الزراعة والأقاليم والميزانية: صراعات حول ما سيحصل عليه كل طرف
السوق الموحدة وضع مربح لجميع الأطراف؛ فنظرًا لتعزيزها الإنتاجية في الاقتصاد، هناك منفعة تتحقق لمعظم الناس، سواء أحصَّلوا هذه المنفعة على هيئة زيادة في الاستهلاك، أم نقص في ساعات العمل. لكن بجانب الأغلبية التي تكسب، سيكون هناك البعض ممَّن يخسرون، أو على الأقل يخشون أنهم سيخسرون من فتح الأسواق أمام منافسين جُدد، وقد يطلب هؤلاء البعض تعويضًا عن موافقتهم على المشاركة في الترتيبات الجديدة. وعادةً ما يكون لمثل هذا التعويض آثاره على ميزانية الاتحاد، ويبدو كوضع يكسب فيه بعض الأطراف ويخسر بعضهم خسارة مكافئة؛ مما قد يؤدي إلى صراع بين من يدفعون ومن يقبضون، حتى وإن كانت حزمة التعويض والمنافسة — إذا أُخذا سويًّا — تفيد كلا الطرفين. كان أول مثال مهم على هذا اشتمال الزراعة في السوق المشتركة للجماعة الاقتصادية الأوروبية.
(١) الزراعة
كان فتح سوق الجماعة أمام التجارة في المواد المصنعة، عندما تأسست الجماعة الاقتصادية الأوروبية، مسألة بسيطة نسبيًّا تتعلق بإلغاء التعريفات الجمركية والحصص على مراحل، لكن إلغاء التعريفات الجمركية والحصص لم يكن إلا جزءًا صغيرًا من مشكلة إنشاء سوق مشتركة زراعية. كانت البلدان الأوروبية كافة تدير أسواقها الزراعية بأدوات معقدة: كالإعانات المالية وسياسات دعم الأسعار؛ لضمان مدخولات كافية للمزارعين، وأمن الإمدادات الغذائية؛ لذا فإن أي سوق مشتركة للحاصلات الزراعية كان يلزم أن تكون سوقًا مُدارة معقدة للجماعة كي تحل هذه السوق محل أسواق الدول الأعضاء. كان الأبسط أن تنحصر السوق المشتركة في مجال الصناعة، لكن الفرنسيين كانوا يخشون احتمال المنافسة الصناعية الألمانية، ونظرًا لامتلاكهم قطاعًا زراعيًّا تنافسيًّا أصروا على فتح سوق الجماعة أمام الزراعة أيضًا.
كانت النتيجة هي السياسة الزراعية المشتركة التي تقدم الدعم لأسعار المنتجات الرئيسية على المستويات التي يقررها مجلس وزراء الزراعة من خلال رسوم متغيرة تُفرض على الواردات الآتية من خارج الجماعة، وشراء الإنتاج الفائض بالأسعار المدعومة وتخزينه. تعززت مدخولات المزارعين بفضل ارتفاع الأسعار التي يدفعها المستهلك بجانب الإعانات المالية المُقدَّمة من دافعي الضرائب بالجماعة لتمويل الفوائض التي تمخَّض عنها ارتفاع الأسعار. وبينما كان هذا وضعًا مقبولًا في سنين الجماعة الأولى، برزت توترات جديدة بمجرد انضمام المملكة المتحدة إلى العضوية. فبفضل نموذج التجارة الحرة البريطاني كانت الأسعار هناك أقل بكثير؛ لذا كانت عضوية «السياسة الزراعية المشتركة» بمثابة ضربة ثلاثية لها، قوامها ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وارتفاع مستويات المساهمات البريطانية في الميزانية نتيجة رسوم الواردات على المواد الغذائية، وانخفاض مقبوضاتها من الميزانية نتيجة صغر حجم قطاعها الزراعي.
