أناهيت الليل
تدير ظهرها للشرق،
وتنهمك في رفع شراع مركبها.
مرت اللقالق مودعةً وحزينة، مرَّ حشد من لاطمات
الصدور، مرَّ تابوت إنانا، يدها في الكفن تحمل سنبلةً
وعلى صدرها ينعقف الصليب. أغانيه جاءت من حواشي المدن …
وأغانيها سقطت في الآبار.
يُخرِجون الدلو من الأعماق، ويرون شهقة الخواتم
الذابلة، كل هذا من أجل أن تكون الأيام على مهلها. أيْ
أناهيت ارجعي إلينا … أجسادنا سيغادرها النور … أثداؤنا
ستذبل، صفائح النحاس لن تلمع، والجرار لن يتخمر فيها
العنب.
شدت حزامها ووضعت الأبواق فيه،
والدروع على صدرها.
ما الذي تشتهيه ثغورك؟ مركبها عند جبل
«مانو» وأنا وحشودي نودع المركب المزين بالقرمز
والذهب … سيدته ترمي مراياها وقلاداتها على حافة الجبل،
تنطرح الشمس على مركبها ميتةً وقربها ريحان ذابل، أمسك
بيدي حبال قاربها، ثم أسحبه مع ملائكة الغروب على الماء
الحزين.
لم يكن دجلة بهذا الصمت، لم تكن حورياته بهذا النحيب
الهادئ الطويل … كان كل شيء ملطخًا بلمسات الغياب.
تضبط أناهيت ناعور المياه المهول بسلالِهِ الاثنتي
عشرة، وتضعه في «دجلة كسيا» بينما يهرب «دجلة بغرا» إلى
السطح.
كلنا نلهج بذكر أسمائك السرية يا أناهيت إلا اسمك
السادس الحق الذي يتدلى في أغوار الدوات.
ندفع مركبها وتُدوِّر هي دولاب المياه وناعوره
وتلوِّح مودعةً. يأخذها مركب على أسيل الشوارع من مكاني
إلى العامرية، وتعود يدي تلوِّح لها بالوداع …
الساعة الأولى
وضعت قرصَ الشمس في يدٍ، والجِعْرَان في يد.
نفخت على شراع المركب وعدلت ساريته، ما الذي دفع كل
هذه الأفاعي إلى سطح المياه؟! افردي لي أيتها الأفاعي
سراجًا أعبر به بسلام، صفِّقي بالأيادي يا جبال، افردي
لي معبرًا في التلافيف المعتمة، طرقٌ تشبه الأمعاء ماذا
تحمل الأباريق والأكواب التي في خُرجها حبر ذاك الغروب،
ومصوله مُجفَّفة في زجاجة تقع على سطح المياه فتتلاطم
الأمواج وتشتبك؟
مرت بثوري وذبحته ورشقت بدمه الحقول الملآنة قهرًا.
كان جناحها مبللًا وكانت أقراطها تحمل التخاريف
منقوشةً، أما أغشيتها الأخرى فقد انتزعت وأصبحت شبه
عارية، تدثرت بالفراش وعدَّت النجوم:
هذه النجوم أرواح موتى تكفنت في الأعالي.
مركب من الفضة يمشي على بطن امرأة منحنية على
الأرض.
ظهرت كلبوة مجنحة في مقدمة المركب.
رنمي يا سماءُ الأرضَ بالمطر، واهتفي يا بروق في
يدي، وأنت أيتها الشياه الهاربة في الظلام ادخلي
مغاوري.
لم تكن في بيته علامات تزف المراكب نحو خلاصها،
بَيدَ أنها أمسكت بأشباح يديه تمران على جسدها
وتودعها.
رماد الخليقة في كوبها الدافئ … وسلالة أجدادها
يظهرون حاملين الأعلام البتولية وجداول أنسابهم
العريقة. يده تسرح شعرها.
الساعة الثانية
لسانك ينبت مديحًا لي ولساني ينبت صلاةً.
ريحك تقرب خلاص مركبي.
أحجار بهيئة الطيور والتماسيح في يدي.
تطش الخرز على خريطة الدوات … ما الذي على نهر
كسيا، وما الذي خلف تلك الصخور، هذه أقاليم روحي وتلك
طيور روحه ترفرف، عن ماذا يبحث الآن في كأس خمرته
الباردة.
