الكثير من الإنجازات … لكن ماذا بعد؟
قطع الاتحاد شوطًا بعيدًا منذ انطلقت عملية إقامته بإعلان شومان عام ١٩٥٠؛ إذ صارت الحرب فعلًا أمرًا غير وارد بين الدول الأعضاء، التي تشمل الآن معظم البلدان الأوروبية. وقد بيَّنَّا في الفصول السابقة كيف استُحدثت المؤسسات والصلاحيات والسياسات للتعامل مع مسائل خارج متناول حكومات الدول منفردة، كما بيَّنَّا أيضًا حاجة الاتحاد إلى مزيد من الإصلاح إذا أراد أن يرتقي بمصالح شعبه كما ينبغي في عالم متزايد التعقيد. والآن يمكننا أن نحاول إيجاز ما أُنجز، وطرح بعض الخواطر بشأن المستقبل.
هل تتواءم الصلاحيات والأدوات مع الأهداف؟
تمكَّن الاتحاد من تحقيق أهدافه في الميادين التي يملك فيها الصلاحيات والأدوات، فضلًا عن المؤسسات التي يتصرف بواسطتها. هذه الصلاحيات والأدوات يمكن أن تكون تشريعية، كإطار السوق الموحدة، أو مالية عامة كما هو الحال مع الميزانية أو التعريفة الخارجية المشتركة، أو مالية متخصصة كما هو الحال مع برامج المعونات والبنك الأوروبي للاستثمار، والأهم من هذا كله العملة المُوحَّدة. والتعاون استنادًا إلى صلاحيات وأدوات الدول الأعضاء يمكن أن يكون مفيدًا، لكنه لن يحقق الكثير دون النواة المتمثلة في الصلاحيات والأدوات المشتركة.
تُوفِّر تشريعات السوق الموحدة إطارًا للقوة الاقتصادية والازدهار، حتى وإن ظلت منقوصة في بعض القطاعات الهامة، وبحاجة إلى المزيد من التطوير لتلبي بشكل كافٍ حاجات الاقتصاد الجديد بما في ذلك التجارة الإلكترونية وتكنولوجيا المعلومات. وفيما يخص الدول الأعضاء التي اعتمدت اليورو، تتمم العملة الموحدة السوق الموحدة في الميدان النقدي.
حوَّلت الميزانية موارد إلى قطاعات تُرى بحاجة إلى دعم، حيث ابتُدئ بالزراعة ثم تلتها — وبشكل متزايد — المناطق والدول الأعضاء الأقل نموًّا. وفي حين تمخضت الميزانية الزراعية عن صراع، نالت الصناديقُ البنيوية لمساعدة تنمية المناطق الفقيرة الاستحسانَ بوجه عام. ويعزز التوسع إلى أوروبا الوسطى والشرقية مسوغات إنشاء صناديق أكبر.
إذن فالاتحاد يملك كثيرًا من الصلاحيات الضرورية في الميدان الاقتصادي، ويمكن قول الشيء ذاته عن البيئة، والحاجة الأشد إلحاحًا في هذا الميدان هي تقوية كلٍّ من العمل الداخلي والخارجي للحد من الضرر الناجم عن تغيُّر المناخ.
أما السياسة الاجتماعية كما تتجسد في دولة الرفاه، فهي بالدرجة الأولى شأن الدول الأعضاء إعمالًا لمبدأ الولاية الاحتياطية، الذي يبرر انخراط الاتحاد في بعض جوانب السياسة الاجتماعية المتصلة بالتوظيف، كمنع الإغراق الاجتماعي بخفض معايير الصحة والسلامة في العمل. وهناك منطقة رمادية، تشمل عناصر الضمان الاجتماعي وساعات العمل، تشهد نزاعًا بين من يريدون إرساء معايير تطبَّق في عموم الاتحاد، ومن يرون ضرورة مراعاة الاختلافات المتجذرة في الثقافات الاجتماعية المتباينة. وتظل أوجه الاختلاف قائمة، لكن وجهة النظر الأخيرة تغلبت.
في حين عززت جماعاتُ المصالح والفيدراليون الأهدافَ والصلاحيات الاقتصادية والبيئية، كما عززت حرية حركة وتنقل العمال عبر الحدود الداخلية؛ فإن الفكرة الفيدرالية هي التي كانت وراء منح حرية الحركة والتنقل للجميع داخل الاتحاد، والتي قبلها الجميع — مع بعض الاستثناءات الانتقالية — ما عدا الدنمارك وأيرلندا والمملكة المتحدة، لكن الجميع يشاركون في تدابير مكافحة الجريمة العابرة للحدود.
