الفصل الرابع عشر
رفع هال ذراعَيه مُشيرًا إليهم بأن يصمتوا.
وصاح قائلًا: «يا شباب، لقد خطفوا لجنتنا. يحسبون أنهم سيقمعون إضرابنا بهذه الطريقة … ولكنهم سيكتشفون أنهم قد ارتكبوا خطأً!»
جاء هدير عشرات الأصوات: «أجل! أنت على حقٍّ!»
«لقد نسُوا أن لدينا اتحادًا نقابيًّا. فليحيَ اتحاد نورث فالي!»
«يحيا! يحيا!» تردَّد صدى هتافهم في جُدران الوادي.
«وليحيَ الاتحاد النقابي الكبير الذي سيدعمنا … اتحاد عُمَّال المناجم في أمريكا!»
ومن جديدٍ، تردَّد صدى هتافهم مرارًا وتكرارًا. «فليحيَ الاتحاد! فليحيَ اتحاد عُمَّال المناجم!» كان عامل منجم أمريكي كبير، وهو فيريس، في مقدمة الحشد، وتردَّد صدى صوته في أذنَي هال كأنه صافرة سفينة بخارية.
استطرد هال، عندما تمكَّنوا من سماع صوته أخيرًا: «يا رفاق، أعمِلوا عقولكم لحظة. لقد حذَّرتكم من أنهم سيحاولون استفزازكم! إن أكثر ما يرغبون فيه أن تدبَّ مناوشات هنا، وتصبح أمامهم فرصة للقضاء على اتحادنا! لا تنسوا يا شباب، إذا تمكَّنوا من جرِّكم إلى القتال، فسيتمكَّنون من القضاء على الاتحاد، الاتحاد هو أملنا الوحيد!»
هتفوا مجددًا: «فليحيَ الاتحاد!» تركهم هال يهتفون بالعبارة بعشرين لغة حتى اكتفوا.
ثم تابع أخيرًا: «الآن يا رفاق، لقد طردوا لجنتنا. وقد يطردونني بالطريقة نفسها …»
صاحت أصوات الحشد: «لا، لن يفعلوا ذلك!» وارتفع صوت فيريس عاليًا في غضبٍ. «دعهم يحاولوا! وسوف نُحرِقهم في أسرَّتهم!»
قال هال: «ولكنهم يمكنهم أن يُرسلوني إلى الخارج! تعلمون أنهم يستطيعون التغلُّب علينا في تلك اللعبة! يمكنهم أن يستدعوا رئيس الشرطة، ويمكنهم إحضار الجنود، إذا لزم الأمر! لا يمكننا أن نقاومهم بالقوة … يمكنهم طرد كل رجل وامرأة وطفل في القرية إذا أرادوا ذلك. ما يجب أن نؤكده هو أنه حتى لو حدث هذا، فلن يقضي على اتحادنا! ولا على الاتحاد الكبير في الخارج، الذي سوف يدعمنا! يمكننا الصمود، وإجبارهم على إرجاعنا في النهاية!»
جاء بعض أصدقاء هال لدعمه عندما رأَوا ما كان يحاول فعله. وأردف هال: «لا للقتال! لا للعنف! ادعموا الاتحاد!» وواصل تأكيد هذه النقطة المهمة؛ حتى وإن طردتهم الشركة، فإن الاتحاد الكبير، الذي يُمثِّل جملة عمال المناجم العاملين في الدولة البالغ عددهم ٤٥٠ ألفًا، سيدعمهم، وسيستدعي بقية العمال في المقاطعة لمؤازرتهم. ومن ثَم فإن الرؤساء، الذين فكروا في تجويعهم لإجبارهم على الطاعة، سيجدون مناجمهم وقد توقفت تمامًا عن العمل. وسيضطرون إلى الرضوخ لمطالبهم، وبهذا ستنتصر أساليب التضامن.
وهكذا تابع هال، متذكرًا ما قاله له أولسون، ومحاولًا تنفيذه. رأى الأمل في وجوههم مرة أخرى، وهو ما بدَّد مزاج الاستياء والغضب.
قال: «الآن يا رفاق، سأدخل لمقابلة المشرف بالنيابة عنكم. سأكون لجنتكم، بما أنهم قد طردوا البقية.»
هتف فيريس مجددًا بصوته الأشبه بصافرة سفينة بخارية: «أنت رجلنا! جو سميث!»
«حسنًا أيها الرجال … انتبهوا الآن لما أقوله! سأقابل المشرف، وبعد ذلك سأذهب إلى بيدرو؛ حيث سيوجد بعض موظفي اتحاد عُمَّال المناجم هذا الصباح. سأخبرهم بالموقف، وأطلب منهم أن يدعموكم. هذا ما تريدونه، أليس كذلك؟»
كان هذا ما يريدونه. «الاتحاد الكبير!»
«حسنًا. سأبذل قصارى جهدي من أجلكم، وسأجد طريقة للحصول على وعدٍ لكم. وفي هذه الأثناء أدعوكم إلى الثبات. سيُخبركم الرؤساء بالأكاذيب، وسيحاولون خداعكم، وسيدسُّون الجواسيس ومثيري المشكلات بينكم … ولكن تمسَّكوا، وانتظروا الاتحاد الكبير.»
