أناهيت العالم
تخيط غيمةً ثم تخيط مخدةً،
وتضع أدد في طاسة، ونبو في طاسة، ثم تضع الماء على
النار وتصنع شايًا.
سهرانة على الخلق تعجن الصلصال وتدعه حتى الفجر
يتخمر، ثم في التنور، صباحًا، تخلق الناس، وعندما تنتهي
من ذلك تقول: ما فعلته كان حسنًا. بعدها ترتاح وتغسل
يديها وتنشِّط أرنبي ثديَيها بالصابون وتمشِّط أصابعها
الألف.
في المساء يدخل زحل عليها وهي في خلسة تتجمل وتُترِّس
الأعضاء فضةً والقواريرَ نجومًا، فيأخذها لنفسه وتأخذه
لنفسها ويغدق على أناهيت الضوءَ والأساورَ والشمَّامات
والخواتم فترضى، وينقر الدفوف؛ دفوفها.
وينفخ القمح؛ قمحها. يشعل كأسها وفتيلها.
نام العالم في كُلَّتِها وصار نطاقُها البقولَ
وقوتُها أسدًا ينهض تحت حجلها. أناهيت تتجول في القصر،
تلمس المرايا الطويلة، وخدم يحملون ذيل فستانها، خدم
يمرون من تحت عيونها وينحنون. هذه أول إيماءة للربيع خذوا
أعوادكم وكمنجاتكم إلى الحديقة.
في الحديقة:
أناهيت تحوك بلوزًا وترتِّب الستائرَ ثنيةً ثنيةً،
وكلُّ قنديل لم يُوقَد بَعد، وكل نبات لم يستيقظ بعد …
الشمس لم تكن قد رشَّت خردتها، ولم تكن يدٌ قد انخلقت
لتضربها فتنسكب، ولم يكن نجمان قد التصقا ببعضهما. وأنتِ
تدورين في مرآتي، وفي أنفي تنفخين الحياة ونحن في أول
«أوزموا»:
تصنعين أولًا أصابعي وتقبلينها،
ثم تصنعين يدي ثم كتفي،
وتصنعين فمي بخيوط حارة وتقبلينه،
وتصنعين عيوني وأنفي،
وتأخذين حفنةً من الصلصال وتصنعين صدري وبطني، وبماء
المطر تصنعين أقدامي وأفخاذي، بسكينك الذهب تفتحين صدري،
وتكتبين اسمك في كمَّثْراه، وبسكينك الفضة تفتحين بطني
وتكتبين ألقابك في التلافيف.
تصنعين خزائيل من لعابك وبلسانك، تشبعينه قُبلًا
وأدعيةً.
هذه خرزتك بنيةً في عيوني … هذا حجابك فمي … وهذه
رقاكِ فتحاتي.
أناهيت تتجول في القصر وأقدامها الحافية تلطخ السجادَ
بالطين، خرجت لتوها من معجن الصلصال، الرماد يتطاير من
الشرق والطيور تصفق فوق خرائطه، يشبك القماش بدبوس ويخطط
بالأحمر:
هذه بُخارَى، وهذه سمرقند، وهذه كابل.
هنا نضع أثقالنا، الفرس ستصهل، وستسقط قلنسوة الرأس،
حمراء، في الوحل. وسيظهر العرش.
ظهيرتي … محٌّ يندلق في كوب فخار بجانبه كوب عرق،
أغني وأنت منطرحة أمامي. نصفك يغرق في عيوني ونصفك الآخر
خارج الفراش مغلق وزكي.
أخلط عيونَك بعيوني، العرق يصير أبيض وأنتِ تُدخلين
يدي فأعرِّيك من الهواء وآكل.
مثل مهندس المندل أنقِّط مطري على ظهرك، ومثل عرَّاف
الودع أفصل خرزك الأبيض عن الأصفر عن الأحمر عن الأسود …
وأحدد اتجاهات خيولي وأنطلق. لا شيء في هذه الظهيرة سوى
ندى اللذة يحفر عظامي.
راياتي تأكلها نار يديك، أقلب جسدَكِ الشمعي هذا
وأسحب خيوطَ الضوء منه.
حيوانات هاربة من الزلزال والظهيرة مثل وَغْف يحلق،
خلل يتكرر، والكاهن له لُغْد أبيض وطاسته تفور … يحملها
ويدخل القبو … أحمل أنا قدحًا مِن البيرة يتوغف ونلتقي
أنا وهو على الدرج … هو داخل إلى القبو يرتل:
«قامت مريم بنت داود إلى العود (وأنا أغني) وجهك
مشرق»، يدخل هو وأخرج أنا لأنهض بملكوتي.
