الفصل الرابع والعشرون
سرعان ما غادر القطار المتجه إلى نورث فالي، واعتقد هال أنه سيُنجز مهمته ويعود في القطار الأخير. جلس في مقعده في العربة دون أن يَلفت الانتباه، وظل في مكانه حتى اقتربوا من وجهتهم، المحطة الأخيرة أعلى الوادي. كان هناك العديد من نساء عمال المناجم في العربة، واختار هال امرأة من جنسية السيدة زامبوني، وانتقل للجلوس بجانبها. أفسحت له مكانًا، مُعلِّقة على شيء ما، لكن هال بكى بهدوء، وتحسَّست المرأة يده لتهدئته. ولأن يدَيه كانتا مُشبكتَين تحت غطاء الوجه، ربتت على ركبته مُطمئِنة إياه.
توقف القطار عند حدود القرية المُطوَّقة، ودخل بود آدامز العربة متفحصًا كل راكب. عندما رأى هال هذا، أجهش بالبكاء مجددًا، وتمتم بشيء غير واضحٍ إلى المرأة الجالسة بجواره … ما جعلها تميل نحوه وتثرثر بلغتها الأم. ثم مرَّ «بود».
عندما كان هال يوشك على مغادرة القطار، أمسك بذراع رفيقته، وبكى أكثر، وتحدثت هي أكثر بدورها، وهكذا نزلا إلى الرصيف، على مرأًى ومسمعٍ من بيت هانون «مُهشِّم الأسنان». انضمَّت إليهما امرأة ثالثة، وسرن في الشارع، وكانت المرأتان تتحدثان بالسلافية، ويبدو أنهما لم يشُكَّا في هال.
كان هال قد وضع خطة لنفسه. لن يحاول التحدث إلى العمال خِلسةً … سيستغرق الأمر وقتًا طويلًا، وقد يتعرض للخيانة قبل أن يتمكن من التحدث إلى عددٍ كافٍ منهم. كان الأفضل أن يسدد ضربة واحدة جريئة. بعد نصف ساعة سيحين وقت العشاء، وسيجتمع العمال لتناول العشاء في غرفة الطعام بنُزُل ريمينيتسكي. سيبلغهم جميعًا رسالته هناك!
كانت رفيقتا هال في حيرة من أمرهما لأنه فوَّت كوخ زامبوني، حيث كان من المفترض أن الجيران يرعون صغار زامبوني. لكنه تركهما يحسبان ما يحسبانه، وذهب إلى منزل مينيتي. كشف عن شخصيته لروزا التي اندهشت، وأبلغها رسالة زوجها … أنها يجب أن تذهب هي والأطفال إلى بيدرو، وتنتظر في هدوء حتى تسمع منه خبرًا. أسرعت وأحضرت جاك ديفيد، الذي شرح له هال الأمور. يبدو أن دور «جاك الكبير» في الاضطرابات الأخيرة لم يكن موضع اشتباه؛ ومن ثَم سيبقى هو وزوجته، مع روفيتا، وفريسماك، وكووفوسكي نواةً يمكن للاتحاد من خلالها تنظيم العمال.
حلَّت ساعة العشاء، وخرجت السيدة زامبوني المزيفة إلى الشارع تمشي الهوينى. عندما مرَّت بغرفة الطعام في النُّزُل، نظر إليها العُمال، لكن أحدًا لم يتحدث. كانوا في تلك المرحلة من الوجبة التي يحاول فيها الجميع التهام ما في وُسعهم، كي يحصل كلٌّ منهم على أفضل ما يمكن لزملائه الاستيلاء عليه والتهامه. ذهبت المرأة المتَّشحة بالسواد إلى أقصى الغرفة، حيث يوجد كرسي شاغر، فسحبته من الطاولة ووقفت عليه. ثم رنت صيحة في جميع أنحاء الغرفة: «أيها الرفاق! أيها الرفاق!»
نظر متناولو العشاء إلى أعلى، ورأَوا ثياب الحداد تُخلَع وقائدهم جو سميث يحدق إليهم. «أيها الرفاق! لقد جئتُ إليكم برسالة من الاتحاد!»
