الفصل الأول
تقع بلدة «بيدرو» على حدود الريف الجبلي، حيث توجد مجموعة متناثرة من المتاجر والحانات التي يخرج منها عددٌ من خطوط السكك الحديدية الفرعية إلى الوِديان العميقة لإمداد معسكرات الفحم باحتياجاتها. كانت البلدة تنعم بالهدوء طوال الأسبوع، ولكنها كانت تستيقظ على حياة صاخبة في ليالي السبت، عندما ينزل إليها عُمَّال المناجم بأعدادٍ كبيرة، ويأتي أصحابُ مزارعِ الماشية على صهوات خيولهم وفي السيارات.
في أحد الأيام في أواخر شهر يونيو، ترجَّل شابٌّ من أحد القطارات في محطة السكة الحديدية. كان في الحادية والعشرين من عُمره تقريبًا، بملامح تدُل على رهافة حِسِّه، وشعرٍ بُني يميل إلى التموُّج. كان يرتدي بذلة بالية وباهتة، اشتراها برُبع دولار من مدينته، حيث يقف التجَّار اليهود على الأرصفة لعرض بضائعهم، وكان يرتدي كذلك قميصًا أزرق اللون مُتَّسخًا، بلا رابطة عنقٍ، وكان ينتعل زوجًا من الأحذية الثقيلة التي أكل عليها الدهر وشَرِب. وكان يحزمُ على ظهره صُرَّةً من الملابس الإضافية وبطانية، ويضع في جيوبه مشطًا، وفرشاةَ أسنان، ومرآةَ جيب صغيرة.
في أثناء جلوس الشاب في عربة التدخين بالقطار، راحَ يستمع إلى حديث العاملين في معسكرات الفحم؛ حيث كان يرمي إلى تصحيح لهجته. وعندما ترجَّلَ من القطار واصلَ السير بمحاذاة القضبان، وأدخلَ يديه في الرَّماد، ونثرَ بعضًا منه على وجهِه. بعدما تفحَّص أثرَ ذلك عليه في مرآته، سارَ في شارع بيدرو الرئيسي، واختار متجرًا صغيرًا للتبغ، ودَخَلَه. وبصوتٍ فجٍّ، قدر ما استطاع، سألَ صاحبة المكان: «هل يمكنكِ أن تخبريني كيف أصلُ إلى منجم باين كريك؟»
نظرَتْ إليه المرأة دون أن تحمل نظرتها مثقال ذرَّة من شكٍّ. أعطته المعلومات المطلوبة، وركِبَ عربة ونزلَ عند سفح وادي «باين كريك» العميق، حيث كان لا يزال أمامه مسافة ثلاثة عشر مِيلًا ليقطعها. كان يومًا مُشمسًا، وكانت السماء شديدة الصفاء، والهواء الجبلي مُنعِشًا. بدا الشابُّ سعيدًا، وبينما كان يُسرع في طريقه، أنشدَ أغنية من عدة أبيات:
وهكذا دواليك … ما دام القمر يسطعُ في حَرَم الكلية. إنه يجمع بين اللَّغو الهَزلي المَرِح والتساؤلات التي شرع الشبابُ العصري يُزعجون بها الجيل الأكبر سنًّا. ولأنَّ الأغنية كانت على شاكلة المسيرات العسكرية، جاءت وتيرتُها سريعةً على مُنحَدَرات الوادي الجبلي العميق؛ حيث كان بإمكان وارنر أن يتوقَّف ويصرخ في جنبات الوادي، ويستمع إلى صدى صوته، ثم يواصِل التقدُّم. كان قلبُه مُفْعَمًا بالشباب، والحُبِّ، والفضول، كما كان يحملُ في جيبِ بِنطاله بعضَ الفكَّة، وورقة بقيمة عشرة دولارات، لحالاتِ الطوارئ القصوى، مَخِيطَة في حزامه. لو كان أحدُ مُصوِّري «الشركة العامة للوقود» المملوكة لصاحبها بيتر هاريجان، قد تمكَّن من الحصول على لقطة سريعة له في صباح ذلك اليوم، فربما كانت صورة «العامِل في مناجم الفحم» التي تظهر عادةً في أي منشور دعائي عن «الازدهار».