ودع محبيه عند مفارق المدن وظل يجوب القِفار، يغني
خلف غابٍ من الشجر المر ولا يفوخ.
لسانُكَ يُنبت لي حزنًا.
كئوسٌ على المائدة في أول الليل دونَ خمر، طيور
الليل تبدأ الغناءَ وأنا أرسم على الحائط ثورًا مطعونًا
بالرماح، ما الذي جرى في الأخاديد؟ … ماذا هناك على
رفِّ أوهامنا غير هذه الأشرطة الرديئة الصنع؟
طيورُ المنارات تنزل في باحة المسجد وتلقط الحَب.
أناهيت تمسك صحنًا من الرزِّ وتفرش عباءَتَها قرب
الميضأة.
مرَّ مصلون كثيرون بقلانسهم وسيوفهم … ومرت نذور
مهيأة للذبح، كانت الطيور تلقط رزًّا من يدَيها.
كانت تعبر المياه بغطاء ظهرها الصلد وأرجلها
المدورة، سلحفاة بين ماءٍ وتراب، كانت لبوةً مجنَّحةً
ذات مرة، فعلُ الأقانيمِ يتعدد والسماء تمطر.
دخلت في صندوقها وعدَّت سنين حياتها بهدوء، إله
العكاز يفتح لها الطريقَ
مركبها خائف بين حائطَين مسننَين بالحراب.
أرواح القمح عزفت.
عجَّت الكروم بروائح خمرٍ ورقص ولذَّات
داخت أناهيت وسقطت في منتصف الطريق. لماذا ذكَّروها
به؟
مركبها يتوسَّط رأس كبش، وهي تشعر تحت الغطاء ببردٍ
فتقومُ وتغلقُ النافذة، تشعر بلمسة يدَيه على
ظهرِها.
الساعة الثالثة
أخذ صينية الشموع المحلَّاة بآسٍ وذهب إلى ضفَّة
دجلة قرب مقام الخضر، وضعَ الصينيةَ فوق أسيل المياه
ورفع يدَيه:
يا ألله … أرجعها إليَّ وسأحميها برموشي.
يا ألله … ورد ونور في طريقها.
يا ألله … نحتمي بك بعد أن تمر العجلات.
يا ألله … أسقط الغربان في طريقها.
يا ألله … ادحر الأفاعي في طريقها …. يا
ألله.
كانت الشموع ليلًا تضيء النهر، وكانت هي تلبط في
المياه وتراود الشموع … لم ينتبه لحركاتها.
لكِ التجلَّة لأنكِ تثيرين النجومَ في صدري،
والنورَ في دمي. أخذ كمنجاته ورماها في المياه، ونزل
بدلوِ ناعورها إلى العالم الأسفل ليبحث عنها، وعن
كمنجاته بين قامات الأرواح. للتماثيل رائحةُ
يدَيها.
هذه بحيراتُ النارِ محروسة بالأفاعي، ومركبها تسحبه
الحوريات، تخترق بزعانفها وحوش المياه وترشُّ على
تلالهم تعاويذها …
جلس على عرش مياهه، حوله أبناؤه الأربعة، كان يزن
أرواح الناس، مركب أناهيت يقترب منه لكنه لا يُمسِك
به.
رهطُ محبِّيه تحت ظلِّ كرسيِّه يخيطون قلوبهم
بأجسادهم، شبكات من الخيوط تربط أقدام الكائنات ببعضها
على الطريق … هكذا رنَّمت ساريات بعيدة، وهكذا سقط غراب
على حافة المياه … وفي كل دور فدور اسمكِ على لساني،
وأطوف بشموعك الضفافَ، ناووسي منقوش باسمكِ.
أنتِ فحصتني كفحص الذهب، أنا محَّصتك من بين
الملائكة، وجرتي تتدفق لأجلك بفرعَين (دجلة اليمين
والفرات اليسار).
فينزل الماء على ثوبي ليمسَّ حاشيتَه ويصلَ إلى
أقدامي …
يصل الماءُ إليها فتنقلبُ في سريرِها من اليمين إلى
الشمال، وتشعر بأن يدَه هي التي قلبتها.
الساعة الرابعة
القمر بقاياك.
