منطقة حرية وأمن وعدالة
قال إرنست بيفن، وزير الخارجية البريطانية العظيم، في أول حكومة عمالية بعد الحرب العالمية الثانية، إن هدف سياسته الخارجية «كان في الحقيقة … التعامل مع مشكلة جوازات السفر والتأشيرات بأكملها»، بحيث يمكنه «التوجه إلى محطة فيكتوريا» التي كانت تغادر منها القطارات متوجِّهة إلى أوروبا، و«الحصول على تذكرة قطار والذهاب إلى حيثما شئت دون جواز سفر أو أي شيء آخر.» لقد احتفظ النقابي العمالي القديم برؤيته لأُخُوَّة بني الإنسان، لكنه حين شغل منصب وزير الخارجية وجد نفسه يدافع عن سيادة دولته. وقد رفض فكرة عضوية بريطانيا في الجماعة الوليدة التي قُدِّر لها في نهاية المطاف أن تجعل تحقيق حلمه ممكنًا.
اشتملت معاهدة روما بالفعل عام ١٩٥٨ «الأشخاص» بجانب السلع والخدمات ورأس المال في الحريات الأربع الخاصة بالحركة والتنقُّل عبر الحدود بين الدول الأعضاء، مع قصر هذه الحرية بالنسبة «للأشخاص» على عبور الحدود لأغراض العمل. وبعد ذلك بربع قرن، عرَّف القانون الأوروبي الموحد السوق الداخلية بوصفها «منطقة دون حدود داخلية»، فاعتبرت حكومة السيدة تاتشر أن هذه الكلمات لا تعني أي تغيير؛ لأنها قُيِّدت بإضافة عبارة «وفقًا للمعاهدة»، التي كانت لا تزال سارية المفعول في النواحي ذات العلاقة. لكن حكومات الدول الأكثر تأييدًا للفيدرالية أرادت التصرف على أساس المعنى الحرفي للكلمات؛ أي إلغاء إجراءات مراقبة حدودها المشتركة؛ ومن ثَمَّ منح الجميع حرية الحركة والتنقل عبرها.
أُعطيت هذه الفكرة تعبيرًا قانونيًّا في اتفاقيتَي شنجن لسنة ١٩٨٥ وسنة ١٩٩٠. وشنجن هذه بلدة صغيرة في لوكسمبورج تحتل موقعًا رمزيًّا على الحدود مع كلٍّ من فرنسا وألمانيا، وقَّعت فيها هذه الدول الثلاث، إضافة إلى بلجيكا وهولندا، هاتين الاتفاقيتين. وازداد عدد الموقِّعين منذ ذلك الحين حتى انضمت دول الاتحاد الأوروبي كافة، عدا بريطانيا وأيرلندا، وكذلك أعضاء الرابطة الأوروبية للتجارة الحرة، إلى أن صار يُطلَق عليها كثيرًا «دول شنجن».
كان لشنجن هدفان: عُني أولهما بإجراءات مراقبة الحدود؛ أي إلغاء هذه الإجراءات داخل دول شنجن، وتأسيس إجراءات مراقبة حدودها الخارجية، ووضع قواعد للتعامل مع اللجوء والهجرة وتنقُّل مواطني البلدان الأخرى داخل المنطقة أو إقامتهم فيها. وعُني الثاني بالتعاون في مكافحة الجريمة.
يزداد النشاط الإجرامي عبر الحدود لأسباب مماثلة للتي تدفع عجلة النشاط الاقتصادي عبر الحدود؛ وهي التقدم التكنولوجي، وبالأخص في مجالَي النقل والاتصالات. وكما هو الحال مع التجارة، هناك حاجة إلى التعاون عبر الحدود إذا أريد لسيادة القانون أن تواكب هذا النشاط. وفي ظل العلاقة الوثيقة التي تمخض عنها التكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء، نجد هذه الدول بحاجة خاصة إلى مثل هذا التعاون. وقد اتُّخذت خطوة أولى عام ١٩٧٤ بإبرام اتفاقية «تريفي» لتبادل المعلومات حول الإرهاب، وسرعان ما تبيَّن الوزراء والمسئولون المعنيون جدوى اشتمال أشكال الجريمة الأخرى. كانت هذه بادرة شنجن التي أوجدت تعاونًا أوثق بين أجهزة إنفاذ القانون بالدول التي كانت جاهزة للمضي أبعد من ذلك معًا، والتي أفضت إلى «مجموعة صكوك شنجن» القانونية التي تسري على أغلبية كبيرة جدًّا من الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي.