قُدِّر لهذا الوضع أن يُفجِّر معركة دامت خمس سنوات عقب تولي السيدة تاتشر رئاسة الوزراء عام ١٩٧٩، منتهجةً عرقلة الكثير من أعمال الجماعة الأخرى في إطار سياستها التي أسمتها «استرداد أموالنا». بلغت الأمور مرحلة حرجة في ١٩٨٤، عندما كان تراكم المخزونات مثل «جبال الزبد» و«بحيرات الخمر» قد تكلف كثيرا جدًّا، لدرجة أن احتاجت الجماعة إلى رفع سقف إيراداتها من الضرائب، وهو ما كان يتطلب موافقةً بالإجماع من الدول الأعضاء؛ لذا أُبرمت صفقة، حيث اتُّفق على رفع سقف الموارد الضريبية المخصصة للجماعة، وعلى منح تخفيض سنوي لبريطانيا يبلغ نحو ثلثي مساهمتها الصافية. واتُّخذت في الوقت نفسه خطوة لإصلاح السياسة الزراعية المشتركة، لكنها ليست إلا خطوة متواضعة؛ لأن الاهتمام كان مُركَّزًا على مسألتَي التخفيض والموارد الضريبية.
(٢) مراحل الإصلاح
سارت السياسة الزراعية المشتركة بخطوات بطيئة متثاقلة، وأدت إلى تراكم المزيد من الفوائض باهظة التكلفة حتى جاء عام ١٩٨٨ ونفدت الأموال من جديد. وفي هذه المرة تغلَّبت المصالح المالية للدول الأعضاء. في ظل تقسيم المجلس إلى وحدات وظيفية، كانت قرارات مجلس وزراء الزراعة بشأن أسعار المنتجات الزراعية قد حددت مستوى معظم نفقات الجماعة، ولم يكن لمجلس وزراء المالية إلا دور محدود فيها. ونظرًا لأن الفاتورة الناشئة عن ذلك كان يلزم سدادها من موارد الجماعة الضريبية، كان وزراء الزراعة في الحقيقة هم الذين يقررون معدل الضريبة التي يدفعها المواطنون للجماعة. كان يلزم إرساء رقابة مالية، فوافق المجلس الأوروبي في ١٩٨٨ على حزمة تدابير اقترحها ديلور ترتب عليها تطبيق «منظور مالي» يضع حدودًا للعناوين الرئيسة لنفقات الجماعة خلال السنوات الخمس من ١٩٨٨ إلى ١٩٩٢. وحُصر نمو الإنفاق على الزراعة في أقل من ثلاثة أرباع معدل نمو المجموع الكلي.
في حين أزالت هذه الخطوة شيئًا من حدة الصراع على المال، كانت لا تزال هناك حاجة إلى إدخال إصلاح جادٍّ على السياسة الزراعية المشتركة. وبحلول ١٩٩٢، كان المفوض المسئول عن الزراعة الوزير الأيرلندي السابق، راي ماكشيري، الذي انبرى للمشكلات واستطاع ببراعة التغلب على المصالح المتعارضة؛ ليضمن الحصول على تخفيض بنسبة ١٥ في المائة في السعر المدعوم للحم البقري، ونحو الثلث بالنسبة للحبوب. لم تُخفَّض مستويات النفقات الحالية؛ لأنه جرى تعويض المزارعين بدعم لدخولهم تضمَّن مدفوعات «تبوير الأراضي» مقابل إراحتهم الأرض الزراعية، لكن هذه التدابير ألغت الديناميكية التوسعية من السياسة الزراعية المشتركة، ومهَّدت الساحة للمزيد من الإصلاح.
ظلت تكلفة السياسة الزراعية المشتركة عبئًا ثقيلًا على الجماعة؛ حيث كان نصف الميزانية يُنفق على دعم قطاع يعمل به أقل من ٥ في المائة من القوة العاملة، ويذهب معظمه إلى أقلية صغيرة من كبار المزارعين وأثريائهم. زِدْ على ذلك أنه بنهاية التسعينيات، كانت الضغوط المزدوجة المترتبة على التوسع شرقًا والمفاوضات في منظمة التجارة العالمية حديثة التأسيس تجبر الاتحاد الأوروبي على إجراء المزيد من الإصلاح الهيكلي. كانت الدول الأعضاء الجديدة سترفع التكاليف بشدة على الأرجح، في حين كانت ضرورة الوصول إلى اتفاق في مفاوضات تحرير التجارة بمنظمة التجارة العالمية تضغط بشكل متزايد في اتجاه إجراء تخفيضات في مستويات الدعم الزراعي. بناء على ذلك وافق الاتحاد على تخفيضات كبيرة بالنسبة لبعض المنتجات عام ١٩٩٩، في إطار مفاوضات أوسع بشأن الميزانية، إضافة إلى تبني مفهوم السياسة الزراعية المشتركة متعددة الوظائف، بمعنى سياسة تمتد إلى البعدين الاجتماعي والبيئي اللذين يحيطان بالزراعة. كانت إعادة صياغة السياسة الزراعية المشتركة هكذا باعتبارها سياسة «ريفية» — على نحو ما أكده «فحص السلامة» عام ٢٠٠٨ — خطوة مهمة للمساعدة على إطلاق العنان للإصلاحات التي أخَّرتها بعض الدول، وأبرزها فرنسا.