القمر يجري في عروقي.
القمر يلمع في عيوني والقمر يتكلم في لساني.
إوزةٌ تتبع القمر على المياه … تنقره … تضعه بين
جناحَيها … تركب عليه … لا فائدة، يخرج القمر دائمًا
مرقرقًا بالمياه.
القمر يخترع الكتابة، (تحوت) يجلي بريشته جدران
المعابد وينظفها (تحوت يذوب في نبو وفي سينا).
الإوزُّ يقأقئ حولي، وأنا زهرة سوسن تحرس أنفك،
وأنا طير ينقر فمك، والإوزُّ يقأقئ حولي. وأنا احتفال
البحيرة بك، احتفال الآسِ واحتفالُ الشموع، أنا الصنوج
تهتف والغابات تفيق والمدائح تتراشق.
غسلوا بالأقمشة ساريات السفن ولمَّعوا زجاج النوافذ
بالورق، كانت أناهيت تطرِّز وشاحها بخيوط الذهب، وكان
حزامُها مفتوحًا وسروالها متراخيًا.
شهقة الشهوة تخرج من قيعانِ نومِها، تنقلب،
وتحضن المخدةَ وتعصرها فيما تهطل أثداؤها
بطلعٍ على المغاور فتُفيق الكائنات اللامعة
فيها
اخترعت الحروف الكنعانية ورسمتها على
ناووس أحيرام وكتبت بها المرنمات العجيبة
ﻟ «أدد» … حجر يحنُّ إلى أصله، وأصلُه في
يدَيكِ وفي المعابد القديمة المحطمة.
أحضِّر لساني لملاقاتكِ من جديد، وأقلِّل كلامي لكي
أغرفَ من فمكِ … يا مَن مرآكِ حلو، يا مَن إطلالتكِ
سردُ ماس، وعيونُكِ تاريخ قوة، وانكشاف سلطانك
بحر.
القمر يشدُّ مِدرسَ البذور إلى يدي، مدرسُ البذور
يشدُّ يدي إلى العرش، عرشُكِ الذي ضاع في كابل وعرشي
الذي حجبه الرعاة عني في بابل. أنتِ في صحراء واسعة
تعجُّ بالثعابين المجنَّحة. دجلة تائهٌ بين الصخور
ومجراه عميقٌ وشديد الانحدار وأنا أحرس مركبَكِ
المترنح.
يا مَن يزِنُ جسمي بقبَّانه فيرضى،
ويقيسُ طولي فينشرح.
ويدورق صدري فيهيم.
يا مَن يأكل مِن كلامي ويسعى لعقلي.
الماء ينفتح موجةً موجةً ودمي يبتهج … دمي يزغردُ
وعقربُ الشمس يلسع لساني فأغني، أغني لكي أتكاثرَ
وأكفيكِ.
أشدُّ يدي إلى الصولجان المعطل فتنبت لي أجنحة
وتجعلني أحوم وتخرج لي أيدٍ كثيرة تجعلني أزحف وتطلع لي
حراشف تجعلني أسبح، ثم أنقلبُ إلى إوزةٍ لأتحدَ بك
ولكني لا أجدك.
فعسى قرابين الطعام تجمع شتات يدي،
وعساني أتحوَّل إلى صقرٍ أجوب حقولَكِ كلَّ
يوم.
لقد أفزعتُ تمساحَ الظلام بعصاي،
فعساي أُشعلُ النهارَ بكلمتي.
كلمتي التي هي فؤادي، فؤادي الذي هو فؤادُ
العالم.
تشهقُ أناهيت في فراشِها شهقةً أخرى، وتنقلبُ على
ظهرها … يدي على صدرها تعجنُ الصلصال.
الساعة الخامسة
الصقور تتساقط مخترقةً زجاج الأفق، وراكسةً في مياه
الظلام، رذاذ المياه على أظافرها وعلى ساقها، تشيل
صايتها فتنكشف حجولُها وتعبر …
تتحوَّل، هي الأخرى، إلى رخمةٍ وتحوك زخرفةَ
السماء.
هذه البرديات لي. هذه الأحجار لكِ، ما الذي تدفَّق
في النهرَين سوى جثثِ الناس والغزاة … هل كان لا بد مِن
كل هذا؟!