لماذا تنطبع أقدام الزمن على ألسنتنا؟
لماذا اللغة مصباحنا نضربه فيتوهج؟
لماذا تتكاثر خلايا السرطان إلى الأبد؟
لماذا فيه الخلود وهو قاتل وخبيث؟
أناهيت تعيد ترتيب الستائر ثنيةً ثنيةً. تضرب
السجادة، المعلقة على الحائط، بالعصا وأردافها تهتز،
الحجر الرمادي يلف قامة تمثال فخم وتحته تجلس أناهيت تضحك
والماء يبلل ثوبها، عودة الراعي مع غنمه عصرًا يهش عليها،
الرذاذ يتطاير وهي تدخن، «اسمع … سآخذك إلى
القصر.»
اسمكِ موجود في كابل … سُمِّيَت قابل لأنها من اسمك
أُخِذت فقد أقبلت على الوجود وهي رافلة بالزمرد، وكان في
ذلك اليوم أني أقبلت إلى أوزموا. وأنتِ حينئذٍ، ابتهَج
قلبك أكثر من الآن وقلن لي نساء النسل اللائي
حولك:
لأنك نسيت نساءك في الماضي
فسآخذك إلى امرأة تموت عليك
وتتشهَّك وستقول عنها هذه هي التي ستكون لي،
وتقول هي كذلك مثل هذا القول.
لماذا؟
لماذا لا تحمل الصواني إلا زهورًا ذابلةً وشموعًا في
طريقها إلى الانطفاء، جثث تظهر مفاصلها على الساحل بعد
الجزر. بقايا التكوين.
لو تنطق هذه الكتب المكظومة، ماذا سيفيض بعد الضوء؟
القلم أم اللوح؟ قوة الثدي لا قيمره فقط. الثدي الذي يترس
يدي يتنفس. بدت أحلامنا مثل أرض مهجورة تسعل فيها بنات
الشمس. ورأت حيوانات البرية أن بإمكانها اختراقنا ففعلت.
ها نحن نمتلك أمعاءً
(ذكرى الأفاعي التي اخترقتنا)، وأكبادًا
(ذكرى السلاحف التي زحفت علينا)، وقلوبًا (ذكرى
الدجاج الذي عرَّش في أعماقنا).
أناهيت في بلاط (شجاع المُلك) يضعها على سرج حصانِهِ
ويمضي يفتح المدن. ماذا تقول الكتب المكظومة؟ ماذا يقول
فمٌ ينفتح على خلقٍ وينغلق على هلاك.
جهاز تناسلها يشبه الزهرةَ في شكلِه، يدُها تشبه
الزهرة، آتون يشبه الزهرةَ أيضًا. مدوناتُنا ما زالت على
ظهور الجمال، وآخر المتاهةِ يسري في العروقِ … مدوناتنا
تتفطرُ.
وقعت زجاجةُ الكحولِ على أرض البلاط وابتلَّ قماش
العرش، كان آتون يتقدَّم بيدٍ كالزهرة تحمل شخَّاطةً، كان
آتون يحرس العرشَ وألواح القدر تحت أنفه، يلوِّح بحرقه …
يحرقه. كان الكحول يتحوَّل إلى أخضر فوق السجاد،
والثعابين المحنطة على الحائط تتحرَّك.
الظهيرة … وآتون يقف على القنديل يرفرف بجناحَيه
الصغيرَين على طفلته أناهيت، يرفرف على حِجْلِها وهي
نائمةٌ في حديقةِ القصر … شرشف مزاحٌ عن صدرها، وصدرها
مثل زهرة لوتس تتدلَّى، ثوبها أزاحَه هواء الليل فلمع ماس
حجلِها يجر ذبائحه، والحديقةُ كلُّها تبحلق بهذه الفريسة
المبهجة … الأشجار والورد والسواقي والرفش والأباريق.
الظهيرة تكشف لبًّا وتتوعَّد.
الظهيرة تجبرني أن أكرعَ الخمرَ وأغوصَ في وحلها …
حجلها يلسع دمي ورائحة التبغِ تملأ ممراتِ القصر، الرحم
يمتدُّ على لفائفِ المِعَى، وحدهما قرنَا الرحم ملتفَّان
مثل قرون الغنم، الغرين يتدفَّق من اليد وتخيط المنحنياتُ
الدفوفَ.