لكن الارتفاع كان حادًّا، وقبل النهاية شعرَ المسافِرُ بثِقَل حذائه، وكفَّ عن الغناء. وفي اللحظة التي كانت فيها الشمسُ تغوص في الوادي العميق، وصلَ إلى وِجهته … حيث رأى أمامه بوابة على الطريق عليها لافتة:
اقتربَ هال من البوابة، التي كانت من القضبان الحديدية، ومُقفَلة. بعدما وقفَ للحظة كي يستعد لإطلاق صوتِه الأجش، ركلَ البوابة وخرجَ رجل من كوخٍ بالداخل.
قال: «ماذا تريد؟»
«أريدُ الدخول. أنا أبحث عن عملٍ.»
«من أين جئت؟»
«من بيدرو.»
«أين عملت من قبل؟»
«لم أعمل في منجم من قبل.»
«أين عملت إذن؟»
«في محل بقالة.»
«أيُّ محل بقالة؟»
«بيترسون وشركاه، في ويسترن سيتي.»
اقتربَ الحارسُ من البوابة، وتفحَّصه عبر القضبان.
نادى: «أنت يا بيل!»، فخرجَ رجلٌ آخر من الكوخ. «هنا رجلٌ يقول إنه كان يعمل في محل بقالة، ويبحث عن عملٍ.»
سأله بيل: «أين أوراقك؟»
كان الجميعُ قد أخبروا هال أنَّ العِمالة نادرة في المناجم، وأنَّ الشركات كانت في حاجة ماسَّة إلى عُمَّال؛ ومن ثَم فقد افترضَ أنَّ كلَّ ما سيكون على العامِل فعله هو أنْ يقرعَ البابَ، وسيُفتَح له. قال: «لم يُعطوني أي أوراق»، وأضافَ على عجلٍ: «لقد ثملتُ وطردوني.» كان مُتأكدًا تمامًا من أنَّ السُّكْر لا يحُول دون العمل في أيٍّ من معسكرات الفحم.
غير أن الرجُلين لم يُحرِّكا ساكنًا لفتح البوابة. تفحَّصه الرجلُ الثاني بتَمَعُّنٍ من مَنْبتِ شعره إلى أَخمَص قَدمَيه، فتوجَّس هال من احتمالية وجود ما يُثير الشكوك. ومن ثَم حاول أن يطمئنهم قائلًا: «ليس بي خَطب. اسمحا لي بالدخول، وسأُثبت لكما.»
ما زال الرجُلان لا يتحركان. تبادَلا النظرات، ثم أجابَ بيل: «لسنا بحاجة إلى عُمَّال.»
صاحَ هال: «ولكن، رأيتُ لافتة أسفل الوادي …»
قال بيل: «هذه لافتة قديمة.»
«لكنني قطعتُ كلَّ هذه المسافة إلى هنا!»
«ستجدُها أسهل في طريق عودتك.»
«لكننا … صِرنا في الليل!»
سألَ بيل بسخرية: «هل أنتَ خائفٌ من الظلام يا فتى؟»
أجابَ هال: «أوه، أنا! فلتُعطِني مجالًا فحسب! هل من طريقةٍ أستطيعُ بها المكوث هنا … أو على الأقل سريرًا للمبيت الليلة، وسأدفعُ المقابل؟»
قال بيل قبل أن يستدير ويدخل إلى الكوخ: «لا مجالَ لأيٍّ من ذلك.»