جيوش الأناباز تصعد إلى أربيل، وتدورُ تحت القلاع
معاركُ مهولة، مسرى الجيوش يشبه مسرى النمل، النمل إلى
الحياة والجيوش إلى الموت.
تركوا عرباتهم ومتاعهم في حلبات الموت.
كان الإغريق يسعون إلى شهوات الخلود،
وكان العراقيون يبحثون عمَّا يديم حياتهم من الخبز
والخضار … انقلبت المعادلة.
أنا صقرُكِ الوحيد، فصائل البشر البيضاء والسمراء
والحمراء والصفراء والسوداء واقفة أمامكِ تنتظر:
فكَّت حزام بنطلونها ورمت الأساور في دجلة
وقالت:
أنتم دموع عيوني.
خلقتكم من دموعي.
فيوم فرحتُ ظهَرَ من دموعي البشر البِيضُ،
ويوم مرضتُ ظهر الصُّفرُ،
ويوم اشتهيت ظهر الحُمْر،
ويوم غضبت ظهر السود،
ويوم دخلت مناجمي ظهر السُّمر.
أعتِّق اليوم أرواحكم وأدخل مملكتي.
سقط الغطاء من أناهيت ولسع جبينها البقُّ … هشَّت
في الهواء، انحرفت ذرات الزئبق وتحوَّلت إلى قصدير … ما
هذا؟
ثعبانان ملتفَّان على عصًا.
أحفر في الجبَّانة لأُخرِجَ عظامي، أرى أبا الهول
يحرسها وتحيط شاهدتي أفعًى حمراء.
ترمينَ حجرًا مِن بعيدٍ على البحيرة فيفور الماءُ
فيها … هنا يُدفَن الخطاةُ، وعلى حافاتها تجمعين الرموز
وتصعدين السلالم.
مجِّدوا أسماءَها وافرشوا الأرضَ بالسجاد … أعطوهم
كعكًا لأرواحهم وهواءً لأنوفهم وأعشابًا
لكراسيهم.
رمت نفسَها في البحيرة وبدأَتْ تتحوَّل …
هشَّت أناهيت الصقورَ عن فراشِها …
كانت يدي على سُرَّتِها وهي تشهق.
الساعة السادسة
عدتُ إلى الترافيم أغبط الصورة الخارجة من هيولى
المياه، ما الذي تقوله ترافيمك لي؟
يد مرتفعة، هلال على الرأس، قوس على الأكتاف، شبق
صاعد من عيون الترافيم والساريات. لعلي أدرك تمر جرارك
لأخوض في لهب الجنون والخمر.
يمين السرير حمام ويساره حافظ ملابس.
جناحان يرفرفان فوق كتفَيها.
جناحان يظهران في المرآة فقط.
تنام على ظهرها فيصطدم ثدياها ببعضهما فتتهيج،
ثديها يسطع نورًا، تقلِّبه بكفِّها — جميل وشهي يشبه
طاسة العسل — تبكي الأزهار ويعلو نبض نسغها، تبكي
الجدران على أنوثة محبوسة.
قالت: ادخل عليَّ وعلى غفوة النباتات، ادخل على رسم
الأفق، وادخل على شمس زناري — انفلتَ عندما ذكرتُ اسمك
— ادخل على طعامي، لعلي أصالح أفواج الداخلين إلى
الآخرة.
أمامي ميزان أزن به الكلمات … تفضل:
هذه كلماتكَ التي على لسانك وفي قلبك في كفة، وهذه
الريشة في كفة، الميزان يصعد وينزل وما زال
كذلك.
سبعة صولجانات في يدي وأسد قوي يزأر في الظلام.
كنوزي تحرسها ثعابينُ تخرج من أفواهها النيران.
تقفين على بوابة المدينة وبيدكِ السوط
كل مَن أخطأ ينال عقابه ولا يدخل … شربت المياهُ
يديكِ فأصبحتا كالغيوم. خاتمُك يدور، أشباح مصائرنا
تنفصل.
ذهبت إلى شارع «أسماء» وسألت عن كتابي، ذهبت إلى
صيدلية ثم إلى نار السرير وقبلت جلمودتي نصف
قبلة.
لي معها نهار أشم فروه الآن وأشم ثرياه الخفية. لي
معها نهار نسبح في خلاياه، ونشم كبده وعدساته، ولي صحوة
الثدي كأرنب، وغفوته كقطة.