صار هذا أكثر وضوحًا بكثير في «استعراض منتصف المدة» لاتفاقية ١٩٩٩ عام ٢٠٠٣، في ظل ما اعتُبر في البداية استعراضًا بسيطًا للتغييرات التي تفرز إصلاحات تتساوى في أهميتها مع إصلاحات ماكشيري قبل ذلك بعقد من الزمان. جرى تخفيض مبلغ دعم الأسعار مجددًا، لكن الثورة الأهم كانت التحول إلى الدعم المباشر للمزارعين؛ فحتى ذلك الحين كانت السياسة الزراعية المشتركة تستخدم آليات دعم الأسعار لدفع الأموال للمزارعين، موفرة بذلك حافزًا قويًّا للإفراط في الإنتاج، ومن هنا جاءت بحيرات الخمر وجبال الزبد في الثمانينيات. ونظام «مدفوعات المزرعة الواحدة» الجديد الذي طُبِّق عام ٢٠٠٦ يفصل الدفع عن الإنتاج (أو كما في لغة الاتحاد «يزيل الاقتران» بينهما)؛ إذ تُدفع الإعانة بدلًا من ذلك للمزارعين للعناية بأراضيهم بصرف النظر عما إذا قرروا زراعتها أم لا.
ربما كان التخلي عن نموذج دعم الأسعار القديم حتميًّا في مواجهة الضغوطات التي كانت السياسة الزراعية المشتركة قد واجهتها على مدى الأربعين سنة السابقة؛ إذ أثبتت العوامل المؤلفة من التوسع، ومفاوضات منظمة التجارة العالمية، والشواغل البيئية المتزايدة، ومخاوف الصحة العامة أنها في النهاية أقوى من أن تُقاوَم. الأمر الذي لا يزال غير واضح هو كيف ستتطور السياسة الزراعية المشتركة في الأمد المتوسط؛ فالدول الأعضاء الجديدة مؤيِّدة بطبيعتها لسياسة زراعية مشتركة سخية تدفع لمزارعيها إعانات جيدة، فيما صار مفهوم اتباع نهج متعدد الوظائف في التنمية الريفية حديثًا أشد هيمنة بكثير داخل المؤسسات. على أي حال، سيتبين أن السياسة الزراعية المشتركة مهيأة لأن تشهد المزيد من التغيير.
(٣) صندوق التماسك والصناديق البنيوية
تمثل «سياسة التماسك» — وهي بند الإنفاق الآخر الكبير من بنود ميزانية الاتحاد — تجربة أسعد من السياسة الزراعية المشتركة. تنبع هذه السياسة من مخاوف لدى الدول الأعضاء ذات الاقتصادات الأضعف نسبيًّا من خسارتها في المنافسة الحرة في الاتحاد؛ إذْ عندما تأسس الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة والعملة الموحدة، قُدمت أموال لمساعدة التنمية الاقتصادية في هذه البلدان؛ بحيث تتعاون في هذه المشروعات الجديدة وتصبح شراكة ناجحة، ومن هنا جاءت كلمة «التماسك».
كان أول مخصَّص من هذا القبيل لصالح «الصندوق الاجتماعي» المشمول في معاهدة روما بناءً على طلب إيطاليا. كان الاقتصاد الإيطالي هو الأضعف بين الدول المؤسِّسة الست، وخشي الإيطاليون أن يعانوا من تحرير التجارة، فأرادوا صندوقًا لمساعدة قوتهم العاملة على التكيُّف، وأُجيب طلبهم وإنْ كان على نطاق ضيق نوعًا ما.
