أناهيت الضحى

مُدثَّرةٌ في فراشكِ

كان زبدُ الفجر يتساقَطُ من أصابعي.
أمام المرآة كان الظلامُ شقيًّا، وكنتِ مدثرةً في الفراشِ والزرعُ مدثرٌ. أمام المرآة كان زبدُ الفجرِ يتصاعَدُ مثل رفيفِ الأجنحة.
أولُ الفجرِ كان يتساقطُ على فخذكِ العارية،
وأنتِ مثل أفعًى كونيةٍ مدثرة في ماء الظلام والماءُ مدثرٌ، لك أجنحة رطبة تضرب الياقوتَ وتضرب الوردَ.
أمام المرآةِ أفتح عينيَّ المجروحتَين.
الماء الذي هو دمكِ يحوم خفيةً في العالم.
الطيور التي هي أعضاؤكِ تُطبِق أجنحتها على المآذن، أغلفةُ الأرضِ التي هي دثاركِ تلفِّينَ بها العيون، شعلتُكِ المجروحةُ فوق معبدٍ مهجورٍ،
وأسرارُ طريقكِ تحت المسلَّات.
تُلامسين الشجرَ فينبض … والخشبَ فتظهر الكمنجات … والكمنجاتِ فيتطايرُ الأفق.
الهواء الذي هو أنفاسُكِ تُغدقين به على العالَم.
أمامَ المرآة كان الفجرُ يدخل بيوتَ النملِ ويدخل عنقي، وأنتِ تلفِّين الأرضَ بنُعاسك، الساقيةُ تلكز حيواناتِها الراقدة، تلفِّين الأرضَ بتمتمات شجاعةٍ على زهرةٍ صفراءَ يابسةٍ.
أقف قبالتكِ:
أفعى مدورة مثل حلقات، ورأسكِ نائمٌ في وسطها.
على زهرةٍ أصلي لتراخي السماءِ فيكِ،
وأنتِ في دمعةٍ تنبضين،
من الليل تكون أدواتُك، ومن الأنهار تتوقَّدين، كلماتُكِ ترتِّل فصلَ السماءِ عن مشيمة الأرض، كلماتُكِ التي هي مدُّ جسدِكِ وجزرُه.
رائحتُكِ … رائحة نومِكِ تضبط إيقاعَ الحصاد،
وحرير ثَديَيكِ غلَّةٌ فريدة.
من السماء يسقط صولجانُكِ وبه تُنقِّطين جسدك، وتُزيِّنين فتحاتك،
وتنقشين خرائطَكِ في النفوس.
على زهرةٍ صفراء أُمسِك غصني وأترقبُكِ،
أنفاسُكِ حركةُ العشب، ونظراتك الغبطاتُ،
نحن ندور في دمِكِ، ونلهجُ بذكر اسمكِ،
ولا ندري.

مرحى أنوثتكِ

أنثى العالم … يا أنثاي!
أيتها الممدَّةُ في سريري!
خطوطُكِ تُشبك عروة قلبي، وتشبكُ جذورَ لساني،
كُلِّي مخرَّم بأنوثتِكِ،
وكلُّ أنوثتكِ ساطعةٌ بصفائح ذهبي،
مرحى أنوثتك!
مرحى فمك ينفتح على آية خلق، وينغلق على آية هلاك!
مرحى أنوثتك تطبقُ ثعابينَها على جذعي!
مرحى أنوثتك قامات في استقبالي،
أغرق في حجركِ،
وتغرقين في حجري،
أتعرَّى في أنوارك،
وتتعرِّين في ألطافي.
مرحى أنوثتكِ تشرب الطعناتِ وتنتشي!
مرحى أنوثتك تُشعل الحصادَ وترتوي،
مرحى فحيحُكِ يشطر عيوني!
مرحى أنوثتكِ تخيط لي الأرضَ!
مرحاها تترع الكأس … وتترنَّحْ.

كلُّ هذه المعابد

كلُّ هذه المعابد
أغلقت أبوابها،
أما معبدُ جسدكِ فما زال مضيئًا.
اليدُ التي مددتِها، مناراتُكِ، تُغلفُها الغيوم.
الكأسُ الذي قدمته، قبابكِ، غامضٌ مذاقُه،
ولا يزول.
الأغصان التي زرعتِها في تراب سِنِيني
هيكل فضةٍ نابض.
أناهيت النرجسةُ الفخمةُ التي عرَّشت في سمائي.
بيننا البروقُ تفضحُ القرابين.
بيننا الأناشيد المحمولةُ على شفاهِ الرعاةِ.
بيننا السرابات المرحة.
بيننا هتاف اللذات:
كأس اللذَّة، الكأس الذي شرابه حارٌّ وشهيٌّ
غاباتها، الفراشات متناسلة.
بيننا سعادة البذور:
أناهيت حرثَت الأرضَ التي بيننا ونثرت البذور.
أناهيت غابةُ الطلع، الغابةُ التي لا تنتهي.
كل هذه المعابد
أغلقت أبوابها إلا غاباتها.

