اللعبة
١
(دكانٌ في سوق قرية يمنية
كبيرة، صاحب الدكان رجل عجوز ضعيف البصر،
يجلس أمام آلة حياكة وفي يده سروال يتم
تسريجه، ينادي بين الحين والحين على صبيه
ومساعده «حسن»، الذي جلس على الأرض يراقب
الذباب المتهالك على قطراتٍ من اللبن
يصبها من كوب في يده.)
العجوز
:
يا حسن …
(حسن لا يرد،
مشغول بمتابعة الذباب المتساقط على
اللبن.)
العجوز
:
حسن .. حسن .. ماذا تفعل يا
ولدي؟
حسن
:
انتظر يا عمي .. انتظر.
العجوز
:
ولكنه لن ينتظر يا ولدي، سيحضر
اليوم لأخذ بذلته.
حسن
:
واحد .. اثنين .. ثلاثة.
العجوز
:
حسن .. ولد يا حسن.
حسن
:
خمسة .. ستة .. عشرة .. ماذا قلت يا
عمي؟
العجوز
:
قلت لك سيحضر اليوم.
حسن
:
خمسة عشرة .. ستة عشر .. مَن يا
عمي؟
العجوز
:
الزبون يا ولدي.
حسن
:
تسعة عشرة .. عشرون .. زبون .. هل
حضر زبون إلينا؟
العجوز
:
وهل يحضر أحدٌ منذ ابتُليت بك؟ يا
حسرتي عليك .. أبله ومخبول .. بلاهتك صدت
الناس عنا .. لا يدخلون عندنا إلا ليضحكوا
عليك .. صار دُكاني للضحك لا للحياكة ..
ورأسك الفارغ.
حسن
:
سأفرغه كله وأرى كم يتساقط منهم.
(يصب اللبن على الأرض)
العجوز
(مواصلًا
كلامه)
:
تفرغه مما فيه .. وهل فيه
شيء؟
حسن
:
اسكت يا عمي .. لا بد من
قتلهم.
العجوز
:
تقتلهم .. من هؤلاء؟
حسن
:
مائة .. مائة وعشرون .. الأعداء يا
عمي .. الأعداء.
العجوز
:
الأعداء .. هل صرت شجاعًا
فجأة؟
حسن
:
سترى بنفسك .. وسأُجهِز عليهم
جميعًا.
العجوز
(لنفسه)
:
أبله لا يجِدُ ما يعمله .. كل الناس
تقول أبله وجبان .. وها هو يتصور نفسه
فارسًا .. لا بد أنهم أشباح في رأسه ..
جنٌّ تسخر منه .. وأنا الذي كنت أنتظر أن
يساعدني .. أن يساند شيخوختي بعد أن ضعُف
بصري .. لأنادِ عليه مرةً أخرى .. حسن ..
أرجوك يا ولدي.
حسن
:
هش .. هش .. سقطوا كلهم صرعَى ..
الآن أستطيع أن أدوسهم بقدمي، أقطع رءوسهم
.. أصلُبهم .. أنزع أجنحتهم.
العجوز
:
من هم هؤلاء الذين ستَدوسهم وتقطع
رءوسهم؟
حسن
:
الأعداء .. قلت لك الأعداء.
العجوز
:
ألا يمكن أن تتركهم قليلًا وتساعدني
في وضع الخيط في الإبرة.
حسن
:
ثلاثمائة .. ثلاثمائة وعشرة ..
أتركهم؟ ومن يُجهِز عليهم؟ من يطارد
الهاربين منهم؟ من يجمع الأسرى؟
العجوز
(مخاطبًا
نفسه)
:
يا خيبة أملي فيك .. من سنتين
زوَّجتك ابنتي .. مسكينة مظلومة معك ..
قالت: يا أبي إنه مجنون. قلت: ولكنه ابن
أخي. قالت: أخوك نفسه لم يكن ليوافق على
زواجي منه .. لا تنسِي يا ابنتي أنه مات
وتركه أمانة في رقبتي. قالت: في رقبتك أنت
فلماذا تضعه على رقبتي؟ صرخت فيها وصفعتها
على وجهها: أتعارضينني يا بنت الكلب؟ أين
الوفاء لأهلك؟ أين صلة الرحم؟ صلة الدم؟
قالت: أمرك يا أبي … وبكَت ولا زالت من
يومها تبكي.
حسن
:
ستُسرُّ كثيرًا عندما تراهم صرعى
تحت قدمي.
العجوز
:
من هذه التي ستُدخِل السرور على
قلبها؟
حسن
:
زوجتي الحبيبة .. ستقول هكذا يكون
الفرسان .. ستردُّ على الكلاب الذين
يُسمونني الجبان بقُبلة على خدي.
العجوز
(محتدًّا)
:
تُقبِّلك أم تصفعك على وجهك؟
حسن
:
تصفعني؟ ماذا تقول يا عمي؟
العجوز
:
هذا أقلُّ ما تستحق .. أناديك لتسرج
ذيل السروال، فتتكلم عن أعداء سقطوا
وأعداء هربوا.
حسن
:
صحيح .. هرب ألف .. لكنهم لم يهربوا
في المرة الثانية (يقف وسط الدكان ويستعرض
قوته ويغني):
قتلت ألفًا
وأَسرت ألفًا
ثم لاذَ بالفِرار ألف …
تعالَ يا عمي وقل للسيف
كيف قتلت ألفًا وأمتُّ
الخوف.
العجوز
:
تعالَ أنت لتُدخِل الخيط في
الإبرة.
حسن
:
الخيط في الإبرة .. هل هذا عمل
الفرسان؟ ماذا تقول يا عمي؟
العجوز
:
أقول لا أرى الثقب .. ضعُف بصري يا
ابن أخي.
حسن
:
ولكنك تراهم حتمًا .. ها هم تحت
قدمي .. صرعى مجندلين .. ألف قتيل وقتيل
.. هذا جزاؤهم (يمشي في خيلاء الفارس
الشجاع).
العجوز
:
ليتك تأخذ جزاءك أيضًا.
حسن
:
طبعًا .. طبعًا .. القرية ستهتف
باسمي .. الأولاد يغنون بسيفي .. الرجال
يرهَبونني ويخشَون بأسي .. والنساء
يُزغرِدن حين يرينَ وجهي .. أما زوجتي
(تدخل الزوجة من الباب، امرأة شابة مليحة
الوجه ناضرة القَوام، تبدو على ملامحها
ومشيتها أمارات اليأس والاكتئاب).
الزوجة
:
حيا الله يا أبي! ماذا تقول؟
العجوز
:
تعالي يا ابنتي ساعديني ..
الزوجة
:
دائمًا الإبرة في الثقب .. شفاك
الله يا أبي .. لماذا لا تساعده يا
حسن؟
الزوجة
(وهي تضع الخيط في
ثقب الإبرة وتبدأ في مساعدة أبيها)
:
ينادي اسمي؟
حسن
:
نعم نعم .. كنت أقول لعمي …
الزوجة
:
تقول .. دائمًا تقول .. وتتركه يعمل
وحده ..
حسن
:
ولكنني كنت أعمل أيضًا.
الزوجة
:
وماذا تعمل؟
حسن
:
قل لها يا عمي (مفتخرًا يستعرض
مشيته في خيلاء)، قل لها.
العجوز
:
كان يقتل الأعداء.
حسن
:
ومن لم يُقتل وقع في الأسر أو هرب
بجلده.
الزوجة
(لأبيها)
:
لا فائدة يا أبي .. ألم أقل
لك؟
حسن
:
ولكني لن أتركهم .. الجبناء.
الزوجة
(لأبيها)
:
وجبان أيضًا .. يا رب .. ألا يكفي
الجنون؟
حسن
(يتقدم نحو زوجته
في خيلاء)
:
لو رأيتِهم صرعى تحت قدمي لعرَفتِ
من هو زوجك.
الزوجة
:
أعرفه بما يكفي.
حسن
:
واكتشفتِ أنه فارس يستحق منك
قُبلة.
الزوجة
:
أم صفعة على الخد؟ (تقترب منه وتمد
ذراعها مهددة .. فيفر مذعورًا.)
حسن
:
لا .. لا .. امنعها يا عمي .. قل
لها تعقَّلي.
زوجك شجاع .. فارس.
(يغني): قتلتُ ألفًا
وأسرت ألفًا،
ثم لاذَ بالفِرار ألف.
الزوجة
(ساخرة)
:
فارس حقيقي .. وأين سيفك؟
حسن
(يتلفت حوله،
يتحسس جنبيه وخصره وحزامه)
:
حقًّا .. حقًّا.
أين هو السيف؟
كيف قتلتُ الأعداء بلا سيف؟
وإذا أحضرتُ السيف فكم أقتل
منهم؟
كم يسقط في الأسر وكم يهرب في
خوف؟
(يفكر قليلًا ويحك ذقنه بيده، ثم
يسرع خارجًا من الباب وهو يصيح): لا بد من
السيف! لا بد من السيف!
العجوز
(ضاحكًا وهو يواصل
عمله وابنته تساعده)
:
عشنا ورأينا .. سيف في يد
حسن.
الزوجة
:
أرأيت يا أبي؟ مجنون وجبان.
العجوز
:
لا تقولي هذا يا ابنتي.
الزوجة
:
القرية كلها تقوله يا أبي.
العجوز
:
إذا ظلمه الناس جميعًا فلا تظلميه
أنت .. تذكري.
الزوجة
:
إنه ابن أخيك.
العجوز
:
ابن عمك الذي كان يحبك ويوصيك
به.
الزوجة
:
لو عاش ورأى بلاهته ما قَبِل أبدًا.
العجوز
:
أنا الذي أردت هذا .. أتريدين أن
تعودي؟
الزوجة
:
وما الفائدة؟ (تقوم والسروال في
يدها وتتجول في الدكان، ترى الذباب
المتساقط على الأرض فتبصق وتعود إلى
مكانها بالقرب من أبيها.)
ذباب .. ذباب .. ذباب .. هؤلاء هم
أعداؤه .. قتلاه وأسراه.
العجوز
(ضاحكًا)
:
ولاذ بالفِرار ألف (ثم في حنان):
اصبري يا ابنتي.
الزوجة
(باكية)
:
صبرت .. صبرت.
العجوز
(يربت على
ظهرها)
:
ساعديه يا ابنتي .. غدًا يرجع
لعقله.
الزوجة
:
يرجع أو لا يرجع .. ما ذنبي
أنا؟
العجوز
:
إنه ابن عمك.
الزوجة
(ساخطة)
:
ابن أخيك.
العجوز
:
وزوجك.
الزوجة
(تجفف
دموعها)
:
نعم .. زوجي .. لا فائدة (بعد
قليل): متى سيحضر؟
العجوز
:
لا أدري .. بعد أن يجد السيف.
الزوجة
:
أقصد صاحب البذلة.
العجوز
:
ظننتك تسألين عن فارسك.
الزوجة
(ساهمة)
:
نعم، نعم، أسأل عنه، أبي (تسمع ضجةً
خارج الدكان، دقات طبل وصياح
أطفال).
العجوز
:
ما هذا؟
الزوجة
:
هل سيأتي اليوم؟
العجوز
:
سمعتِ؟ (يتحرك) دقات طبل.
الزوجة
:
هل سيأتي اليوم؟
العجوز
(مبتسمًا)
:
مَن؟ إنها تقترب من هنا.
الزوجة
:
ألم يتفق معك على الحضور لأخذ
بذلته؟
العجوز
(يتحسس طريقه إلى
باب الدكان)
:
نعم، نعم .. أليس هذا هو
المنادي؟
(يسمع صوت المنادي
وهو يدق على طبلته التقليدية والأطفال
يردُّون عليه) (يتردد الصوت من بعيد ثم
يزداد وضوحًا بينما يخرج العجوز
لمتابعته.)