كيف ينفتح الدهرُ على أربعة (يدان ولسانان أعلى
وأسفل) لا شك أنها تفلِّي مفرق الشمس ومفرقها، وتفلِّي
فمي بالأربعة، هذه قلادةٌ من العاج. هل تعجبكِ؟ أسبلَت
عيونها، هشَّت على طيرها الوحيد الواقفِ على النافذة،
فطارَ ودخلَ جسدي فَتَاهَ في مفاصلي ووضع بيوضه. الظهيرة
كثيرةٌ تغطِّي ظهرَكِ وتغطي أنفاسي وتغطي الكأسَ. أنتِ
تضربينَ بخرزكِ الأمواجَ وتتسعين، لهبُنا يتناسل وأرفع
يدي باتجاه النواميس، والغيمةُ تتفرَّج علينا من النافذة،
ثُم تتسلَّح بنا وتروح، وأنا بخارُكِ أخرج من مراياكِ ومن
حقيبتكِ وألمُّ معكِ تحت أنقاض القصر خردةَ الذهبِ
والطواويس … ألمُّ معكِ شظايا العرش، الزجاج يسعل …
تتقدمه دفوفٌ وأيدٍ ملطخة … منديل يمسح الفضاء ويختفي،
القربان إذن! هذا جسدٌ وموسيقى. خمرٌ يتكرَّر … خمرٌ يفور
في القلب وفي الكأسِ، الكأسُ يشبه القلب.
مقصُّ الخياط يلاحق خطواتي … كأسٌ آخر وأصل إلى
الثمرة، أما أنتِ فتنظرين في عنق «ماري أنطوانيت»
وتتنهَّدين … يا للعنق الجميل … كانت المقصلة لا تحلم
بمثلها، التاريخ يضحك،
الدرنة تتفطَّر وقلادةُ البيت تتفطر وظهيرتي مُحُّ
بيضة، كلَّما مشينا تقدَّمنا في معمار أقدامنا ولم نقطع
مسافةً، من سجنٍ واحد إلى عدةِ سجون … سجن الطعام وسجن
النوم وسجن اللغة، من الإله إلى صبيانه، من الحقيقة إلى
ترابها المنتشر في المكتب، تفتش في قاصتها عن صُرَّة
الخواتم … تفتش عن أوراقٍ وصور، القردةُ يخيطون مباهجَ
العقل، نفتح دولابًا جديدًا، ونعثر على كتبٍ
جديدة.
غبطتُنا تنسجها الصدف.
حلمت أن أسناني سقطت في الكأس، معبِّر الحلم يقول:
أبناء سلالته يموتون ويُطردون … لماذا إذن هذه الصرَّة من
الأحاجي والملابس؟ سألمُّ معكِ شظايا العرش وأنا الطير
ألعب في نيرانِك، أنا الحصان السريع القلَّاب الذيل، خافي
عليَّ خافي … أنا قطب جسدِكِ ونور مقلاتِكِ وطبولكِ،
أمسككِ فتطيرين، أمسككِ وريشٌ في يدي يتبقَّى، لبنُكِ حلو
لبنك فضة عظامي، تُعطيني يدَكِ فآكلها، تعطيني غبارَكِ
فأتنفسُهُ.
قبل أن تظهرَ الشمسُ ظَهَر صقرٌ يجرُّها برجلَيه إلى
الفضاء، قبل أن تظهر الشمسُ ظهرَت أناهيت تنفخ الغيومَ
وتنظِّف السماءَ بالوصلة، أما النجومُ فولدت بين كفلَين
وملأ غبارُها
عظامَ الناس والحيوان، الشمسُ التي ستأكلها قطةٌ عند
الغروب، ناموسُها الطريد يعيد لي الكتابةَ … قوتها أشهى
من الموت، صقرُها يدلُّ المركبات … صقرُها يرفرف فتنفتح
النوافذ وأنتِ تكبرين، وفي كل الجهات تتعدَّدين، وأنا
أنسلُ الأرضَ تحت ذيلكِ وأضع في شقوقها البذور، ثم أشير
للصقر أن يقفَ على يدي، يدي «خيبرى» … يدكِ الفضاء فلماذا
العرش بعيد عن «كمياب»؟
لماذا الورد حزين وأعمًى؟
ثديُكِ من شمعٍ تشعل فتيلته يدي، وأنا أنقِّط ظهرَكِ
بالماس وأهوس، أغني وأنصت لمعيزاتك أنا العاصفة أحزِّم
غدرانكِ وأحزِّم بغالكِ وأحرس خيامكِ، فليقوِّ الله
أحشائي … ليقوِّ مجالدتي … ليقوِّ الله يدي ويقوِّ أعضائي
الظاهرةَ والباطنةَ.