قلتُ أدخل عليكِ وأنتِ في البارون (غرفة ٣٠٧) أو في
بيتي، قالت هاتِ خاتمكَ وهات مشطك وهات ملابسك كلها …
هات الزعفران أشمه.
تعبرين أجنة النجوم وأجنة المياه بدفتيك، أدخل في
فراديس يديكِ اللتين بدأتا تنسحبان داخلَ جسدكِ …
قدماكِ تنسحبان داخل جسدِكِ، أثداؤك … تحولتِ إلى أفعًى
كونية، وتكورتِ حتى لامس ذيلُكِ فمَكِ يا نمُّو.
كل شيء ساكن إلا قلبكِ وفمكِ وأنفكِ والزعفران،
جسدكِ دفوفٌ حمراء وبيضاء، وليف لدن، جسدكِ عنب فخم،
جسدكِ شبوط يتدلى، جسدكِ شم الماس وأسطول يتقدم
فيَّ.
أفتحُ المجامرَ … كل شيء مهيَّأ: الأزهار.
النباتات. المسجل. النحاس. الفراش. وعين الحوت
تلمع.
شعرُك يسيل خضابه فوق السجادة وفوق الكتب وعلى كأس
العرق. ذاب الذهب في عروقي واتصل بها وبي المطر.
وتلطَّفَ قلبي فتاه في المعاني الغامضة الكثيفة بين
كتفَيها.
طلعٌ يتطايَر مِن الأوراق على الأوراق وجسدانِ مثل
غابةٍ يحيطها نشيدٌ أعمًى.
انكشف الغطاء وكان البرد شديدًا، جسدكِ
مكوَّرٌ يا أناهيت مقرفصةٌ في الفراش،
ركبتاكِ
قُربَ رأسكِ … يدَيَّ فوق ركبتَيكِ.
الساعة السابعة
أغدقي عليَّ من كفَّيكِ.
أغدقي عليَّ من مذراتكِ،
وارفعي قلبي لمقامكِ.
العالم لبس خُضرتَكِ،
وأنت تحكمين مَن فيه بنقطةٍ من جسدك.
مركبُكِ في أحلكِ أوقاتِه، مركبكِ قد
يتحطَّم
يا أناهيت ساعة مرورك قرب الثعبان الكبير؛
ثعبان النوم والظلام، الثعبان يحيط سريركِ.
على طرف السرير تجلس إلهة السحر تقرأ تعاويذها
ورقاها ملفَّحةً بعباءةٍ سوداءَ، وفي يدها قدح بخور
وزئبق:
قيِّدوا هذا الثعبان بطعنات السكاكين.
قيِّدوه بحبلي.
تنقلب أناهيت على سريرها بفزع، يمر مركبها،
والثعبان يتلوى. تلال عالية وتماثيل صيانةِ
المدنِ تقف مرحبةً بكِ.
جسدُكِ مخيط بالذهب وعقلُكِ ينبض بالمطر.
أنتِ قدرة عسى البحر يفيض.
أنتِ روح انزلي إلى الآبار وابذري.
متى يأتي وقت كيل الكلمات، ثانيةً، لتزني
كلامي؟
ومتى يأتي وقت كيل القلوب لتزني قلبي؟
ميزاني للبشر العابرين.
ميزانُكِ وقوف العالَمِ على قدمَين.
وأنتِ التي تحكمينه مِن نقطةٍ في جسدكِ.
تجزي أناهيت التلال والتماثيل رافعةً ذيلَ السم إلى
الأعلى، العقرب التي تخطر في الرمال وتتألم، مبيضها
معلق عند ظهرها وما زال وقت خروج أبنائها مِن ظهرها
مبكرًا … كانت ترعى النساء الناثرات الشعور إلى الشرق …
شعيرةُ استنزال المطر ما زالت في البراري وهي الإلهة
المشرفة عليها …
انقلبت أناهيت في السرير على بطنها رافعةً
رجلها مثل عقرب يمشي، وسقَطَ الندى على الشراشف …
تحسَّسَت يدي التي كانت تحت ظهرها تغزل الندى.
الساعة الثامنة
عبرت مدافن السماء.