كان دافع إنشاء «الصندوق الأوروبي للتنمية الإقليمية» مختلفًا نوعًا ما؛ فبحلول وقت انضمام بريطانيا عام ١٩٧٣، كان أداؤها الاقتصادي قد تخلَّف عن أداء الدول المؤسِّسة الست، وكان متوقعًا أن تكون مساهمة بريطانيا الصافية في السياسة الزراعية المشتركة كبيرة. كانت بريطانيا لديها ما يكفيها وزيادة من المناطق التي تعاني من متاعب اقتصادية، لكن الدول الأعضاء الأخرى كان لديها نصيبها أيضًا؛ فاقترحت حكومة إدوارد هيث، التي كان قد سبق لها التفاوض بشأن انضمام بريطانيا، فكرةً صائبة بشأن تأسيس صندوق للمساعدة الإقليمية يحقق المصلحة العامة، ويكون في الوقت نفسه عظيم القيمة بالنسبة لبريطانيا، فلا يساعد تنميتها الإقليمية فحسب، بل يقلل أيضًا مساهمتها الصافية في ميزانية الجماعة. وفي حين كان أثر الصندوق الأوَّلي ضعيفًا، فإنه تطوَّر ليصبح المصدر الرئيس لتمويل التماسك.
ثالث الصناديق التي صارت تُعرف باسم «الصناديق البنيوية» — تأكيدًا على أن هدفها لم يكن مجرد إعادة توزيع الأموال، بل بالأحرى تحسين الأداء الاقتصادي في الأجزاء الضعيفة من اقتصاد الاتحاد — هو «الصندوق الزراعي الأوروبي للتنمية الريفية» (سابقًا «قطاع التوجيه» بالصندوق الأوروبي للتوجيه والضمان الزراعي) الذي يساعد المزارعين على تنفيذ تغيير هيكلي، لكن الصناديق البنيوية الثلاثة، على الرغم من صغرها في البداية، نمَتْ باطراد، وكانت جاهزةً للاستجابة إلى الحاجة إلى توسعة كبيرة في الثمانينيات عندما توسَّعت الجماعة جنوبًا.
(٤) التوسع والصناديق البنيوية
عندما انضمت إسبانيا والبرتغال واليونان إلى الجماعة، كانت متوسطات دخولها أقل كثيرًا من متوسطات دخول الدول الأعضاء الأخرى، عدا أيرلندا التي كانت عند مستوًى مماثل قبل نموها غير العادي في التسعينيات. طالبت هذه البلدان الأربعة، بقيادة إسبانيا، بزيادة كبيرة في الصناديق البنيوية، وكانت نتيجة الخوف من عرقلتها الموافقة على تمرير تشريعات السوق الموحدة اشتمال القانون الموحَّد على مادة بشأن «التماسك الاقتصادي والاجتماعي». واقترح ديلور مضاعفة ميزانية الصناديق البنيوية في المنظور المالي للفترة ١٩٨٨–١٩٩٢، وقَبِل المجلس الأوروبي بذلك.
برزت مشكلة مماثلة عندما تقرَّر الشروع في الاتحاد الاقتصادي والنقدي، فسعت الدول الأربع ذاتها إلى توسيع مماثل للصناديق البنيوية، فضمن ديلور هذه المرة زيادةً بمقدار الخُمسَيْن في مخصصات الصناديق للفترة ١٩٩٣–١٩٩٩، ونصت معاهدة ماستريخت على تأسيس صندوق التماسك لمساندة المشروعات في مجالَي البيئة وبنية النقل التحتية. وبحلول عام ٢٠٠٠، بلغت ميزانية الصناديق ٣٢ مليار يورو.
