كيف يُحكَم الاتحاد الأوروبي؟
يملك الاتحاد الأوروبي صلاحيات اقتصادية وبيئية كبيرة، ويبدي نشاطًا متزايدًا في السياسة الخارجية والدفاع والأمن الداخلي، فكيف تُستخدَم هذه السلطة وتُراقَب؟ وكيف يُحكَم الاتحاد؟
الإجابة — وفقًا لكثيرين من أنصار الحكومية الدولية — أن ذلك يتم من خلال التعاون بين حكومات الدول الأعضاء؛ فالمؤسسات الأخرى ثانوية بالنسبة للمجلس الذي يضم ممثلي الحكومات، وهذا الواقع سيستمر. لكن في حين لا يزال المجلس هو المؤسسة الأقوى نفوذًا، ينظر أنصار الفيدرالية إلى البرلمان والمفوضية ومحكمة العدل ليس كمحض هيئات مستقلة استقلالًا كافيًا عن الدول على نحو جعلها تغيِّر طبيعة العلاقات بينها، بل أيضًا كأطراف فاعلة رئيسة في عملية يمكنها — بل وينبغي لها — أن تسفر عن تحوُّل الاتحاد إلى كيان سياسي فيدرالي.
(١) المجلس الأوروبي والمجلس
يتألَّف المجلس من وزراء يمثلون الدول الأعضاء، وعلى أرفع مستوًى يوجد «المجلس الأوروبي لرؤساء الدول أو الحكومات»، إضافة إلى رئيس المجلس الأوروبي ورئيس المفوضية الأوروبية. وقد اشتُمل رؤساء الدول في اسم المجلس؛ لأن العديد من رؤساء الدول يشاركون بجانب رؤساء وزراء بلادهم؛ لأنهم منوطة بهم بعض الصلاحيات المنوطة برؤساء الحكومات في بلدان أخرى.
يجتمع المجلس الأوروبي ثلاث أو أربع مرات كل عام، ويتخذ القرارات التي تتطلَّب حسمًا أو زخمًا على هذا المستوى السياسي: إما لعدم قدرة الوزراء على حل قضية ما في المجلس، وإما في بعض الأحيان لضرورة التحضير لصفقة شاملة تضم موضوعات كثيرة؛ كمعاهدةِ تعديلٍ مهمة، أو منظورٍ ماليٍّ سَبعي. كما يتعين على المجلس الأوروبي «تحديد مبادئ توجيهية سياسية عامة». وتعد رئاسة المجلس الدورية وظيفة مهمة لإدارة الأعمال الحالية، ولإطلاق مشروعات جديدة.
ومنصب رئيس المجلس الأوروبي هو أقرب ما وصل إليه الاتحاد شبهًا بنظيرٍ قومي؛ حيث يمثل هذا الرئيس الاتحاد الأوروبي خارجيًّا، ويقرِّر محور تركيز عمل المجلس الأوروبي. وقد ركَّز أول شاغل لهذا المنصب، وهو رئيس الوزراء البلجيكي السابق هيرمان فان رومبوي، بالدرجة الأولى على الجانب الإداري للمنصب؛ حيث ساعد على تنسيق الاستجابة لأزمة منطقة اليورو، وأسس «أسلوب عمل» مع المؤسسات الأخرى وأبرزها المفوضية.
تقتصر الاجتماعات ذاتها على رئيسين (رئيسَي المجلس الأوروبي والمفوضية) ورؤساء الدول والحكومات الثمانية والعشرين، وعادةً الممثل السامي للاتحاد للشئون الخارجية. ويحيط بهؤلاء، خارج قاعة الاجتماعات، جيش من الإعلاميين الذين يقدمون نتائج الاجتماعات إلى مواطني مختلف البلدان بطرق متباينة تبايُنًا جذريًّا، في ظل سعي كل زعيم إلى إحداث أفضل انطباع ممكن لدى جمهوره.
تصدر «القرارات الرئاسية» عقب كل اجتماع، وتكون عادةً على هيئة وثيقة مطوَّلة تُرفق بها أحيانًا ملاحق ضخمة.
لا يباشر المجلس الأوروبي ذاته إلا قلَّةً من هذه القرارات، ولا يملك وقتًا لإجراء مناقشة شاملة لكل ما يُطرح عليه، ولا سيما عند التعامل مع الإحاطات الفنية، كما في أزمة منطقة اليورو. والمعتاد بدرجة أكبر أن تنبثق معظم التفاصيل ومعظم «المبادئ التوجيهية السياسية» عن مؤسسات الاتحاد من خلال عملها مع رئيس المجلس الأوروبي.
مجلس الاتحاد الأوروبي (أو «مجلس الوزراء» كما يُعرف عادةً) هيئة أكثر تعقيدًا، وتتوقف مسألة مَن مِن الوزراء يحضر اجتماعًا معينًا على الموضوع المطروح. ويجتمع هذا المجلس على نحو عشر هيئات، من ضمنها «المجلس الاقتصادي والمالي» «إيكوفين»، والمجلس الزراعي، ومجلس الشئون الخارجية (برئاسة الممثل السامي)، ومجلس الشئون العامة، الذي يتألف من وزراء الخارجية، ويُفترض أن يتولى تنسيق عمل المجالس الأخرى، لكنه — على أرض الواقع — يواجه صعوبة في السيطرة على مجالس الوزراء من وزارات الخارجية النافذة. ويترأس كل مجلس ممثل دولة من الدول التي تتناوب على منصب الرئيس الدوري كل ستة أشهر.
تحضر اجتماعات المجلس — خلافًا للمجلس الأوروبي — أعدادٌ كبيرة تضم مسئولين كُثُرًا، وكذلك وزراء أو ممثلين عنهم من كل دولةٍ عضوٍ، ويرافقهم المفوَّضون ذوو الصلة، إضافة إلى مسئولين من المفوضية ومسئولين من أمانة المجلس. وهذه الأمانة هي التي تكفل الاستمرارية من رئاسة إلى التي تليها، وقد صارت مؤسسة قوية نوعًا ما. وخلافًا للمجلس الأوروبي أيضًا، يتسم قدر كبير من عمل المجلس بالطابع التشريعي، وبعضه بالطابع التنفيذي.