عبرت أكفان الكتان المطروحة أمامها.
كانت أشواق مركبها، تتأجج
أرواحُهم، تحيِّيها ولكنَّها صامتة لا تجيب.
أبسط كفي لرأس السماء ورأسِكِ كي يستريحا معًا.
عيناكِ غائرتان بالدموع …
متى نلتقي؟
ما زال الليل طويلًا.
شهرت الأكباشُ قرونَها أمام العروش البائدة.
غلَّقت أناهيت القرون على الجهات الحمراء
للشمال، والبيضاء للجنوب، والزرقاء للشرق،
والصفراء للغرب.
عبرت مهبط الأفود.
حرَّاس أسماكك في المياه.
تتحولين إلى ذئبة وتلمسين جراح المرضى فتشفى. أنتِ
الطبيبة يا أناهيت، وأنا في الليل
ألمِّع وجوه التماثيل وأيديها. لتحنَّ يدُكِ على
أسباط الحقول ولتشبع مِن لطفِكِ الطيور.
تخرج منك قافلةُ الحرير وقافلة البجع
المهاجر.
أنت حليفة الرماح التي تتقدم وهج السنين
تتمطى أناهيت في السرير وتسمع جرس الهاتف يرن
فترفعه:
ألطِّفُ بحري بمركبك … هل تسمعين؟
سمِعَت صوتَ الهاتف، رفعَت السماعة … وشوشةُ المياه
في الأسلاك … أعادت السماعة دون أن تغلقها … أمواج
البحر تخوض، احتضنت المخدة. يدي تغطي جسدها العاري
بشرشف وتنظر.
الساعة التاسعة
يمر قاربها بهدوء
تستمر ربات النجوم بالغناء.
نواويس فوق ضفاف المياه، نواويس مَن يا أناهيت؟
نواويس العامرية تحمل شمعًا وآسًا بخَّرتها يداكِ من
وجع.
كانت قرابينهم في ضفاف دجلة واقفةً، حشد من
النادبين والنادبات، لم يَعُد دجلة نهرًا … صار سماءً
تتحول فيه النجوم.
كان بيتكِ قرب الفجيعة … وكنت أبكي من الخوف …
لكنَّكِ لم تعذريني … كان هيام السماء بكِ فريدًا
وقاسيًا.
عبرت قوافلهم في التوابيت والسلال الندية.
دفعت الرفائيم إليَّ لكي يرعوا بدني وروحي. وعلى
ضفاف دجلة كنت أدق آخر مسمار في ناووسي المزخرف الكبير
وأكسر مبخرتي وربابي.
أعرف أن عصرًا انتهى وابتدأ عصر.
ألمُّ شظايا الحروب وأدفنها عَلَّ برصًا في هذه
البلاد يختفي. ما الذي دفع بنا إلى كل هذه
المسالخ؟
لبوة تخطف بين النواويس وتبكي.
ما الذي جرى يا أناهيت؟ ماذا في يد الوقت؟ مشاعل
خارجة من الأفواه تضيء الطريق ومركبها مرَّ بين خلايا
السماء وبين رماد الأوتار التي كانت تنطفئ في
بغداد.
صوت مدافع من بعيد وصوت انفجار مهول، اشتعل الأطفال
والسحاب …
فزعت أناهيت وجلست وسط سريرها ثم عادت إلى النوم،
يدي على قلبها الذي يخفق بسرعة.
الساعة العاشرة
أتبعها
أنا الذي لا مركب لي ولا شراع … أتبعها.
سوف توقعني في شباكها إن أفقتُ وإن لم أُفِق،
الذاهبة إلى أقصى جسدها، الذاهبة باتجاه الشرق.
يجري النهر عميقًا ومنحدرًا في أخاديد متعرجة، جرس
كبير يعلن ذلك وحراس مدججون يركضون على الضفاف كي يمر
مركبها سالمًا.
ترتفع في السماء نجمة شهار … ترتفع
الزُّهرة.
ترتفع إنانا وذيل وشاحها ما زال في الماء، ما زالت
هي مغمضة العينَين ومكياجها ما زال على الرفوف … لم
تتزين بعد.
إله الضوء لوسيفر يستيقظ وثعبان كبير يلتف على أسيل
المياه ويراقب جنين الفجر وهو يشق أغلفته.