صوت المنادي
:
يا أهل مدينتنا .. يا أهل
مدينتنا!
أمَر السلطان .. وأمرُ السلطان
مطاع
أن يُقرأ هذا النبأ ويُنشر
ويُذاع
يتربص بأهالي القرية وحش ملعون
كاسر
الطاهش يقف على الأسوار ويفتِك
بالراكب منكم والسائر
يا أهل مدينتنا!
فليحضُر كل الفرسان وكل الأبطال
الشجعان
من بعد صلاة العصر لقصر
السلطان
مَن كان شجاعًا فليبرز وليحضر
فورًا
سيقلده مولاه سيفًا يمنيًّا
حرًّا
وإذا أيده الله بقتل الوحش
الكافر
فله الجائزة الكبرى والمال
الوافر
وكذلك بنت السلطان ولن يدفع
مهرًا
يا أهل مدينتنا .. يا أهل
مدينتنا!
أَمَرَ السلطان .. وأَمْرُ السلطان
مطاع … إلخ إلخ
(يدخل فارس من
حراس قصر السلطان مسرعًا .. يفاجَأ بوجود
الزوجة وحدها .. يتراجع للخلف قليلًا ثم
يتقدم في حذرٍ ويقول):
الفارس
:
أنتِ هنا؟
الزوجة
:
أنتَ؟ (تتأمله بإعجاب.)
الفارس
:
لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟ لم تتوقعي
رؤيتي؟
الزوجة
:
كنت أتمناها.
الفارس
:
حقًّا؟ ما دمتِ لا تريدين أن يتم
اللقاء في مكانٍ آخر.
الزوجة
:
اخفض صوتك .. يا لك من متهور.
الفارس
(يتلفت حوله
ويقترب منها)
:
هل أَصبح الحب تهورًا؟
الزوجة
(في أسًى)
:
الحب؟
الفارس
:
الحب .. الحب .. الحب .. هذا شعوري
نحوك منذ رأيتك، أليس هو نفس
شعورك؟
الزوجة
:
قلت اخفض صوتك.
الفارس
:
لن أخفضه .. سأرفعه لتسمع القرية
كلها .. أحبك .. أحبك .. أحبك.
الزوجة
:
أبي هنا وسيحضر حالًا .. قلت لا
ترفع صوتك.
الفارس
:
سأرفعه وأعلنه له أيضًا.
الزوجة
:
وربما يظهر حسن بعد قليل.
الفارس
:
حسن؟ هذا القرد الأبله؟
الزوجة
:
أعرف ما تريد أن تقول، بالله اخفض
صوتك.
الفارس
:
وإلى متى نكتُم حبنا ونخفض صوتنا؟
سأكلم أباك اليوم .. سأطلب منه أن يطلقك
من هذا المسخ المضحك .. وإذا اقتضى الأمر
سأطلبك من القرية كلها .. من السلطان نفسه
.. لن أتردد في الصياح وقرع الطبول.
الزوجة
:
كما فعل المنادي؟
الفارس
:
لا تهرُبي .. هل كلَّمتِه كما
وعدتِ؟
الزوجة
:
كنت على وشك الكلام معه .. ثم سمع
صوت المنادي فخرج .. هل أنت عائد الآن من
القصر؟
الفارس
:
سألجأ للسلطان نفسه إذا لزم الأمر
.. إنه يحبني ولن يرد طلبي.
الزوجة
:
هذا إذا قتلت الوحش.
الفارس
:
إذا وافق أبوك فسأقتله.
الزوجة
:
وإذا لم يوافق؟
الفارس
:
أتريدين أن أتزوجها وأتركك؟
الزوجة
:
تتزوجها؟ من؟
الفارس
:
ألم تسمعي المنادي؟
الزوجة
:
كان الضجيج عاليًا فلم أفهم كلامه.
الفارس
:
لا بد أن تفهميه جيدًا .. وَعدَ
السلطان بأن يزوج ابنته لمن يقتل الطاهش.
الزوجة
:
وتترك هذه الفرصة؟
الفارس
:
أترك العالم كله .. إنني … (يحاول
أن يقترب منها أكثر، فتنبهه إلى حضور
أبيها.)
العجوز
(وهو يدخل متحسسًا
طريقه بيديه)
:
آه لو كنت شابًّا.
الزوجة
:
لا ضرورة لذلك يا أبي .. فالفرسان
كثيرون.
العجوز
:
وهم مطلوبون اليوم في قصر السلطان
.. هل معك أحد يا ابنتي؟
الفارس
:
واحد منهم يا والدي .. يطلب القرب
منك.
الزوجة
(هامسة)
:
حذار .. لم يحِن الوقت بعد.
الفارس
(غاضبًا)
:
ومتى يحين إذن؟ إنني …
الزوجة
(هامسة)
:
قلت حذار (تلمح حسن داخلًا من
الباب).
هذا حسن حضر أيضًا.
العجوز
(مقتربًا من
الفارس .. تأخذ ابنته بيده وتُجلِسه على
مقعده أمام آلة الحياكة)
:
ألم أسمع هذا الصوت من قبل؟
الفارس
:
حيا الله يا والدي!
العجوز
:
حيا الله! البذلة جاهزة .. لم يبقَ
إلا القليل .. ألم تحضر من أجلها؟
الفارس
(ناظرًا إلى
الزوجة)
:
نعم ولا.
الزوجة
(هامسة)
:
قلت: حذار.
حسن
(يرفع
صوته)
:
فارس من غير سيف؟ هل يُعقل
هذا؟
العجوز
:
هل جئت يا حسن .. تعال يا ولدي.
حسن
:
لا يا عمي .. ولا وألف لا.
العجوز
:
ألا تريد مساعدتي؟ لقد حضر الفارس
كما قلت لك.
حسن
(ينظر للفارس
متأففًا)
:
هنا فارس واحد .. حسن سيف .. انظروا
(يعرض سيفه الخشبي الطويل المضحك على
الأنظار).
الفارس
:
سيف من الخشب؟ هذا أعجب سيف رأيته.
حسن
(غاضبًا)
:
لأن صاحبه أعجب الفرسان.
الفارس
(يثبِّت عينيه على
هيئته المضحكة)
:
وكم قتلت بهذا السيف؟
حسن
(جادًّا)
:
قتلت ألفًا.
الفارس
(مستهزئًا)
:
ألفًا؟
حسن
:
وأسرتُ ألفًا.
الفارس
:
نفس العدد؟ ألم يهرب منهم
أحد؟
حسن
:
والجبناء لاذوا بالفِرار.
الفارس
(ساخرًا)
:
كانوا يبلغون الألف؟
حسن
:
لماذا تقاطعني؟ كانوا ألفًا .. لا
بد أنك رأيتَهم.
الفارس
:
ولمَ لا؟ وسمعتُهم أيضًا.
حسن
:
أتسخر مني؟ (يرفع سيفه.)
الفارس
:
معاذ الله .. لا بد أن ميدان
المعركة فسيحٌ جدًّا (يشير إلى
رأسه).
حسن
(غاضبًا)
:
انظر .. ها هم ملقون على الأرض
(يجري إلى المكان الذي تساقط فيه الذباب
غارقًا في بِركة اللبن الصغيرة) إنني
أدوسهم .. أسحقهم تحت قدمي .. حاولوا
الفرار .. ولكنني أجهزت عليهم .. أجهزت
عليهم جميعًا (يمثل المعركة ويكر ويفر
بصورةٍ مضحكة).
الفارس
(ضاحكًا)
:
حيا الله! حيا الله!
حسن
:
إن كنت لا تصدق فهاكَ الدليل ..
انظر (يمد إليه السيف الذي نُقشت عليه
الكلمات السابقة التي ظل يرددها: هذا سيف
حسن سيف .. قتل الألف وأسر الألف، وهرب من
الجبناء الألف).
الفارس
(يضحك)
:
عظيم .. عظيم.
حسن
(غاضبًا)
:
ما معنى هذا؟
الفارس
:
لا بد أنك تفكر الآن في تلبية دعوة
مولانا السلطان.
حسن
(جادًّا)
:
السلطان لم يَدعُني.
الفارس
:
ألم تسمع المنادي؟ إنه يطلب فرسان
البلد.
حسن
:
لن ألبيَ دعوة لم توجَّه
إليَّ.
الفارس
:
ولكنه دعا كل الفرسان.
حسن
:
حسن سيف ليس من كل الفرسان.
الفارس
:
بالطبع .. قتلت ألفًا.
حسن
(مستمرًّا)
:
وأسرت ألفًا ثم لاذ بالفرار ألف.
الفارس
:
لا شك أنك صممت على الحصول على
الجائزة.
حسن
(مشيرًا إلى
رأسه)
:
أية جائزة؟
الفارس
:
ألم تسمع المنادي؟
حسن
(مشيرًا مرة أخرى
إلى رأس الفارس)
:
ومنادٍ أيضًا؟
الفارس
:
قولي له .. إنه لا يصدق كلامي.
زوجته
:
نعم يا حسن .. المنادي كان يمر الآن
في شوارع المدينة.
حسن
:
هل نادى عليَّ؟
زوجته
:
نادى على كل الفرسان.
حسن
(غاضبًا)
:
لست ككل الفرسان. أنا قتلت ألفًا
…
زوجته
:
أعرف .. أعرف .. وأسرت ألفًا
والجبناء كانوا ألفًا.
حسن
:
يسرني أن تعترفي بهذا.
زوجته
:
ومن الذي ينكره .. لكن المنادي
وَعدَ بجائزة.
حسن
:
المجد أكبر من كل جائزة.
الفارس
:
حتى ولو كانت ابنة السلطان؟
حسن
(غاضبًا)
:
زوجتي أعز من ابنة السلطان.
الفارس
:
إذن فلن تقتل الطاهش؟
حسن
:
الطاهش؟ من هذا؟
الفارس
:
الوحش الذي يقف على أسوار المدينة.
حسن
:
على أسوار مدينتنا .. كيف يجرؤ على
هذا؟
الفارس
:
يتربص بالداخل والخارج،
يفتك بالراكب والسائر،
وضحاياه على الصخر الوعر وفي السهل
وفي الأغوار بغير مقابر.
حسن
:
وله ضحايا أيضًا؟ لماذا لم تقل هذا
من قبل؟
الفارس
:
ها قد سمعته .. اخرج إلى السور
واسأل الحراس.
حسن
:
لا لن أسأل أحدًا (يُشهر سيفه)
سأذهب بنفسي إليه .. سأنتقم منه وأُسيل
دمه.
الفارس
:
وتحصل على الجائزة؟!
حسن
:
قلت لا أريد جوائز، حسن سيف أكبر من
الجوائز.
(يُشهر سيفه ويمثل قتل
الوحش.)
من أجل المجد سأقلته.
من أجل المجد …
(يتقدم مُشهِرًا سيفه، يقف عند
البِركة الصغيرة ويعاين ضحاياه، يصيح فجأة
قبل أن يغادر المكان مسرعًا!)
هذا سيفي؛
سيف حسن سيف،
يقتل ألفًا،
يأسر ألفًا،
ويفر الجبناء الألف.
الطاهش؟
مَن هذا الطاهش؟
الطاهش شبح أو طيف،
يقتله، يشرب من دمه؛
بطل الأبطال حسن سيف
الزوجة
(تُسرع مشفقة
إليه)
:
حسن .. إلى أين؟
حسن
(ناظرًا إلى
الفارس)
:
أتخافين عليَّ؟
بطل الأبطال حسن سيف
قتل الخوف.