بعد ضغط مطول، يعقد المجلس الآن جلساته التشريعية علانية، لكن أعماله ما زالت أشبه بمفاوضات في مؤتمر دبلوماسي منها بنقاش في هيئة تشريعية ديمقراطية عادية.
كان وجه الشبه بين أعمال المجلس والتفاوض الدولي أوضح ما يكون قبل منتصف الثمانينيات — مع تدشين برنامج السوق الموحدة — وهو الوقت الذي بدأ يحل فيه «التصويت بالأغلبية المشروطة» محل التصويت بالإجماع كإجراء متبع في القرارات التشريعية. وعلى الرغم من نصِّ المعاهدة على أن المشروعات التي تقترحها المفوضية هي وحدها التي تُسنُّ بوصفها قوانين، كان إجراء التصويت بالإجماع قد أعطى كل وزير حقًّا في النقض يضغط به على المفوضية كي تعدل مقترحها على النحو الذي يطلبه. وعلى الرغم من نصِّ المعاهدة على التصويت بالأغلبية المشروطة بشأن مجموعة متنوعة من الموضوعات؛ فإن حق النقض المشمول ضمنًا في «تسوية» لوكسمبورج وسَّع من نطاقه عمليًّا حتى كاد يشمل عملية التشريع بأكملها. كما تسعى «لجنة الممثلين الدائمين» للدول الأعضاء مقدمًا إلى إيجاد أرضية مشتركة في ردود أفعال الحكومات تجاه مقترحات المفوضية. ونظرًا لصعوبة التوصل إلى إجماع آراء؛ فإنه لولا تفاني كثير من هؤلاء المسئولين لمَا تمكَّن الاتحاد من أداء وظائفه إطلاقًا، لكن التدابير التي تحددها المفوضية بوصفها في الصالح العام، وتتمتع بمساندة أغلبية كبيرة، اختُزلت في أغلب الأحوال إلى «قاسم مشترك أدنى» يُتوصَّل إليه بعد طول تأخير.
ساهم هذا في عدم إحراز تقدُّم صوب السوق الموحدة حتى تغيَّرت إجراءات التصويت في أعقاب إقرار القانون الأوروبي الموحد؛ فحتى ذلك الحين كانت تدابير السوق الموحدة تُمرَّر بوتيرة تصل إلى نحو شهر. وهذا يكفي بالكاد لمواكبة التطورات في الاقتصاد، ناهيك عن إتمام البرنامج ككلٍّ في غضون ربع قرن من الزمان، لكن القانون الموحَّد وما نصَّ عليه من تصويت بالأغلبية المشروطة على معظم تشريعات السوق الموحدة ساعد على تسريع الوتيرة لتصل إلى نحو أسبوع؛ بحيث انتهى سنُّ القسم الأكبر من هذه القوانين بحلول ١٩٩٢.
شهد نظام التصويت بالأغلبية المشروطة العديد من الدورات. وتوجد في الوقت الحالي عقبة ثلاثية تتمثَّل في الحصول على أغلبية بنسبة ٦٧ في المائة من الدول، وأغلبية بنسبة ٦٢ في المائة من السكان، وأغلبية بنسبة ٧٤ في المائة من الأوزان التصويتية (أي ٢٦٠ صوتًا من أصل ٣٥٢ صوتًا، وذلك بالترجيح تقريبيًّا حسب الحجم). وُلد هذا النظام الصعب من رحم مساومات مطولة في مؤتمر نيس الحكومي الدولي، ودفعت تعقيداته اجتماع الاتفاقية ثم معاهدة لشبونة إلى التوصل إلى نموذج أبسط. وسيطبق هذا النموذج اعتبارًا من ٢٠١٤، ويتطلب ٥٥ في المائة من الدول، و٦٥ في المائة من السكان للوصول إلى العتبة. وهو يقي النظام المنازعات التي كانت تحدث من قبل على الأوزان التصويتية، مع حمايته كلًّا من الدول الكبيرة والصغيرة من التعرض للتهميش الهيكلي.
على الرغم من أن التصويت بالأغلبية المشروطة صُمِّم لضمان إمكانية تمرير القوانين التي تريدها أغلبية كبيرة، لا يزال المجلس يحاول أن يتجنب تجاهل أي أقلية، ولو كانت حكومة واحدة، في شيء تراه شديد الأهمية. ويعود هذا بدرجة ما إلى ضرورة معاملة الأقليات باعتناء في كيان سياسي متنوع. ولهذا القصد ميزتُهُ في الاتحاد الأوروبي؛ حيث يمكن لأي حكومة مستاءة أن تثأر لنفسها بعرقلة السير في مسائل أخرى مرهونة بالموافقة بالإجماع، كما أنه يُجسِّد بدرجة ما الثقافة الدبلوماسية التي تسود في المجلس، لكن على النقيض من «تسوية» لوكسمبورج، كثيرًا ما تُجرى تصويتات وتسير أعمال الاجتماعات في «ظل التصويت»، والنتيجة هي أن الوزراء يفضِّلون التوصل إلى حلول وسط بدلًا من المخاطرة بأن يُسفر التصويت عن محصلة أسوأ بالنسبة لهم من هذه الحلول الوسط. وغالبًا ما يقترح الرئيس — مرتئيًا أن مشكلة ما قد حُلَّت — أنه تم التوصل إلى توافق الآراء، وإذا لم تكن هناك ممانعة، يقبل المجلس النص دون تصويت رسمي.
باستخدام التصويت بالأغلبية المشروطة في تشريعات السوق الموحدة، بدأ فيتو لوكسمبورج يتلاشى إلى حد أن صار التصويت بالأغلبية المشروطة هو السياق لنطاق أوسع من القرارات، وقد امتد نطاقه بموجب المعاهدات المتتالية ليشمل جُلَّ مجالات التشريع. أما القلة الباقية التي يسري عليها التصويت بالإجماع، فتندرج تحت تشكيلة من العناوين التي ترتبط نمطيًّا بقضايا بنيوية؛ كعضوية الاتحاد، والتعاون المعزز، والمواطنة، أو بمجالات السياسات ذات الحساسية الخاصة. والأهم فيما يخص العمل اليومي للاتحاد هو الاحتفاظ بالتصويت بالإجماع في معظم شئون السياسة الخارجية، على نحو ما نناقش في الفصل الثامن. والبديهي أنه كلما ازداد عدد الدول ازدادت صعوبة التوصل إلى موافقة بالإجماع، وهكذا دائمًا ما كان هناك ضغط من أجل تضييق نطاق استخدام إجراء الموافقة بالإجماع، وهذا مصدر خلافٍ بين مَن هُم أكثر توجُّهًا نحو الفيدرالية ومن هم أقل توجُّهًا نحوها. كما يبرز جدال مماثل حول الدور التنفيذي للمجلس.