حقَّقت الدول الأربع التي صُمِّم توسيع الصناديق البنيوية في الأصل من أجلها أداءً جيدًا في معظم الأحوال، على الرغم من أزمة منطقة اليورو، حيث حققت إسبانيا نجاحًا كبيرًا، وإنْ كان أقل إبهارًا من نجاح أيرلندا، واضطُرت البرتغال إلى لجم نموها، الذي كان سريعًا في البداية، بواسطة برنامج لتثبيت الاستقرار. أما الحالة اليونانية فهي أكثر تعقيدًا بكثير، حيث عادل التمويل المقدَّم من خلال الصناديق أثر المشكلات الاقتصادية البنيوية الكلية. وعلى الرغم من عدم إمكانية تحديد المقدار الذي يمكن أن نعزوه إلى الصناديق البنيوية من هذه النتيجة الطيبة عمومًا، لا شك أن المساهمات البالغة ٢–٤ في المائة من إجمالي الناتج المحلي يسَّرت لها الطريق.
إطار ٢: الصناديق البنيوية وأهدافها
منذ مطلع السبعينيات، محورت الجماعة سياساتها الإقليمية حول مجموعة من الصناديق والأهداف التي شهدت إصلاحًا في ١٩٩٩، ومجددًا في ٢٠٠٦.
-
الصندوق الأوروبي للتنمية الإقليمية: ويتعامل مع التنمية الإقليمية والتغيير الاقتصادي.
-
الصندوق الاجتماعي الأوروبي: ويُعنى بإعادة تدريب العمال.
-
صندوق التماسك: ويستهدف الدول الأعضاء الفقيرة؛ حيث يطور مشروعات في مجالَي البيئة والبنية التحتية.
-
التقارب (المناطق التي يقل فيها نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي عن ٧٥ في المائة من متوسط الاتحاد الأوروبي): يُنفَق نحو ٤٥ مليار يورو سنويًّا على مساعدة مناطق تعداد سكانها ١٥٤ مليون نسمة.
-
القدرة التنافسية الإقليمية والتوظيف (مساعدة المناطق على إجراء تعديلات هيكلية لملاءمة الأوضاع الاقتصادية الجديدة وتكييف القوى العاملة): تُخصَّص ٩ مليارات يورو سنويًّا لمناطق تعداد سكانها ٣١٤ مليون نسمة.
-
التعاون الإقليمي الأوروبي (تطوير الروابط عبر الحدود بين الدول الأعضاء): ما يزيد على مليار يورو سنويًّا لمساعدة مناطق يعيش فيها ١٨٢ مليون نسمة.
على الرغم من تركُّز أهداف الصناديق البنيوية على مساعدة المناطق ذات التنمية «المتأخرة»، فإنها كانت دائمًا ملمحًا من ملامح سياسة التماسك الرامية إلى تمكين الدول الأعضاء كافة من استعادة شيء من الميزانية. وهذا في جزء منه انعكاسٌ لتنوع الدول الأعضاء، لكنه أيضًا مدفوع بإجماع الآراء المطلوب لإبرام مفاوضات تخطيط الميزانية. وقد أثار هذا مشكلة خاصة عند التوسع شرقًا؛ لأنه بموجب السياسة التي كانت سائدة في أواخر التسعينيات، كانت الدول الأعضاء الجديدة مهيأة لتلقِّي مبالغ مالية كبيرة جدًّا في حين أن الدول الأعضاء الحالية مهيأة للخسارة.
كانت الاستجابة لهذا — كما الحال مع السياسة الزراعية المشتركة — هي الانخراط في بعض الإصلاحات المتطرفة نوعًا ما، حيث وُضع حدٌّ للنمو في التمويل المقدم للتماسك في المنظور المالي الذي اتُّفق عليه في برلين عام ١٩٩٩؛ لأن الدول الأعضاء الثرية لم تكن مستعدة لدفع الفاتورة، بينما تقررت في الوقت نفسه ضرورة تخصيص معظم التمويل القائم للأعضاء الحاليين دون غيرهم، بغض النظر عن الاحتياجات الموضوعية لدى الأعضاء الجدد. وإذ اقترن ذلك بقرار المفوضية تحديد التحويلات إلى أي دولةٍ عضوٍ بما يعادل ٤ في المائة من إجمالي الناتج المحلي، على أساس أن هذا هو أقصى ما يمكن لأي بلد استيعابه على نحو مفيد، أمكن التخفيف نسبيًّا من آثار التوسع الذي جاء عام ٢٠٠٤ على الميزانية. وعلى الرغم من أن متوسط الدخول في الدول الأعضاء الجديدة يتراوح في المعتاد بين نصف وثلثَي متوسط الاتحاد الأوروبي؛ فإنها لا تتلقَّى إلا ثلث تمويل صندوق التماسك. وفي حين أن هذه النسبة أكثر من النسبة التي تمثِّلها من سكان الاتحاد الأوروبي، وهي الخُمس، فإنها تظل أقل مما يبدو أنه ضروري لمساعدتها على السير بسرعة معقولة نحو مستويات مماثلة من التنمية الاقتصادية. ومن المرجح أن تسفر المفاوضات بشأن الفترة من ٢٠١٤ إلى ٢٠٢٠ عن ذهاب حصة أكبر من التمويل إلى الدول الأفقر نسبيًّا، وإن استمر حصول كل دولة على شيء لنفسها.
