الاتحاد الأوروبي وسائر أوروبا
من أشد ما يثير الإعجاب في الاتحاد الأوروبي قدرته على تطوير مجموعة صغيرة من الدول المتشابهة نسبيًّا في أوروبا الغربية، وبسط رقعتها لتصبح اتحادًا أوروبيًّا أكثر اتساعًا وعمقًا بكثير. وقد تناولنا في الفصل الثاني عملية التعمُّق والتوسع منذ الخمسينيات، بما فيها من أوجه تآزر وتناقض. وفي إطار هذه العملية الطويلة، كان التوسع في أوروبا الوسطى والشرقية هو الأشد إثارة للنزاع، باستثناء رد فعل ديجول تجاه طلب الانضمام البريطاني. وفي حين أن الدول الأعضاء توافقت عمومًا على أن التوسع شرقًا سيكون محل ترحيب، بغية توسيع مساحة الازدهار والأمن، كانت هناك أيضًا درجات متفاوتة بشدة من الحماس إلى حدِّ أن مناقشة «إجهاد التوسع» لم تعد بالأمر النادر في الدول الأعضاء القديمة. ولا ريب أنه كانت هناك مشكلات آتية في الطريق، لكن يمكن النظر إلى التوسع كجزء جوهري من الاتحاد الأوروبي واستمرار تطوره، وبالأخص في تعاملاته مع من يظلون خارجه. وما زالت المعاهدة تؤكد أن العضوية مفتوحة أمام أي دولة أوروبية تحترم «مبادئ الحرية والديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وسيادة القانون.»
(١) التوسع لاشتمال أغلبية أوروبا الغربية
هناك إجراء روتيني يُتَّبع في عملية التوسع؛ فعند تلقِّي طلب انضمام، يطلب المجلس من المفوضية «رأيها» الذي يجوز له على أساسه أن يقر، بالإجماع، تفويضًا لإجراء المفاوضات. تتفاوض المفوضية تحت إشراف المجلس، ويلزم في نهاية المطاف إقرار معاهدة انضمام بالإجماع في المجلس، وبموافقة البرلمان، يليها التصديق في الدول الأعضاء كافة.
يمكن أن تُسبق العضوية بصورة ما من صور الانتساب، التي كانت أول أمثلتها اتفاقية الانتساب بين اليونان والجماعة عام ١٩٦٢، والتي نصَّت على إزالة الحواجز التجارية على مدى فترة انتقالية، وفي صور عديدة من التعاون، ومن خلال مجلس انتساب. كما تصورت الاتفاقية أيضًا حصول الدولة على العضوية في النهاية. وبعد العديد من التقلُّبات، حصلت اليونان بالفعل على العضوية عام ١٩٨١.
لم تكن البرتغال وإسبانيا مؤهلتَيْن للانتساب في الستينيات؛ إذ كان نظاماهما الحاكمان غير متوافقين مع الجماعة، التي كانت البلدان الديمقراطية وحدها هي الشركاء المناسبين لها. كانت البرتغال قد صارت من قبل، في ١٩٦٠، عضوًا مُؤسِّسًا في الرابطة الأوروبية للتجارة الحرة التي أسَّستها بريطانيا ردًّا على تأسيس الجماعة الاقتصادية الأوروبية، والتي لم تكن معنية بالطبيعة السياسية لأعضائها؛ نظرًا لاقتصارها على العلاقة التجارية المحضة. لذا فعندما حلَّت الديمقراطية محل الدكتاتورية في السبعينيات، تفاوض كلا بلدَي شبه جزيرة أيبيريا بشأن الانضمام إلى الجماعة دون أي صورة سابقة من صور الانتساب. وكان هذا أحد أسباب استطالة المفاوضات؛ إذ لم يتحقَّق الانضمام إلا في ١٩٨٦، لكن مقاومة أنصار الحمائية، وبالأخص من جانب المزارعين الفرنسيين، كانت السبب الأهم.