فخلافًا للهيئات التشريعية في معظم الديمقراطيات، يمارس المجلس صلاحيات تنفيذية كبيرة. وعلى الرغم من أن المفوضية — كما تصوَّر مونيه — هي الهيئة التنفيذية الرئيسة للاتحاد، تسمح المعاهدة للمجلس بأن «يفرض اشتراطات» بشأن الطريقة التي تنفذ بها المفوضية القوانين، أو حتى أن يضمن تنفيذ هذه القوانين بنفسه. كان هذا يحدث في ظل نظام معقَّد اسمه «منظومة اللجان»؛ حيث كانت هناك لجان فردية تضم مسئولي الدول الأعضاء تشرف على تنفيذ أقسام معينة من التشريعات. وفي حين أن شيئًا من الرقابة كان ممكنًا من قِبل المفوضية والبرلمان، فإن مدى العرقلة والتأخير أفضى إلى إحلال عملية جديدة هي «القوانين المفوَّضة»، التي تلغي هذه اللجان فيما يخص تشريعًا معينًا، محل هذا النظام جزئيًّا في معاهدة لشبونة، وإعادة تسمية بقية منظومة اللجان «القوانين التنفيذية». غير أن النظام الجديد يظل عديم الشفافية وبشدة؛ لا سيما لأن الأمر متروك لتقدير المشرعين كي يقرروا أي نظام يستخدمون. ويقينًا ستظل الشواغل القديمة بشأن شفافية هذا الجزء من العملية التشريعية قائمة لسنوات عديدة.
(٢) البرلمان الأوروبي
يُنتخب أعضاء البرلمان الأوروبي انتخابًا مباشرًا من قِبل المواطنين في عموم الاتحاد في يونيو كل خمس سنوات. ويتألف البرلمان من ٧٥١ عضوًا موزعين على الدول الأعضاء بنسب تحابي الدول الأصغر حجمًا، وإنْ كان بدرجة أقل مقارنة بترجيح الأصوات في المجلس؛ حيث تتراوح بين تسعة وتسعين عضوًا من ألمانيا، واثنين وسبعين عضوًا من كلٍّ من فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة، وخمسين من كلٍّ من بولندا وإسبانيا، ونزولًا حتى ستة أعضاء من كلٍّ من قبرص وإستونيا ولوكسمبورج ومالطة.
تختلف ثقافة البرلمان الأوروبي السياسية اختلافًا جذريًّا عن ثقافة المجلس؛ فاجتماعاته علنية، والتصويت بالأغلبية البسيطة هو النظام المتبع فيه، وعادة ما يصوِّت أعضاؤه حسب المجموعة الحزبية التي ينتمون إليها لا حسب الدولة. كان ثلاثة أرباع الأعضاء المنتخبين في يونيو ٢٠٠٩ ينتمون إلى المجموعات الحزبية السائدة، حيث كان ينتمي ٢٧١ عضوًا إلى مجموعة حزب الديمقراطيين المسيحيين وحزب الشعب الأوروبي المحافظ (يمين الوسط)، و١٨٩ عضوًا إلى مجموعة حزب الاشتراكيين الأوروبيين (يسار الوسط)، و٨٥ عضوًا إلى مجموعة الليبراليين والديمقراطيين والإصلاحيين الأوروبيين. أما البقية فكانوا موزعين بالتساوي على مجموعات أصغر حجمًا جهة اليسار — أهمها الخُضر — وجهة اليمين، مع مجموعة من المتشككين بجدوى الاتحاد الأوروبي من ذوي التوجهات الأيديولوجية المتنوعة.
على الرغم من عدم التوافق بعدُ على إجراءٍ انتخابي موحد، أو «مبادئ مشتركة بين الدول الأعضاء كافة»، كما تقول معاهدة أمستردام، بشكل أكثر تلطفًا، تطبِّق الدول كافة أنظمة التمثيل النسبي الآن، وقد ظل التوازن بين أحزاب الاتجاه السائد فيما عدا ذلك مستقرًّا بعض الشيء، دون أن يتمكَّن يمين الوسط ولا يسار الوسط من الحصول على أغلبية بمفرده. ومن ثم هناك حاجة إلى ائتلافات واسعة عبر الوسط لضمان الحصول على أغلبية عند التصويت على تشريع ما، أو على الميزانية، بل ويكون هذا ضروريًّا بشكل أشد عند تعديل تدابير أو رفضها في ظل إجراء القرار المشترك — وهو إجراء متزايد الأهمية — إذ يتطلب الأمر أغلبية مطلقة قوامها ٣٧٦ صوتًا. كما تميل منظومة اللجان المُحكمة، التي تحضر كلٌّ منها مواقف البرلمان، وتستجوب المفوضين بقسوة في أحد مجالات أنشطة الاتحاد، إلى تشجيع السلوك التوافقي، لكن مع ذلك حدث انقسام أشد حدة بين اليسار واليمين منذ انتخابات ١٩٩٩، عندما صار يمين الوسط أكبر هيكليًّا من يسار الوسط. وهو النمط الذي عزَّزه التوسع.