قتل الخوف.
الزوجة
:
ارجع يا حسن.
حسن
:
دعيني.
الزوجة
:
أخاف عليكَ.
العجوز
:
أوقفه يا رجل.
حسن
:
لا لن يتراجع .. لن يقف حسن
سيف،
إلا إن قال الموت له قِف!
إلا إن قال المجد له قِف!
الفارس
(تعلو ضحكاته،
فيرد عليها حسن بكلماته المتكررة قبل أن
يندفع إلى الخارج شاهرًا سيفه وهو
يردد)
:
هذا سيف حسن سيف
قتل الألف
وأسر الألف
وفَرَّ الجبناء
وكانوا أكثر من ألف
(يندفع خارجًا وسط
ضحكات الفارس.)
٢
(نفس المنظر السابق. بعد
فترةٍ من الزمن تبلغ شهرين، العجوز يجلس
على سجادةٍ متواضعة على الأرض وتحته وخلف
ظَهره حشايا ومساند تُفتح الستار عليه وهو
يستمع إلى رعَوي ثرثار يقف أمامه ويذرع
المكان جيئةً وذهابًا وهو يلوح
بعصاه)
العجوز
(ضاحكًا)
:
طمأنتني يا شيخ.
الرعوي
:
وكيف تخافون على حسن؟ بطل كهذا
وتخافون عليه؟
العجوز
:
لأنه غاب من شهرين، انقطعت عنَّا
أخباره.
الرعوي
:
عجيب .. وأخباره تملأ القرى والمدن،
والسهول والجبال.
العجوز
:
أأنت جادٌّ؟
الرعوي
:
جادٌّ؟ يا رجل اخرج من دكانك واسأل
عابري السبيل، الكل يتغنى به، الأطفال
والصبية يلتفون حوله، العجائز يتمنين أن
يلمسن أطراف ثوبه، والرجال ينحنون ويلثمون
كفَّه وساقه.
العجوز
:
ليت زوجته هنا لتسمع منك، إنها قلقة
عليه.
الرعوي
:
قلقة عليه؟ من حقِّها أن تفخر به،
لو كان ابني لوضعته فوق قمة الجبل وصِحت
بالناس: انظروا هذا هو ابني .. إنه بطل يا
رجل، جبل في رأسه نار، كوكب.
العجوز
:
مهلًا يا شيخ.
الرعوي
:
أقول لك لو كان ابني .. ولكني حُرمت
الأبناء .. ماتوا جميعًا وتركوني.
العجوز
:
هو ابنك أيضًا، وزوج ابنتي.
الرعوي
:
ولا تعرفون أخباره .. لا تسمعون عن
بطولاته .. لا لا لا.
العجوز
:
الحقيقة يا شيخ .. أنا لا أصدق.
الرعوي
:
كيف لا تصدق والناس كلها لا تتحدث
إلا عن حسن سيف وسيف حسن سيف؟!
العجوز
:
أقول لك الحق؟
الرعوي
:
قل يا عم.
العجوز
:
إنه … إننا نعرف حسن الأبله ..
الولد الخائب الذي يجلس طول النهار في
الشمس يتسلى بقتل الذباب.
الرعوي
:
لا شك أنك تضحك .. الذباب أم
الذئاب؟
العجوز
:
لولا أنه ابن أخي ما زوَّجته ابنتي
.. إنها تُسمِّيه الجبان.
الرعوي
:
جبان؟ أعوذ بالله .. أعوذ
بالله.
العجوز
:
حتى سيفه الذي تتحدث عنه من خشب.
الرعوي
:
سيف حسن سيف؟ من خشب أو حديد، يكفي
أن يضعه حسن في يده ليصنع
المعجزات.
العجوز
:
المعجزات؟ بسيفٍ من خشب؟
الرعوي
:
إنه يمشي في السوق فتهتز الأرض من
تحته .. تكاد الجبال ترتجف .. من خشب ..
ولكنه قتل به ألفًا!
العجوز
:
وأسر ألفًا وفرَّ الجبناء الألف.
الرعوي
:
تمامًا .. وهذا منقوش على سيفه ..
تقع العين عليه فترهبه وتلوذ الأقدام
بالفرار.
العجوز
:
يفرُّ الناس لمَرآه؟
الرعوي
:
أنت لم ترَ شيئًا .. دعني أحكي لك
بلساني الذي سيأكله الدُّود عما رأته عيني
التي سيملؤها التراب.
العجوز
:
احكِ يا شيخ .. احكِ.
الرعوي
:
من أيام رأيته يمشي في سوق القرية
.. الحقيقة أنني لم أرَه هو نفسه .. فقد
حجَبه عنِّي سُور من الأطفال والنسوة
والعجائز الذين يمشون وراءه .. سألت: من
هذا؟ تعجَّب الناس وقالوا: من؟ إنه حسن
سيف .. قتل الألف وأسر الألف .. قلت: هل
شاهده أحدٌ منكم؟ قالوا: يا رجل! الناس
كلها تعرف حكايته .. والعدل والقاضي
والأعيان يتسابقون لدعوته .. ولكنه يرفض
صائحًا: يكفيني المجد، يكفيني حب الناس ..
وعندما تزاحمتُ لأشقَّ الصفوف لرؤيته ..
بارك الله .. بارك الله .. سيف بن ذي يزن
بلحمه ودمه .. أي شجاعة! أي كرامة! أي
تواضع لله .. واتجه الموكب إلى الجامع
فدخلت ودخل الناس .. رأوا سيفه الطويل وهو
يسحبه على الأرض كالصياد الذي يجر وراءه
التمساح أو الحوت .. هلَّل الناس وكبَّروا
.. أقبل عليه إمام الجامع وأخذه من يده
وقال: لا يصحُّ يا سيف .. أؤمُّ الصلاة
وأنت هنا؟ تلفت سيف حوله وقال: ليس قبل أن
يخرج .. سألوا: من؟ قال: إبليس، إنه يحوم
هنا .. قالوا: إبليس في الجامع؟ لا .. لا
.. زمجر وقال: اخرج يا إبليس! لن تكون في
مكانٍ واحد مع حسن سيف! ذُعِرَ الناس
وأخذوا ينظرون إلى السقف والجدران
والنوافذ .. زمجر حسن وكشَّر عن أسنانه،
واندفع إلى المنبر وصاح: لن تكون الإمام
وحسن سيف على قيد الحياة! ثم رفع السيف
وهوى به على خشب المنبر فانفلق نصفين ..
كبَّر الناس وهلَّلوا .. سمعوا العاصفة
تدوي والغبار يثور والشيطان يدمدم ويفرُّ
مهزومًا .. مسح حسن رأسه وتمتم كالسحرة ثم
قال: الحمد لله! نصرني على عدو الله ..
كبَّر الناس، الحمد لله الذي رزقنا حسن
سيف .. نحن وراءك يا سيف .. قال: الآن
أؤمُّكم في الصلاة، وغدًا أُخلِّصكم من
الطاهش والظَّلمة والبغاة .. اصطفُّوا
وراءه وكبَّروا وسبَّحوا: الحمد لله!
الحمد لله!
العجوز
:
إبليس .. إبليس!
الرعوي
:
فرَّ من القرية يا شيخ كقردٍ خسيس.
العجوز
:
من كان يظنُّ بأن القرد الأبله
إبليس؟
الرعوي
:
نعم، من كان يظن أنه سيخرج من البلد
كلها؟ خرج النجس الملعون من الجامع وراح
يعرج في شوارع القرية .. لكن حسن سيف
…
العجوز
:
حسن؟ ماذا فعل؟
الرعوي
:
لم يتركه .. بعد الصلاة انطلق يجري
وراءه ويبحث عنه .. يمسك كل إنسان من كتفه
وينظر في عينيه ثم يتركه لغيره .. حتى
لمحه هناك.
العجوز
:
هناك؟ أين؟
الرعوي
:
متربِّصًا كاللص الخائف في جسد
امرأة مشلولة.
العجوز
:
امرأة مشلولة؟
الرعوي
:
نعم نعم، كانت تتلوى على عتبة الباب
.. وحولَها نسوة وأطفال يرشُّون وجهها
بالماء والعطور، ويدلِّكون صدرها وذراعيها
وساقيها .. ظهرَ حسن من بعيد فتركوا الجسد
المسكون وأفسحوا له المكان .. ثبَّت عينيه
عليها طويلًا، ثم رفع سيفه الطويل وصاح:
يا رب .. ضرب الهواء أمام الجسد كأنه يشقه
نصفين وزعق: اذهب يا إبليس .. اذهب يا منحوس.
العجوز
:
وماذا حدث؟
الرعوي
:
ماذا حدث؟ المعجزة! انتفضت المرأة
المشلولة تجري كالمجنونة وتضرب الأبواب ..
تطوح بذراعيها وساقيها كأنها تنفُض عنها
القيود والأصفاد.
العجوز
:
وحسن سيف؟
الرعوي
(يجري وراءها
ويصيح)
:
لا ترتجفي.
لا ترتجفي.
فرَّ الكافر إبليس.
هرب الفاجر إبليس.
والآن تعالي .. لا تخشي
شيئًا.
العجوز
:
هل سمعَت يا رجل كلامه؟
الرعوي
:
وقفَت ترتجف أمامه.
وهو يتمتم بالآيات إلى أن هدأت
كحمامة.
قال بصوتٍ ربَّاني: عوَّذتُك يا
مسكينة بالرحمن.
قدوس قدوس .. اخرج يا إبليس.
العجوز
:
وخرج الكافر إبليس؟
الرعوي
:
كي تدخل روح حسن سيف،
بكت المرأة حتى أبكت كل الناس ودمعت
عين وضيع وشريف.
لثمت كفيه ورجليه، وانهال عليه من
الجمع صفوف وصفوف.
صاحوا يا سيفًا يا سيفًا.
نحن جنودك نحن وراءك تحميك سيوف
وسيوف.
اعتذر وقال: البطل عفيف.
نذر الصوم وأقسم ألَّا يشرب جرعة
ماء أو يهنأ برغيف.
حتى يشرب من دمه .. قلنا: مِن دم
مَن؟
قال: الوحش. سألنا: أي وحش؟
قال: الواقف عند السور يهدد أمن
الناس ويُرعب ويخيف.
قلنا: نذهب معك. فقال:
أنا وحدي أتحداه ونَصلِي كالبرق
رهيف.
وسأنثر أشلاء الوحش مع الريح وأهتف
فلينظر كل كفيف.
هذا سيف حسن سيف .. شريف ونظيف،
في أسواق المدن وبالقرية والجبل
يطوف.
العجوز
:
حيا الله يا شيخ .. هل تعرف أين هو
الآن؟
الرعوي
:
سألت عنه في كل مكان .. وهداني بعض
الناس إلى هذا الدكان.
العجوز
:
ونحن نسأل عنه.
(يندفع الفارس
داخلًا على عجل، تظهر اللهفة على وجهه
وحركاته.)
الفارس
:
وأنا أيضًا يا عم أسأل عنه.
العجوز
:
أنت؟ قلت لك لم يتمَّ بعد .. أنت
تعرف ضعف بصري، ولا أحد يساعدني.
الفارس
:
لا أسأل عن السروال يا عم .. ما
حاجتي الآن لبذلة الفرسان؟
العجوز
:
ما حاجتك؟ ولكنك كنت متعجلًا.
الفارس
:
نعم كنت، أما الآن …
العجوز
:
الآن؟
الفارس
:
ألم تسمع يا عم؟ فشِل الفرسان
ورجعوا خائبين.