وفي مجال العلاقات الخارجية، صُمِّمت صلاحيات الاتحاد للدفاع عن مصالحه المشتركة وخدمتها، وتشمل هذه المصالح الاستقرار في النظام الاقتصادي والسياسي الدولي. وأقوى أدوات الاتحاد هي عرض الانضمام إليه؛ ومن ثَمَّ المشاركة في مؤسساته وصلاحياته ككلٍّ، لكن الانضمام غير متاح إلا للدول الأوروبية، وينبغي استخدام وسائل أخرى للنهوض بمصالح الاتحاد في سائر العالم.
مكَّنت الصلاحيات في مجال التجارة الخارجية، إضافة إلى أداة التعريفة الخارجية المشتركة، الاتحاد من خدمة مصالحه في التجارة الدولية الحرة، وتحويل ما كانت سطوة أمريكية في هذا المجال إلى شراكة أوروبية أمريكية. أما السياسة الزراعية المشتركة الحمائية، التي تعمل في الاتجاه المعاكس؛ فقد أفسدت العلاقات مع كثير من الشركاء التجاريين. وقد استغرقت الإصلاحات اللازمة لتصحيح هذا الاعوجاج أطول بكثير مما ينبغي، لكن يجري تنفيذها على مراحل. وساعدت توليفة من الترتيبات التفضيلية والمعونات على تقوية العلاقات مع معظم بُلدان العالم الثالث.
إضافة إلى هذا النفوذ في النظام التجاري العالمي، استخدم الاتحاد صلاحياته البيئية للعب الدور القيادي في المفاوضات الدولية لحماية طبقة الأوزون، والحد من الضرر الناجم عن تغير المناخ.
بطرح اليورو صار الاتحاد يملك أداة قوية يستخدمها في النظام النقدي الدولي، لكن ريثما يتعامل بنجاح مع حوكمته الداخلية والتحديات السياسية والاقتصادية الأساسية التي أثارتها أزمة منطقة اليورو، فمن غير المرجح أن تتحقق إمكانياته التي من شأنها تحويل السطوة الأمريكية إلى شراكة في هذا المجال أيضًا.
بالنسبة للدفاع، تظل الهيمنة العسكرية الأمريكية واقعًا لم يجرِ تصميم نهج الاتحاد الأوروبي التدريجي نحو التكامل العسكري لمجابهتها، وإن كان هذا النهج يحقق أغراضًا مفيدة بدرجة متزايدة. إن المجال المدني هو الذي يستطيع فيه الاتحاد الأوروبي أن يتمم القوة الأمريكية، بجوانب مدنية كحفظ السلام، والأهم من هذا بكثير من خلال مساهمته في استقرار أوروبا والعالم في المجالات الاقتصادية والبيئية والسياسية. فالاتحاد يحتل مكانة فريدة لتيسير الانتقال من السطوة الأمريكية العالمية إلى عالم متعدد الأقطاب يمكن أن تلعب فيه الشراكة الأوروأمريكية دورًا جوهريًّا. ولتحقيق هذا، يحتاج الاتحاد إلى صلاحيات جديدة، إضافة إلى مزيد من الإصلاح لمؤسساته؛ لتمكينه من استخدام صلاحياته بفاعلية كبيرة.
(١) المؤسسات: ما مدى فاعليتها؟ وما مدى ديمقراطيتها؟
يميل المتشككون بجدوى الاتحاد الأوروبي إلى اعتبار أن تحقيق «تكامل أوثق» شيء غير مرغوب دون تمييز بين نقل الصلاحيات إلى الاتحاد وإصلاح مؤسساته، لكن هاتين مسألتان شديدتا الاختلاف؛ فلا يكون نقل الصلاحيات مبرَّرًا إلا حيثما يستطيع الاتحاد خدمة مواطنيه بطرق لا تتسنى للدول الأعضاء منفردة، ويملك الاتحاد بالفعل كثيرًا من الصلاحيات التي تندرج تحت مبدأ الولاية الاحتياطية، إلا في ميدان الدفاع، لكن مجرد نقل الصلاحيات لن يخدم مصالح المواطنين الخدمة الكافية ما لم تستخدمها مؤسسات فاعلة وديمقراطية تابعة للاتحاد.