على الرغم من أن البرلمان حقَّق أداءً جيدًا بدرجة كافية في ممارسته صلاحياته — الكبيرة حاليًّا — على التشريع والميزانية، تراجعت معدلات إقبال الناخبين مع كل عملية انتخابية من ٦٣ في المائة عام ١٩٧٩ إلى ٤٣ في المائة عام ٢٠٠٩ لأسباب؛ منها: شيوع اتجاه عام في الدول الأعضاء من إقبالٍ متدنٍّ على الانتخابات، ومنها التراجع واسع النطاق في تأييد الاتحاد، لكن ثمة سببًا آخر ربما يكمن في تعرُّض البرلمان على وجه التحديد لتعليقات إعلامية ناقدة، بل ولتعليقات عدائية صريحة، بالأخص في بريطانيا، ركزت على أمور من قبيل الإخفاق المطول في إرساء نظام وافٍ للسيطرة على نفقات أعضائه (وهو إلى حد كبير خطأ أعضاء البرلمان أنفسهم، وإن كان الآن طور التصويب)، والبنايتين باهظتَي التكلفة الكائنتَيْن في بروكسل وستراسبورج اللتين يُتنقَّل بينهما (وهذا بالكلية خطأ الحكومات). زِدْ على ذلك أن المواطنين ربما لم يدركوا بعدُ إلى أيِّ مدًى ازدادت صلاحيات البرلمان على مر الزمن.
لقد تطور الدور التشريعي من محض التشاور في البداية، مرورًا بإجراء التعاون الذي أنشأه القانون الموحد، وانتهاءً بالقرار المشترك الذي استحدثته معاهدة ماستريخت، ووسَّعت معاهدة أمستردام من نطاقه حتى صار الآن يسري على الأغلبية العظمى من التشريعات، باسمه الجديد «الإجراء التشريعي العادي». علاوة على ذلك، تعطي معاهدة لشبونة البرلمان حقوقًا متساوية مع المجلس في الموافقة على الميزانية بأكملها، مما يسمح له بالرقابة على مجالات كالزراعة، التي كانت بمنأًى عنها قبل ذلك.
على الرغم من أن نصيب البرلمان من سلطة تقرير الميزانية عنصر جوهري من عناصر الرقابة الديمقراطية، كان لدوره في الإشراف على كيفية إنفاق الأموال أعظم الأثر؛ فإضافة إلى صلاحية البرلمان لتدقيق أنشطة المفوضية الإدارية والمالية، فإن له الحق في منح «إجازة»: أي إقرار تنفيذ المفوضية ميزانيةَ العام السابق أو رفضها؛ وذلك بناءً على تقرير من ديوان المحاسبة الأوروبي. وإذا لم يكن البرلمان مقتنعًا، فإنه يحبس هذه الإجازة حتى تتعهد المفوضية بفعل ما هو مطلوب. وهكذا؛ ففي ١٩٩٨، وبعد أن حبس البرلمان إجازته حسابات عام ١٩٩٦ ولم يقتنع برد المفوضية، عيَّن لجنة خبيرة رفيعة المستوى للتحري بمزيد من التفصيل. وقد أصدرت هذه اللجنة تقريرًا مدمرًا حول سوء الإدارة وبعض حالات الفساد، فاستقالت المفوضية في مارس ١٩٩٩ استباقًا لاستعمال البرلمان صلاحية إقالتها.
بعد أن برهن البرلمان على صلاحياته لتعيين المفوضية وإقالتها، فإنه في وضع جيد يؤهله لأن يوضح للناخبين قدرته على استخدام نفوذه مستقبلًا لضمان تعيين مرشح لرئاسة المفوضية يعكس نتائج الانتخابات الأوروبية. وهناك من قال إن البرلمان لو التزم بفعل ذلك؛ فمن شأنه زيادة اهتمام الناخبين بالانتخابات، ومن ثَمَّ تعزيز الديمقراطية النيابية في الاتحاد.
يتقاسم البرلمان السلطة بالتساوي مع المجلس فيما يخص غالبية التشريعات وكامل الميزانية، وقد أثبت أنه أقدر من المجلس على الرقابة على المفوضية؛ لذا يمكننا قول إن البرلمان قطع أكثر من نصف الشوط نحو ممارسة وظائف سنِّ التشريعات، والرقابة على السلطة التنفيذية التي يؤديها مجلس المواطنين في أي هيئة تشريعية فيدرالية. أما المجلس فهو أشبه بمجلس ولايات فيما عدا أن إجراء الموافقة بالإجماع ما زال يسري على بعض التشريعات، وأن جلساته التشريعية هي فقط التي تُعقد علانية، وأنه يحتفظ بصلاحيات تنفيذية لا تنسجم مع دوره التشريعي.
(٣) المفوضية الأوروبية
في حين أن المفوضية، بالوضع الذي هي عليه اليوم، ليست السلطة التنفيذية الفيدرالية التي تصوَّرها مونيه، فإنها في ظل حقها في «المبادرة التشريعية» ووظائفها في تنفيذ سياسات الاتحاد، وبوصفها «رقيبًا على المعاهدة»، غدت أكبر كثيرًا من مجرد أمانة لمنظمة دولية.
أعطت معاهدة روما المفوضية الحق الرئيس في المبادرة التشريعية، بمعنى أن تقترح مشروعات القوانين على البرلمان والمجلس. كان الهدف من ذلك ضمان استناد القوانين بدرجة أكبر إلى رؤية للمصلحة العامة للجماعة ومواطنيها، مقارنةً بما سينشأ عن أي مبادرات من حكومات الدول الأعضاء، وأن تكون هناك درجة أكبر من التماسك في البرنامج التشريعي مقارنة بما يمكن لهذه الدول أو المجالس بمختلف مسئولياتها الوظيفية توفيره. وكثيرًا ما كانت المفوضية تُسمَّى في أيامها الأولى «محرك الجماعة» بفضل تسلُّحها بهذه الصلاحية. وبعد أن أضعفها هجوم ديجول عليها في الستينيات، رجحت كفة ميزان القوة في مصلحة المجلس، وكذلك المجلس الأوروبي منذ تأسيسه عام ١٩٧٤، لكن المفوضية ما زالت تؤدي الدور الأساسي المتمثل في اقتراح تدابير معينة كي يقررها المجلس والبرلمان، واقتراح حِزم السياسات العامة في المجلس الأوروبي. ومن الأمثلة البارزة على هذا الجزء الأخير «حزمة ديلور» لإصلاح الميزانية عام ١٩٩٢، وإصلاحات سياسات الجماعة في إطار «جدول أعمال ٢٠٠٠» استعدادًا للتوسع شرقًا الذي وُوفق عليه عام ١٩٩٩.