(١) ركيزة ماستريخت الثالثة
تؤثر الجوانب العابرة للحدود المرتبطة بالجريمة وبتنقُّل البشر على الدول الأعضاء كافة لا دول شنجن فحسب، وقد اتُّفق على أن تنص معاهدة ماستريخت على التعاون في هذه المجالات، فنُصَّ في المعاهدة على الإرهاب والمخدرات والاحتيال و«أشكال الجريمة الخطيرة الأخرى»، بجانب إجراءات مراقبة الحدود الخارجية واللجوء والهجرة والتنقل عبر الحدود الداخلية من قِبل مواطني الدول غير الأعضاء في الاتحاد. وكان على السلطات القضائية والإدارية والشرطية والجمركية بالدول الأعضاء أن تتعاون من أجل التعامل معها.
أرادت بعض الدول، كألمانيا، أن يكون هذا في إطار مؤسسات الجماعة على أن تلعب المفوضية والمحكمة والبرلمان، إلى جانب المجلس، أدوارها الطبيعية، وأرادت دول أخرى، كبريطانيا — دفاعًا عن سيادتها — أن تُستبعد، بقدر المستطاع، كل المؤسسات الأخرى عدا المجلس، فكانت الثمرة «الركيزة الثالثة» الجديدة المعنية «بالتعاون في مجال العدل والشئون الداخلية»، التي أنشئت بجانب «الركيزة الأولي» (الجماعة). كانت المؤسسات المعنية بالتعاون في مجال العدل والشئون الداخلية حكومية دولية، مع اتباع إجراء الموافقة بإجماع الآراء في المجلس، واقتصار البرلمان والمفوضية على الأدوار الاستشارية، ولا شيء بالمرة للمحكمة. كان مقررًا أن تكون أدوات السياسة هي المواقف المشتركة والإجراءات المشتركة التي يقررها المجلس، والاتفاقيات التي تصدِّق عليها الدول الأعضاء كافة. وستنص إحدى الاتفاقيات على تأسيس جهاز الشرطة الأوروبية الجديد «اليوروبول».
نظرًا لاشتراط الموافقة بإجماع الحكومات الخمس عشرة آنذاك قبل أن يتسنَّى اتخاذ أي قرار، ليس من المفاجأة أنه لم يُحرَز تقدم كبير بحلول الوقت الذي جرى فيه التفاوض بشأن معاهدة أمستردام. لم تكن أي اتفاقية قد دخلت بعدُ حيز التنفيذ، وكان العمل في النواحي الأخرى بطيئًا، لكن القلق بشأن الجريمة العابرة للحدود والهجرة غير الشرعية ظل يتنامى، وكان التوسع شرقًا — الذي كان يُتوقع أن يجلب مشكلات جديدة — أمرًا وشيكًا؛ لذا أرادت معظم الدول الأعضاء نظامًا أقوى.
(٢) مشروع أمستردام
أكدت معاهدة أمستردام نية إقامة ما سمَّته بشيء من الشموخ «منطقة حرية وأمن وعدالة». كان هذا يعني في الأساس انتقالَ مختلف عناصر الركيزة الثالثة إلى الركيزة الأولى، تحت سيطرة مؤسسات الاتحاد، وأبرزها البرلمان والمحكمة. ولقد اكتسبت «منطقة الحرية والأمن والعدالة» زخمًا معتبرًا؛ إذ اقترنت بدورة جديدة من البرامج الخمسية بداية من ١٩٩٩، وبالتبني التدريجي لميثاق الحقوق الأساسية.
جلبت لشبونة المزيد من التغيير الجوهري؛ إذ أدى دمج الركائز إلى إدخال التعاون الشرطي والقضائي في «الإجراء التشريعي العادي»، وإنْ كان مع بعض الترتيبات الانتقالية، ومع السماح للدول الأعضاء بحق مبادرة محدود. وفي حين أن الميثاق صار الآن ملزمًا قانونًا، تتمتع دول عديدة من ضمنها المملكة المتحدة بأحكام خاصة، وبخيار عدم المشاركة؛ مما يعكس الحساسية المستمرة لميدان السياسات.