ارتفعت الصيحات، وهبَّ الرجال وُقوفًا على أقدامهم، وأُرجِعَت الكراسي إلى الخلف، ساقطةً على الأرض مصطدمة بها. ثم ساد الصمت على الفور تقريبًا، كان في الإمكان سماع أصوات مضغ الطعام، لولا أن أحدهم لم يستطع حتى أن يواصل مضغ طعامه.
«أيها الرفاق! لقد ذهبت إلى بيدرو والتقيت بأعضاء الاتحاد. عرفت أن الرؤساء لن يسمحوا لي بالعودة، ومن ثَم تنكَّرت، وها أنا ذا!»
أدركوا معنى هذا الزي الرائع؛ فكانت هناك هتافات، وضحك، وصيحات بهجة.
لكن هال مدَّ يدَيه، وساد الصمت مرة أخرى. «استمعوا إليَّ! الرؤساء لن يتركوني أتحدث طويلًا، ولديَّ شيء مهم لأقوله. يقول قادة الاتحاد إننا لا نستطيع القيام بإضرابٍ ناجح الآن.»
ظهر الذعر على الوجوه أمامه. وكانت هناك صيحات فزعٍ. ولكنه واصل قائلًا:
ما نحن إلا معسكر واحد، وسيطردنا الرؤساء ويُدخلون الأنذال ويُشغِّلون المناجم من دوننا. يجب أن يكون لدينا إضراب يشمل جميع المعسكرات في آنٍ واحدٍ. اتحاد واحد كبير وإضراب واحد كبير! إذا تخلينا عن الإضراب الآن، فسيُرضي ذلك الرؤساء، ولكننا سوف نخدعهم … سوف نحتفظ بعملنا، وباتحادنا أيضًا! أنتم أعضاء في الاتحاد، وسوف تستمرون في العمل من أجل الاتحاد! فليحيَ اتحاد نورث فالي!»
للحظة لم يكن هناك ردٌّ. كان من الصعب على الرجال أن يهتفوا لمثل هذا الاقتراح! رأى هال أنه يجب أن يلعب على وترٍ آخر.
«يجب ألا نكون جبناء أيها الرفاق! علينا أن نحافظ على رباطة جأشنا! أنا أؤدي دوري … لقد تطلَّب الأمر جرأة للوصول إلى هنا! بملابس السيدة زامبوني ووسادتَين محشوَّتَين أمامي!»
ضرب على الوسادتَين، وانفجروا في الضحك. كان الكثيرون في الحشد يعرفون السيدة زامبوني … كان الأمر أشبه بما يسميه الكوميديُّون «حيلة محلية.» ساد الضحك، وتحوَّل الغضب إلى بهجة. أخذ الرجال يهتفون: «فلتحيَ جو! أنتِ فتاتنا!» هل تتزوجيني يا جو؟» وهكذا، بالطبع، كان من السهل على هال أن يحصل على ردٍّ عندما هتف قائلًا: «فليحيَ اتحاد نورث فالي!»
رفع يدَيه مرة أخرى مطالِبًا بالصمت، واستأنف حديثه. «اسمعوا يا رجال. سوف يطردونني، ولن نقاومهم. ستعملون وتحافظون على وظائفكم، وتستعدون للإضراب الكبير. وسوف تخبِرون بقية العُمال بما أقول. لا يمكنني التحدث إليهم جميعًا، ولكن لتخبروهم عن الاتحاد. تذكروا أن هناك أشخاصًا بالخارج يخططون ويقاتلون من أجلكم. سنقف جميعًا إلى جانب الاتحاد، حتى نعيد معسكرات الفحم هذه إلى أمريكا!» علا هتاف هزَّ جدران الغرفة. أجل، كان هذا ما أرادوه … أن يعيشوا في أمريكا!
كان حشدٌ من الرجال قد تجمَّع عند المدخل، منجذبين إلى الضجة؛ ولاحظ هال اضطرابًا ودفعًا، ورأى رأس عدوِّه بيت هانون وكتفَيه القويتَين أمامه.