ارفعي يا أناهيت قرون أبواقك في المدن.
سيجفل منك الندى والزمان.
لا أريد لها أن تتلفت وهي تخوض في رغوة الأفق وفي
رغوة جسدها.
لا أريد لها أن تنفرط.
علبة زينتها مزينة بالمينا والفضة، صبغ أظافرها
أحمر فاقع وعلى شفتَيها زهرة رمَّان.
قوتها في ارتفاع أردافها.
قوتها في دولة قامتها.
غرين أقدامها يلطخ الطبيعة ويلطخني.
تنفتح عيونها … وتنفتح يدها فوق رأسها ويدي تدلِّك
أفخاذها وسيقانها.
الساعة الحادية عشرة
أصيح …
لا جدوى من حيواناتها التي لم تَعُد تسمع، ومن
ثعابينِها التي بدأَت بالضمور، وأُسودِها التي شاخت،
ومزاميرِها التي تعطَّلت.
الورد منطمر في جلدها.
شرابها يجف في الكئوس.
النجوم تغني وهي ممدة على أفق المياه.
النار حولها تحرق الأجساد وهي تتعوَّذ بالثعبان
المعبَّد، والثعبان المجنَّح، أوسِّع قصري بخطاكِ إن
ظهرت.
أناهيت ترمي على البراري ملابس نومها وشرشفها
وسريرها.
أناهيت تتكحل وتزين قوامها.
يشتد احمرار الزهرة وتنبعث روائح الحياة من بعيد
…
في حضرتكِ … ليتني يُعطَى لي قلبي فأدق.
في حضرتكِ … ليتني يُعطَى لي مرجي فأجوب.
في حضرتكِ … ليتني يُعطَى لي جناحاي فأطير.
في حضرتكِ … ليتني تُعطَى لي أذناي فأسمع.
ليتني أخمد البحيرة في حضرتك … ليتني أخمد الهواء
في حضرتك … ليتني تُعطَى لي عيوني … ليتني يُعطَى لي
فمي.
فمي لا يتكلم إلا بعد أن يسمعه فمك.
فمي لا يتكلم إلا بعد أن أكون في طعامك.
فمي لا يتكلم إلا بعد أن تكلميني.
فمي لا يتكلم إلا بعد أن ترسمي لي شكل فمي، تقفين
أمام المرآة وتضعين أحمر الشفاه وتضعين العطور.
يدي تفتح طريقك.
الساعة الثانية عشرة
يجرُّ مركبَكِ، من فم الثعبان، اثنا عشر
حارسًا.
كان مركبك مضمَّخًا بالأحمر والأسود ويجر خلفه
ظلامًا آفلًا.
كانت الشوارع تلمع والمطر على وشك السقوط …
وكانت الزُّهرة تشتد بريقًا لكي تعطيك سرها
وتذهب.
سقطت في السيارة من السماء أقراطٌ مثمَّنة … قلبك
يخفق ورايات مركبك تخفق.
أبصرَتكِ الأيام ففزعت من ترابها وتعلقَت كفانوس في
ضبابٍ قديم … مركبها عند جبل «باخو».
يجر مركبك اثنا عشر ملكًا باتجاه الأفق الشرقي
للسماء.
يتحد جسدك مع جسد الشمس وتطيرين.
فينيق يشق زجاج السماء باتجاه بيتي.
يرشق جسدك الفينيق بعصاه فتؤذن المنارات.
يرشق القباب فتنفلق وتنغلق، يرشق مياه دجلة فتسيل
عذبةً ويصفق النخيل.
النخيل الذي هو أنتِ، جسدك الأحمر يطوي الزمان
ويتعوَّذ.
الطيور تسجد عند عرشك وخدم يحملون لك العرش … اهتفي
لها يا كل المياه.
الأسماك تداعب مقدمة مركبك وأنت في مقدمة المياه
خضراء كأنك حجر عتيق.
ما زلتِ تجذبين الندى،
وأنت في أول شهقات الأفق
تسمعين غنائي يناديك من بعيد:
أصوغ فمي وأنا أتكلم عنكِ.
أصوغ عيوني وأنا أنظر إليك.
أصوغ أقدامي وأنا أتقدم نحوك.
أصوغ يدي …
أصوغ …
أصوغ …