في حين تتسم الأوضاع في الاتحاد بوجه عام بدرجة ملحوظة من الحرية والأمن والعدالة عند مقارنتها بمعظم أنحاء العالم الأخرى، تُستخدم هذه الكلمات في المعاهدة بمعنى أكثر تحديدًا؛ إذ تشير الحرية إلى حرية الحركة والتنقل عبر الحدود الداخلية، ويشير الأمن إلى الحماية من الجريمة العابرة للحدود، وتشير العدالة — بالدرجة الأولى — إلى التعاون القضائي في الأمور المدنية والجنائية. ولم يتضح بعدُ إن كان من الحكمة إفراد كلمات لها مثل هذه الدلالة الواسعة والنبيلة لمثل هذه الغايات المعينة، وربما تعتمد الإجابة على مدى تحقيق هذه الغايات ووقت تحقيقها.
فيما يتعلق «بحرية» الحركة والتنقل، تحوَّل معظم مجموعة صكوك شنجن بالفعل إلى الاتحاد، وهكذا صار حق الناس في الحركة والتنقل بحرية في عموم بلاد شنجن أمرًا تكفله المؤسسات، وإن كانت بعض الدول الأعضاء اضطُرت إلى استعادة بعض نقاط مراقبة الحدود مؤقتًا للتعامل مع تدفقات المهاجرين غير مواطني الاتحاد الأوروبي القادمة من الدول الأعضاء الأخرى بتأشيرات مزيفة. لم تصل إجراءات مراقبة الحدود الخارجية بعدُ إلى المستوى المُرضي، كما لم تكتمل بعد سياسة الهجرة واللجوء المشتركة. ولن تكون هناك حرية حركة وتنقل دون نقاط مراقبة للحدود في عموم الاتحاد، في حين تحتفظ بريطانيا والدنمارك وأيرلندا بإجراءاتها الرقابية. ولما كانت بريطانيا مصممة على الاحتفاظ بإجراءاتها لمراقبة الحدود، فقد آثرت عدم المشاركة في أحكام معاهدة أمستردام المعنية بحرية الحركة والتنقل، واضطرت أيرلندا — التي تتمتع بحدود مفتوحة مع المملكة المتحدة — إلى أن تحذو حَذوها، لكن لكلتيهما الحق في الانضمام إلى تدابير معينة شريطة موافقة الدول الأخرى بالإجماع في كل حالة. وقالت الحكومة البريطانية إنها تعتزم المشاركة بالكامل في نهاية المطاف في مجموعة صكوك شنجن، ما عدا الجوانب المتعلقة بإجراءات مراقبة الحدود، فيما آثرت الدنمارك — التي سبق لها التوقيع على اتفاقيات شنجن — عدم المشاركة بعد تحويلها إلى الاتحاد.
وفيما يتعلق «بالأمن»، ما زالت الحرب ضد الجريمة العابرة للحدود في أغلبها مسألة حكومية دولية، وإن كانت في ظل النفوذ المتوسع للمفوضية. بُذل نشاط كبير للتصدي للاتجار بالأشخاص والجرائم ضد الأطفال والفساد، وغسل الأموال، وتزييف الأموال، و«الجريمة الإلكترونية». وقدَّم اليوروبول مساهمة مفيدة، وإنْ كان لم يتسنَّ له العمل بكامل طاقته ريثما صدَّقت الدول الأعضاء كافة على اتفاقيته كُليةً، وذلك في يوليو ١٩٩٩؛ أي بعد أن نصَّت معاهدة ماستريخت على إنشائه بأكثر من خمس سنوات. وبالمثل شهدت «الوكالة الأوروبية لإدارة التعاون في مجال العمليات على الحدود الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي» (فرونتِكس)، التي تأسست عام ٢٠٠٥ لتنسيق حرس الحدود؛ شهدت بداية بطيئة، لكنها الآن تنشر فِرقًا على العديد من حدود الاتحاد الرئيسة.