انتظرَ الرجلُ الآخر، وراحَ يرمقُ هال بنظرةٍ عدائية بالتأكيد. توسَّل هال إليه مرارًا، لكنه كرَّر ثلاثَ مرات: «اذهب إلى أسفل الوادي.» ومن ثَم استسلم هال في النهاية، وابتعدَ قليلًا، وجلسَ يُفكِّر.
في الواقع، بدا من غير المنطقي إلى حَدٍّ سخيف أن ينشروا إعلانًا مُفاده «مطلوب عُمَّال» في أماكن ظاهرة على جانب الطريق، فيضطر المرءُ إلى قطعِ ثلاثة عشر مِيلًا إلى أعلى الوادي الجَبَلي، ليُطرَد دون توضيحٍ. كان هال مُتأكِّدًا من وجود وظائف خلف هذا السور، وكان يرى أنه لو تمكَّنَ فقط من الوصول إلى رؤساء العمل، فسيُمكنه إقناعهم. نهضَ وسَارَ في الطريق مسافة رُبع مِيل، إلى حيث قطعَه خطُّ السكة الحديدية، مُنهِيًا الوادي. كان قطارٌ من «الفوارغ» يمرُّ، مُتَّجهًا إلى داخل المعسكر، وكانت عرباته تُقَعقِع وترتَطِم بينما يشقُّ على المحرك صعودُ الوادي. جعله هذا يفكِّر في حَلٍّ للمشكلة.
كان الظلامُ يزداد بالفعل. انحنى هال قليلًا، واقتربَ من العَرَبات، وعندما أصبحَ في الظِّل، قفزَ وتأرجَح راكِبًا إحداها. لم يستغرق الأمر سوى ثانية واحدة حتى أصبحَ على متنِ العربة، ثم استلقى وانتظرَ مُترقِّبًا ودقات قلبه تتسارع.
قبل أنْ تمرَّ دقيقة سمع صُراخًا، وبالنظر إلى مصدره، رأى كلبَ حراسة البوابة يركضُ على الطريق المؤدي إلى خط السكة الحديدية، ورفيقُه، بيل، خلفه مباشرة. صرخ الحارسان: «أنت! اخرُجْ من عندك!» وقفزَ بيل، ولَحِقَ بالعربة التي كان هال يستقلُّها.
رأى الأخير أنَّ محاولته قد باءت بالفشل، فقفزَ على الأرض على الجانب الآخر من خط السكة الحديدية، وانطلقَ إلى خارج المعسكر. تبِعَه بيل، وعندما مرَّ القطار، ركضَ الحارس الآخر على القضبان لينضمَّ إليه. كان هال يمشي مُسرِعًا، دون أن يَنبِسَ ببِنت شَفة، لكن حارس البوابة أمطره بوابلٍ من الكلمات، معظمها تُحظَرُ طِباعته، وأمسكَ بتلابيب هال، ودفعَه بعنفٍ، ووجَّه له ركلةً مُوجِعة. استعادَ هال توازُنه، وبينما كان الرجل لا يزال يُطارده، استدارَ ووجَّه إليه ضربة أصابت صدره فجعلته يترنَّح.
حرص شقيق هال الأكبر على أن يُعلِّمه كيف يستخدِم قبضتَيه لتسديد الضربات؛ ومن ثَم اتخذَ الآن موقفَ المقاتِل، واستعدَّ لمواجهة المهاجِم الآخر. ولكن، يبدو أنَّ الأمور لا تُحسَمُ في معسكرات الفحم بهذه الطريقة البدائية. فقد توقَّفَ الرجل، ووُضِعَت، فجأة، فُوَّهَة مُسدَّس تحت أنف هال. قال الرجل: «ارفعْ يدَيك!»
لم يدرِ هال ماذا يفعل؛ فاستسلم رافعًا يديه. وفي اللحظة نفسها انقضَّ عليه مهاجِمُه الأوَّل، ووجَّه إليه لكمةً فوق عينه جعلته ينبطح على ظهره فوق الحجارة.