أُطلق على المفوضية أيضًا اسم «الرقيب»؛ لأنها تسهر على ضمان تطبيق معاهدة الاتحاد وقوانينه، وبالأخص من قِبل الدول الأعضاء، فإذا وجدت شواهد على أي خرق، فعليها إصدار «رأي مسبَّب» إلى الدولة المعنية، فإذا لم تمتثل الدولة، تستطيع المفوضية مقاضاتها في محكمة العدل، وهو ما حدث عام ١٩٩٩، عندما رفضت الحكومة الفرنسية قبول قرار المفوضية بأن لحم البقر البريطاني كان آنذاك آمنًا لأكله، وينبغي السماح باستيراده، فحكمت المحكمة لصالح المملكة المتحدة في أواخر ٢٠٠١، على الرغم من أن الدول الأعضاء الأخرى لم توافق على رفع القيود إلا في ٢٠٠٦، وفرضت المفوضية على فرنسا غرامات تجاوزت ١٠ ملايين يورو. كما تتولى المفوضية مسئولية تنفيذ قوانين الاتحاد وسياسته، وإن كان جُلُّ هذه المسئولية موكلًا إلى حكومات الدول الأعضاء وأجهزة أخرى.
لضمان أن تعمل المفوضية تحقيقًا للصالح العام للاتحاد، تشترط المعاهدة أن يكون استقلالها عن أي مصالح خارجية «لا يرقى إليه شك»، ويجب على المفوضين عند توليهم مناصبهم أن يقطعوا على أنفسهم «عهدًا مغلظًا» بهذا المعنى. وعلى الرغم من أن المعاهدة تنص على ترشيحهم «بالتوافق العام» بين الحكومات، فقد دأبت كل حكومة — فيما سبق — على ترشيح مفوضها أو مفوضيها، وقبلت الأخريات بهذا، لكن هذا لم يعد من المسلمات؛ لأنه تُشترط الآن أيضًا موافقة رئيس المفوضية المعين حديثًا قبل إقرار البرلمان المفوضيةَ ككلٍّ.
حتى ٢٠٠٥ كان هناك مفوَّضان من كل دولة كبيرة، ومفوَّض واحد من كل دولة صغيرة، لكن التوسع الوشيك أثار شاغلًا بشأن تدني فاعلية المفوضية بسبب كِبر حجمها؛ لذا حددت معاهدة نيس عدد المفوضين اعتبارًا من ٢٠٠٥ بمفوض واحد من كل دولةٍ عضوٍ. وقوبلت مقترحات إدخال المزيد من التخفيض على العدد بمعارضة شديدة من الدول الصغيرة، وأسفر الرفض الأوليُّ لمعاهدة لشبونة من قبل الناخبين الأيرلنديين سنة ٢٠٠٨ عن اتفاق على بقاء النظام الحالي.
إن تقليص عدد المفوضين إلى أقل من واحد لكل دولة ليس بأي حال السبيل الوحيد لضمان الفاعلية؛ فهناك حكومات رفيعة المستوى كالحكومة البريطانية تضم عادة أكثر من ٢٠ عضوًا، وفي بعض الأحيان أكثر من ٣٠. وقد نجح هذا العدد لأن هناك رئيس وزراء يملك سلطة السيطرة على الأعضاء الآخرين. وقد قطعت المعاهدات منذ معاهدة أمستردام بالمفوضية شوطًا ما في ذلك الاتجاه، بإعطاء الرئيس ليس صلاحية المشاركة في قرارات ترشيح المفوضين الآخرين فحسب، بل أيضًا ممارسة «الإرشاد السياسي» على المفوضين، وتخصيص مسئولياتهم و«إعادة توزيعها»، وتعيين نواب الرئيس، وإقالة مفوض «بعد الحصول على موافقة المفوضية الجماعية»، كما ساعد وجود الممثل السامي للاتحاد لشئون السياسة الخارجية بوصفه نائب رئيس منذ لشبونة على توفير إدارة لتنسيق السياسات، على الصعيدين الداخلي والخارجي على السواء.
بلغة المعاهدات، المقصود بالمفوضية هيئة المفوضين بأكملها. أما باللغة الدارجة، فيشير هذا القول أيضًا إلى موظفي المفوضية، لكن عادة ما يكون واضحًا إن كان المقصود بالإشارة هم المفوضين أم الخمسة والعشرين ألف موظف. وعلى الرغم من كثرة الحديث عن تضخُّم الجهاز البيروقراطي للمفوضية، فإن هذا العدد أقل من عدد موظفي سلطات محلية كثيرة.
بما أن التصويت بالأغلبية المشروطة يسري الآن على جُلِّ التشريعات، فإن حق المفوضية دون غيرها في المبادرة أعطاها مركزًا قويًّا في العملية التشريعية. ويستطيع المجلس — شريطة الموافقة بالإجماع — تعديل النص المقترح من المفوضية، وهو ما يصبُّ هنا في صالح المفوضية لا ضدها؛ لأن المفوضية، على الرغم من تفضيلها عادةً مواءمة رغبات الحكومات، تكون في وضع أفضل يسمح لها بمقاومة ضغط هذه الحكومات فيما يختص بالأمور التي تعدُّها مهمة.
أدت المفوضية دورها التشريعي جيدًا، لكن أداءها بوصفها سلطة تنفيذية تعرَّض لنقد شديد معظمه غير عادل؛ إذ إن التنفيذ في الحقيقة موكلٌ إلى الدول الأعضاء. وهذا مبدأ جيد، وهو ناجح في نظام ألمانيا الفيدرالي، حيث تدير الولايات معظم السياسات الفيدرالية، لكن للحكومة الفيدرالية في ألمانيا صلاحية أكبر لضمان كفاية أداء الولايات، فيما تميل الدول الأعضاء إلى مقاومة جهود المفوضية الرامية إلى الإشراف عليها. والحل يقينًا ليس المزيد من الإدارة المباشرة من قِبل بروكسل، بل توفير عدد كافٍ من موظفي المفوضية للاضطلاع بمهمة الإشراف، ومنح صلاحيات أقوى لضمان التنفيذ كما ينبغي من جانب الدول.