الخسُّ شعرُكِ الذي تجعَّد وزرعتِهِ قربَ فراشي
الخسُّ شعرُكِ المبللُ بالماء كوم قربه أسماكًا تلبط الخس
شعرك الملفوف كالحلازين، وأنتِ إلهتي التي تُقدِّم لي قرب
معبدها الحَبَّ وتقدِّم لي الخمر، لأجلك أصلي لأجل
الحرملك الذي تشعين فيه مثل صف بلور، لأجلكِ إقباتون
الشجرة تصعد وتفتح غصون شعرها، لأجلك الزرع يهفهف، لأجلكِ
الصقر يتقدم في الهواء ويشق ثُخنَ الزجاج، لأجل حُقِّ
القيمر في صدرك، لأجل حقل العسل تحت بطنك. لأجلك إقباتون
معبدي. لأني تلفظت باسمك امتلأت الغرفةُ بالكريستال، لأني
تلفظت باسمك أعطاني الليل قلادته ومضى … صلِّبني يا إلهي
مثل سلاح يرفع المدينة من حيف، صلِّبني فهي في عزِّ
مجالدتها مع ضباب طلعي الكثيف تمنحني ظهرها وبطنها ولبنها
وفلفلها، وأجمع الذهب من ترابها، اجعلني أشمُّ من فروها
النجوم؛ فهي التي لاطَفَتني ولافَحَتني، خُذ بيدِها نحوي
وأنتِ أيتها الأرواح العظام أجيبي، يا قَرنَي القمر! ويا
أنثى الكاليوس، يا أردفي سورا أناهيت بحق الاسم الذي
تنقَّعَ في مائي وخضَّ الحجر في شكوتي … أجِب يا نهار
القسوة … أجيبي يا ظهيرة اليواقيت تتمطرحُ في شذر الثدي …
يا سحاب الشهوة يتغنج في فمها وهي تتكلم، ويا أيها الموج
الطالع من بذخ أفخاذها وهى تستدير، ليِّن لي الخشن من
أعضائي واخفق على قامتي نرجسًا وذهبًا … اقلب جسدًا ينقلب
حقولًا ودعني أختلي بورقي فهي فيه، اسمها يقلب الكواغدَ
ذهبًا، وكذا سُرَّة أناهيت يُغلَى فيها كحولي. سأرنِّم
لكِ لأنكِ صنعتِ مفتخرًا ولأصابعك الشمسات.
جسدك كاللبوة يصيح:
افتح لي الباب!
افتح لي الباب وإلا كسرتُ القفلَ والمزلاج!
افتح وقبِّلني … قبِّل عيوني … قبِّل كبدي …
ومُدَّ يديكَ في تنوري وخذ الخبز.
خذ الطير المشوي وكُل.
احملني إلى القنفة.
احملني إلى الفراش الذي على الأرض.
لا تحملني للسرير.
احملني إلى الكريستال ودعني أشمكَ.
دعني أشم ثعلبَك.
دعني أبوس حجرَك،
وألمس حديدكَ.
مسرَّتك دائمة وقويةٌ،
وهى تغرف من بئري.
كُفِّي أيتها الباذخة … كُفِّي عن النواح سيدةَ
الشرق، المليكة التي تمزَّق عرشها في بابل، كُفِّي أيتها
الباذلة، كفِّي يا سحابة واسحبي رياحك ودلاءَك. اسحبي
جرارك … اسحبي خيولَكِ وتعصمي بعظمتِكِ فاسمكِ وحده كفيلٌ
بسلطان، اسمك إمبراطورية نساءٍ وغلبة وغليان مجدٍ وعاطفةٌ
تفور.
قلبي كتبَتهُ يدُك، وأحشائي مرسومةٌ في يدك، أنتِ
منعطفي — السلالة والصورة — تجهلني عيوني وأنتِ
لاتجهليني، تفرِّقني أقدامي وأنتِ
تماسكيني، تخاف مني أصابعي وأنت تقربيني … أعدُّكِ
فأجدك كثيرةً وأنتِ معصيةٌ أرتكبها كلَّ يومٍ وتصيحين
بي:
أيها اللذيذ تقدم ولا ترتجف،
حين تضع خطواتكَ في مجالي، علامَ
تبتعد وتزداد زيغانًا؟ كل الرأس يدوخ،
وكل القلب.
دعني أشم خزائيل وأبكى، دعني أتلعثم
في رضابكَ أيها النهر، سأمنحكَ سمكة يدي
سأمنحكَ بركةَ فمي،
وسأمنحكَ الينابيع.
أودُّ لو أغتسل في حضنِكَ.
أودُّ لو أناديكَ ويشبع فمي
مِن ترديد اسمك، أودُّ شمعتكَ تذوب في
ماعوني وثوركَ يتقدم في حقلي المرتفع
المزين بالأشجار.
ولعلكَ الثورُ تطيرُ في أعضائي
أريدُه ذلك الطير … أريد الثور يطير.
أريد الطيرَ الذي يدثِّر جسدي.
أريد الطير.
أريد الطيرَ الذي يُسعِد قلبي.
أريد الطير.
أريد الطير الذي يحوم في جسدي.
أريد الطير.
أريده يعشعش.
أريده يبيض، أريده يزقزق.
أريده يغفو، أريده يدمدم.
أريده يخفق، أريده ذلك الطير.
أريده يُفيق، أريده ينقر.
ذلك الطير
أريده.