كان الطريق إلى العضوية مختلفًا بالنسبة للأعضاء الشماليين بالرابطة الأوروبية للتجارة الحرة. كان البريطانيون والدنماركيون والنرويجيون والسويديون والسويسريون قد نأوا بأنفسهم عن المقتضيات السياسية لعضوية الجماعة، كما استُبعد النمساويون بفعل معاهدة السلام التي كانوا طرفًا فيها. وانضمت بريطانيا والدنمارك وأيرلندا عام ١٩٧٣ دون سابق انتساب على أي نحو، وأُبرمت في الوقت نفسه اتفاقيات تجارة حرة ثنائية بين الجماعة وكل واحدة من الدول الأخرى بالرابطة الأوروبية للتجارة الحرة، التي كانت تضم أيسلندا بحلول ذلك الوقت. وأُبرمت هذه الاتفاقيات لاحقًا مع فنلندا التي انضمت عام ١٩٨٦، وليختنشتاين التي انضمت عام ١٩٩١.
بمجرد أن انفك القيد السوفييتي عام ١٩٨٩، تقدَّمت النمسا بطلب لعضوية الجماعة الأوروبية، ولم تتأخر فنلندا والنرويج والسويد وسويسرا عنها كثيرًا. صاغ ديلور — على أمل تأجيل هذا التوسع خشية أن يضعف الجماعة — مقترحًا بإقامة «منطقة اقتصادية أوروبية» تضم بلدان الرابطة الأوروبية للتجارة الحرة والجماعة الأوروبية في سوق موحدة موسعة، لكن حكومات تلك الدول الخمس لم تشأ أن تُستبعد من اتخاذ القرار في الجماعة؛ لذا تقدمت كلها بطلبات للعضوية، فحصلت عليها النمسا وفنلندا والسويد عام ١٩٩٥، بعد مفاوضات قصيرة يسَّرتها علاقتها القائمة في ميدان التجارة الحرة، ورفض النرويجيون الانضمام في استفتائهم الشعبي، ورفض الناخبون السويسريون قبول حتى المنطقة الاقتصادية الأوروبية. لذا تظل سويسرا باتفاقية التجارة الحرة الثنائية التي أبرمتها، ولا يتبقَّى من المنطقة الاقتصادية الأوروبية إلا أثر ضئيل يربط النرويج وأيسلندا وليختنشتاين بالاتحاد.
(٢) التوسع شرقًا
ظلت العلاقات بين الجماعة الأوروبية والاتحاد السوفييتي فاترة طوال الحرب الباردة؛ إذ رفض الاتحاد السوفييتي منح الجماعة الاعتراف القانوني معتبرًا إياها تقوية «للمعسكر الرأسمالي»، ورفضت الجماعة التفاوض مع مجلس التعاون الاقتصادي (الكوميكون)؛ تلك المنظمة الاقتصادية التي يهيمن عليها الاتحاد السوفييتي. وبعد عام ١٩٨٩ وتفكُّك الكتلة السوفييتية، اتجهت بلدان أوروبا الوسطى والشرقية إلى الجماعة رائيةً فيها معقلًا للرخاء والديمقراطية والحماية من الاتحاد السوفييتي الفوضوي (والآخذ في الانهيار)، وبطبيعة الحال فكرت هذه الدول في الحصول على العضوية.
كان أبسط مثال هو جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الاسم الذي أطلقه الجزء الواقع تحت السيطرة السوفييتية من ألمانيا على نفسه)، التي صارت جزءًا من جمهورية ألمانيا الاتحادية عام ١٩٩٠، وسارعت الجماعة إلى إجراء التعديلات الفنية اللازمة بحيث يتسنى لألمانيا الموسعة تقلُّد العضوية الألمانية دون إبطاء.