العجوز
:
ألم يخترهم السلطان؟
الفارس
:
نعم، نعم، وشيَّعتهم معه إلى سور
المدينة، زوَّد كلًّا منهم بسيف يَمني حُر
وقال له: بارك الله في يدك وفي هذا السيف،
لا ترجع إلا ورأس الطاهش على يدك.
العجوز
:
ورجعوا.
الفارس
:
مَن رجع منهم رجع مذعورًا .. أصم لا
يسمع .. أخرس لا يتكلم.
العجوز
:
لماذا يا ولدي؟ ألم يعثروا
عليه؟
الفارس
:
هربوا منه .. سمعوا صيحته فأصابهم
الصم .. رأوا عينيه فشلَّ اللسان.
العجوز
:
والسلطان؟ ماذا قال؟
الفارس
:
لم يقل شيئًا، ضرب كفًّا بكف .. بكى
كالطفل اليتيم وصاح: الطاهش؟ من يأتيني
بالطاهش؟
الرعوي
:
أنا أعرف مَن يأتيه به.
الفارس
:
وأنا جئتك أسأل عنه.
العجوز
:
مَن يا ولدي؟
الفارس
:
من غيره؟ حسن سيف. قال الوزراء: حسن
سيف، قال رجال الحاشية: حسن سيف. هتف
الحرَّاس: لا يأتيك به غير حسن سيف.
الرعوي
:
لا بدَّ أنهم سمعوا عن
معجزاته.
الفارس
:
لم يبقَ أحد لم يسمع عنها ويرددها.
الرعوي
(للعجوز)
:
ألم أقل لك؟ إنه بطل.
الفارس
(مَغيظًا)
:
بطل الأبطال.
الرعوي
:
البلد كلها تحكي بطولاته.
الفارس
:
والسلطان يبحث عنه في كل مكان.
العجوز
:
ألم يرسل في طلبه؟
الفارس
:
ولماذا أقف أمامك؟ لقد أرسل
الحرَّاس إلى كل البلاد والعباد .. إلى
القرى والمدن والعزلات والجبال والوديان
.. رجالي يبحثون عنه ويرجعون خائبين ..
وهو يزمجر ويتوعد كلما رأى وجهي.
العجوز
:
أين أنت يا حسن؟ أين أنت؟
الفارس
:
هذا الأبله المجنون …
العجوز
:
لا .. لا .. لا …
الفارس
:
أبله وجبان.
الرعوي
:
لا .. لا أسمح لك .. بطل الأبطال
جبان؟
الفارس
:
أنت أيضًا؟
الرعوي
:
البلد كلها تقول هذا .. لم يبقَ طفل
ولا رجل ولا …
الفارس
:
ولا عجوز ولا شيخ .. المهم: أين هو؟
هل تعرف مكانه؟
الرعوي
:
لا بد أنه قادم .. بعد أن يقتل
الطاهش …
الفارس
:
أو بعد أن يقتله .. المهم أين هو
الآن؟
الرعوي
:
أين هو الآن؟ أين هو الآن؟ سأذهب
لأبحث عنه.
(يندفع خارجًا
بينما تدخل زوجة حسن مسرعة …)
الزوجة
:
أين هو؟ إنه قادم!
(تُسمع زغاريد
وغناء وصوت طبول ودفوف وغناء …)
الفارس
:
قادم .. هل رأيته؟
الزوجة
:
أنت هنا؟
الفارس
:
وأبحث عنه أيضًا .. هذا الأبله.
الزوجة
:
لا تقُل هذا .. زوجي.
الفارس
(ينتحي بها جانبًا
بعيدًا عن العجوز)
:
زوجك؟ ألم نتفق؟
الزوجة
(مبتعدة)
:
علامَ اتفقنا؟ لم نتفق على
شيء.
الفارس
(يجذبها من
يدها)
:
بل على كل شيء .. إنني
أحذركِ.
الزوجة
:
وأنا أحذركَ منه .. إنه
قادم.
الفارس
:
بطل الأبطال .. هذا المجنون الجبان.
الزوجة
:
سيقطع رأسك إن رآك .. قلت لك
حذار.
الفارس
:
أنت تقولين هذا؟
الزوجة
:
وأكرره أيضًا .. زوجي أصبح بطلًا.
الفارس
:
هل صدَّقت الأكذوبة؟
الزوجة
:
ما دام الناس كلهم يصدقونها.
الفارس
:
وحبي لك .. واتفاقنا على الزواج بعد
الطلاق منه .. كيف تصدقين؟ كيف تصدقين؟
الزوجة
:
آه يا ربي .. أنت تمزقني.
الفارس
:
اسألي قلبك وحده .. اسألي قلبك.
الزوجة
:
أم أسأل الناس؟ آه .. آه
(تبكي).
العجوز
:
ما هذا؟ ماذا أسمع؟ هل تبكين يا
ابنتي؟
الزوجة
:
من الفرح يا أبي .. ألا تسمع أصوات
المواكب؟
العجوز
:
أصوات طبول ودفوف .. هل تقترب من
هنا؟
الفارس
:
سأذهب وأرى بنفسي .. آه يا رب .. هل
انطلت الأكذوبة على الناس؟ أيكون قد قتل
الطاهش حقًّا؟ الأبله الجبان .. آه يا زمن
الخرافات .. مَن يقتل الذباب يصبح قاتل
الأسود والذئاب.
(يخرج وهو يُشيِّع
الزوجة بنظراته اليائسة).
العجوز
:
الصوت يقترب يا ابنتي .. أيمكن أن
يكون هو نفسه؟
الزوجة
:
سنرى يا أبي .. انتظر وسوف نرى.
العجوز
(يهُمُّ
بالنهوض)
:
ننتظر .. حسن على الباب
وننتظر؟
الزوجة
:
نعم يا أبي .. انتظر حتى أتكلم معك.
العجوز
:
تتكلمين معي؟ الآن؟ عن أي شيءٍ يا
ابنتي؟
الزوجة
(متلعثمة)
:
أي شيء؟ ليس شيئًا يا أبي .. إنه
…
العجوز
:
أسرعي يا ابنتي .. ماذا تريدين؟
(يزداد صوت الطبول اقترابًا).
الزوجة
:
إنها حياتي .. مصيري يا أبي.
العجوز
:
حياتك ومصيرك؟
الزوجة
:
أقصد أنني .. إنَّ الفارس …
العجوز
:
وما شأن الفارس بنا؟
الزوجة
:
إنه … إنني … ألم تعرف بأنه أبله
وجبان؟
العجوز
:
لا أعرف هذا يا ابنتي .. معاذ الله
أن أظلمه.
الزوجة
:
إنك لا تريد أن تفهمني …
العجوز
:
وأنت لا تقولين شيئًا أفهمه .. كيف
يمكنني أن أحكم عليه؟
الزوجة
:
أقصد حسن يا أبي.
العجوز
:
إنك تنتظرينه كما أنتظره .. كل
الناس تتحدث عن بطولته وشجاعته.
الزوجة
:
ما زلت لا تفهمني لا أبي.
العجوز
(يتحسس طريقه إلى
باب الدكان)
:
وهل يحتاج الأمر إلى فهم؟ سيأتي
حتمًا يا ابنتي .. وستشعرين بالفَخار
وتهتفين: إنه زوجك.
الزوجة
:
أجل زوجي (تمسح دموعها).
العجوز
(يقترب منها ويربت
على رأسها)
:
بطل الأبطال.
الزوجة
(مكرِّرة)
:
بطل الأبطال.
العجوز
:
سيد فرسان مدينتنا.
الزوجة
(ساهمة)
:
فرسان مدينتنا.
العجوز
:
وعليكِ أن تشجعيه.
الزوجة
(باكية ومحتضنة
أباها)
:
هل يحتاج الشجعان إلى تشجيع؟
العجوز
:
ما دام هو الزوج.
الزوجة
:
نعم نعم يا أبي .. وعليَّ أن أرعاه
وأباركه.
العجوز
:
ولا تبكي أمامه .. لا تبكي.
الزوجة
:
لا أستطيع أن أحبس دموعي (يزداد صوت
الموكب اقترابًا).
العجوز
:
هي دموع الفرح يا ابنتي.
الزوجة
:
الفرح؟ نعم يا أبي.
العجوز
:
بالبطل العائد بعد غياب .. انظري.
(ينظر إلى الباب
وتتابع صوت الطبول والدفوف الذي يوشك الآن
أن يصُمَّ الآذان، يدخل بعض الأطفال
والصبية وهم يصيحون ويهللون .. ثم يتتابع
دخول نساء ورجال وعجائز من مختلف الأعمار
والأشكال …)
الأطفال
(يغنون)
:
حسن سيف
في إيده سيف
بص وشوف
إيش عمل السيف
قتل الألف
وأسر الألف
وهربوا منه
أكثر من ألف
أصوات
(تردد وترد
عليهم)
:
الأطفال
:
شاف الخوف
رفع السيف
مات م الخوف
الأطفال
:
شاف تنين
عمل له كمين
يروح له شمال
يجي له يمين
رفع السيف
شقَّهُ نصين
(في هذه الأثناء
يدخل حسن سيف يحيط به التهليل والتكبير
والتعظيم .. يحيي الجميع بخيلاء).
الأطفال
:
شاف الجن
يدن يدن
قال له تحب
تموت بالقلب
ولا تحب
تموت بالسيف
رفع السيف
وقال يا رب
زعق الجن
ومات م الخوف
الأصوات
(تردد وسط
الزغاريد وقَرع الطبول والدفوف)
:
حسن سيف
حسن سيف
جن يا جن
جن يا جن
دن دن دن
دن دن دن
(حسن يُشهِر سيفه الطويل المضحك،
يتزاحم الرجال والنساء حوله ويقرءون ما
كُتِب عليه بصوتٍ عالٍ):
قَتل الألف
وأَسر الألف
وهربوا منه
أكثر من ألف
حسن
(يحاول أن يرفع
صوته)
:
شكرًا يا إخوان .. شكرًا يا
أحباب.
الزوجة والعجوز
(يحاولان اختراق
الصفوف بينما يسمع صوتهما)
:
حسن .. حسن ..
حسن
:
شكرًا يا أحباب .. شكرًا يا أصحاب.
الزوجة والعجوز
(يرفعان صوتهما
عبثًا)
:
حسن .. حسن ..
حسن
:
جاء وقت العمل .. وذهب وقت الغناء.
الأطفال
:
حسن سيف .. حسن سيف ..
دن دن دن
دن دن دن …
حسن
(رافعًا
صوته)
:
يا أولادي .. يا أولاد .. يا أحباب
.. يا أصحاب .. جاء أوان العمل (يخبط بسن
السيف على الأرض فيسكت الجميع).
أيها الكرام .. أيها الإخوان .. قد
آن الأوان ..
صوت
:
فليتكلم أشجع الشجعان …
صوت
:
فارس الفرسان …
حسن
:
حيا الله! حيا الله!
صوت
:
حيا الله الفارس!
حسن
:
سيد كل الفرسان …
أصوات
:
بطل الأبطال … سيد كل
الفرسان
الزوجة والعجوز
:
حسن .. حسن .. (يخترقان الصفوف إليه
بعد مشقة).
حسن
(للجمهور)
:
هذه زوجتي .. هذا عمي ..
أصوات
:
حيا الله! حيا الله!
حسن
(يُسكتهم)
:
بعد قليل أفرغ لكما .. آن أوان
العمل .. أوان الضرب …
أصوات
:
الضرب بعنف …
حسن
:
الطاهش ينتظر هناك ولا وقت لديَّ
يتربص بمدينتنا، يؤذي الميت والحي
صوت الزوجة والعجوز
:
حسن .. حسن ..
