الفصل السادس والعشرون
لم يكن إدوارد ليتردد في إبعاد شقيقه على الفور، ولكن لم يكن هناك قطار سيُغادر المنطقة حتى وقت متأخر من الليل، ومن ثَم ذهب هال إلى الطابق العلوي، حيث وجد مويلان وهارتمان مع ماري بيرك والسيدة زامبوني، وكان جميعهم متحمِّسين لسماع قصته. وعندما عاد أعضاء اللجنة متأخرين، وكانوا قد خرجوا لتناول العشاء، رُويت القصة مرارًا وتكرارًا.
لقد غمرتهم البهجة مثلما حدث للرجال في نُزُل ريمينيتسكي. يا ليت كل الإضرابات التي يتعيَّن إلغاؤها تُلغى بتلك الدرجة من الإجادة.
ثم ناقشوا مستقبلهم بين نوبات الرضا هذه. كان مويلان عائدًا إلى ويسترن سيتي، وهارتمان إلى مكتبه في شيريدان، حيث سيُرتِّب منه لإرسال منظمِين نقابيين جدد إلى نورث فالي. مما لا شك فيه أن كارترايت كان سيطرد العديد من الرجال … أولئك الذين ظهروا بوضوحٍ في الإضراب، أولئك الذين واصلوا الحديث عن الاتحاد في العلن. ولكن مثل هؤلاء الرجال يجب استبدالهم، وقد عرف الاتحادُ من أي وكالات حصلت الشركة على عمالها. سيجد عمال المناجم في نورث فالي أن منشورات الاتحاد تصلهم بمختلف اللغات؛ ستُدَس تحت وسائدهم، أو توضع في دِلاء عشائهم، أو في جيوب معاطفهم في أثناء وجودهم في العمل.
كما كانت هناك دعاية يجب القيام بها بين أولئك الذين أُبعِدوا؛ فأينما ذهبوا، ستصل إليهم رسالة الاتحاد. كانت هناك فورة متعاطفة في باريلا، عرف هال ذلك … بدأت بشكلٍ عفوي تمامًا في ذلك الصباح، عندما سمع الرجال بما حدث في نورث فالي. وطُرِد عشرات العمال، ويُحتمَل أن يلحق بهم المزيد في الصباح. كان هناك عملٌ لأعضاء اللجنة المختطَفة، تيم رافيرتي، على سبيل المثال … هل سيحرص على البقاء في بيدرو مدة أسبوع أو أسبوعَين لمقابلة هؤلاء الرجال وإعطائهم المنشورات والتحدث إليهم؟
كان هذا العرض موضعَ ترحيب؛ لأن الحياة بدَت مُقفِرة في عينَي الصبي الأيرلندي في هذه اللحظة. لقد أصبح عاطلًا عن العمل، ووالده أصبح مُقعدًا، وعائلته في حالة عَوز وعجز. سيتعيَّن عليهم مغادرة منزلهم بالطبع؛ فلن يوجد مكان لأحد من أفراد عائلة رافيرتي في نورث فالي. أين سيذهبون، الرب وحده يعلم؛ سيصبح تيم عاملًا مُتجوِّلًا، يعيش بعيدًا عن أهله، يُجوِّع نفسه ويرسل مُدَّخَراته البائسة إلى عائلته.
كان هال يراقب الصبي، ويقرأ هذه الأفكار. سيتولى هو، هال وارنر، زمامَ كل شيء في هذه الحالة، وفي العديد من الحالات الأخرى المثيرة للشفقة على حدٍّ سواء. كان له الحق في التوقيع باسم والده على الشيكات، ذلك الامتياز الذي اعتقد أنه يستطيع الاحتفاظ به، حتى في أثناء قيامه بدور «هارون الرشيد» الخيِّر في حادث المنجم. ولكن ماذا عن حوادث المناجم والإضرابات المُجهَضَة؛ حيث لم يكن هناك مع الرجال هارون الرشيد؟ ماذا عن هؤلاء الناس، في نورث فالي نفسها، الذين لم يُخبِر أحدٌ هال بأحوالهم؟ لقد أدرك أنه لا يستطيع الخروج من هذه المغامرة بأي قدرٍ من الثبات إلا بإدارة ظهره للأمر والهروب. لقد كانت حقًّا هذه الحضارة الجميلة والرائعة أشبه بأرضية مقبرة أو ساحة معركة؛ في أي مكان يضرب فيه المرءُ بمجرفته تحت سطحها، يكشف عن أهوالٍ، ومناظر مفزعة، وروائح كريهة تشعره بالغثيان!