بالنسبة لبلدان أوروبا الوسطى والشرقية الأخرى، وُضعت حزم المعونات والتنمية الواسعة سويًّا تحت قيادة المفوضية؛ حيث سعت مشروعات، كمشروع «تقديم المساعدة لبولندا والمجر لإعادة تشكيل هياكل الاقتصاد»، إلى تقديم المساعدة بإعادة هيكلة الديمقراطيات الناشئة اقتصاديًّا وسياسيًّا، فكانت تنفق نحو ٦٠٠ مليون يورو سنويًّا بين عامَي ١٩٩٠ و٢٠٠٣، وهي السنة التي أُنهي فيها المشروع. ومع ذلك، فعلى الرغم من الترحيب بمثل هذه المساعدة، اعتبرها كثيرون في المنطقة صرفًا للأنظار عن العضوية. والحقيقة أن وجهة النظر هذه كانت انعكاسًا دقيقًا للشعور المتناقض الذي كان يشعر به الكثير من أعضاء الاتحاد تجاه التوسع. ففي حين كان كثير من الساسة يعلنون على الملأ رسالة الاتحاد التاريخية المتمثلة في إعادة توحيد أوروبا سلميًّا، فإنهم كانوا قلقين حيال قبول عدد كبير من الأعضاء الجدد الفقراء نسبيًّا، والصغار نسبيًّا، وغير المستقرين نسبيًّا، والذين ربما يرتحل سكانهم جملةً إلى الغرب بحثًا عن فرصة عمل.
ولم يوافق الاتحاد الأوروبي على مبدأ منح العضوية الكاملة للدول التي تريدها إلا في ١٩٩٣، في المجلس الأوروبي المنعقد في كوبنهاجن. لكن الاتحاد وافق أيضًا، ولأول مرة، على التوسع في أحكام المعاهدة، ووضع ما صار يُعرف باسم معايير كوبنهاجن، وهي: الديمقراطية المستقرة، وحقوق الإنسان، وحماية الأقليات، وسيادة القانون، واقتصاد السوق التنافسي، و«القدرة على تحمُّل التزامات العضوية بما فيها التقيد بأهداف الاتحاد السياسي والاقتصادي والنقدي». وفي حين كان للاتحاد السياسي معانٍ مختلفة في مختلف الدول الأعضاء؛ فإن دلالة «التزامات العضوية» كانت واضحة بما يكفي، بما فيها مهمة هائلة هي تطبيق ما لا يقل كثيرًا عن ١٠٠ ألف صفحة من التشريعات التي يختص معظمها بالسوق الموحدة. ولتسكين المخاوف من أن يؤدي التوسع إلى الإضعاف، جاء أيضًا الشرط القاضي بضرورة أن تكون لدى الاتحاد «القدرة على استيعاب أعضاء جدد مع الحفاظ في الوقت نفسه على زخم التكامل.»
على الرغم من وضع الحد الأدنى للعضوية على هذا النحو، ووضع برامج شاملة لتقديم المساعدة لدول أوروبا الوسطى والشرقية لإعانتها على استيفائها، لم تبدأ العجلة تدور فعلًا إلا بعد إبرام معاهدة أمستردام عام ١٩٩٧. وفي ١٩٩٨، رأى الاتحاد أن موجة أولى تضم خمس دول أحرزت تقدمًا، فبدأت المفاوضات عام ١٩٩٨ مع الجمهورية التشيكية وإستونيا والمجر وبولندا وسلوفينيا بجانب قبرص، التي كانت هي أيضًا قد تقدمت بطلب العضوية، ثم جاء عام ٢٠٠٠ بموجة ثانية تضم بلغاريا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا بجانب مالطة. وفي حين أن الاتحاد كان قد أشار إلى سير كلِّ عملية من عمليات التفاوض على الانضمام بوتيرتها الخاصة، وافق المجلس الأوروبي المنعقد في كوبنهاجن عام ٢٠٠٣ على إمكانية انضمام هذه الدول كلها — عدا بلغاريا ورومانيا — في مايو ٢٠٠٤. وقد نالت هاتان الدولتان العضوية في ٢٠٠٧.
