الغرض من الاتحاد الأوروبي
الاتحاد الأوروبي الذي نراه اليوم ثمرة عملية انطلقت منذ أكثر من نصف قرن من الزمان بإنشاء «الجماعة الأوروبية للفحم والصلب». وكانت هاتان الصناعتان آنذاك تمثلان شريان الحياة الصناعي للقوة العسكرية؛ إذ أكد وزير الخارجية الفرنسي، روبرت شومان، في ٩ مايو ١٩٥٠، في إعلانه الذي دشَّن المشروع، أن «أي حرب بين فرنسا وألمانيا» أصبحت «غير واردة، بل ومستحيلة واقعيًّا.» ويجسد فوز الاتحاد الأوروبي بجائزة نوبل للسلام لسنة ٢٠١٢ أهمية تلك العملية ذاتها.
(١) السلام الدائم
ربما لا يَسْهُل في يومنا هذا، وبعد هذه الفترة الزمنية كلِّها، أن نُقدِّر ما كان يعنيه ذلك في حين لم يمضِ إلا خمس سنوات على نهاية الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩–١٩٤٥)، التي جلبت معاناة رهيبة على كل البلدان الأوروبية تقريبًا. وبالنسبة لفرنسا وألمانيا — اللتين خاضتا ثلاث حروب كلٌّ منها ضد الأخرى خلال العقود الثمانية السابقة على ذلك التاريخ — كان إيجاد سبيل للتعايش في ظل سلام دائم أولوية سياسية أولى أُنشئت الجماعة الجديدة لتحقيقها.
كانت فرنسا ترى في قيام دولة ألمانيَّة مستقلة تمامًا، بما لها من إمكانيات صناعية هائلة، أمرًا ينذر بالخطر. وكانت محاولة إخضاع ألمانيا — على النحو الذي سعى إليه الفرنسيون بعد الحرب العالمية الأولى (١٩١٤–١٩١٨) — قد فشلت فشلًا كارثيًّا، فبدت فكرة دمج ألمانيا داخل إطار مؤسسات قوية تضم بالمثل فرنسا والبلدان الأوروبية الأخرى — ومن ثَمَّ تكون مقبولة للألمان على الأمد الأبعد — فكرة واعدة بدرجة أكبر. وقد تحقق هذا الموعود كما كان مأمولًا. كان الفرنسيون ينظرون إلى الاتحاد الأوروبي بوصفه الثمرة التي أثمرتها مبادرتهم غير المسبوقة، وقد سعوا — بنجاح كبير — إلى لعب دور الزعيم بين الأمم الأوروبية، على الرغم من تراجع ثقتهم بدورهم القيادي منذ انضمام ١٢ دولة لعضوية الاتحاد عامَي ٢٠٠٥ و٢٠٠٧.
لكن المشاركة في هذه المؤسسات الأوروبية على قدم المساواة أعطت أيضًا الألمان إطارًا يُقيمون فيه علاقات سليمة وبنَّاءة مع العدد المتزايد من الدول الأعضاء الأخرى، ويتمُّون فيه أيضًا اتحادهم عام ١٩٩٠ بسلاسة. ففي أعقاب سنوات الحكم النازي الاثنتي عشرة التي انتهت بالدمار سنة ١٩٤٥، أتاحت الجماعة للألمان سبيلًا كي يستعيدوا احترامهم كشعب من جديد. كانت فكرة قيام جماعة مؤلفة من أنداد تضم مؤسسات قوية لها جاذبيتها. وكان شومان قد أعلن أيضًا أن الجماعة الجديدة ستكون «أول أساس صلب لاتحاد فيدرالي أوروبي لا بد منه للحفاظ على السلام.» لكن في حين ظلَّ الالتزام الفرنسي بتطوير الجماعة في اتجاه فيدرالي يشهد مدًّا وجزرًا، ساندت الطبقة السياسية الألمانية — وقد استوعبت مفهوم الديمقراطية الفيدرالية تمامًا — مثل هذا التطور بإيمان لم يتزعزع. والحقيقة أن تعديلًا أُدخل سنة ١٩٩٢ على القانون الأساسي لألمانيا الموحَّدة، ونص على مشاركتها في الاتحاد الأوروبي، التزم بالمبادئ الفيدرالية.
رأت الدول المؤسِّسة الأربعة الأخرى (بلجيكا وإيطاليا ولوكسمبورج وهولندا) أيضًا الجماعة الجديدة كوسيلة لضمان السلام عن طريق دمج ألمانيا داخل مؤسسات أوروبية قوية، كما رأت هذه الدول بوجه عام — مثلها في ذلك مثل الألمان — الجماعة كمرحلة من مراحل إنشاء كيان فيدرالي، وظلت تراه هكذا عمومًا.