غير أن أكبر تقدُّم أُحرز كان في مجال مكافحة الإرهاب؛ فبعد هجمات سبتمبر ٢٠٠١ على الولايات المتحدة، دفع الاتحاد بسرعة لتطوير قدراته على التصرف، فوُوفق عام ٢٠٠٢ على مذكرة توقيف أوروبية ظلت حبيسة الأدراج سنوات طويلة، بجانب الموافقة على خطة عمل تستهدف جوانب منع الأعمال الإرهابية وملاحقتها قضائيًّا، إضافة إلى تنسيق استجابات الدول الأعضاء. وارتبط بهذا قرار إنشاء «كلية شرطة أوروبية» رفيعة المستوى، وهيئة تسمى «وكالة التعاون القضائي الأوروبي» (يوروجَست) تضم مدَّعين عموم، وقضاة تحقيق، وضباط شرطة من الدول الأعضاء؛ للتعاون في التحقيقات الجنائية والادعاء.
حسب التعريف الضيق «للعدالة» بوصفها تعاونًا قضائيًّا، اتُّخذت بعض الخطوات المعينة لمساعدة الدول الأعضاء بعضها بعضًا في المشكلات العابرة للحدود، المتعلقة بالاعتراف بالأحكام وتنفيذها، وإنْ كان لم يتحقَّق الكثير بشأن حقوق ضحايا الجريمة. وكان المسار الذي اختاره الاتحاد هو مسار الاعتراف المتبادل لا التوفيق، لكن كان هناك اتفاق على العديد من السياسات المشتركة، أبرزها مذكرة التوقيف الأوروبية، التي تتصدى لبعض مشكلات الجريمة العابرة للحدود.
وحسب التعريف الواسع للكلمة، كانت عدالة التوزيع قضية في هذا المضمار منذ أرادت ألمانيا — وفيها من طالبي اللجوء ما يفوق كثيرًا مَن في الدول الأعضاء الأخرى — تدابير لتقاسم التكلفة؛ مما أسفر عن استحداث سياسة اللجوء الأوروبية التي نسَّقت السياسات الوطنية، وسمحت بتحسين إدارة التدفقات السكانية الكبيرة التي شهدها عالم ما بعد الحرب الباردة.
ومن منظور أوسع للعدالة، استجاب الاتحاد للانتقادات التي وُجِّهت إليه بأنه شدَّد القيود على الهجرة واللجوء، على حساب الاهتمام بمعاملة البشر ذوي الصلة. وفي مواجهة الشعور العام العدائي واسع الانتشار ضد هؤلاء الأشخاص، نصَّت معاهدة أمستردام على تدابير لحماية حقوقهم، إضافة إلى إجراءات لمكافحة العنصرية وكراهية الأجانب بوجه عام. وبالجمع بين هذه التدابير وميثاق الحقوق الأساسية، وضع الاتحاد الآن برنامجًا ثريًّا نوعًا ما لحماية حقوق الإنسان، وإن كانت درجة قدرته على إنفاذه تظل موضع نقاش.
(٣) ماذا في الاسم؟
تكاد تكون حرية الحركة والتنقل داخل دول شنجن واقعًا مكتملًا، ولو كان بمقدور بيفن اليوم الذهاب إلى محطة جار دو نور أو محطة جار دو ليون، لاستطاع شراء تذكرة والذهاب دون جواز سفر أينما شاء في دول شنجن، إلا محطة فيكتوريا للأسف.
في حين أضفت لشبونة كثيرًا من الوضوح على تنظيم هذا الميدان من ميادين السياسات، فمن المشكوك فيه أن ينجح هذا نجاحًا كافيًا في التصدي لمختلف التحديات؛ فالانقسامات المستمرة بين الدول الأعضاء والاتحاد، إضافة إلى التباين بين عضويتَي الاتحاد الأوروبي ودول شنجن، تسفر عن خطوط سيطرة ملتبسة، ونطاق عمل محدود، ونظام لا يعرفه ولا يفهمه إلا قلة من الجمهور. تُعد منطقة الحرية والأمن والعدالة، من نواحٍ عدة، مثالًا نمطيًّا على المشكلة الأوسع نطاقًا التي تواجه الاتحاد؛ فهي من شأنها أن تكون وسيلة مفيدة للتعامل مع المشكلات التي تقع خارج نطاق الدول الأعضاء منفردة، لكن تعوقها التسويات السياسية، ولغة الاتحاد المبهمة، والسياسات غير المعقولة أحيانًا التي تنتج عن محاولة التوفيق بين مثل هذا العدد الكبير من الأطراف الفاعلة دون إصلاح مؤسسي وافٍ.