كانت عملية التوسع شرقًا مطولة بشدة لعدد من الأسباب؛ فعلى جانب الدول الأعضاء الجديدة، كانت التكييفات المطلوبة كبيرة جدًّا، ولا سيما في سياق الانبثاق من نظم شيوعية قائمة على الاقتصاد المخطط. كانت هناك دول كثيرة تفتقر ببساطة إلى المؤسسات أو الموارد أو الخبرات اللازمة لتنفيذ تغييرات جذرية في تسيير الكثير من مجالات السياسة العامة واتخاذ القرار. أما على جانب الدول الأعضاء الراهنة، فقد تحدثنا بالفعل عن المخاوف من ازدياد درجة عدم التجانس داخل الاتحاد، والآثار المترتبة على حرية الحركة والتنقل، وعلى حالة سياسات الاتحاد الأوروبي. وكان لهذه النقطة الأخيرة أن تستغرق كثيرًا من وقت الاتحاد في أواخر التسعينيات، فيما كان يكافح لإصلاح السياسة الزراعية المشتركة وسياسات التماسك؛ للتعامل مع المجيء الوشيك لعدد كبير من الدول الفقيرة ذات القطاعات الزراعية الكبيرة. وقد ناقشنا تلك الإصلاحات في الفصل الخامس. من منظور عام، نجد أن الحل الذي تم التوصل إليه هو إصلاح السياسات بتغيير أنواع الدعم المقدم، لكن مع الحد أيضًا من المبلغ الذي يمكن للدول الجديدة أن تطالب به في أي حالة. ظل هذا النهج الجائر في ظاهره تجاه الأعضاء الجدد ملمحًا ثابتًا من ملامح عمليات التوسع السابقة كافة؛ حيث تسعى الدول الأعضاء الراهنة إلى حماية مصالحها ما دامت تستطيع، وما دامت الدولة طالبة العضوية لا تقدر على مقاومة ذلك إلا قليلًا. تجلَّى هذا أيضًا في المناقشات التي دارت بشأن الإصلاح المؤسسي، وتُوِّجت بمعاهدة نيس التي وجدتها بعض الدول الأعضاء غير مرضية بدرجة كافية للدعوة إلى المؤتمر الدستوري.
على الرغم من كل هذا القلق، ربما يكون أبرز ملامح الاتحاد الأوروبي فيما بعد التوسع هو مدى سهولة هذا التوسع حتى تاريخه؛ فعلى الرغم من الفشل في استبدال المعاهدة الدستورية بتسوية نيس، أدت أجهزة الاتحاد المعنية باتخاذ القرار وظائفها دون مشكلات ناشئة عن التوسع، ولم يحدث الشلل التام الذي كان البعض قد توقَّعه في التسعينيات. والحقيقة أننا عندما ندرس أبرز الأزمات داخل الاتحاد الأوروبي، نجد أنها كانت تخص الدول الأعضاء القديمة أكثر مما تخص الجديدة، وهي تصويت الفرنسيين والهولنديين بالرفض على المعاهدة الدستورية، والانقسام الأنجلوساكسوني تجاه حرب العراق وتبعاتها، وعضوية اليونان في اليورو. وقد حدث ذلك لسببين؛ أحدهما: أن الأعضاء الجدد تواروا جانبًا وهم يتعلَّمون كيفية العمل داخل الاتحاد، باستثناء بولندا إلى حدٍّ ما. والآخر: يتعلق بعمق التكييف الهيكلي الذي قامت به هذه الدول لنيل العضوية؛ إذ كان كثيرٌ منها أشد تقيُّدًا بمتطلبات العضوية من الأعضاء القدامى.