وعلى الرغم من أن الحرب العالمية الثانية بدأت تتوارى في طيات الماضي البعيد، يظل دافع تحقيق السلام والأمن داخل كيان ديمقراطي — وهو الدافع الذي كان محوريًّا في تأسيس الجماعة — مؤثرًا قويًّا على الحكومات والساسة في كثير من الدول الأعضاء. ويُنظر إلى النظام الذي ظل يوفر إطارًا للسلام على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان كضمان للاستقرار المستقبلي. وكان أحد الأمثلة على ذلك قرار تعزيزه بطرح العملة الموحَّدة، التي تُرى كوسيلة لتعزيز الارتباط بألمانيا، التي كان من المنتظر أن تصير أقوى بعد توحيدها. وكان انضمام عشر دول من أوروبا الوسطى والشرقية بحثًا عن ملاذ آمن بعد الحرب العالمية الثانية ومرور نصف قرن من الهيمنة السوفييتية، مثالًا آخر. وقد شهدنا ضغطًا متواصلًا لتوطيد دعائم مؤسسات الاتحاد بغية الحفاظ على الاستقرار في ظل ازدياد عدد الدول الأعضاء، بفضل التوسع شرقًا، إلى ثلاثين دولة أو أكثر، من ضمنها العديد من الديمقراطيات الجديدة.
لم يكن لدى البريطانيين، الذين لم يمروا بتجربة الهزيمة والاحتلال، ذلك الدافع الأساسي نحو تقاسم السيادة مع الشعوب الأوروبية الأخرى، وكانوا يرون أن الاعتماد على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي كافٍ. ومن هنا جاء التركيز على الجوانب الاقتصادية للتكامل الذي شاع بين الساسة البريطانيين وقيَّد قدرتهم على لعب دور مؤثر وبنَّاء في بعضٍ من أهم التطورات، غير أن قدرة الاتحاد الأوروبي على المساهمة في تحويل العالم إلى مكان أكثر أمانًا في ميادين كتغيُّر المناخ وحفظ السلام، وكذلك بسياساته الاقتصادية الخارجية وسياساته في مجال المعونات بوجه أعم، يمكنها — كما سنبين لاحقًا في هذا الكتاب — إعطاء مبرر لتغيير هذا الموقف البريطاني الأساسي.
(٢) القوة والازدهار الاقتصاديان
على الرغم من أن السلام الدائم كان دافعًا سياسيًّا أصيلًا وراء تأسيس الجماعة الجديدة، فإنها ما كانت لتنجح دون أداء معتبر في الميدان الاقتصادي الذي استَقَتْ صلاحياتها منه، وقد وفَّت الجماعة — بحقٍّ — بالغرضين الاقتصادي والسياسي. كانت الحدود بين فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبورج، التي تقوم بين مصانع الصلب، والمناجم التي تمدها بالفحم، تعوق الإنتاج الرشيد. وقد حققت إزالة هذه الحواجز وما صاحبها من حوكمة مشتركة للسوق المشتركة الناتجة عن ذلك؛ نجاحًا من المنظور الاقتصادي. شجَّع ذلك، إضافة إلى الشواهد على وجود مصالحة سلمية جارٍ تحقيقها بين الدول الأعضاء، هذه الدول على رؤية الجماعة الأوروبية للفحم والصلب خطوة أولى — كما أشار شومان — في عملية توحيد سياسي واقتصادي. وبعد محاولة فاشلة لخطو خطوة ثانية (عندما لم تصدِّق الجمعية الوطنية الفرنسية على معاهدة لإقامة جماعة دفاع أوروبية عام ١٩٥٤)، استأنفت الدول المؤسِّسة الست مسار التكامل الاقتصادي من جديد، ثم امتد مفهوم السوق المشتركة ليشمل كل تجارتها المتبادلة في السلع بتأسيس «الجماعة الاقتصادية الأوروبية» عام ١٩٥٨؛ مما فتح الطريق أمام اقتصاد متكامل استجاب لمنطق الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدول الأعضاء.