حسن
(في برودٍ
قاسٍ)
:
لا وقت لدي .. لا وقت لدي ..
آن أوان العمل الجاد بعون
الله
وسأذهب كي ألقاه
وأثأر منه وأتحداه
أصوات
:
حيا الله! حيا الله! حيا
الله!
حسن
(يُسكتهم)
:
حسن ابنكم قد نذر الصوم
لن يأكل لن يشرب
لن تهنأ عيناه بطعم النوم
حتى يشرب دمه ويجيء برأسه
ويُخلِّصكم يا إخواني
يا أحبابي من رجسه
أصوات
:
حيا الله! حيا الله!
وبارك في الفارس والسيف.
حسن
:
بعون الله .. بعون الله.
أصوات
:
وحَمَى كفًّا تضرب تضرب في
عنف.
حسن
:
شكرًا لله .. لهذا السيف.
أصوات
:
ونحن وراءك في الصف.
العجوز
:
حسن .. حسن ..
حسن
:
والآن أسمع صوت زوجتي ..
الزوجة
(تتقدم ويفسح لها
الجميع مكانًا)
:
زوجي وحبيبي.
حسن
:
سمعتم؟ (يسمع صوت الفارس وهو يدخل
مسرعًا …)
الفارس
:
حسن .. حسن ..
حسن
(غاضبًا)
:
من هذا؟ ماذا يطلب مني؟
الفارس
:
أنا لا أطلب شيئًا.
حسن
:
ولماذا جئت؟
الفارس
:
أرسلني السلطان.
حسن
:
السلطان؟ وماذا يطلب؟
الوقت قليل والشعب
يُرسِل فارسه للحرب
الفارس
:
والأمر جليل والسلطان رعاه
الله
يدعوك إليه بلا إبطاء.
حسن
:
يا ألله .. يا ألله
يدعوني الشعب إلى العمل ولا وقت
لدي
قل للسلطان إذا شاء يجيء إلي
الفارس
:
هل ترفض أمر السلطان؟
حسن
:
لا أرفضه .. لكني عنه مشغول
لا وقت لدي لقال أو ليقول
الفارس
:
أهذا قولك؟
حسن
:
قولي .. قولي .. آن أوان العمل
فدَعني
الطاهش أولَى أن ألقاه
وأغرز فيه حد السيف
الفارس
:
هذا ردك؟
حسن
:
اذهب اذهب لا وقت لدي
قل للسلطان إذا شاء يجيء إلي
الزوجة
:
حسن .. حسن سيف ..
حسن
:
زوجتي …
الزوجة
:
زوجي وحبيبي (تُسرع نحوه وتُريد أن
تحتضنه فيردها بعنف)
حسن
:
احتشمي يا امرأة .. فلا وقت لدي.
الزوجة
:
أمرك يا حسن مطاع.
حسن
:
هيا .. هيا ..
الزوجة
:
ماذا تطلب؟ طلبك فوق الرأس وفي
العين
الفارس
(لنفسه وهو ينصرف
مغيظًا)
:
فوق الرأس وفي العين
فوق الرأس وفي العين
يخرج من فمها هذا، ولمن؟
آه يا قلبي .. جن العقل وجن
جن العقل وجن (ينصرف وهو يردد
الكلمات الأخيرة)
الزوجة
:
طلبك فوق الرأس وفي العين
فضلك يا حسن كبير وعليَّ
الدَّين
حسن
:
اختصري يا امرأة .. أريحيني مرة من
ثرثرتك.
الزوجة
:
شلَّ لساني يا حسن وشلَّتني
الحيرة
أصدِر أمرك.
أصوات
:
هيا يا امرأة أطيعي أمره.
حسن
:
الليلة أذهب للقاء الطاهش
الزوجة
:
تصحبك السلامة.
حسن
:
قلت كُفِّي عن ثرثرتك.
الزوجة
:
السمع والطاعة يا بطل.
حسن
:
نعم هكذا.
الزوجة
:
تكلَّم .. قل.
حسن
:
لا وقت للكلام .. أسرجي البغلة ..
الزوجة
:
أمرك.
حسن
:
واملئي الجراب بالشعير.
الزوجة
:
طبعًا .. طبعًا.
الزوجة
:
المسكرة؟
حسن
:
أجل المسكرة .. ضعيها في العين
الأخرى.
الزوجة
:
وماذا تفعل بها؟
حسن
:
هذا شأني يا امرأة.
الزوجة
:
نعم نعم.
حسن
:
هيا .. هيا ..
أصوات
:
هيا .. هيا ..
(حسن ينصرف في
خيلاء وهو يجرُّ سيفه الطويل وراءه ..
بينما يُحييه الجمهور ويردد الأطفال
الأغنية السابقة: حسن سيف .. حسن
سيف).
٣
(في الخلاء .. حسن يجر بغلته وراءه ويستحثها
على السير .. الجبال الشامخة من حوله،
والصمت ينشر الرعب والرهبة، يقف بجوار
شجرة ضخمة، تختزن روح الأرض والشمس
والرياح والذكريات في جذورها وساقها
وأغصانها، وتبدو من بعيدٍ كساحرة شمطاء
هائشة الشعر، حسن يحاور البغلة باستمرار
ويربت على ظهرها ورقبتها ورأسها ويقدم لها
العلف .. الوقت عند الغروب).
حيا الله! حيا الله! انتهى السفر وآن أن
تستريحي .. آن أيضًا أن أستريح .. كانت
رحلة متعِبة .. أليس كذلك؟ الصخور وعرة
ناتئة، دروب تنحدر إلى الهاوية، أغوار
وكهوف ومزالق تتربص فيها أشباح الموت
وتلمع عين الخطر المجهول، لكننا وصلنا ..
نعم وصلنا .. ألا تصدقين؟ يمكنك الآن أن
تفرحي وتأكلي .. الماء أيضًا موجود .. لن
تجوعي ولن تعطشي وأنتِ مع حسن .. هيا ..
هيا (يربت على ظهرها وعنقها ورأسها
ويلثمها في جبهتها) آه … تعبت يا حسن!
الباحث عن المجد يتعب دائمًا .. لكنه
سيستريح .. انتظر وسوف تستريح .. لا ليس
في القبر .. بل على العرش .. تعبت من
الطريق .. من الصعود والهبوط .. تحت وهج
الشمس التي لا ترحم .. لكنك أفلت من الخطر
.. ضحكت على الحراس وظنوا أنهم يضحكون
عليك .. عندما اقتربت من السور ورأوك على
بغلتك اقتربوا منك وضحكوا .. سألوك إلى
أين فقلت إلى الطاهش .. أغرقوا في الضحك
وقالوا: سئمت الحياة؟ قلت: بل حبًّا فيها.
سأل كبير الحرس: ولهذا تمضي للموت برجلك؟
قلت: طريقي يذهب للمجد. صعَّد نظرته فيَّ
وضحك وقال: يذهب ولا يعود .. رفعت السيف
فقهقه هو والحراس كأني أطلقت دعابة: ما
هذا؟ كشَّرت عن الأنياب وصحت: هذا سيف حسن
سيف. أقبلوا يفحصون ويقرءون النقش المرسوم
عليه: سيف من خشب؟ صحت: وأعطاني الله
القوة؛ من خشبٍ أو من طين، هو سيفي.
قالوا: قتل الألف. قلت: وأسر الألف، وهرب
الجبناء وكانوا أكثر من ألف، ربت الفارس
على ظهري: حياك الله .. حياك الله .. قبلك
ذهب الفرسان وعادوا .. أشلاء ودماء .. أو
رجعوا مذعورين، قلت: بعون الله سأرجع ومعي
رأسه .. تحسس رأسي وهو يضحك: أو معه رأسك.
قلت بغضبٍ وعناد: ومعي المجد. قال كبير
الحراس: حذرناك وأنذرناك. ارجع لا تذهب
للموت .. كررت بصوتٍ مشروخ ورفعت السيف:
بل أذهب للمجد .. وأرجع فوق جواد المجد.
ضحكوا وقالوا: هيا .. هيا .. اذهب للمجد
أو اللحد .. حذرناك وأنذرناك .. الحق أنني
خِفت بعد أن ابتعدت عن السور .. نظرت حولي
فارتعشت ساقي وزحفت أسراب النمل إلى رأسي
.. تلفَّتُّ أبحث عن الأشلاء .. لا شيء ..
أعاين الصخور لأكتشف آثار الدماء .. لا
شيء .. أين إذن ذهبوا؟ في بطن الطاهش! ها
ها ها! (يضحك) الطاهش .. يا لك من كذبة!
كلي كلي، أتريدين الماء؟ معك الحق .. أنا
أيضًا أهلكني العطش المُهلِك (يفتح الجراب
ويخرج زمزمية يرفعها إلى فمه، ثم يصب في
كفه بعض الماء ويمدها للبغلة التي تشرب
منه) يا ليتهم يرونني الآن .. سيقولون
أبله مجنون .. أحقًّا أنني أبله ومجنون؟
زوجتي تقول هذا .. تقوله وتفعله وتؤكده كل
يوم .. عمي يقوله بصمته وسكوته ونظراته
إليَّ .. هل غاب عنكم أنني أعرف هذا؟ هل
غاب عنك يا عمي أنني ألمح الحسرة على وجهك
وفي عينيك؟ تندم على تزويجي من ابنتك ..
تعتذر لها بأنني ابن أخيك الذي وصَّاك على
فراش الموت .. وتلوم نفسك مع ذلك كل يوم
.. هل غاب عنك يا زوجتي أنني أعرف .. نعم
أعرف وأحس وأفهم .. آه .. يا ليتك تعرفين
أن المجانين هم ورثة الأولياء والصالحين
.. إنهم أطفال كبار ملهمون .. نظراتك في
وجهي تنطق باحتقارك لي .. وليتك اكتفيت
بالاحتقار .. إنها تنطق بالكره المسموم …
إن كان قد غاب عنك أنني لاحظت وفهمت وسكت
فأنت بلهاء، نعم أنت البلهاء لا أنا ..
نظراتك للفارس، رعشات يديك وساقيك إذا ظهر
أمامك .. ولقاؤكما في السر وتحت ستار
الكتمان .. وأحاديث الجيران .. لا لست
الأبله .. ما أنا بجبان .. لو كنت اكتفيت
بالرثاء ما حزنت .. لو وقفت عند الاحتقار
لقلت لنفسي: غدًا تقدرك يا حسن .. غدًا
تعرف معدنك وتعترف بأنك شهم وشجاع .. خانك
ذكاؤك يا زوجتي الحبيبة الصغيرة .. يا
بغلتي الحلوة السمينة .. لم تفهمي أنني
أمثِّل .. أنني تعلمت من أبيك كيف أنسج
الخيوط وأغزل .. وقد نسجت عنكبوت المهزلة
وسقطتِ فيها كما تسقط الذبابة الغبية ..
وعندما كنت أقتل الذباب وأدوسه كالأعداء
كنت أقتلك وأدوسك .. أقتل الجبن والبلاهة
والحمق الذي رميتني به .. أقتل الكراهية
التي طوقتني بقيودها وأغلالها طول العمر
.. هل عرَفتِ الآن أنني أذكى منك ومنه
ومنهم؟ غدًا تعرفين .. غدًا تعرفين ..