(٣) جنوب شرق أوروبا
كانت يوغوسلافيا السابقة، قبل أن تتفكك، أقرب إلى الجماعة من أي دولة أخرى في أوروبا الوسطى أو الشرقية، ثم جاء التفكك والحروب، فأرادت الولايات المتحدة في البداية أن يتعامل الأوروبيون مع هذه المشكلات. وقد تحدَّث جاك بوز، وزير خارجية لوكسمبورج والرئيس الدوري للمجلس في النصف الأول من ١٩٩١، بعبارة شهيرة قال فيها: «هذه ساعة أوروبا.» حصلت سلوفينيا على الاستقلال دون قتال كبير، لكن حروبًا مريرة تلت ذلك في كرواتيا والبوسنة، ولاحقًا في كوسوفو. وفي الحالات الثلاث جميعها أخفق الاتحاد في النهوض تمامًا إلى مستوى مقولة بوز. بدلًا من ذلك، كانت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي هما أهم طرفين فاعلين في التوصل إلى تسوية سلمية دائمة في المنطقة، مع اقتصار الاتحاد الأوروبي على تولي تقديم الإغاثة الإنسانية.
كانت أهم نتائج هذه التجربة للاتحاد تشجيعه على إجراء مراجعة تامة للسياسة الخارجية والأمنية المشتركة، أبرز ما تمخضت عنه هو إنشاء قدرات عسكرية خشنة لتأمين ما يسمى مهام بطرسبرج للإغاثة الإنسانية، وحفظ السلام، وإدارة الأزمات، كما ساعدت أيضًا على دفع الاتحاد إلى دراسة توافُق سياساته الخارجية المختلفة بعضها مع بعض، وهو ما يتجلَّى على نحو أشد وضوحًا في استحداث منصب الممثل السامي لإعطاء عمل الاتحاد الأوروبي واجهة موحدة. وفيما يخص دول البلقان، كانت نتيجة الفشل الأوَّلي الذي مُني به الاتحاد الأوروبي هي الرجوع لنقطة الصفر مرة أخرى، وإصدار «ميثاق استقرار» لجنوب شرق أوروبا. اتْبِعتْ لاحقًا هذه المجموعة الجامعة من السياسات، التي وُضعت لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح الاقتصادي، باتفاقات تحقيق الاستقرار والانتساب بين الاتحاد وكل واحدة من دول غرب البلقان، تدعمها «أداةُ مساعدة ما قبل الانضمام» التابعة للاتحاد، والتي تُوفِّر نحو ٥٠٠ مليون يورو سنويًّا لدول غرب البلقان. رغم بطء تحقيق الاستقرار في المنطقة، تمكن الاتحاد من منح كرواتيا العضوية، ومقدونيا والجبل الأسود وصربيا وضْعَ المرشح الكامل، ودولًا أخرى وضعًا مؤقتًا بموجب اتفاقات تحقيق الاستقرار والانتساب؛ ومن ثم وفَّر حافزًا قويًّا للساسة المحليين ليحذوا حذو مواطني أوروبا الوسطى والشرقية الآخرين.
(٤) روسيا ورابطة الدول المستقلة
رفضت جمهوريات البلطيق السوفييتية السابقة الثلاث، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، الانضمام إلى روسيا في عضوية رابطة الدول المستقلة — وريث الاتحاد السوفييتي — ونالت عضوية الاتحاد الأوروبي عام ٢٠٠٤. وهناك ستٌّ من بين الدول التي ظلت مع رابطة الدول المستقلة، وهي أرمينيا وروسيا البيضاء وجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا وروسيا ذاتها، يمكنها ادعاء أنها أوروبية؛ ومن ثَمَّ يمكنها — إذا استوفت شرطَي الديمقراطية المستقرة واقتصاد السوق التنافسي — أن تتقدم بطلب عضوية الاتحاد.