تتطلب المؤسسات السياسية سياقًا قوامه سيادة القانون، وهو ما تضمنه محكمة العدل في المسائل الواقعة ضمن اختصاص الاتحاد، وهو ما أحدث تغييرًا جوهريًّا في العلاقات بين الدول الأعضاء.
غير أن المجلس ليس فاعلًا بما يكفي في المواقف التي تغلب فيها قاعدة الإجماع، على نحو ما أثبتت عدم كفاية تشريعات السوق الموحدة قبل تطبيق التصويت بالأغلبية المشروطة. صار الأكثر فاعلية الآن تطبيق التصويت بالأغلبية المشروطة على أكثرية القوانين التشريعية، إضافة إلى الميزانية بأكملها، على أن يظل إجماع الآراء والتعاون المعزَّز إجراءين عمليين في المواقف التي يعتمد فيها الاتحاد على استخدام أدوات الدول الأعضاء، كما في مجال الدفاع. لكن إزاء النمو في عدد الدول الأعضاء هناك بالتأكيد شكوك متزايدة حيال قدرة الاتحاد على التصرف في المواقف التي يُطبَّق فيها إجماع الآراء، كما في حالة معاهدات الانتساب والانضمام والترشيح لبعض المناصب الكبرى في المؤسسات والاتفاقيات الدولية بشأن ترتيبات سعر الصرف.
تملك المفوضية صلاحيات كبيرة للقيام بوظائفها بصفتها سلطة الاتحاد التنفيذية، على الرغم من أن دورها في ضمان تنفيذ الدول الأعضاء أعمال الإدارة الموكلة إليها من قبل الاتحاد تنفيذًا فعليًّا ليس دورًا قويًّا بما يكفي، وأن التدخُّل الزائد من جانب المجلس وشبكة لجانه في تنفيذ قرارات الاتحاد يعوق فاعلية المفوضية. كما أن الثقافة الإدارية للمفوضية ذاتها صارت هي أيضًا نقطة ضعف خطيرة، لكن الإصلاحات التي أُدخلت بعد أن ضمن البرلمان الأوروبي استقالة المفوضية في مارس ١٩٩٩ حققت تحسُّنًا كبيرًا.
أظهر الدور الذي لعبه البرلمان آنذاك في ضمان استقالة المفوضية كيف يمكن أن تُساهم الرقابة الديمقراطية في الفاعلية. لكن صلاحيات البرلمان ما زالت مقيدة بالمعاهدات؛ ففي حين حوَّلت معاهدة لشبونة القرار المشترك إلى «الإجراء التشريعي العادي» (حرفيًّا)، مما يعكس سريانه العام، ما زالت هناك «الإجراءات التشريعية الخاصة» متنوعة. وما دام الحال هكذا، فإن الاتحاد بهذا يهمل وسيلة جوهرية للحصول على دعم المواطنين، الذين لا يزالون يفتقرون إلى صلة ذات معنى تربطهم بالاتحاد حتى مع تعزيز حقوقهم بموجب معاهدة لشبونة، ولن يكون من الحكمة تجاهل السجل الحافل الذي تملكه الديمقراطية النيابية كعنصر مهم في المواطنة. وما دام المواطنون لا يرون البرلمان ندًّا للمجلس، فلا يرجح أن ينظروا إليه كقناة تمثيل على درجة كافية من الأهمية. والمجلس، بتمثيله الدول، جزء جوهري من سلطة الاتحاد التشريعية أيضًا، لكن على الرغم مما أُحرز من تقدُّم بعقده جلساته التشريعية علانية، يظل في صميم نظامٍ عديم الشفافية قوامه التفاوض شبه الدبلوماسي. ومن الجائز تمامًا أن يكون تمثيل مواطني الاتحاد في مجلس مواطنين قوي شرطًا لمساندتهم الاتحاد على الأمد الأبعد.
يُثبت نجاح بند المساواة بين الجنسين في العمل كيف يمكن لحقوق المواطنين أيضًا كسب المساندة للاتحاد. ويشير تضمين «ميثاق الحقوق الأساسية» وانضمام الاتحاد الوشيك إلى الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية إلى بعض الإيجابيات، لكن فاعلية الاتحاد عمومًا في فعل أشياء ضرورية للمواطنين ستكون هي الأهم من كل ما سواها بالنسبة لهم، فيجب أن يروا الاتحاد يفعل مثل هذه الأشياء في وقت يواجه فيه تحديات كبيرة، على الصعيد الداخلي، وفي العالم بوجه عام.