كما تمكنت الجماعة الاقتصادية الأوروبية، بفضل الإصرار الفرنسي على إحاطة السوق المشتركة بتعريفة خارجية موحدة، من الدخول في مفاوضات تجارية على قدم المساواة مع الولايات المتحدة؛ مما أثبت قدرة الجماعة على أن تصبح طرفًا فاعلًا رئيسًا في النظام الدولي عندما تكون لديها أداة مشتركة تنفذ بها سياسة خارجية. كانت تلك خطوة أولى نحو تلبية دافع آخر لإنشاء الجماعة؛ ألا وهو استعادة النفوذ الأوروبي في العالم ككلٍّ. وهو النفوذ الذي كان قد تلاشى نتيجة الحربين العالميتين اللتين شهدتا تناحر دول أوروبية، والذي أصبح يمكن تعزيزه بفضل قدرة الاتحاد على المساهمة في الأمان والازدهار العالميين اللذين نحن في أمسِّ الحاجة إليهما.
بالنظر إلى إخفاق بريطانيا في فهم قوة مسوغات مثل هذا الإصلاح الجذري، كان ونستون تشرشل حالة استثنائية؛ إذ قال في كلمة له في زيورخ بعد نهاية الحرب بأقل من عام ونصف: «علينا الآن أن نبني كيانًا أشبه بالولايات المتحدة الأوروبية … يجب أن تكون الخطوة الأولى شراكة بين فرنسا وألمانيا … يجب أن تأخذ فرنسا وألمانيا معًا بزمام المبادرة.» لكن لم يكن إلا قليل من البريطانيين يفهمون تمام الفهم مسوغات إقامة جماعة جديدة، وتشرشل نفسه لم يكن يرى ضرورة أن تكون بريطانيا — التي كانت آنذاك على رأس إمبراطوريتها، وتجمعها علاقة خاصة أقيمت حديثًا مع الولايات المتحدة — عضوًا في هذه الجماعة. غير أن كثيرين لم يشاءوا انتقاص مزاياهم في أسواق أوروبا القارية وحرمانهم من المشاركة في اتخاذ القرارات المهمة المتعلقة بالسياسات؛ لذا فبعد الإخفاق في إقامة منطقة للتجارة الحرة تضم الجماعة الاقتصادية الأوروبية إضافة إلى بلدان أوروبية غربية أخرى، سعت الحكومات البريطانية المتتالية إلى الانضمام إلى الجماعة، ونجحت أخيرًا عام ١٩٧٣. لكن فيما لعب البريطانيون دورًا قياديًّا في تطوير السوق المشتركة إلى سوق موحَّدة أتم، ظلوا يفتقرون إلى الدوافع السياسية التي دفعت الدول المؤسسة وبعض الدول الأخرى إلى المضي قُدمًا نحو صور أخرى من التكامل الأعمق.
من المهم أن نفهم دوافع الدول المؤسسة والبريطانيين التي ما زالت — فيما تواصل تطورها — تؤثر على المواقف تجاه الاتحاد الأوروبي. هذه الدوافع تشترك فيها، بنسب متفاوتة، الدول الأخرى التي انضمت على مر السنين، وهي تشكِّل أساس معظم الدراما التي تكشَّفت فصولها منذ خمسينيات القرن المنصرم لخلق الاتحاد الذي هو موضوع هذا الكتاب.
(٣) نظريات وتفسيرات
هناك طريقتان رئيستان لتفسير ظاهرة الجماعة والاتحاد، يؤكد أنصار الطريقة الأولى على دور الدول الأعضاء وتعاملاتها الحكومية الدولية، أما أنصار الأخرى فيعطون ثقلًا أكبر للمؤسسات الأوروبية.
يرى معظم الفريق الأول — الذي ينتمي إلى المدارس الفكرية «الواقعية» أو «الواقعية الجديدة» — أن الجماعة والاتحاد لم يُحْدثا أي تغيير جذري في العلاقات بين الدول الأعضاء التي تواصل حكوماتها البحث عن مصالحها الوطنية، والسعي إلى تعظيم قوتها داخل الاتحاد الأوروبي وغيره على حدٍّ سواء. وثمة صورة أحدث من هذا، وتسمى الحكومية الدولية الليبرالية، تعتمد على تفاعل القوى في سياستها المحلية لتفسير سلوك الحكومات في الاتحاد. وسنستخدم التعبير «حكومي دولي» — نظرًا لعدم وجود كلمة أدق — فيما يلي للإشارة إلى هذا الضرب من تفسيرات كيفية عمل الجماعة والاتحاد.