مع توسُّع الاتحاد الأوروبي حتى حدود روسيا وأوكرانيا، أُثيرت مسألة ضم دول رابطة الدول المستقلة، لكن ما يحول دون ذلك هو حجم روسيا، مضافًا إليه التفاوتات الاقتصادية والسياسية بينها وبين الاتحاد الأوروبي، والتي تفوق كثيرًا التفاوتات الموجودة في أوروبا الوسطى والشرقية؛ ومن ثَمَّ كانت السياسة المتبعة هي إقامة علاقات ثنائية ومتعددة الأطراف أوثق بدلًا من التفكير في العضوية. وتواجه الدول الأخرى أيضًا صعوبات جمَّة، لكن على الرغم من أن أوكرانيا تواجه مشكلات كبيرة في التحول إلى ديمقراطية مستقرة؛ فإن الرغبة في العضوية ليست مستبعدة على المدى الطويل.
غير أن الاتحاد الأوروبي لطالما كان توَّاقًا إلى المساعدة على الانتقال إلى الديمقراطية واقتصادات السوق الحرة في عموم رابطة الدول المستقلة؛ إذ أدار بين عامَي ١٩٩١ و٢٠٠٧ برنامجًا مكثفًا جدًّا للمساعدات يُعرف باسم «برنامج المساعدة التقنية إلى رابطة الدول المستقلة»، الذي ركَّز — بميزانية تبلغ نحو ٥٠٠ مليون يورو سنويًّا — على أشياء من قبيل إعادة تشكيل المؤسسات وتطويرها، والإصلاح الإداري، والخدمات الاجتماعية، والتعليم، والسلامة النووية التي تُعد أكبر بند، وتشكِّل جزءًا كبيرًا من البرامج الإقليمية. وكما سنرى في الفصل العاشر، أُلغي برنامج المساعدة التقنية إلى رابطة الدول المستقلة وحلَّت محلَّه «سياسة الجوار الأوروبية».
تظل علاقة الاتحاد بروسيا علاقة ملتبسة؛ ففي الوقت الذي انقضى إلى حدٍّ كبير ذلك التنافس العسكري الذي كان سِمةً للحرب الباردة، أثارت طبيعة الديمقراطية الروسية المشكوك فيها إبان حكم فلاديمير بوتين في القرن الجديد نقاط توتر جديدة. ومع تضاؤل قوة روسيا العسكرية وعدم نجاح تحوُّلها إلى اقتصاد السوق الحرة حتى الآن على النحو المرجو، بدأت الحكومة الروسية تستخدم صادراتها الهائلة من الطاقة الطبيعية إلى أوروبا كطريقة جديدة تكون بها طرفًا فاعلًا على الساحة الدولية؛ حيث شهد عهد بوتين أمثلة متكررة على استخدام شركات غاز ونفط — تسيطر عليها الدولة — حجمَها وعلاقَتها المُميَّزة بالكرملين لكسب مراكز متزايدة الهيمنة داخل أسواق الطاقة في الاتحاد الأوروبي، وساعدتها على ذلك أجندة تحرير الطاقة التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي ذاته. وفي حين أن هذه الهيمنة مرهونة بحقيقة اعتماد الشركات الروسية حاليًّا على الاتحاد الأوروبي في معظم أرباحها، فإنه ريثما تزداد الثقة في النظم السياسية والقانونية في روسيا، لا يُتوقع أن يسعى الاتحاد إلى تطوير علاقته بما يتجاوز «اتفاق الشراكة والتعاون» الحالي، على الرغم من انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية عام ٢٠١٢.
(٥) تركيا
لا يكتمل هذا الفصل دون الإشارة إلى تركيا؛ فإذا كانت روسيا شريكًا يصعب التعامل معه بالنسبة للاتحاد الأوروبي؛ فإن تركيا لطالما كانت شوكة في جانبه؛ لأنها أعلنت بصراحة وحماس رغبتها في الانضمام إلى عضوية الاتحاد منذ فترة طويلة جدًّا.