(يواصل إطعام البغلة .. يسمع صوت عواء
فينتبه ويُصيخ السمع) عواء .. لعلها
الذئاب .. لا شك في هذا .. أو ربما كانت
الريح .. أو ربما … ولكن لا يمكن أن يكون
هذا صوته … لا يمكن أن يعوي أو ينبح أو
يصرخ أو يتأوه .. لماذا يا حسن؟ لأنه غير
موجود .. غير موجود إلا في عقولهم .. أنا
الذي نشرت الخبر وروَّجته .. أنا الذي
صوَّرته ووصفته ورسمته .. منذ أن كنتُ
صبيًّا يسمع الخرافات والحواديت ويحكيها
لأصحابه .. يرحمك الله يا أمي .. منك سمعت
عن الطاهش وتعلَّمت .. خوفتني به لأنام
وها أنا أُخيف المدينة لتنام .. وعندما
تغمض عينيها سأقف على جثتها وأصيح .. خرج
العفريت من القمقم يا أولاد .. انطلق
المارد كالعملاق وفكَّ يديه من الأصفاد ..
يرحمك الله يا أمي … صدَّقت الكِذبة
ورويتها عليَّ .. هل كنت كذلك بلهاء؟ ليتك
ترينني اليوم وأنا أواجهه .. دخانٌ أخترقه
وغبار أنفذ فيه .. ليتك ترينني غدًا وأنا
أدخل المدينة دخول البطل الظافر .. البطل؟
بل بطل الأبطال وفارس كل الفرسان .. ألم
تسمعي غناء الأطفال وهتاف العجائز ودقات
الطبول والدفوف؟ كم قلت وقلت لكي يفِد
الضيف الممتنع إلى عيني وجسدي المشدود:
الطاهش وحش يا ولدي .. وحش كالأسد
الفتَّاك .. مسخٌ من ذئبٍ وأتان .. عيناه
تئِزان الشرر .. وقرناه موت وهلاك .. فإذا
صادفت الطاهش في الجبل أو البرية، فارفع
سيفك يا ولدي واحذر غدره .. بإذن الله
ستنتصر عليه وتأمن شرَّه .. حقًّا سأنتصر
عليه .. لقد انتصرت عليه بالفعل يا أمي
قبل أن ألقاه .. فأنا الذي اخترعته وصنعته
.. أنا الأبله المجنون الجبان .. ألم
تحلُمي الحُلم وتحكيه لي .. آه من هذا
الحُلم الذي ما زلت أحلمه .. أيقظتني من
النوم ورويته لي .. رأيت يا ولدي في
المنام أنك قتلت الوحش بسيفك .. ودعاك
السلطان إليه وخلع عليك الحُلل وزوَّجك
ابنته في الحال .. لا لن أتزوج ابنته ..
تكفيني زوجتي الوفية الحنون .. ولن أكتفي
بالحُلل والمال .. سأجلس فوق العرش مكان
السلطان .. أنا السلطان .. أنا السلطان
(يسمع الصوت قريبًا منه فيرتعد ويبتعد عن
البغلة التي تفزع وترتجف وتنطح الشجرة) لا
لا لا … هل صدَّقتِ أنتِ أيضًا؟ إنه
الحُلم .. ألم تحلمي أنت أيضًا أنك تزوجت
أسدًا أو ذئبًا؟ أو أنك ارتفعت إلى السماء
على ظَهر بغل ملائكي واستقبلتك هناك بغال
السماء؟ أتذكرين هذا الحُلم أم نسيته؟ أما
أنا فأحلم وأحلم، هذه هي قوتي .. أن أصنع
من الأحلام حقائق .. ومن الهواجس أمجادًا
تنتشر على كل لسان .. هيا هيا .. إنه صوت
الريح .. أو صوت ذئاب جائعة مسكينة .. بل
هو بالتأكيد عواء الذئب الجائع .. لا
تخافي .. سيعاف لحمك وشحمك .. اطمئني فلن
يعجبه علفك .. هل شبعت يا بغلتي الطيبة؟
أتشتهين قليلًا من المسكرة؟ مالت الشمس
للغروب ومدت رأسها على مخدة الجبل ..
أتريدين أنت أيضًا أن تنامي؟ خذي خذي ..
قليلٌ من المسكرة يساعد على النوم
(يتثاءب) أنا أيضًا تعبت .. بعد اليوم
المُرهِق يستحق الجسد أن يتمدد ويحلم ..
ما هذا؟ (يسمع خربشة خلفه، يسحب سيفه
ويرتعش، يزعق ليؤنس وحدته ويبدد مخاوفه)
أيكون هو الوحش؟ لا .. لا .. لا .. إنه في
عقلي أنا وحدي .. كيف أمكنه أن يخرج منه
على غفلةٍ ويكتسي عظمًا ولحمًا وأظافر
وأنيابًا؟ لا .. لا .. لا .. هي أوهام
أوهام .. لكن ما هذا أيضًا؟ حتى الأوهام
تُخيف .. تنبت فيها عين تلمع كالنار
وبالموت تطوف .. لا .. لا .. لا .. لا بد
أنها عين ذئب أو ابن آوى .. هم أيضًا جوعى
مساكين .. ألا يجوعون مثلك يا حسن؟ ألا
يتمددون في النهاية على التراب؟ إلهي ..
ولكن العين تلاحقني .. عينٌ أخرى تتربص بي
.. أيشتهي الذئب لحمي؟ هل جرَّب لحم
الفرسان فأعجبه طعمه؟ فلأصعد فوق الشجرة
وأنَم .. ولأغمض عيني حتى تطلع شمس الصبح
على الأحلام .. أيمكن أن يكون الأمر
حقيقة؟ أيمكن أن يكون هو الطاهش؟ هل أصدق
الأكذوبة؟ أنا الذي نسجتها وروَّجتها في
المدن والقرى والسهول والجبال فكيف
أصدقها؟ كيف أصدقها؟ العين تطاردني .. لا
بل عينان .. أين أنت أيها القمر لتكشف
عنها؟ لماذا احتجبت الليلة؟ تقترب العين
وتدنو العينان .. هل أنتظر حتى تحرقني؟ هل
أقف هكذا حتى ينغرز الناب بلحمي؟ فلأصعد
فوق الشجرة وأنَم، الذئاب لا تتسلق
الأشجار العالية .. هذا شيء لا يغيب عن
أبله مثلي .. أبله؟ نعم سأكون الأبله لو
وقفتُ هكذا وسلَّمتُ جسدي فريسة للذئاب؟
وداعًا يا بغلتي .. أمامك الشعير فاشبعي
.. وأمامك المسكرة أيضًا إن شئت أن تنامي
.. واحلمي أنت أيضًا ولا تندمي .. يفنى
العالم ولا يبقى إلا الحُلم .. لكنك يا
مسكينة لن تستطيعي أن تجعلي منه حقيقة.
(يتسلق الشجرة مسرعًا .. يتمدد على فروعها
ويستسلم للنوم).
(يتغير المنظر بعد قليلٍ ويسقط الضوء على
المكان .. يهبط حسن سيف من فوق الشجرة وهو
يتثاءب ويتمطى).
آه .. نفس الحُلم دائمًا .. السلطان يتقدم
مني وينزل من على جواده .. ينحني وتنحني
معه الحاشية والحراس والعبيد ويقول: تفضل
يا ملك الزمان .. قتلت الطاهش فاقبل عرش
السلطان.
(يتقدم نحو البغلة ويربت على ظهرها وهو لا
يزال يتثاءب).
حياك الله .. حياك الله .. أكلت وشبعت ونمت
.. وحلمت أيضًا؟ بماذا حلمت يا ترى؟ لا
تزورنا الأحلام إلا والبطن شبعان .. هيا
يا بغلتي العزيزة .. يا بطتي السمينة
البطيئة.
(يتثاءب ويربت على ظهرها ورأسها .. يضع
السرج على ظهرها).
يبدو أنكِ لا زلتِ نائمة .. هل أفسدك النوم
الطويل؟ ما هذا؟ وتغيَّر لونك أيضًا؟
سبحان الله .. اسودَّ جلدك قليلًا (يهزُّ
رأسه) هل نبت برأسك قرنان؟ لا .. لا .. لا
.. لا بد أنني لا زلت نائمًا (يفرك عينيه)
هذا جسدي .. هذا سيفي المشهور .. وهذه
بغلتي وسرجي وجرابي .. لا بد أنك أكثرت من
المسكرة حتى سكرت .. لا بأس عليك .. لا
بأس عليك .. السفر طويل وستصحو عيناك من
النوم (يمتطي ظهر البغلة) وأنا أيضًا
سأفيق من النوم .. النوم؟ لا بل سأسير إلى
المجد .. لن أتخلَّى عن حُلمي .. لن
يتخلَّى عني الحُلم .. وسأصبغ سيفي
المشهور بدم كلب أجرب أو عصفور أبكم ..
(يهزُّ رأسه) عصفور أبكم؟ هذا من أثر
النوم .. هل شاهد أحدٌ يومًا عصفورًا
أبكم؟! (يضحك) أما الحُلم فقد فات أوان
الحُلم وجاء أوان العزم .. فتحقق يا حُلمي
اليوم وواجه شعبك وتولَّ زمام الحكم ..
قتلت الوحش .. قطعت الرأس .. سفكت الدم …
ونزعت من الناب السم … أنا روجت الأكذوبة
ونسجت خيوط الحُلم .. أتقنت الصنعة فافرح
يا عم .. واشمَت يا فارس فيَّ ولا تغتم ..
فأنا الفارس لا أنتقم ولا أهتم .. أما أنت
فهذا عرشك هذا تاجك .. هيا يا زوجتي
الحلوة نصعد نحو النجم (يمتطي ظهر البغلة
ويحثها على السير) سيري يا بغلتي الحلوة
سيري نحو المجد .. فعلى ظهرك لو تدرين
أمير وغد (يضحك) أمير؟ لا لا بل سلطان
الزمن الأوحد .. سِيري سِيري .. نحو اليمن
.. ونحو السعد .. سِيري .. سِيري .. نحو
المجد.
٤
(في بيت حسن سيف طَرق على
الباب، يزداد الطَّرق شدة، أمام الباب يقف
الفارس وامرأتان متَّشحتان
بالسواد).
الفارس
:
افتحي .. افتحي.
الزوجة
:
من؟ من الطارق؟
الفارس
:
من تنتظرينه دائمًا ..
افتحي.
الزوجة
:
حسن؟ هل عدت؟
الفارس
:
وهل يمكن أن يعود؟ إنه أنا.
الزوجة
:
من أنت؟ أنا لا أعرف غير حسن .. لا
أنتظر سواه، اذهب! اذهب.
الفارس
:
افتحي الباب وسوف ترين.
الزوجة
:
لا أريد أن أرى وجهك .. قلت اذهب
ولا تعد!
الفارس
:
ما زلت مخدوعة فيه؟ افتحي الباب
وستعرفين الحقيقة.
الزوجة
:
الحقيقة أن زوجي بطل.
الفارس
:
افتحي وستعرفين أنه لن يعود أبدًا.
الزوجة
:
قُطِع لسانك!
الفارس
:
وإذا قُطِع لساني، فهل سيقطع ألسنة
جميع الناس؟
الزوجة
:
جميع الناس يرددون اسمه وينتظرون
عودته.
الفارس
:
قلت لن يعود .. افتحي واسمعي هاتين
المرأتين ..
الزوجة
:
أي امرأتين؟
الفارس
:
لو فتحتِ فسترينهما وتسمعينهما ..
الزوجة
(تفتح الباب وترى
المرأتين)
:
أهي خدعة جديدة؟ قلت لك اذهب من
طريقي.
الفارس
(ضاحكًا)
:
ليس من قبل أن تسمعيني.
الزوجة
:
قلت لا فائدة.
الفارس
:
بدأت تخافين؟! أهكذا يستقبل الناس
الضيوف.
الزوجة
:
تفضلوا .. تفضلوا ..
المرأة الأولى
:
حيا الله!
المرأة الثانية
:
حيا الله!
الزوجة
:
تفضلا .. يا مرحبًا (للفارس): قلت
اذهب من طريقي!
الفارس
:
لن أذهب حتى تسمعي.
الزوجة
:
دعوة جديدة من السلطان؟ حسن رفض
الدعوة حتى يأتيه برأس الطاهش.
الفارس
:
أو يأتي الطاهش برأسه؟
الزوجة
:
سنرى أي رأس تسقط .. انتظر أيامًا
فقط.
الفارس
:
سأنتظر طول العمر .. تكلمي يا
امرأة.
الزوجة
:
عفوًا .. من أنتما؟
المرأة الأولى
:
أنا أرملة الفارس محمود.
المرأة الثانية
:
وأنا أرملة الفارس حمدان.
الزوجة
:
أرملتان في يومٍ واحد؟
المرأة الأولى
:
قولي في لحظة.
الزوجة
:
ماذا حدث؟
المرأة الثانية
:
هل تذكرين صوت المنادي في
السوق؟
الزوجة
:
نعم سمعته من شهرين .. كنت في دكان
أبي …
المرأة الأولى
:
واجتمع الفرسان بقصر السلطان
…
المرأة الثانية
:
قالوا أمرك يا سلطان .. وسنأتيك
برأس الطاهش (تبكيان).
الفارس
:
عفوًا .. أنا أروي ما حدث.
الزوجة
:
هل كنتَ معهما؟
الفارس
:
رافقتهما حتى السور، كان السلطان قد
أوصاني أن أتابعهما من برج المراقبة وآتيه
بأخبارهما يومًا بيوم .. زودناهما بكل ما
يحتاجان إليه، بالخناجر والسيوف والطعام
والماء.
الزوجة
:
وماذا حدث؟
الفارس
:
لم يحدث شيء .. انتظرناهما كما
انتظرنا غيرهما ..
المرأة الأولى
:
ولا زلنا ننتظر …
المرأة الثانية
:
والأولاد ينتظرون.
الزوجة
:
ألم ينجح أحد؟ ألم يأتكم خبر عنه؟
ألم تسمعا شيئًا؟
الفارس
:
ما يسمعه كل الحراس على أبواب
السور، فحيح ينفثه الطاهش كالريح المسموم،
صوت مشروخ ومخيف ينفذ في الصدر كسيخٍ
محمي.
الزوجة
:
ومن أدراكما أنهما لم
يقتلاه؟
الفارس
:
يقتلانه؟ تكفي شرارة من عينيه لتصعق
من يتجاسر على القرب منه.
الزوجة
(باكية)
:
أين أنت الآن يا حسن؟
المرأة الأولى
:
يرحمه الله.
المرأة الثانية
:
يرحمه الله.
الزوجة
(تنهض، تجفف
دموعها، غاضبة)
:
حسن سيف غير كل الفرسان، نعم نعم،
ليس ككل الفرسان .. سيعود لا بد أن يعود.
المرأة الأولى
:
سلَّمه الله.
المرأة الثانية
:
نتمنى هذا يا أختي .. حياك الله.
المرأة الأولى
:
حياك الله وسلَّمه الله.
(تستأذنان في
الانصراف، ترافقهما إلى الباب، تنظر إلى
الفارس الذي يتجه أيضًا إلى الباب محنقًا
شامتًا .. يُسمع طَرق شديد، تفتح فيدخل
حسن مسرعًا).
الزوجة
:
مَن؟
المرأتان
:
حسن؟
الفارس
:
عدت يا حسن؟
الزوجة
:
ألم أقل لكم؟ …
(حسن يذرع المكان
كأنه يصول في معركة ويجول .. تقترب زوجته
منه بإعجاب، تحاول أن تلمس ذراعه بيدها
فيطرحها في غضب).
الزوجة
:
بطل الأبطال حسن سيف …
المرأة الأولى
:
قتل الألف …
الفارس
:
ألف ذبابة …
المرأة الثانية
:
وأسر الألف …
الفارس
:
ألف ذبابة.
حسن
:
ما هذا أيها الذبابة؟ أتريد أن تلقى
نفس المصير؟
الفارس
:
مصير مَن؟ الذباب أم الطاهش؟
حسن
:
أتشكُّ أنني قتلته؟
الفارس
:
قتلته يا حسن؟!
حسن
:
وهل هذا سؤال؟!
الفارس
:
أأنت جاد؟
حسن
:
حسن سيف لا يقول إلا الجد.
الفارس
:
وأين رأسه؟ أين …
حسن
:
رأس من؟
الفارس
:
رأس الطاهش، ألم تأتِ بها
معك؟
حسن
(ضاحكًا ومشيرًا
إليه)
:
لا زلت صغيرًا لا تتعلم.
الفارس
:
لم تقتله إذن؟
حسن
:
وغبي لا يفهم
الفارس
:
لا أفهم .. قتلته بغير دم؟
حسن
:
دم؟ ولماذا يلوث حسن سيفه
بدمه؟
الفارس
(يضرب كفًّا
بكف)
:
كيف قتلته إذن؟
حسن
:
قتلته ولم أقتله؟
الفارس
:
لغز هذا؟
حسن
:
لغز لا يفهمه إلا الأبطال (يتمشى في
المكان .. يجرد سيفه ويمثل قتل الطاهش) هل
تعرف كيف يقتل الثعبان الحمامة؟
الفارس
:
ولكن الطاهش ليس حمامة!
حسن
:
بالطبع لا .. ولكن يكفي أن يسلط
عينيه عليها فتُشلَّ وتُسحق .. عندئذٍ
يُجهز عليها بغير قطرة دم.
الفارس
(متهكمًا)
:
أنت الثعبان إذن؟
حسن
(غاضبًا)
:
أنا سيد فرسان العالم، بطل الأبطال،
واجهت الطاهش وتحديته.
الفارس
:
وسلطت عليه نظرة عينيك؟
حسن
(يفتح عينيه
ويمثِّل الدور)
:
كانت عيناه تئِزُّ الشرر وتخطف
كالبرق، والبرق مخيف لا تهزمه إلا
الصاعقة، رفعت السيف المشهور وحدَّقت ..
في لحظة …
الفارس
:
مات الطاهش!
حسن
:
هل تسخر مني؟ لن يفلت قولك من غير
عقاب.
المرأة الأولى
:
أكمل .. أكمل …
حسن
:
صرخ كجرو أجرب، رفع رجليه
الأماميتين كأنه يتوب ويتضرع، رفعت السيف
المشهور وسلطت الصاعقة عليه .. وتلوَّى من
شدة ألمه .. سقط إلى الهاوية ككلبٍ مذعور
.. (يتلفت حوله) أين امرأتي؟ أين …
الفارس
:
ذهبت تبحث عن رأس الطاهش.
حسن
:
ألا تكفُّ عن سخريتك؟ أين أنت يا
امرأة؟
المرأة الثانية
(ترجع من النافذة
التي كانت تطل منها)
:
ذهبت لتفكَّ البغلة.
الفارس
:
وتفتش في الجراب.
المرأة الأولى
:
ها هي ذي …
الزوجة
(صائحة)
:
الطاهش .. الطاهش.
المرأة الثانية
:
أين؟
الزوجة
:
مربوطٌ أمام الباب.
المرأة الأولى
:
رأيته بعينيك؟
الزوجة
:
ويمكنك أن تريه أيضًا .. إنه أمام
الباب .. حسن أسر الطاهش.
الفارس
:
أسره أم قتله؟ هل يؤسر الطاهش؟
(يذهب إلى النافذة ويطل منها …).
الزوجة
:
أسره .. أسره .. ذهبت أفكُّ وَثاق
البغلة .. هل تدرون ماذا رأيت؟
المرأتان
:
البغلة طبعًا.
الزوجة
:
لا لا لا .. إنه الطاهش نفسه ..
اسألوا الفارس إن كنتم لا تصدقون ..
انظروا إليه بأنفسكم (تسرع المرأتان إلى
النافذة).
حسن
(مقتربًا
منها)
:
ما هذا يا امرأة! ماذا
تقولين؟
الزوجة
:
حياك الله يا حسن .. حياك الله.
حسن
:
تعقَّلي يا امرأة .. ما هذا الذي
تقولين؟
الزوجة
:
إنه هو .. وحق الله هو.
حسن
:
أُف .. أفسدت كل شيء (لنفسه): لست
أنا الأبله الوحيد .. أخلق كذبة فتُخلَق
منها كذبة أخرى .. والكذبة تلد الكذبة
وتقتلها .. تمامًا كما قتلت الطاهش يا
حسن.
الزوجة
(تزغرد)
:
أسرتَ الطاهش … أسرتَ الطاهش
…
حسن
(يسرع إلى النافذة
ويُطل منها .. يأتي مذعورًا إلى زوجته
)
:
أحقًّا هو نفسه؟ أله قرنان وفم
أسود … و…
الزوجة
:
ألا تعرف يا حسن؟ إنه هو!
حسن
:
وجلد أسود كالفحم؟ وناب
وأظافر؟
الزوجة
:
هو بنفسه .. هو.
حسن
(مذعورًا)
:
هو؟ ولو كان أكلني؟ لو أكلني يا
امرأة؟
الزوجة
:
أنت الذي أكلته يا حسن .. لم تلوث
يدك ولا سيفك بدمه .. بل أسرته وركبتَ على
ظهره.
حسن
(لنفسه)
:
أسرته وركبت على ظهره .. وكنت أظنه
البغلة .. ولكنها كانت نائمة يا امرأة ..
وكنت نائمًا.
الزوجة
:
كانت .. يرحمها الله .. هل تعرف
ماذا حدث؟
حسن
:
أسرعي يا امرأة.
الزوجة
:
لا بد أنك نمتَ يا حسن.
حسن
:
نعم نعم .. تسلقت الشجرة ونمت ..
وفي الصباح …
الزوجة
(مقاطعة)
:
بل في الليل، لا بد أن هذا حدث
بالليل .. هل آمنت الآن بإخلاص زوجتك؟
حسن
:
ما دخل إخلاصك في هذا؟ ما دخل
النساء كلها؟
الزوجة
:
انتظر .. هل تذكر المسكرة التي
وضعتها في جرابك؟
حسن
:
أعطيت البغلة قليلًا منها لتنام.
الزوجة
:
وجاء الطاهش .. وجد البغلة نائمة
فافترسها.
حسن
:
افترسها؟ وأنا نائم؟
الزوجة
:
نعم نعم، ثم تشمم المسكرة والتهمها.
حسن
:
وأدارت رأسه فنام .. هل يُعقل هذا
يا امرأة؟
الزوجة
:
انظر ترَه أمام الباب، مطأطئ الرأس
ذليلًا كخروفٍ مسكين ينتظر السكين.
حسن
(يلتقط
الخيط)
:
وركبت على ظهره أيضًا؟
ألا زال مربوطًا أمام الباب؟
الزوجة
(تزغرد)
:
طبعًا طبعًا .. ناديت على الجيران
وشددنا وَثاقه (تدخل المرأتان والفارس ..
بينما تواصل الزوجة زغاريدها).
حسن
:
أرأيتم؟
المرأة الأولى
:
بارك فيك الله .. بارك فيك الله.
المرأة الثانية
:
معجزة كبرى .. معجزة كبرى.
الفارس
:
خرافة .. أعجب من كل خرافة!
حسن
(ساخرًا وبافتخارٍ
وتعاظم)
:
صدَّقت الآن؟
الفارس
:
خرافة.
حسن
:
ليست خرافة حين تأتي من فارسٍ
خرافي.
الفارس
:
عقلي مشلول .. لا بد من إبلاغ
السلطان .. لا بد من إبلاغ السلطان بسرعة
.. (لنفسه وهو يخرج): كيف أصدق كذبة؟ كيف
أصدق كذبة؟
حسن
(وهو يشيعه
بضحكاته)
:
أكذوبة أو كذبة .. المهم أنها وقعت.
الفارس
(قبل أن يصفع
الباب وراءه)
:
وقعت؟ أنا الذي وقعت .. أنا الذي
وقعت ..
حسن
(بعيدًا
لنفسه)
:
وقريبًا يقع السلطان .. يقع الحمقى
.. كل الحمقى .. أرأيتم ما يصنعه أحمق،
أبله، وجبان؟
الزوجة
:
حسن سيف (يبدأ الناس يتوافدون وهم
يهللون ويكبرون، النساء تزغرد، الأولاد
تصيح، الرجال يهنئون ويباركون).
أصوات
:
حيا الله! حيا الله!
أصوات
:
حسن سيف … حسن سيف …
أصوات
:
قتل الألف
وأسر الألف
وهربوا منه ألف وألف
(حسن يقف في الوسط
متقمصًا دور البطل ومنتفخًا كالبهلوان،
يُجرِّد سيفه ويمثل دور الفارس بطل
الأبطال الشجعان).
أصوات
:
شاف الطاهش
قال له قِف
رفع السيف
وقال يا رب
ضربه بعنف
حسن
:
لا لم أضرب .. لم أضرب .. رفعت
السيف وحدقت فيه ..
أصوات
:
قال له تحب
تموت بالقلب
ولا تحب
تموت بالسيف
حسن
(غاضبًا)
:
قلت لكم لم أقتله .. لم ألوث سيفي
بدمه
(يرفع سيفه ليروه): نظرة واحدة كانت
كافية …
أصوات
:
شافه الطاهش
مات م الخوف
حسن سيف
حسن سيف
(في هذه الأثناء
يتبختر حسن في كبرياء وهو يرفع سيفه
المضحك الطويل ويُحيي الوافدين والمهنئين
).
أصوات
:
الحمد لله .. الحمد لله ..
رجل
:
أنقذنا منه …
رجلٌ آخر
:
لقي جزاءه .. كم قتل وشرب دماء
الناس …
المرأة الأولى
:
اسألونا عن ضحاياه …
المرأة الثانية
:
اسألوا اليتامى والأرامل.
رجل
:
اليوم عيد …
رجلٌ آخر
:
في الأرض وفي السماء …
رجل
:
لا بد من ذبح الضحايا …
رجلٌ آخر
:
وتعليق رأسه على البوابة …
رجل
:
أو على السور …
رجل
:
عبرة لكم معتدٍ أثيم …
صوت امرأة
:
وحسن؟ ألن يلقَى جزاءه؟
رجل
:
جزاؤه عند الله …
رجلٌ آخر
:
وعند السلطان …
امرأة
:
السلطان … السلطان …
(يدخل السلطان
تتبعه حاشية من الحراس والفرسان، تظهر
ابنته الجميلة التي تبحث عيناها عن البطل،
يتقدم من حسن ويعانقه).
أصوات
:
السلطان … السلطان …
حسن
:
شرَّفت يا مولانا …
السلطان
:
أنت الذي شرفتنا يا حسن، كنت أقول
لنفسي …
أصوات
:
اسمعوا حضرة السلطان …
السلطان
:
إن مدينتنا لن تعقِم أبدًا .. كلما
أصابنا القحط والوباء
وُلِدَ الفارس الهمام …
صوت
:
وستخضر الأرض …
صوت
:
وتنضج الثمار …
صوت
:
وتمطر السماء …
صوت
:
وتلد النساء أولادًا لا يموتون في
المهد …
صوت
:
وتكسو السنابل حقول القمح …
صوت
:
في كل سنبلةٍ مائة حبة …
صوت
:
ويفيض الخير …
السلطان
:
اليوم يا أولاد .. أقيموا الزينات
.. أولموا الولائم .. لا يبقى بطن جائع
وفم ظمآن …
صوت
:
والطاهش؟
السلطان
:
ذكَّرتني يا ولدي .. لا بد من ذبحه
أمام الناس …
صوت
:
يذبحه حسن سيف …
صوت
:
بسيف حسن سيف …
السلطان
:
لا .. لا .. يكفي أنه أسره وامتطى
ظَهره …
حسن
:
سيفي لا يتلوث أبدًا بدمه.
السلطان
:
بالطبع يا ولدي .. هل أفشى سرًّا
للناس؟
حسن
:
سر؟ أي سرٍّ يا سلطان؟
السلطان
:
هل تعلم أنني رأيتك الليلة في
المنام؟
حسن
:
أنا يا مولاي؟
السلطان
:
نعم .. كنت ساهرًا كعادتي أفكر
مهمومًا في أمر البلاد والعباد .. هذا
الوحش الملعون الغادر يمنع عني النوم،
يؤرقني منذ شهور .. وإذا بالتعب يحلُّ على
شيخ فانٍ مثلي لا يتحمل .. ورأيتك.
حسن
:
رأيتني؟
السلطان
:
نعم يا ولدي .. رأيتك تركب ظَهر
بغلة عجيبة .. كائن أضخم من كل البغال،
فمُها أسود وجلدها أسود.
الزوجة
:
تمامًا يا سلطان .. حسن ربطه
بالباب.
السلطان
:
رأيته يا ابنتي وعرفت تفسير المنام
.. كان على رأسها قرنان .. ومن عينيها
تخرج نار كالحمم المتدفقة من
البركان.
الزوجة
:
هل رأيت حسن على ظهرها؟
حسن
:
اسكتي يا امرأة .. أكمل يا مولانا
السلطان.
السلطان
:
رأيت إنسانًا على ظهرها .. لم يكن
كالبشر .. فوق رأسه تاج زُيِّن بالورد
وأغصان الغار .. في جنبيه جناحان من
الفضة، في يده …
حسن
:
في يده … ماذا في يده؟ سيف؟
السلطان
:
لا لا …
صوت
:
ماذا في يده يا مولانا؟
السلطان
(يبكي)
:
الصولجان.
أصوات
:
الصولجان؟
السلطان
:
والأعجب من هذا .. حدقت وحدقت ..
فإذا هو صولجاني .. وفجأة تحولت البغلة
إلى عرش.
أصوات
:
عرش وصولجان …
صوت
:
أنت وعدت بجائزة يا مولانا …
السلطان
:
تمامًا يا ولدي .. لمَّا ضاقت نفسي
واسودت في عيني الدنيا .. نمت وشاهدت
الحُلم.
صوت
:
اتركوا مولانا يحلم …
السلطان
:
حُلمي الأخير يا أبنائي .. حُلمي
الأخير .. جريت نحو الجالس فوق العرش
وقلت: هذا عرشي يا مولانا .. يا منقذنا من
هول الوحش.
أصوات
:
أَبشِر يا حسن …
السلطان
:
نعم يا ولدي .. كنت وعدت وهذا تحقيق
الوعد .. ورأيت فحُقَّت رؤياي .. أنت
المنقذ فلك العرش …
صوت
:
فلك العرش …
السلطان
:
ولك الحكم والصولجان …
صوت
:
لك الحكم والصولجان (يتقدم نحو حسن
ويخلع رداءه الملكي وصولجانه ويسلِّمهما
له).
حسن
:
مولانا .. هذا أكثر مما أستحق.
السلطان
:
بل أقل مما تستحق .. إنك لم تكتفِ
بأسر الطاهش .. بل ركبت على ظهره ودخلت
المدينة.
الفارس
(لنفسه)
:
وكان نائمًا .. والبغلة نائمة ..
والدنيا نائمة.
السلطان
:
قصَّرنا في حقك يا ولدي .. كان
علينا أن نستقبل موكبك ونُقبِّل التراب
الذي تسير عليه.
حسن
:
العفو يا مولانا .. هذا كثير.
السلطان
:
بل أقل مما تستحق .. أما بقية
الحُلم … فتعالي يا ابنتي …
بنت السلطان
:
أبي … مولاي …
السلطان
:
كنت وعدت بأن أهديكِ لمن ينقذنا
منه.
بنت السلطان
:
أعرف يا أبي.
السلطان
:
هذا هو بطل الأبطال.
بنت السلطان
:
أمرك يا أبي (تنظر لحسن وتقترب
منه).
حسن
:
عفوًا يا مولانا.
السلطان
:
ماذا يا ولدي؟
حسن
:
لا أستطيع.
السلطان
:
ترفض هديتي؟ ابنتي الوحيدة؟
حسن
:
ستكون أختي الوحيدة .. أما زوجتي
…
السلطان
:
زوجتك؟ ألك زوجة؟
حسن
:
ونِعمَ الزوجة (يشد زوجته بعنفٍ إلى
جانبه) زوجتي الوفية التي وقفت دائمًا
بجانبي.
السلطان
:
ونِعمَ الوفاء يا حسن.
بنت السلطان
:
أترفضني يا حسن؟
حسن
:
بل أضعك في عيني.
السلطان
:
هي أختك فاقبَلها في قصرك.
حسن
:
إن قَبلَت .. أُجلسها بجواري فوق
العرش.
السلطان
:
وإذا متُّ فلا تقسُ عليها ..
حسن
:
أقسو عليها؟ بل أرجو أن تقبَلني بين
رعاياها.
أصوات
:
ما أكرم … ما أوفى … ما أعظم
…
حسن
(يتقدم من جمهور
الناس وهو يرفُل في رداء الملك ويهزُّ
الصولجان في يده .. زوجته تصاحب خطواته
فخورة به)
:
لله الشكر ولله الحمد .. السلطان
رأى حُلمًا .. وأنا حققت الحُلم .. من
أجلكم وعد السلطان بأن يسلِّم عرشه لمن
ينقذ البلاد والعباد من الوحش الغادر ..
وأنا أنقذت البلاد والعباد بفضل
الله.
صوت
:
وسيفك .. لا تنسَ السيف.
أصوات
:
قتل الألف .. وأسر الألف (حسن يعرض
سيفه على الجميع).
حسن
:
وسأنقذكم دومًا …
الفارس
:
حقًّا؟
حسن
(كأنه لم
يسمع)
:
من كل الأخطار …
صوت
:
من قحطٍ أوشك أن يهلكنا …
حسن
:
بعون الله …
صوت
:
من عطش الأرض إلى الخضرة والماء
…
حسن
:
لن يبخل ربي بالمطر علينا …
صوت
:
ومن الأعداء إذا هدموا السور
…
حسن
:
لن يهدمه أحد وأنا معكم … أقتل
ألفًا …
أصوات
:
تأسر ألفًا ويفرُّ الجبناء الألف
(يعرض سيفه على الجميع).
الفارس
:
من الأخطار جميعًا؟
حسن
:
لن يصبح للخطر مكان …
الفارس
:
والخطر الأكبر؟
حسن
(غاضبًا)
:
الخطر الأكبر .. أي خطر
أكبر!
صوت الفارس
:
أنت.
حسن
(يثور ثورةً كبرى
.. يسرع إليه شاهرًا سيفه)
:
أم أنت!
السلطان
:
لا لا لا .. معركة في هذا الوقت ..
سفك دماء .. مهلًا يا أبناء .. مهلًا يا أبناء.
أصوات
:
لا يكفي هذا .. عاقبه يا مولانا
…
السلطان
:
بل هذا وقت العفو عن الأخطاء .. هذا
وقت الأفراح .. يوم العيد، فهيا يا أبنائي
.. غنُّوا وأقيموا الزينات .. (لحسن):
واسبقني أنت وزوجتك إلى القصر لتكتمل
الفرحة .. هيا هيا يا أولاد … هيا هيا يا
أبناء …