: إذا كان هذا مركز رئيس الجمهورية، فما الموجب لبقائه؟
وأجيبك بأن الفرنسيين أنفسهم يسألون هذا السؤال، ومنهم من فكر في إلغاء هذا المنصب اكتفاء بقوة البرلمان، ولكن هل معنى ذلك أن النواب والشيوخ يعيشون في فرنسا عيش الحكام المستبدين؟
لا، لا، فإن الفرنسيين يكرهون السيطرة والاستبداد، وقسوتهم على نوابهم وشيوخهم شديدة، ورقابتهم عليهم قاسية. وقد حدثنا بعض الأساتذة أنه كان أستاذًا بإحدى المدارس الثانوية فقدم أحد النواب لزيارته في مكتبه، وأخبره أنه يقترح بصفته أبًا لتلميذ لا بصفته نائبًا أن يتفضل الأستاذ فينقل ابنه إلى فرقة أعلى، فرفض الأستاذ الاقتراح بحجة أن ذلك الابن جاهل وكسلان. وهنا ثار الزائر وقال: بصفتي نائبًا أفرض أن ينقل ابني إلى فرقة أعلى من فرقته، فغضب الأستاذ وانتهر النائب وطرده من مكتبه، وفي اليوم التالي — بعد مفاوضات سرية — جاءت إشارة من وزير المعارف بنقل ذلك التلميذ إلى فرقة أعلى، فثارت هيئة المدرسين واحتجوا على الوزير وكشفوا مهزلة ذلك النائب المختال!
وقد عقب الأستاذ على هذه القصة بأن فرنسا لم تكن لتطرد الملك المسئول لتقع تحت سيطرة ٥٠٠ ملك غير مسئولين!
والخلاصة أن رياسة الجمهورية الفرنسية نكبة على كبار الرجال؛ فقد يكون الرجل من أنفع الناس لأمته، ثم ينتخب رئيسًا للجمهورية فيُشل نشاطه سبع سنين. وقد حُرمت فرنسا من عبقرية بوانكاريه أيام الحرب، لأنه كان سجينًا طليقًا في قصر الإليزيه، وأنت تعرف ما يقاسي القائد المغوار حين يحال بينه وبين الميدان.
ماذا يملك رئيس الجمهورية الفرنسية؟ ماذا يملك؟
إنه لا سلطان له إلا بفضل ماضيه، إن كان من أصحاب الماضي النبيل، إنه لا يملك إلا كلمة الخير يقدمها خالصة إلى الوزراء، وقد يكون سلطانه لا حد له إذا كان ممن رُزقوا قوة العقيدة وحرارة الإخلاص، فإن الفرنسيين أهل كبرياء وعناد، ولا يطيعون إلا راضين مقتنعين.
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
كان ياما كان
تحدث بعض الناس في هذه الأيام عن وصول العرب إلى أمريكا قبل كريستوف كولومب، وهي مسألة تحتاج إلى تحقيق طويل، والذي لاشك فيه أن العرب فرضوا سيادتهم على عدد عظيم من الأمم القديمة، وملكوا ناصية السياسة والمدنية بلا مزاحم نحو ثلاثة قرون، وهي مدة ليست قليلة في سيادة الشعوب.
كل هذا جميل، ولكن ينبغي أن نلاحظ أن هناك أعجوبة أخطر من أعجوبة العبور إلى أمريكا قبل أن يعرفها الإسبان، أو يدري القارئ ما هي تلك الأعجوبة؟
تلك هي احتلال فرنسا وإنجلترا وإيطاليا لأكثر أقطار الشرق الأدنى في أقل من أربعين عامًا.
لقد آن أن نفكر في الحاضر، وأن نعرف أن احتلال العرب لجزء من أوربا وتفكيرهم في فتح أمريكا لا يغنيان شيئًا في هذه الفضيحة الشنيعة، فضيحة الصبر على الاستعباد.
وبيد الأمم الشرقية محو هذا العار، لو فكرت جديًّا في الخلاص وزهدت في المجد المكذوب الذي يمثله هذا البيت: