أناهيت الغروب
تحت بخار الليل
أناهيت تقول لي:
حبلتُ بهذا العالم قبل أن أراك ثم أنجبته،
وكان مثل بيضة تشقَّقَ قشرها،
وخرجَت الأحياءُ منها.
لماذا أراك مستوحشًا وأنا سيدتك، خلقتُ العالم ثم
أحببتك،
واسترحت؟
أقول: نعم … رأيتك وحدك، وكان كل ما حولك ضبابًا
وأنا أترنم بنشيدي لك وألضم فمك، وأنا في مجونِ
رائحتِكِ أفك شفرة خلقي.
يدك تتهدج في الأفق وتلف الأفاعي، وتلفين دجلةَ على
فخذِكِ اليمنى … والفراتَ على فخذك اليسرى، تلفين
ترانيم الزاهدين، وتلامسين بأصابعك أهلة القباب.
لماذا تتفكك رائحتك إلى فراشاتٍ في سريري؟
لماذا يخلقُ فمُك، تحت بخار الليل،
الأسماءَ؟
لماذا تضيء يدك وهي تسبِّح؟
تحت بخار الليل أحفر تماثيلك وأشم النور الذي يتجمد
تحت أظافرك، آكل هدومَكِ، وأنادي اللَّقالِق لتأكل
معي.
تلمين ثيابك
تلمين ثيابك والشمس تلم أشعتها.
تأخذين القميص من على الكرسي،
وتأخذين الجوارب من على الأرض،
وتأخذين الأساور من على المائدة.
تأخذ الشمسُ كفوفها من على الحقول،
وتأخذ أسنانها من على الصخور وتلم شعرها المنقع في
الأنهار، تعصر الشمس يديها وتمسحهما من دم الطبيعة
الحار.
تعصرين جسدك وتبكين على جسدي،
تلمين أزهارك وقلائدك ويديك،
وتتهيئين للرحيل.
تضعين الكحل والأحمر والأقراط.
تضع الشمس الغيوم وتغسل النجوم وتهيِّئُها.
تلمين كلامك من على جسدي،
وتلمين النهار،
وتضعينه في حقيبتك.
مثل مانحة رحمة
أنزِلوا الأجراس عن الأبراج،
وأنزِلوا الطيور عن القباب.
علَّق المصلون تراتيلهم بكِسَر الفضاءِ الساقطةِ في
حضونهم، فظهرت تلوح في الشبابيك مثل
مانحةِ رحمةٍ وطارت على الأسوار مثل مانحةِ
فألٍ سعدٍ.
قلبكِ أيقونة فوق صدري.
يدك زهرة في يدي.
قامتك في عيوني،
وراياتك في أحلامي تخفق.
ثديك يحمل سحابًا على أرنبته وسفوحه.
جسدي كله عضو من أعضائك.
فإن تصوغي لي فمي فاحذري نسيان كلامه،
وإن تصنعي عيوني فاحذري نسيان ضوئك.
أزحف … على أنك ستصوغين لي أرجلي.
جسدي كله عضو من أعضائك.
فإن تمطيت انشغلت مائة عام باصطياد السمك، وإن فتحت
فمك انشغلت مائة عام ببيانك، وإن تنفست انشغلت مائة عام
بتقريض السماء.
وإن تعرقت انشغلت بالبركة.
جسدي كله عضو من أعضائك، وأنتِ
مشغولة بخلق الفراشات من شَعري،
وأعضاؤك كلها تنوح عليَّ وتتوسلك.
رتَّب المنجمون
رتَّبَ المنجمون مَشهدَ فراقِكِ.
نجمٌ يحوم على مسجد،
وعشر خرائط تحت أعوادهم.
بخور دموعك … وبخور عناقي.
قال المنجمون: أنت تموت عليها وتفنى بها.
ولي، أنا العاشق، قام النور وزنَّركِ
وأبقاكِ
لي وتبدد في أنسجتك، ولا أعرف كيف ألتقطه وألتقطك
وأضعكما في القوارير.
ولي، أنا المجروح، غلَّف مواجعي ندًى منك،
وغمغم في شهوتي طلعٌ.
قسوتك لذيذة، وعطفك حقل، وأنت سنبلة.
أرتب صف أنبذة وشموع.
أيتها الغيمة الحارة التي أراها عندما أدحرج الأرض
ليلًا، وعندما أهش الطيور.
رتب المنجمون بوصلةً في الطريق.
مرورك يسلب الظلام، وعندما تطلعت في الناس وجدتني
ألهج بذكر اسمك وأقول: «فضة»، وأقول: «شمسة»، وأقول:
«شجرة الكهانة»، أقول: «دالية الكروم».
أرتب نبض جهاتي وأدير زوايا المصير نحوكِ.
ولي، أنا العاشق، تقدِّمين الكأسَ أحمرَ، والجسدَ
أبيض، والنهارَ وغفًا يتطاير، أنتِ، يا مَن أنتِ فراشٌ
وثيرٌ ونقر دفوف في الدم.
الآفاقُ انسكبت
سماءٌ مجرَّحةٌ بدعاء يديَّ المرتفعتَين.
أعيديها إليَّ.
سماء على مركبٍ ينتظر،
كلها تتأوه وتنوح
أعيديها إليَّ.
الآفاق انسكبَت في خطواتكِ،
ويدك التقطت آخرَ السماء.
جسدُكِ سَحَب الخُضرة وغيَّبها فيه.
كان قيامكِ شطيرتَين: السماء والأرض.
شرنقتِ الهواءَ حولكِ، وزنَّرتِ الضوء.
إذا دخلت في معمدانِكِ … سأنبثق.
إذا رشقت المدى الذي يرسله حضورُكِ،
سأغمركِ وأحصد السعادات.
رصيعة مفرق الشمس
ترصِّع مفرقَ الشمس قبل أن تذهب وتغنِّي:
سلَّ الزمان سيفه وما طعن.
ويلاه … ما زالت هنا وهي تغيب.
سلَّ الزمان وَرْده وما أفاح،
ما زال برقٌ في يدي مكشرًا وفي فؤادي.
سلَّ عليَّ شوكه وريحه وجيشه ولم يُصِب.
ما زال قيدي في فمي ولم أُجب.
رصيعة في مفرق الشمس تنوح:
دسَّ الزمان خرزةً في جسدي
خرزته الحلمة في ثديَيَّ.
خرزته عيوني.
خرزته الأسنانُ في ثغري.
ترصِّع مفرقَها وتتعطَّر وترى الوقت يزبد في
السواقي.
تغسل فمَها وأصابعها.
وتشم رائحتي قبل الرحيل … وتتقلَّب.
رصيعة مفرقِ الشمس
تتركها في يدي.
التي خرجت
التي خرجَت من خِدري كان وجهُها يجذب النور، التي
نفخت في فمي الكلمةَ كان فمُها يرتِّل الأقاصي.
أمسكَتني مثل سمكة ونشفتني من الماء.
نظفت غابتي وأخرجت الذئاب من صدري.
تركت الضوء معي وذهبت بدونه.
أصبحتُ أمرُّ دون إثارةِ نبتةٍ أو حشرةٍ.
أناهيت التي كشفَت نورَ العالم لي،
ونور جسدها.
وأرتني ما تحت الهاوية.
أناهيت التي صنعت الهضبة.
أناهيت التي أرتني ما تحت الأدمة،
التي حدَّقت في الأسرار وجعلتني أحدِّق.
أناهيتُ التي حلَّت حبالَ مراكبها،
وغطسَت في حافاتِ الليل.