وهكذا، فعلى الرغم من أن سياسة التماسك اتسمت بالتناغم نسبيًّا على نقيض السياسة الزراعية المشتركة، من المهم أن ندرك القيود التي وضعتها الدول الأعضاء على تعظيم فائدتها للاتحاد ككلٍّ، والأثر المتزايد لهذا الموقف أيضًا على الميزانية ككلٍّ.
(٥) الميزانية
بعد أن صار كلٌّ من الزراعة والتماسك يمثل الآن نحو ٤٠ في المائة من نفقات الاتحاد الأوروبي، فإن الاثنين معًا، بآثارهما القوية من حيث إعادة التوزيع، يمثلان معظم الإنفاق. وتصل تكلفة الإدارة في مؤسسات الاتحاد إلى أقل من ٦ في المائة من المجموع، وأما البقية فتُنفق على تمويل مجموعة متنوعة من السياسات الداخلية والخارجية. وثمة بند مهم من بنود إعادة التوزيع خارج الميزانية هو التخفيض الممنوح لبريطانيا لتقليص مساهمتها الصافية، والذي بلغ ٣٫٥ مليارات يورو عام ٢٠١٠، وتدفعه الدول الأعضاء الأخرى مباشرة إلى بريطانيا.
بلغ إجمالي النفقات في ميزانية ٢٠١٢ مبلغ ١٤٧٫٢ مليار يورو أو ١٫١٢ في المائة من إجمالي الناتج القومي للاتحاد. ويجب أن يظل هذا المبلغ دون ١٫٢٤ في المائة من إجمالي الناتج القومي ما لم يُرفع هذا السقف بقرار تصدِّق عليه الدول الأعضاء كافة، ويُبقي المنظور المالي للسنوات ٢٠٠٧–٢٠١٣ الإنفاقَ عند مستوى دون ١ في المائة من إجمالي الناتج القومي في كل سنة.
(٥-١) موارد الاتحاد
خلافًا للمنظمات الدولية التي تعتمد على المساهمات المقدَّمة من دولها الأعضاء، يعد إيراد الاتحاد الأوروبي من الضرائب متطلبًا قانونيًّا بموجب المعاهدة، ويخضع — شأنه شأن الالتزامات التعاهدية الأخرى — لسلطة محكمة العدل؛ لمنع الدول الأعضاء من ليِّ ذراع الاتحاد بحبس مساهماتها. وتتجلَّى عواقب مثل هذا السلوك واضحة في الحالة المالية للأمم المتحدة التي أضعفها لسنوات رفضُ الكونجرس الموافقةَ على دفع المساهمة المستحقَّة على الولايات المتحدة. وهذه مفارقة كبيرة؛ لأن امتناع الولايات الأمريكية، في ثمانينيات القرن الثامن عشر، عن دفع مساهماتها المستحقة عليها، بموجب الدستور الكونفيدرالي الأمريكي الأول، كان حجَّة قوية لمصلحة الدستور الفيدرالي الأمريكي. وقد أثَّرت الحجَّة ذاتها على الآباء المؤسسين للجماعة الأوروبية؛ فجعلوا دفع الإيرادات الضريبية للجماعة التزامًا قانونيًّا.