تتمتع المفوضية بسجل طيب في مجالات كإدارة سياسة المنافسة، حيث أُعطيت صلاحية القيام بهذه المهمة بنفسها، فأدَّتها على أكمل وجه على الرغم من العجز في الموظفين، لكنها أظهرت مثالب خطيرة عندما تولَّت إدارة برامج الإنفاق دون وجود الموظفين الذين يمكنهم أداء هذه المهمة كما ينبغي؛ مما أسفر عن خلل إما في عملها هي ذاتها، أو في عمل الاستشاريين الذين استعانت بهم لأدائها، وكانت النتائج سيئة أحيانًا، وانطوت على قضايا احتيال في قليل منها. ولم يؤدِّ هذا إلى استقالة المفوضية سنة ١٩٩٩ فحسب، بل إلى الإصلاحات الإدارية الجارية التي استهلها نيل كينوك في أوائل العقد الأول من هذا القرن، وتهدف إلى تحسين عملية استقدام الموظفين وتدريبهم وترقيتهم، وتحسين ممارسات التدقيق.
ذهب البعض إلى أن المفوضية حكومة أوروبية. فإلى أي مدًى يمكن أن يكون هذا وصفًا دقيقًا؟ في المجالات الواقعة ضمن اختصاص الاتحاد، يشبه حق المفوضية في المبادرة التشريعية حق الحكومة، بل ويتجاوزه من حيث كونه يكاد يكون حقًّا مقصورًا عليها، لكن استعمالها هذا الحق مقيَّدٌ بالمجلس، وبالأخص حيث يسري إجراء الموافقة بالإجماع، لكنه مقيَّدٌ أيضًا باستعمال التصويت بالأغلبية المشروطة وليس بأغلبية بسيطة. غير أن الاختلاف أكبر مقارنةً ببريطانيا منه بالدول التي تمارس نمط الحكومات الائتلافية التوافقي. أما دور المفوضية التنفيذي فهو مقيَّد بالمجلس وصعوبات التنفيذ، لكنه فيما عدا ذلك لا يختلف كثيرًا، من حيث المبدأ، عن الدور التنفيذي للحكومة الفيدرالية الألمانية، فيما عدا أن الحكومة الألمانية تملك وسائل أكثر فاعلية لفرض التنفيذ اللائق من قبل الولايات. وثمة فارق حاسم الأهمية بين المفوضية والحكومة هو حقيقة أن الأولى لا تسيطر على أي وسائل إنفاذ مادية، بل والأكثر من هذا أنها لا تؤدي إلا دورًا ثانويًّا في السياسة الخارجية العامة، ودورًا ضئيلًا جدًّا في مجال الدفاع، لكن إلى جانب هذه الاختلافات توجد تشابهات كبيرة.
(٤) محكمة العدل
كانت سيادة القانون ولا تزال محوريةً في نجاح الاتحاد الأوروبي؛ ففي مجالات اختصاص الاتحاد، نجد على نحو متزايد أن إطارًا قوامُهُ القانون لا القوة النسبية هو الذي يحكم العلاقات بين الدول الأعضاء، ويسري على مواطنيها، وهو ما يرسِّخ «اليقين القانوني» الذي يثمِّنه أصحاب الأعمال؛ لأنه يقلِّص عنصر مخاطرة كبير في معاملاتهم. وعلى الصعيد السياسي، ساعد هذا على إيجاد المناخ الجديد تمامًا الذي صارت فيه الحرب بين الدول تُعتبر أمرًا غير وارد.
توجد على قمة نظام الاتحاد القانوني محكمةُ العدل، التي تقضي المعاهدات بأن تضمن «مراعاة القانون» — بمعناه الواسع في هذا السياق — «في تفسير المعاهدات وتطبيقها».
تضم المحكمة قاضيًا من كل دولةٍ عضوٍ، يُعيَّن لمدة ست سنوات بالتراضي العام بين الدول الأعضاء، على أن يكون استقلاله «لا يرقى إليه شك.» وتفصل المحكمة نفسُها في قضايا كالتي تتعلق بقانونية قوانين الاتحاد، أو الإجراءات التي تتخذها المفوضية ضد دولةٍ عضوٍ، أو دولةٌ عضوٌ ضد دولة أخرى تدَّعي إخفاقها في الوفاء بالتزام تعاهدي، لكن الأغلبية العظمى من القضايا التي تستدعي فصل قانون الاتحاد فيها هي التي يرفعها أفراد أو شركات ضد أشخاص قانونيين آخرين أو حكومات، وتُنظر هذه القضايا في محاكم الدول الأعضاء، ولا تحال إلى محكمة العدل إلا إذا طلبت إحدى هذه المحاكم منها تفسير إحدى النقاط القانونية.
استندت أهم أحكام المحكمة، التي أصدرتها في الستينيات، إلى تصميمها على ضمان مراعاة القانون كما اقتضت المعاهدة؛ إذ استهدف الحكم الأول، وكان بشأن أسبقية قانون الاتحاد، ضمان التطبيق المتسق لهذا القانون في الدول الأعضاء كافة؛ لأن سيادة القانون ستنهار تدريجيًّا إذا طغت عليها القوانين الوطنية المتشعبة. ونصَّ الثاني — وكان معنيًّا بالنفاذ المباشر — على حق الأفراد في المطالبة بحقوقهم بموجب المعاهدة أمام محاكم الدول دون وسيط، ثم صدر عام ١٩٧٩ حكمٌ في قضية «كاسيس دو ديجون» وضع حجر زاوية لبرنامج السوق الموحدة، بإرساء مبدأ «الاعتراف المتبادل» بمعايير الدول الأعضاء لسلامة المنتجات، شريطة أن تكون محكومًا بقبولها، مما قلل جذريًّا الحاجة إلى لائحة مفصَّلة على مستوى الاتحاد.
أصدرت المحكمة نحو ٩ آلاف حكم منذ إنشائها، ولا تزال القضايا تُعرض عليها بمعدل يتعذَّر معه الحد من التأخُّر في الفصل فيها لمدد تصل إلى عامين. وقد أُنشئت محكمتان فرعيتان للمساعدة على التعامل مع هذه المشكلة: «محكمة عامة» (كانت تسمى فيما سبق المحكمة الابتدائية)، وتنظر معظم القضايا التي يرفعها الأفراد أو الشخصيات ذات الصفة الاعتبارية، والتي يتعلَّق أغلبها بحقوق الملكية الفكرية وسياسة المنافسة، و«محكمة الخدمة المدنية»، وتتولى الفصل في النزاعات بين مؤسسات الاتحاد وموظفيها، لكن هذا لم يسفر إلا عن إبطاء طوفان القضايا التي تنتظر الفصل فيها دون تحويل اتجاهه.