أبرمت تركيا مع الجماعة الاقتصادية الأوروبية عام ١٩٦٤ اتفاقية انتساب كاتفاقية اليونان، عدا أن شكوك الجماعة حيال تركيا انعكست في فترة انتقالية مدتها ٢٢ سنة، وعدم وجود التزام واضح بالعضوية. تقدَّمت تركيا بطلب العضوية في ١٩٨٧، لكن الاتحاد لم يعترف بها كمرشح حتى ١٩٩٩، ولم تبدأ المفاوضات إلا في ٢٠٠٥، مع عدم توقع انضمامها قبل سنوات طويلة آتية. ومثل هذه العملية المطوَّلة، حتى بمعايير الاتحاد الأوروبي المتدنية، تحتاج إلى تفسير ما.
أعرب ساسة الاتحاد عن عدد من الأسباب التي تدعوهم إلى الشك فيما إذا كان ينبغي أن تحصل تركيا على العضوية أم لا؛ أولًا: أُشيرَ إلى معايير كوبنهاجن وعدم ملاءمة البلد لما فيه من انتهاكات لحقوق الإنسان، ودور القوات المسلحة في السياسة، ونقاط الضعف التي تعتري الاقتصاد، ومدى إمكانية إدخال إصلاحات ذات معنًى. ثانيًا: هناك شواغل بشأن حجم تركيا (فلن يمضي وقت طويل قبل أن تكون أكبر دولةٍ عضوٍ في الاتحاد الأوروبي بفضل معدل مواليدها المرتفع) وما يترتب على ذلك من احتمال حدوث هجرة واسعة النطاق إلى الدول الأعضاء الأخرى والوزن التصويتي في المجلس. ثالثًا: كثُر الحديث عن «إجهاد التوسع» والحاجة إلى وقفة حقيقية قبل مثل هذا التوسع الكبير. الأمر الرابع، والذي ربما يؤكد هذه الأبعاد الأخرى جميعها، هو فكرة أن تركيا بلد «غريب»؛ فسكانها أغلبيتهم مسلمون، ودعواها بأنها «أوروبية» بالجغرافيا لا تقوم على دليل قوي، ومسارها التاريخي يختلف تمامًا عن مسار الأعضاء الحاليين التاريخي. وهي بهذا تتحدى مفاهيم كثيرة بشأن ماهية الاتحاد الأوروبي وما ينبغي أن يكون عليه.
أما الأتراك من جانبهم، فإصرارهم في مواجهة هذه المعارضة يعكس قوة المشروع الكمالي الغربي في البلد، وقوة تصوُّر البلدِ نفسَه كجسر بين الشرق والغرب. ولا ريب أن الحكومات التركية المتعاقبة أجرت تعديلات كبيرة جدًّا على الهياكل القانونية والسياسية لضمان إجراء مفاوضات الانضمام التي كانت تتوق إليها بشدة، وهو شيء مدهش تمامًا نتيجة انعدام اليقين في أن مثل هذه المفاوضات ستحدث، لكن الصبر التركي، ولا سيما بين عامة الجمهور، ليس بلا نهاية، وقد شهدت السنوات الأخيرة فتورًا في الرغبة في الانضمام إلى الاتحاد، لكن هذا سمة عادية من سمات عمليات التوسع، حيث تبدأ أعين الناس في التفتُّح على التكاليف والمنافع مع اقتراب العضوية.
ومع ذلك تظل عضوية تركيا عالقة. وفي كثير من الدول الأعضاء تمثل العضوية التركية إشكالية عميقة، بالنسبة للجماهير والنخب على حدٍّ سواء، لكن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو ما إذا كان استبعاد تركيا منشودًا أم غير منشود. يضم الاتحاد الأوروبي بالفعل أكثر من ١٥ مليون مسلم؛ لذا فالدين ليس العقبة التي يتصورها البعض، كذلك فإن قبول عضوية تركيا يمكنه المساعدة على توطيد مكانة الاتحاد الأوروبي كقوة عالمية، من خلال قبول دولة تمثل جسرًا للعبور إلى الشرق الأوسط، ومن خلال قدرتها العسكرية الضخمة. مهما يكن القرار الذي يُتخذ في نهاية المطاف، فستكون له آثار خطيرة بالنسبة للاتحاد وتطوره المستقبلي.