(٢) المرونة مقابل الفيدرالية
يستخدم البريطانيون في جُل حديثهم عن أوروبا كلمة «المرونة» باستحسان للدلالة على تجنُّب التنظيم المفرط في الاقتصاد، ومن الناحية السياسية للدلالة على النفور من المقترحات — فيما عدا إتمام السوق الموحدة — الخاصة بالأدوات المشتركة والالتزامات الملزمة قانونًا على النحو الذي ميَّز ركيزة الجماعة الأوروبية.
نجحت المرونة بالمعنى الاقتصادي في تطوير اقتصاد معاصر سريع التغير، وهو ما لاقى اعترافًا متزايدًا في الاتحاد، لكن المرونة بالمعنى السياسي ليست ملائمة للأمور التي لا تستطيع الدول منفردة التعامل معها بفاعلية. وقد أبانت التحديات الحديثة التي واجهت بعض مبادئ الاتحاد الأساسية، بما في ذلك حرية الحركة والتنقل وعدم التمييز على أساس الجنسية، الحاجة إلى العمل الجماعي. وهذا أفضل لحماية حقوق الأعضاء كافة.
ثمة تحدٍّ خطير على المدى الأطول هو أيضًا ضمان أن تكون مؤسسات الأعمال الأوروبية من المؤسسات الرائدة في التطور التكنولوجي. ويتطلب هذا، في بعض القطاعات كالطائرات والأقمار الصناعية، استثمارات كبيرة وطويلة الأمد من الأموال العامة، وهو طرح متزايد الصعوبة في المناخ الاقتصادي الحالي. وهناك حاجة إلى جهد أوروبي مشترك لمساندة مثل هذه المشروعات، التي هي أكبر من أن تتحملها حكومات أوروبية منفردة، وما دام بعض الدول الأعضاء غير مهيأ للمشاركة، يمكن أن يكون هناك تعاون معزَّز منظم بين الدول المهيأة لها.
أظهرت أزمة منطقة اليورو بوضوح شديد مدى عمق التشابك بين الاقتصادات الوطنية واعتماد بعضها على بعض؛ ومن ثَمَّ فإن قدرة منطقة اليورو على إيجاد حلول دائمة لا تصب في مصلحة أعضائها فحسب، بل تصب أيضًا في مصلحة كل الدول الأخرى أعضاء الاتحاد الأوروبي، وأبعد من ذلك. إن واحدةً من أصعب الرسائل التي ينبغي نشرها في المملكة المتحدة تقول بالضبط إنه ليس ممكنًا ولا مستحبًّا أن نقف على هامش الأحداث ونهيب بالآخرين كي يفعلوا شيئًا. وهذا بلا شك صحيح في الأمور الاقتصادية، على الرغم من أنه يطرح تعقيدات كثيرة من منظور سياسي وقانوني على السواء. وكما أظهرت مفاوضات الاتفاق المالي، فإنه حتى لو كانت هناك دولة ما غير موقِّعة، تظل هناك حاجة إلى إشراكها بصورة أو بأخرى. وبوجه أعم، أظهر الاتفاق أن بعض الدول الأعضاء سيكون لديه الرغبة أحيانًا في التحرك أسبق من الدول الأخرى.
يرجع النقاش الدائر في المملكة المتحدة بشأن الانسحاب من الاتحاد، إلى حد كبير، إلى افتقار إلى المعرفة والفهم بشأن عمل الاتحاد الأوروبي وطبيعة التشابك العالمي. وحتى إذا رحلت المملكة المتحدة فعلًا عن الاتحاد، ستظل تجد نفسها مجاورة اتحادًا يشتري سلعًا وخدمات بريطانية، لكن لم يعد للحكومة البريطانية صوت مؤسسي (ولا صوت انتخابي) فيه. علاوة على ذلك، سوف يَضعُف أيضًا وضع المملكة المتحدة الحالي كنقطة دخول إلى الاتحاد الأوروبي تفضلها الشركات التي تنتمي إلى بلد من خارج الاتحاد الأوروبي. وإذا كان الحال هكذا، فسوف يتيح الانخراط البناء فرصة أكبر بكثير لمزيج مقبول من السياسات مما لو نفضنا أيدينا وانسحبنا.