لا يملك الاتحاد الأوروبي وسائل إنفاذ مادية في حال عدم سداد دولةٍ عضوٍ هذه الأموال، لكن سيادة القانون كانت لها قيمتها الكافية كي تحظى باحترام الدول الأعضاء.
في البداية كانت موارد الجماعة الاقتصادية الأوروبية الضريبية — تسمَّى في المعاهدة «موارد الجماعة» للتوكيد على نقطة أنها مملوكة للجماعة لا للدول — تتألَّف من الإيرادات المحصَّلة من الرسوم الجمركية، ورسوم الواردات الزراعية، لكن هذه الأموال لم تكفِ لدفع نفقات السياسة الزراعية المشتركة، فخُصِّص للجماعة نصيب من ضريبة القيمة المضافة بنسبة ١ في المائة من قيمة السلع والخدمات التي تُجبَى عليها هذه الضريبة.
كان هناك اعتراض كبير على هذه الضرائب غير المباشرة باعتبارها تُثقل على الأفقر نسبيًّا، دولًا ومواطنين، فتحمِّلهم نسبة أعلى من دخولهم مقارنة بالأغنى؛ لذا أُضيف في ١٩٨٨ موردٌ رابع على هيئة نسبة مئوية صغيرة من إجمالي الناتج القومي لكل دولةٍ عضوٍ. ويكاد يكون هذا المورد متناسبًا مع الدخول، وبحلول ٢٠١٢ كان يمثل نحو ثلاثة أرباع إيرادات الاتحاد الأوروبي، لكن المحصِّلة الإجمالية لنظام الإيرادات ما زالت تنازلية.
(٦) المساهمات الصافية
كانت السيدة تاتشر — كما أسلفنا — هي أول من صاغ عبارة «استرداد أموالنا»، على الرغم من سعي البريطانيين الدائم منذ انضمامهم عام ١٩٧٣ إلى الحصول على تعويض عما ادعوا أنه «موقف غير مقبول» ناشئ عن لائحة تنظيمية مالية أُقرَّت قبيل انضمامهم مباشرة. فيما مضى، كان حصول بعض الدول الأعضاء على أموال أكثر من غيرها من الميزانية يعتبر ببساطة جزءًا من حزمة العضوية؛ فالألمان على وجه الخصوص، الذين قبلوا لسنوات عديدة، وعن طيب خاطر، دورهم كأكبر مساهم صافٍ، فعلوا ما فعلوه إدراكًا منهم أن منافع العضوية لا تُقاس بالأرصدة المصرفية وحدها؛ إذ لم يحقِّق البلد مكاسب على صعيد نيل القبول الدولي والأمن المنشودَيْن بشدة فحسب، بل أيضًا، وبحقٍّ، على صعيد إعطاء المُصدِّرين الألمان إمكانية الوصول إلى أسواق جديدة كبيرة.
ومع ذلك، فمنذ الثمانينيات، وبالأخص منذ منتصف التسعينيات، ازداد وعي الدول الأعضاء كثيرًا بالتكاليف المالية للعضوية. نجم ذلك في جزء منه عن السيدة تاتشر وحملتها الشرسة، كما نجم أيضًا عن تطور سياسات الجماعة والاتحاد؛ فالنمو الكبير في إنفاق التماسك عزَّز بدرجة أكبر الفاصل بين الشمال والجنوب، القائم بين الدول المساهِمة الصافية والدول المتلقية الصافية، فيما أدى ازدياد أهمية المورد الرابع في الواقع إلى رد مقبوضات الميزانية إلى أصحابها. زِدْ على ذلك قلق الدول الأعضاء الحالية بشأن آثار التوسع على الميزانية. وإذا أضفنا إلى هذا رغبة ألمانيا المتزايدة عن تحمل التكلفة، صار الإصلاح أمرًا حتميًّا بشكل متزايد.