ينبغي ألا يبخس المرء قدر الدور الذي تحتفظ به الحكومات في شئون الاتحاد، باعتبار وضعها كمُوقِّعة على معاهدات الاتحاد، وما تملكه من صلاحية اتخاذ القرارات في المجلس الذي يمثل الدول الأعضاء، واحتكارها القوة المسلحة «كملاذ أخير»، لكن هناك نُهجًا أخرى — من ضمنها النهجان المعروفان بالوظيفية الجديدة والفيدرالية — تمنح المؤسسات الأوروبية ثقلًا أكبر مما يمنحها إياها النهج الحكومي الدولي.
رأى أنصار الوظيفية الجديدة الجماعة وهي تتطور، بفضل عملية «انتشار» من الجماعة الأوروبية للفحم والصلب الأصلية التي كان نطاقها مقتصرًا على قطاعين صناعيين فقط. وسوف تشعر جماعات أصحاب المصالح والأحزاب السياسية التي اجتذبها نجاح الجماعة في التعامل مع مشكلات هذين القطاعين بالإحباط؛ لعجزها عن التعامل مع المشكلات ذات الصلة في ميادين أخرى، وسوف تضغط بنجاح، بقيادة المفوضية الأوروبية، من أجل توسيع اختصاص الجماعة حتى توفر في نهاية المطاف صورة من الحوكمة الأوروبية لنطاق واسع من شئون الدول الأعضاء. ويعطينا هذا تفسيرًا جزئيًّا — على الأقل — لبعض الخطوات التي خطتها الجماعة في تطورها، بما في ذلك الانتقال من السوق الموحدة إلى العملة الموحدة.
هناك منظور فيدرالي يمضي — مع تأكيده في الوقت نفسه على أهمية المؤسسات المشتركة — إلى ما هو أبعد من الوظيفية الجديدة في اتجاهين رئيسين؛ أولًا: يعزو هذا المنظور نقل الصلاحيات إلى الاتحاد الأوروبي إلى عجز الحكومات المتنامي عن التعامل بفاعلية مع مشكلات صارت عَبْرَ وطنية؛ ومن ثَمَّ تتجاوز نطاق الدول القائمة، أكثر مما يعزوه إلى نقل صلاحيات سلطة قائمة إلى سلطة جديدة. يتعلق معظم هذه المشكلات بالاقتصاد والبيئة والأمن، وينبغي أن تحتفظ الدول بالسيطرة على الأمور التي لا يزال بإمكانها التعامل معها بشكل مناسب. ثانيًا: على الرغم من أن أنصار الوظيفية الجديدة لم يكونوا واضحين بشأن المبادئ التي ستشكِّل المؤسسات الأوروبية؛ فإن هناك منظورًا فيدراليًّا يستند إلى مبادئ الديمقراطية الليبرالية، وبالتحديد سيادة القانون استنادًا إلى الحقوق الأساسية والحكم النيابي، بحيث يتولَّى سنَّ القوانين ومُراقبة السلطة التنفيذية نوابُ المواطنين المنتخبون. ووفقًا لهذا الرأي، ينبغي أن تتولى مؤسساتُ الحكومةِ الصلاحيات التي تُمارس بالاجتماع؛ لأن الطريقة الحكومية الدولية لا هي ذات فاعلية، ولا هي ديمقراطية بما يكفي لتلبية حاجات مواطني الدول الديمقراطية. إذن فإما أن يجري تعزيز العناصر الفيدرالية في المؤسسات حتى يصبح الاتحاد كيانًا ديمقراطيًّا ذا فاعلية، استنادًا إلى مبدأَيْ سيادة القانون والحكم النيابي، وإلا لن ينجح الاتحاد في استقطاب دعم كافٍ من المواطنين لتمكينه من الازدهار، وربما مجرد البقاء. لم يُنشأ الاتحاد للحلول محل الدول الأعضاء، بل لتحويلها إلى أجزاء متتامة من مشروع تعاوني؛ حيث تكتسب هويات المواطنين مستوًى جديدًا يتفاعل مع مستويات هوياتهم القائمة.
وسنحاول في الفصول اللاحقة بيان إلى أي مدًى عكس تطور الجماعة والاتحاد هاتين الرؤيتين المختلفتين. وينبغي أن ينتبه القارئ في هذه الأثناء إلى أن المؤلفَيْن يريان أن ضرورة وجود حكومة ذات فاعلية وديمقراطية دفعت الجماعة الأوروبية والاتحاد الأوروبي، على خطوات ومراحل، إلى قطع شوط بعيد في اتجاه الفيدرالية، وينبغي أن تستمر في ذلك، وإن كان هذا ليس مؤكدًا على الإطلاق.