نبع جزء كبير من التباعد بين نهج البريطانيين ونهج معظم الدول الأعضاء الأخرى من اختلاف التجارب في الحرب العالمية الثانية، التي كانت أشد هولًا بالنسبة لمعظم أمم أوروبا القارية منها بالنسبة لبريطانيا؛ لذا فبينما كان لمعظم التقدُّم المحرز في بناء الاتحاد دوافع اقتصادية، شكلت أساسَ التحولات الكبرى نحو تقاسم السيادة — كالجماعة الأوروبية للفحم والصلب ومعاهدتَي روما وماستريخت — رغبةٌ راسخة في تأصيل السلام والأمن. وقد قَبِل البريطانيون مزايا التكامل الاقتصادي، لكنهم عارضوا تقاسم السيادة مكتفين بقبول ما كانت تقتضيه المشاركة في السوق الكبيرة أو يقتضيه تجنُّب فقدان أكثر مما ينبغي من النفوذ السياسي.
لكن الحكومات وأعدادًا كبيرة من المواطنين في عموم الاتحاد، بمن فيهم البريطانيون، على وعي بمصادر الأمن الكثيرة والمتنوعة في العالم، ويشتركون في الرغبة في السير في اتجاه عالم أكثر أمنًا، بناءً على نظام متعدد الأطراف أشد فاعلية؛ لذا فربما يتمكنون أيضًا من قبول عواقب مثل هذا التقاسم للسيادة بقدر ما يكون ضروريًّا لتعزيز قدرة الاتحاد على العمل صوب تحقيق تلك الغاية تعزيزًا كافيًا. إن قدرات الاتحاد العسكرية على حفظ السلام في تنامٍ، وعلى الرغم من استبعاد صيرورته قوة عسكرية عظيمة، فبإمكانه أن يصبح أهم صانع سلام في العالم عبر مجموعة رائعة من القوى الناعمة. وهو يستطيع تعزيز مساهمته في الازدهار والاستقرار في الاقتصاد العالمي في مجالات التجارة والمعونات والسياسة النقدية الخارجية، ويستطيع المساعدة — كما أثبت في غرب البلقان وأماكن أخرى — في بناء دول ديمقراطية قابلة للبقاء وفي استدامتها، وقد قاد العالم في العمل على مكافحة التغيُّر المدمر في المناخ. علاوة على ذلك يمكنه، باعتباره قوة مدنية عظيمة جدًّا، فعل الكثير لتسهيل الانتقال إلى عالم ستنضم فيه الصين ثم الهند إلى الولايات المتحدة بوصفها قوى عظمى جدًّا من المنظور العسكري أيضًا، ويمكنه مساعدة هذه الدول وغيرها على زيادة فاعلية الأمم المتحدة.
هناك توافق واسع في الآراء بين دول أعضاء، أبرزها المملكة المتحدة، على صحة مثل هذه الأهداف، لكن لم يجرِ اتفاق على كيفية استعمال ثقل الاتحاد الكامل في تحقيقها. وهناك صعوبة كبيرة تتمثل في امتناع كثيرين — مرة أخرى أبرزهم البريطانيون — عن قبول تخصيص موارد للاتحاد وتقوية مؤسساته على نحوٍ مِن شأنه منحه درجة كافية من الفاعلية، وهذا يعني ضمنًا قبول مجموعة كافية من الالتزامات الملزمة قانونًا والأدوات المشتركة، مع إصلاح مؤسسات الاتحاد كي يكون فاعلًا وديمقراطيًّا كما ينبغي. تعد كلمة «فيدرالية» اختصارًا ملائمًا ودقيقًا للكلمات التالية لعبارة «مجموعة كافية من» في الجملة السابقة، سواء أفضت هذه الالتزامات والأدوات والمؤسسات، بعد إصلاحها، إلى اتحاد فيدرالي أم لا في نهاية المطاف. هذه الكلمة أقل أهمية مما تمثله، غير أن استخدامها — إذا عُرِّف كما ينبغي — يوضِّح الفكرة، وييسر التواصل مع مَن يستخدمونها. فالوردة، بأي اسم آخر، تظل زكية الرائحة، لكن الأفضل أن نطلق على الوردة اسمًا يتألف من كلمة واحدة لا سبع عشرة.
يستشعر البريطانيون — حالهم كحال غيرهم من الأوروبيين — تعرضهم لمصادر التهديد المتزايدة في العالم المعاصر؛ لذا ينبغي أن تتمكن بريطانيا من لعب دور بنَّاء تمامًا في مساندة إصلاح صلاحيات الاتحاد ومؤسساته الحالية التي من شأنها أن تمكنه من تحقيق إمكانياته الهائلة بغية خلق عالم أكثر أمانًا وازدهارًا.