يدك خيبرى

تضيء وتغسلُ الأفقَ من نجومٍ مكسَّرةٍ،
كأن زجاج الظلام تكوَّمَ خارج وردِكِ.
يدُكِ الخيول تفتح دربَ الخروجِ إلى ما رواه الزمان
عن الكائنات الخفيفة تعلو وتهبط.
يدُكِ الشهوات تفتِّح غوري درجةً درجةً.
يدُكِ راعيةُ الماء تفيض بي وأغرف بها.
يدكِ … يدكِ تُنيم حيواناتِ الليل وحيواناتي.
يدكِ تلكز الغيومَ فتهرب.
يدُكِ العصا تهشُّ غنمَ الضحى.
يدكِ الفراشةُ تحيط النارَ وتُشعلها.
يدكِ الوردةُ تفوح.
يدكِ عرقُ الذهب في حَجَر يدي.
يدكِ الماسةُ في فحم يدي.
يدكِ يد الشمس تُشفق.
يدُكِ الكأسُ يبرد.
يدكِ القبضة، قلبُك، طحالك.
يدكِ … التي أبوسها فأغيب.
يدكِ القطة تتغنَّج.
يدكِ المعنى يتسرَّب.
يدكِ المشمشة تموع.
يدكِ القطيفةُ أطويها.
يدكِ الرحمةُ في كلِّ ضنكٍ.
يدكِ، التي هي كل هذا،
قبضةُ مصيري وقِماطي.

الغرانيقُ العُلا

الغرانيقُ العُلا في التيه
إن لم تُحضري الشموعَ فلن يعدْنَ،
اللائي شربهن جَمرُك فاتَّقَدن.
متى ترفعينَ عيونَكِ لتَرَي حُرَّاس الإلهات وقد بلَّلهن المطر؟
متى ترفعين صولجانكِ لكي تمسخي، مَن سرقوا تماثيلكِ، إلى عقارب؟
متى يصل حنوك إلى عمَّالك الذين يقيسون
شهقاتِ الطبيعة لك ببوصلاتهم؟
متى ترعَينَ طيوركِ الطائرةَ مِن مِياهٍ إلى مِياه؟
أناهيتُ تكتب على دفتر الكيمياء رمزَ النحاس،
وتعبر بين غصون النبات.
مشيتها بغدادية وغنجها يحرق الشارعَ.
أناهيت ضوءٌ يتكوَّم فِي ظلام المدينةِ،
تعبر بحذاءٍ مِن ماءٍ شارعَ حيفا،
وتعبر الجسرَ صوب مدينة الطب،
ومِن هناك تطير على فرسها إلى العامريةِ
وتعبرُ جسرَ العامرية وتصل إليَّ
كانت خطواتُها تنقل معها البذور،
وكانَت سلالات الظباءِ تتحشَّدُ للركض خلفَها،
والغرانيقُ العُلا خرجْنَ من معجنِ الصلصال،
وخلقْنَ لها العربات والوصيفات والخدم.
الغرانيق أعدْنَ الشموعَ إليها؛
كي تبحث عني.

حبَّة الرمان

هل أنوثة الكون مجهولةٌ إلى هذا الحد؟
هل أخفقوا في الوصول إلى ما يدلُّ عليها؟
إذن لماذا أشعر بأمواج هذه الأنوثة ترشق قلاعي؟
لماذا أشعر أنَّكِ مِن وراء البيوتِ والشوارع تضربين عيوني بأنوثتكِ؟
لماذا أنوثتكِ تشحن أنوثةَ الكونِ باتجاهي؟
أنثى، مَن هي أنثى، بل تفوق.
أنثى، مَن هي ليست أنثى، بل تفوق.
وضعَت يدها على رأسي وأشارت،
فتدفقَتْ عيوني ضوءًا.
أناهيتُ ملأَت كئوسَها وطافَت بين الناس،
وخصَّصَت لي كأسًا،
كانَت تقدِّمه لي فيبتهج قلبي،
وينبت لي جناحان،
وتتدفَّق أَيدٍ كثيرةٌ من ذراعي،
ويربضُ أسدٌ بين أقدامي.
أشربُ من كأسِها فتزداد حواسِّي.
أشربُ من كأسها فتتكاثر عيوني.
أشربُ من كأسها فيتناسل قلبي.
أشربُ من كأسها فأجعلُ السحابَ يمطر،
والآفاقَ تتوهَّج.
أشربُ من كأسِها فأحوِّلها إلى حبَّة رمانٍ،
أضعها في فمي وأنام.

تحشُّ البستان

تحشُّ البستان!
قبل ذلك حُشَّ قلبي؛ فهو لكَ؛
نبضُه ودورقُه وأزهارُه.
تحشُّ البستان!
قبل ذلك حُشَّ شفاهي؛ فهي لكَ؛
نورها وبلسمها وعسلها.
لا تخف!
تحشُّ البستان!
قبل ذلك حُشَّ يدي؛ فهي لك،
تحمل الشقائقَ والأنبذةَ والأمان،
ولا تلوِّح بالوداع.
ألَا ما أشدَّ حزني! ما أشدَّه!
لأنك ذهبتَ إلى البستان، بينما يتهدر زرعٌ
في جسدي … تتهدر غاباتٌ، وتطلع فيَّ سفنٌ وسرايا،
وفيَّ ينهمر مطرٌ …
وأنت تريد أن تحشَّ البستان … ولا تحشَّني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