وقف هال وهو ينظر إلى الحشد المبتهج. كان لديه الوقت ليُلاحظ بعض الوجوه التي تطلَّعت إليه. وجوه مثيرة للشفقة، أتعبها الكدح، وكان لكلٍّ منها استجداؤه الخاص، ويحكي قصة معاناته المتفردة من القهر والحرمان. أشرقت وجوههم مرة أخرى، لمعت بهذا الضوء الرائع الجديد الذي رآه أول مرة ليلة أمس. كانت قد انطفأت للحظة، لكن ها هو وهجُها يشتعل مجددًا، وهو الذي لن يموت أبدًا في قلوب الرجال … بمجرد أن عرفوا القوة التي يمنحها لهم. لم يؤثِّر في هال أي شيء رآه حتى الآن بقدر ما أثَّرت فيه هذه الحماسة التي وُلِدت فيهم من جديدٍ. يا له من شيء جميل ورائع!
نظر هال إلى أخيه ليرى تأثير الأمر فيه. واستطاع أن يرى في وجه أخيه أمارات الرضا والارتياح اللامحدود. ها هو الأمرُ يمرُّ بسلامٍ! وسيُغادر هال المكان!
التفت هال مرة أخرى نحو العُمال، وبعد أن نظر إلى إدوارد بدَوا إلى حدٍّ ما أكثر إثارة للشفقة من أي وقتٍ مضى. كان إدوارد يُجسِّد السُّلطة التي يواجهونها … السلطة غير المرئية وغير المفهومة التي تعتزم تحطيمهم. وخطرت احتمالية الفشل على ذهن هال في ومضة من العاطفة، واستحوذت على تفكيره. تخيَّل ما سيئُول إليه حالهم عندما يُصبحون بلا قائد يُحدِّثهم ويخطب فيهم. رآهم ينتظرون، ورأى عادةَ الإذعان التي تلازمهم طوال حياتهم والتي تسعى إلى إعادة تأكيد نفسها، ورأى آلاف المخاوف التي تحدق بهم، آلاف الشائعات التي تفترسهم … تلك الوحوش الضارية التي يُطلقها عليهم أعداؤهم الماكرون. سوف يكابدون إحساس الفزع والجزع نفسه الذي كابده هال عندما فكَّر في أبيه … ذلك الرجل العجوز في ويسترن سيتي، الذي حذَّره أطباؤه من التعرُّض للانفعال … سيُكابدون ذلك الإحساس ليس فقط لأجل أنفسهم، بل لأجل زوجاتهم وأطفالهم كذلك.
إذا ظلُّوا صامدين، وحافظوا على اتفاق زعيمهم معهم، فسيُطردون من منازلهم، وسوف يواجهون بردَ الشتاء المقبِل، والجوع، والإدراج في القائمة السوداء. وما الذي سيكون هو بصدد فعله في هذه الأثناء؟ ما دوره في هذا الاتفاق؟ سيقابل المشرف بالنيابة عنهم، وسيُحيلهم إلى «الاتحاد الكبير!» … وبعدها سينطلق إلى حياته الخاصة حيث الراحة والمتعة. كي يأكل شرائح اللحم المشوي واللفائف الساخنة في نادٍ مُجهَّز على أجمل وجه، حيث الخدم المهذبون ذوو الخطوات الرقيقة رهن إشارته! كي يرقص في النادي الريفي مع فتياتٍ فاتناتٍ يرتدين الشيفون والساتان، يتعطرن ويطللن بالابتسامات الحلوة والسحر في سعادة وغير اكتراثٍ! أجل، إنه أمرٌ سهلٌ للغاية! لربما يقول إن هذا ما يُحتِّمه عليه واجبه تجاه والده وأخيه، لكنه يعلم في أعماق نفسه أنها ستكون بمنزلة خيانة للحياة بجوهرها ومعناها الأسمى؛ سيكون كمَن يأخذه الشيطان إلى جبلٍ عالٍ ويُرِيه جميع ممالك الأرض ثم يُغريه بالهيمنة عليها مقابل التنازل عن قِيَمه ومبادئه!
اجتاح هال دافعٌ مفاجئ، فرفع يديه مرة أخرى. وقال: «أيها الرفاق، يُدرك كلٌّ منا الآن المطلوب منه. لن تعودوا للعمل حتى يُخبركم الاتحاد الكبير بذلك. وأنا من جهتي سأقف بجانبكم وأُساندكم. قضيتكم هي قضيتي، سأستمر في النضال من أجلكم حتى تحصلوا على حقوقكم، حتى يمكنكم العيش والعمل كبقية البشر! اتفقنا؟»
«اتفقنا! اتفقنا!»
«جيد جدًّا، إذن … سنُقسِم على ذلك!» ورفع هال يديه، ورفع العُمال أيديَهم، ووسط عاصفة من الهتاف، والتلويح المحموم بالقبعات، تعهَّد لهم بما يعلم أنه سيلتزم به أمام ضميره. لقد تعمَّد فعل ذلك، هناك في حضور أخيه. لم يعُد الهدف الآن مجرد الاستيلاء على أحد الخنادق في معركة، بل كان تجنيدًا للحرب! ولكن حتى في غمرة هذه اللحظة من الحماسة، كان هال سيشعر بالخوف لو أنه أدرك ما يُفتَرَض أنه سيحدث في فترة التجنيد، تلك السنوات من النضال اليائس والمرهق الذي يتعهد أن يكرِّس له حياته.