في حين يجوز للمتقاضين استئناف أحكام المحكمتين الدُّنْيَيين، لا يجوز استئناف أحكام محكمة العدل، التي تشكِّل السلطة القضائية النهائية في الأمور الواقعة ضمن اختصاص الاتحاد، لكن المحكمة تعتمد في إنفاذ إحكامها على أجهزة الإنفاذ بالدول الأعضاء. وكونُ الأغلبية العظمى من الأحكام الصادرة، بموجب قوانين الاتحاد، إنما هي صادرة عن محاكم الدول الأعضاء، رسَّخ الاعتياد على إنفاذها، ولم يحدث أن كان هناك رفض لإنفاذ أحكام المحكمة نفسها حتى وإن كان هناك أحيانًا توانٍ لفترات طوال قبل أن تمتثل الدول الأعضاء للأحكام الصادرة بحقها.
لا يزال اختصاص المحكمة محدودًا بالمعاهدات، ولا سيما في السياسة الخارجية، لكن ضمن هذه الحدود — وبصرف النظر عن اعتمادها شبه التام على أجهزة الإنفاذ بالدول الأعضاء — يتسم نظام الاتحاد القضائي إلى حد كبير بخصائص فيدرالية.
(٥) الولاية الاحتياطية والمرونة
في كلمة شهيرة ألقتها السيدة تاتشر في مدينة بروج، استحضرت شبح «دولة أوروبية فوق الدولة تمارس هيمنة جديدة من بروكسل»، كما أصبحت مقولة «المنحدر الزلق» الذي يفضي إلى «دولة مركزية فوق الدولة» استعارةً مفضلة لدى البريطانيين المتشككين بجدوى الاتحاد الأوروبي. ومن زاوية مختلفة، نظرت الولايات الألمانية بريبة إلى المقترحات الرامية إلى منح الاتحاد اختصاصًا في مجالات تختص هي بها في نظام ألمانيا الفيدرالي. والحقيقة أن كثيرين من أنصار الفيدرالية يجدون هدف المعاهدة المتمثل في «إقامة اتحاد وثيق أكثر من أي وقت مضى» مطلقًا أكثر مما ينبغي. وتساند الأكثرية مبدأ «الولاية الاحتياطية» كدليل لتحديد ما ينبغي أن يفعله الاتحاد وما ينبغي ألا يفعله. ويقتضي ذلك المبدأ ذو الجذور الكالفينية والكاثوليكية ألا تؤدي الهيئات التي تضطلع بمسئوليات عن مناطق كبيرة إلا الوظائف التي لا يمكن للمناطق الصغيرة الواقعة ضمنها أن تؤديها بنفسها. وإعمالًا لهذا المبدأ، تقتضي المعاهدة من الاتحاد ألا «يتخذ إجراءً … إلا إذا كان هدف هذا الإجراء المقترح لا تستطيع الدول الأعضاء تحقيقه بدرجة كافية»، ويمكن «نظرًا لحجمه أو آثاره، تحقيقه بشكل أفضل بمعرفة الاتحاد.»
اعترفت معاهدة روما ضمنيًّا بهذا المبدأ بتمييزها بين نوعين من قوانين الاتحاد؛ أولهما: اللائحة، وهي «ملزِمة بأكملها» للدول الأعضاء كافة، وثانيهما: التوجيه، ولا يكون ملزِمًا إلا «من حيث النتيجة المراد تحقيقها»، مع ترك كل دولة تختار «الشكل والأساليب»، لكن هذا لم يكن إلا تطبيقًا جزئيًّا للمبدأ. وقد صدرت التوجيهات أحيانًا على نحو مفصَّل لا يترك للدول إلا خيارًا محدودًا. وهكذا عرَّفت معاهدة ماستريخت الولاية الاحتياطية، وأرست معاهدة أمستردام إجراءات مفصلة تهدف إلى ضمان ممارسة مؤسسات الاتحاد هذا المبدأ. وقد كفل اشتمال معاهدة لشبونة على قائمة بالاختصاصات المقصورة على الاتحاد، والاختصاصات المشتركة مع الدول الأعضاء، والاختصاصات التي تساند اتخاذ الدولة إجراءً، كفل وجود ضمانات متعددة ضد المبالغة في المركزية.
توجد بالطبع اختلافات حول المجالات التي يكون فيها التكامل مبررًا، وتركت هذه الاختلافات بصمتها على معاهدة ماستريخت في اختيار بريطانيا عدم المشاركة في الفصل الاجتماعي والعملة الموحدة، واختيار الدنمارك عدم المشاركة في العملة الموحدة والدفاع. ونظرًا لعدم جواز تعديل المعاهدة إلا بإجماع الآراء، كان لا بد من قبول الحكومات الأخرى بنود اختيار عدم المشاركة إذا كانت ستشتمل عليها المعاهدة، وهو ما أدى إلى اهتمام متنامٍ بفكرة «المرونة»، مما يمكِّن الدول التي تريد المزيد من التكامل في حقل معين من المضي في ذلك قُدمًا في إطار مؤسسات الاتحاد، أو إن شئت فقل مما يسمح لأقلية باختيار عدم المشاركة. كان أحد الأهداف تفادي فيتو الدول الأعضاء المنفردة، التي قد تعوق معارضتها إجراء إصلاحات تعتبرها معظم الحكومات الأخرى ضرورية، وهو شاغل صعَّده التوسع لضم دول قد يتبين أنها غير راغبة أو غير قادرة على المضي قُدمًا في المزيد من التكامل.
برز مفهوم المرونة في معاهدة أمستردام تحت عنوان «التعاون المعزَّز»، وهو مصطلح فضَّله أنصار الفيدرالية؛ لأنه يقتضي ضمنًا مستوًى أعمق من التكامل بين مجموعة من الدول، في حين مال المتشككون بجدوى الاتحاد الأوروبي إلى رؤية المرونة سبيلًا لإرخاء الروابط في الاتحاد ككل. وتنص المعاهدات الآن على التعاون المعزَّز في إطار الاتحاد، شريطة استيفاء عدد من الشروط، من ضمنها الموافقة بالإجماع على سريانه على أي حالة، واشتماله ثماني دول كحد أدنى في البداية، وبقاؤه مفتوحًا أمام أي دول إضافية.