إطار ٣: مدفوعات أو مقبوضات الميزانية الصافية للدول (النسبة المئوية من إجمالي الدخل القومي لسنة ٢٠١٠ مطروحًا منه المدفوعات الصافية)
الدول المساهمة الصافية | الدول المتلقية الصافية | ||
---|---|---|---|
بلجيكا | −٠٫٤١ | قبرص | ٠٫٠٦ |
ألمانيا | −٠٫٣٦ | إسبانيا | ٠٫٣٩ |
السويد | −٠٫٣٤ | أيرلندا | ٠٫٦٤ |
المملكة المتحدة | −٠٫٣٣ | مالطة | ٠٫٩١ |
هولندا | −٠٫٣١ | رومانيا | ١٫٠٣ |
إيطاليا | −٠٫٣٠ | سلوفينيا | ١٫١٩ |
فرنسا | −٠٫٢٦ | الجمهورية التشيكية | ١٫٥٣ |
الدنمارك | −٠٫٢٦ | البرتغال | ١٫٥٧ |
النمسا | −٠٫٢٤ | اليونان | ١٫٦١ |
فنلندا | −٠٫١٦ | سلوفاكيا | ٢٫٠٧ |
لوكسمبورج | −٠٫١٤ | بولندا | ٢٫٤٧ |
بلغاريا | ٢٫٥٥ | ||
المجر | ٢٫٩٤ | ||
لاتفيا | ٣٫٦٧ | ||
إستونيا | ٤٫٨٦ | ||
ليتوانيا | ٥٫٠٣ |
المصدر: المفوضية الأوروبية، التقرير المالي لسنة ٢٠١٠ عن ميزانية الاتحاد الأوروبي، ٢٠١١.
في عام ١٩٩٩، وافق المجلس الأوروبي المنعقد في برلين على تقليص المبلغ الذي تدفعه ألمانيا وهولندا والنمسا والسويد — وكانت دولَ مساهَمةٍ صافيةٍ آنذاك — في التخفيض الممنوح لبريطانيا، الذي ظل مثار خلاف؛ لأن المبررات الأصلية، وهي المساهمات الزائدة وقلة المقبوضات، كانت تقل إقناعًا شيئًا فشيئًا، لكن الحكومات البريطانية المتعاقبة لم تكن راغبة في التخلي عن دخل منتظم بعدة مليارات من الجنيهات سنويًّا. وعلى الرغم من ذلك، وبعد أن صار التوسع واقعًا، أبدى البريطانيون بعض الاستعداد لتقليص مستوى التخفيض الممنوح لهم لتخفيف العبء على الدول الأعضاء الجديدة؛ حيث وافقوا في ٢٠٠٥ على استقطاع ١٠٫٥ مليارات يورو من التخفيض فيما بين عامَي ٢٠٠٧ و٢٠١٣؛ أي ما يعادل نحو ربع القيمة الإجمالية. كان الهدف تأييد المبررات البريطانية لإجراء مراجعة عامة لسياسات الإنفاق وإجراء الميزانية، على الرغم من أن هذا لم يتمخض إلا عن القليل جدًّا، وكانت القضية مثار نزاع في المفاوضات بشأن المنظورات المالية للفترة ٢٠١٤–٢٠٢٠.
ثمة شاغل آخر يتمثَّل في غياب النمو في ميزانية الاتحاد الأوروبي الإجمالية؛ فمنذ ١٩٩٩ وهناك انخفاض في سقف النفقات كنسبة مئوية من إجمالي الناتج القومي. وحتى مع نمو إجمالي الناتج القومي هذا بمرور الزمن، تظل الميزانية صغيرة جدًّا مقارنة بميزانيات حكومات الدول الأعضاء. وهذه مقارنة ظالمة نوعًا ما؛ لأن الاتحاد الأوروبي ليس مضطرًّا للإنفاق على الضمان الاجتماعي، ولا الدفاع، ولا الصحة، ولا التعليم، ولا أيٍّ من البنود الرئيسة التي نربطها في المعتاد بالأنشطة العامة، غير أن حجم الميزانية يحدُّ فعلًا مما يمكن للاتحاد فعله — مثلًا — حيال تشجيع التماسك والتنمية المتوازنة في عموم دوله الأعضاء. وفي حين يبدو أن الاتحاد اجتاز فعلًا، وبسلام، انتقاله إلى عضوية موسعة، فالواضح أنه ستكون هناك حاجة إلى المزيد من الإصلاحات إذا أراد الاتحاد أن يظل طرفًا فاعلًا مهمًّا، على الصعيد الداخلي، وفي العالم ككلٍّ.