صاح: «ها هم المسلحون قد أتوا أيها الرفاق!» وعلا هديرٌ غاضبٌ من الحشد. استدار الرجال، وقبضوا أيديهم، ونظروا إلى الحارس. لكن هال واصل مسرعًا:
«أيها الرفاق، اسمعوا ما أقول! لا تفقدوا أعصابكم! لا أستطيع البقاء في نورث فالي، وأنتم تعلمون ذلك! لكنني فعلت الشيء الذي جئت من أجله، لقد أوصلت رسالة الاتحاد. وسوف أُخبر بقية العمال … سأخبرهم بأن يقفوا إلى جانب الاتحاد!»
تابع هال مكررًا رسالته مرة بعد أخرى. وعندما تفقَّد هذه الوجوه التي أنهكها الكدح وجهًا بعد الآخر، تذكر العهد الذي قطعه لهم، وقال مجددًا: «سأقف إلى جانبكم! سأواصل الكفاح يا رفاق!»
كان هناك المزيد من الاضطراب عند الباب، وفجأة ظهر جيف كوتون، مع حارسَين آخرَين، يشُقُّون طريقهم إلى داخل الغرفة، لاهثين وبوجوه حمراء من أثر الركض.
صاح هال: «آه، ها هو القائد! لا داعي إلى دفعي يا كوتون، لن أتسبَّب في أي مشكلات. نحن رجال نقابيون هنا، ونعرف كيف نسيطر على أنفسنا. الآن يا رفاق، نحن لن نستسلم، ولن نُهزَم، نحن ننتظر فحسب بقية العمال في المعسكرات الأخرى! لدينا اتحاد، وننوي الحفاظ عليه! ثلاثة هتافات للاتحاد!»
رنَّت الهتافات بعزمٍ شديدٍ: هتافات للاتحاد، وهتافات لجو سميث، وهتافات للأرملة وثياب حدادها!
«أنتم تنتمون إلى الاتحاد! وستقفون بجانبه مهما حدث! وإذا طردوكم، فستواصلون كفاحكم في مكان آخر! وتُعلمونه العمال الجدد، لا تتركوه أبدًا يموت في قلوبكم! في الاتحاد قوة، في الاتحاد أمل! لا تنسوا ذلك أبدًا أيها الرجال … الاتحاد!»
رنَّ صوت قائد المعسكر. وقال: «إذا كنتِ ستأتين أيتها الشابة، فتعالي الآن!»
حنى هال رأسه في خجلٍ. وقال: «أوه، يا سيد كوتون! لقد فاجأتني!» عوى الحشد، ونزل هال عن منصته. وضع هال غطاء وجه الأرملة على وجهه في دلالٍ، وتعثَّر بتكلفٍ عبر غرفة الطعام. وعندما وصل إلى قائد المعسكر، أمسك بلطفٍ ذراعَه، ومع «مُهشِّم الأسنان» على الجانب الآخر، وبود آدامز في المؤخرة، مشى الهوينى خارجًا من غرفة الطعام إلى الشارع.
لقد ترك الرجال الجياع عشاءهم ليروا هذا المشهد. اندفعوا خارجين من المبنى وهم يضحكون ويصيحون ويستهزئون. وجاء آخرون من كل حدبٍ وصوبٍ … بحلول الوقت الذي وصلت فيه المجموعة إلى المحطة، كان جزء كبير من سكان القرية هناك، وانطلقت العبارة في كل مكان: «إنه جو سميث! عاد برسالة من الاتحاد!» وضحك عمال المناجم الضخام البنية الملطخون بالفحم حتى انهمرت الدموع على وجوههم أنهارًا، وعانق كلٌّ منهم الآخر ابتهاجًا بهذه الحيلة التي لعبها هال على مُضطهِديهم.
حتى جيف كوتون لم يستطع أن يخفي إجلاله للموقف. تمتم: «وربي لم أرَ مثلك!» وقرر أن يتحلى بآداب «حفلات الشاي» في هذا الأمر، على اعتبار أن هذه هي أسهل طريقة للتخلص من ضيفه الذي يعاود الظهور دائمًا، وتجنب احتمالات الخطر الواردة. اصطحبَ الأرملة إلى القطار وساعدها في صعود الدرج، ووضع مرافقين على أبواب العربات، ولم يكُفَّ هؤلاء المرافقون الشجعان عن متابعتها حتى تحرك القطار خارجًا من المحطة، مجتازًا حدود نورث فالي!