(٦) المواطنون
استُحدث مفهوم مواطنة الاتحاد في معاهدة ماستريخت التي نصت على أن جميع مواطني الدول الأعضاء مواطنون للاتحاد أيضًا، وأضافت معاهدة أمستردام أن كلتا صورتي المواطنة متتامتان. وتضمنت معاهدة ماستريخت بعض الحقوق الجديدة للمواطنين: كالحق في الحركة والتنقل والإقامة بحرية في مختلف أنحاء الاتحاد رهنًا بشروط معينة، والحق في التصويت أو الترشُّح في الدول الأعضاء الأخرى في الانتخابات المحلية والأوروبية دون الانتخابات الوطنية. وتأتي هذه القائمة القصيرة على رأس حقوق معينة مضمونة بالفعل بموجب معاهدات: كحماية مواطني الدول الأعضاء ضد التمييز على أساس الجنسية في مجالات اختصاص الاتحاد، والمساواة في معاملة الرجال والنساء في الأمور المتعلقة بالتوظيف. ولزامٌ على مؤسسات الاتحاد أيضًا احترام الحقوق الأساسية التي تكفلها «الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية». وتؤكد المعاهدات على أن الاتحاد «قائم على مبادئ الحرية، والديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وسيادة القانون. وهي مبادئ مشتركة بين الدول الأعضاء»، علاوة على أنها تنص على أنه في حالة «الخرق الخطير والمستمر» لهذه المبادئ، يمكن حرمان الدولة العضو من بعض حقوقها التي تكفلها المعاهدة، بما فيها حقوق التصويت.
واستجابة للشواغل بشأن احتياج الاتحاد إلى فعل المزيد لاستقطاب مساندة مواطنيه، صيغ أيضًا «ميثاق الحقوق الأساسية»، على التوازي مع معاهدة نيس، من قِبل اجتماع اتفاقية كان نموذجًا لاجتماع الاتفاقية الذي صاغ المعاهدة الدستورية، لكن لم يكن الميثاق ليكتسب قوة قانونية فيما يتعلق بأعمال الاتحاد نفسه إلا بمعاهدة لشبونة. إضافة إلى ذلك، تنص المعاهدات على تعيين البرلمان أمينَ مظالم للتحقيق في شكاوى المواطنين من سوء الإدارة من قبل مؤسسات الاتحاد، ورفع تقارير بالنتائج إلى البرلمان والمؤسسة المعنية.
بصرف النظر عن مسألة الحقوق، يصعِّب نظام حكم الاتحاد — بمزيجه المعقد من العناصر الحكومية الدولية والفيدرالية — اتخاذ القرارات، ويجعل من إقامة علاقة مُرضية بين المؤسسات والمواطنين شيئًا بعيد المنال. لكن ما لم يُوفِّر المواطنون مساندة كافية للاتحاد إلى جانب مساندتهم دولهم، فمن الممكن أن تكون جماهير الناخبين في الدول قوة طاردة مركزيًّا تُفضي إلى التفكك. كذلك يثير التوسع إلى ٢٨ دولة، وربما أكثر من ٣٠ دولة في النهاية، مشكلات إضافية. وقد دار نقاش أكاديمي مكثف حول ضرورة وجود شعب «اتحادي» من أجل استدامة الديمقراطية «الاتحادية»؛ مما أثار الشكوك في إمكانية حدوث ذلك، لكن الاتحاد تمكَّن من الاستفادة من عناصره الديمقراطية المتنامية كصلاحيات البرلمان الأوروبي، ومن التشاؤم غير المبرَّر أن نفترض أن العملية لا يمكنها الاستمرار. هذا إلى جانب تطور الاتحاد ككلٍّ. ويظل التضامن بين المواطنين أقل كثيرًا مما سيكون ضروريًّا لدولة فيدرالية. وقد أدخلت اتفاقية لشبونة إصلاحًا جوهريًّا، مع أنها لا تزال تترك بعض الأسئلة دون أجوبة.
الأهم أن لشبونة أكدت مجددًا على الحاجة إلى الموازنة بين مصالح الاتحاد ككلٍّ ومصالح الدول الأعضاء. ويتيح إلغاء هيكل الركائز، وتقوية المجلس الأوروبي برئيس دائم، ودمج أدوار السياسة الخارجية في شخص الممثل السامي إمكانيةَ حصول الاتحاد الأوروبي على شخصية أكثر تلاحمًا، وإن كانت الحكومات الوطنية تسعى على الرغم من ذلك إلى تقييد العمل المشترك. كذلك فإنه فيما تملك البرلمانات الوطنية الآن صلاحيات رفع «كارت أصفر» في وجه المقترحات التشريعية، غالبًا ما تفتقر تلك البرلمانات إلى آليات مراقبة كافية تكون معها هذه الصلاحيات ذات كفاءة حقيقية، مثلما أن مبادرة المواطنين — التي يمكن بموجبها لعريضة تحمل مليون توقيع أن تؤدي بالمفوضية إلى اتخاذ إجراء تشريعي — تستند إلى تصور للمجال العام الأوروبي هو في الوقت الراهن أملٌ أكثر منه حقيقة واقعة. ربما يستوي مع هذا في دلالته أن لشبونة هي أول معاهدة تنص على آلية صريحة يمكن بموجبها لدولة أن تنسحب من العضوية.
ستكون أزمة اليورو الجسر التالي الذي يعبره الاتحاد، لا سيما إذا آتت المناقشات الجارية في أواخر ٢٠١٢ حول المؤسسات الجديدة لدعم إقامة اتحاد مصرفي واقتصادي؛ ثمارَها. ومهما تكن النتيجة، يَنبغِ أن تذكِّرنا بأن الاتحاد يعكس حاجات مواطنيه، وهذه الحاجات تتغير بمرور الوقت؛ لذا فمن المنطقي تمامًا أن يظل هناك شيء من اللايَقين بشأن شكل تنظيمه.