كان هناك روسيك، على سبيل المثال، الذي لديه زوجة وطفلان، ولا يملك دولارًا واحدًا. خلال تلك المدة التي تُقدَّر بسنة وأكثر، والتي عمل فيها بإخلاصٍ وإصرارٍ، لإخراج الفحم لصالح بيتر هاريجان، لم يتمكَّن — ولو لمرة — من دفع فواتير أساسيات الحياة لمتجر بيتر. جميع متعلقاته يمكنه حملها في حزمة واحدة على ظهره، وتعتمد احتمالية رؤيته لتلك المتعلقات مجددًا على أهواء قائد المعسكر والحراس التابعين للعجوز بيتر. كان سيتعيَّن على روسيك السفر، بتذكرة اشتراها له الاتحاد. ربما كان سيجد وظيفة وربما لا، على أي حال، فإن أفضل ما يمكن أن يتمنَّاه في الحياة هو أن يعمل لدى هاريجان آخر، ويصبح مدينًا لمتجر شركة أخرى.
وكان هناك هوبيانيش الصربي وهيرنانديز المكسيكي، اللذان كانت تنطبق عليهما الأمور نفسها، إلا أن أحدهما لديه أربعة أطفال والآخر لديه ستة. أما بيل واكوب، فلم تكن له إلا زوجة … وقد مات أطفالهما، هذا من فضل السماء عليهما، كما قال. لم يبدُ أنه قد تأثر كثيرًا بتوسلات جيم مويلان، وقد كان مفلسًا، وينوي السفرَ وشقَّ طريقه إلى الشرق عائدًا إلى إنجلترا. قالوا إن هذا بلدٌ حرٌّ! وأقسم إنه إن حكى ما حدث له، فلن يُصدقه عامل منجم إنجليزي واحد!
أعطى هال هؤلاء الرجال اسمه الحقيقي وعنوانه، وطلب منهم التعهد بتطمينه عليهم. قال إنه سيساعدهم بعض الشيء؛ وكان بينه وبين نفسه يفكر في مقدار ما يجب عليه فعله. ما حجم الدور الذي يمكن أن يلعبه في تخفيف جوعهم، قبل أن يتمكَّن من الاستمتاع بوجباته في نادٍ مُجهَّز جيدًا؟ أي فيلسوف يمكنه أن يحلَّ هذه المعضلة … أن يخبره بمدى ما يجب أن يقدمه للتخفيف من جوعهم الذي رآه بنفسه، مقارنة بما يراه في الشوارع، وما يقرأ عنه في تقارير الحكومة من ارتفاع تكاليف المعيشة. إلى أي مدًى يحقُّ له أن يُغمض عينَيه في أثناء سيره في الشوارع متجهًا إلى ناديه؟ إلى أي مدًى يحقُّ له أن يتجنَّب قراءة تقارير الحكومة قبل أن يخرج لحفلات العشاء والرقص مع خطيبته؟ مشكلات كتلك قد أهمل حلَّها أساتذة الرياضيات في الجامعات، والأكاديميون الحكماء، ورجال الدين في الكنائس، لقد فشِلوا كذلك في التوصل إلى صيغٍ للحل، بينما حاول هال التوصُّل إليها من خلال حساباته العقلية البسيطة، ولم يجد نتائجَ مُرضِية.