الفصل الثاني عشر
في مساء يوم الأحد نفسه، ذهب هال للوفاء بوعده بزيارة ماري بيرك. فتحت الباب الأمامي للكوخ لإدخاله، واجتاحه إحساسٌ بالبهجة حتى عبر الأشعة الخافتة لمصباح الكيروسين الصغير. قالت: «مرحبًا» … تمامًا كما قالتها عندما نزلَ من الجبل وهي أمام حبل الغسيل. تبِعها إلى داخل الغرفة، ورأى أن إحساسَ البهجة الذي اجتاحه قد أتاه من ماري نفسها. كم بدت مُشرقة ونضرة! كان الفستان القُطني الأزرق القديم، الذي لم يكن نظيفًا على الإطلاق، قد غُسِل لتوِّه الآن، ووضِعَت على الكتف في موضع الخرق رقعةٌ مناسِبة باللون الأزرق غير الباهت.
لم يوجد سوى ثلاث غرف في بيت ماري، لا بد أن اثنتين منها كانتا للنوم؛ فاستقبلت ضيفها في المطبخ. وجد هال الغرفة فارغة … لم تكن هناك حتى ساعة للزينة. كانت اللمسة الفاتنة الوحيدة التي تمكَّنت الفتاة من إضفائها على الغرفة استعدادًا لاستقبال ضيفها هو تنظيفها. فقد رشَّت الرملَ لتوِّها على الأرضية الخشبية وفركتها، ونظَّفت أيضًا طاولة المطبخ، والغلَّاية الموضوعة على الموقد، وإبريق الشاي المتشقِّق والأوعية على الرف. كان شقيقُ وشقيقة ماري الصغيران في الغرفة: جيني، وهي فتاة صغيرة داكنة العينين والشعر، وضعيفة البِنية، وذات وجه حزين وخائف بعضَ الشيء؛ وتومي، وهو طفل مستدير الرأس، مثل غيره من آلاف الأطفال المستديري الرأس وذوي الوجوه الممتلئة بالنمش. كان كلٌّ منهما يجلس حينها في كُرسيه باستقامة شديدة، مُحدِّقًا إلى الزائر ببعض الاستياء، هكذا حسِبَ. خمَّن أن تكون حملة التنظيف العام قد شملتهُما. نظرًا إلى عدم تأكدهم من موعد حضور الزائر، فلا بد أنه كان عليهم أن يفعلوا ذلك كلَّ ليلة، ويمكنه أن يتخيَّل وقوع شِجار عائلي، مع نقاشاتٍ قد تخلو تمامًا من الإطراء حول «فتى» ماري الجديد.
بدا أنَّ هناك شيئًا من عدم الارتياح في المكان.
لم تدعُ ماري ضيفَها إلى الجلوس، بل وقفت مُتردِّدة، وبعد أن جازفَ هال بإبداء بعض الملاحظات الودِّية للطِّفلين، قالت فجأة: «هلَّا ذهبنا في تلك النزهة التي تحدَّثنا عنها يا سيد سميث؟»
قال هال: «بكل سرورٍ!» وبينما كانت ترتدي قُبَّعتها أمام المرآة المكسورة على الرف، ابتسم للطفلين، واقتبسَ سطرَين من أغنية هاريجان …
حالَ خجلُ تومي وجيني الشديد دون ردِّهما، لكن ماري صاحت قائلة: «يمكنك أن تراه يلمع هنا في وعاءٍ من الصفيح!»
خرجَا إلى نُزهتهما. في ليلة الصيف الناعمة، كان التجوُّل في ضوء القمر مُمتِعًا … لا سيَّما عندما وصلا إلى أقاصي القرية؛ حيث لم يكن هناك الكثير من الأشخاص المُرهَقين على عتبات الأبواب ولا الأطفال الذين يلعبون بأصواتٍ عالية. كان هناك ثُنائي آخر يسير هنا، تحت القمر نفسه؛ فلم يستطع كدحُ اليوم الأشد قسوة أن يستنزف طاقاتهما بالحد الذي لا يجعلهما يشعُران بسحر هذه الليلة الصيفية الناعمة.
كان هال، الذي كان مُتعبًا، سعيدًا بالتنزُّه ومستمتعًا بالسكون، لكن ماري بيرك كانت تبغي معرفة معلوماتٍ عن الشاب الغامض الذي كانت برفقته. قالت: «لَم تعمل طويلًا في مناجم الفحم يا سيد سميث، أليس كذلك؟»
كان هال مُرتبِكًا بعض الشيء. «كيف اكتشفْتِ ذلك؟»
«لا تبدو كعُمَّال المناجم … لا تتحدَّث مثلهم. إنك لا تُشبه أيَّ شخص أو أيَّ شيء هنا. لا أعرف كيف أقول ذلك، لكنك تُذكِّرني أكثر بكُتُب الشِّعر.»
على الرغم من شعور هال بالإطراء من هذا الاعتراف البَرِيء، فإنه لم يكن يرغب في التحدُّث عن سِرِّه. ومن ثَم، لجأ إلى سؤال عن «كتب الشِّعر». قالت الفتاة: «لقد قرأتُ بعضًا منها، ربما أكثر مما تعتقد.» صحِبَ هذا إشارة على تحدِّيها.
طرح المزيدَ من الأسئلة، وعَلِم أنها، مثلها في ذلك مثل الصبي اليوناني، «آندي»، قد وقَعَت تحت تأثير تلك المؤسسة الأمريكية المثيرة للاضطراب، المدرسة العامة؛ فقد تعلَّمت القراءة، وقد ساعدتها مُعلِّمة شابة جميلة بإعارتها الكتبَ والمجلات. وبذلك حصلت على مِفتاح الكَنز، البساط السحري الذي يمكن السفر به حول العالَم. استخدمت ماري نفسها هذه التشبيهات … لأنَّ «ألف ليلة وليلة» كان أحدَ الكتب التي أُعِيرت لها. كانت في الأيام الممطرة تختبئ خلف الأريكة، وتقرأ في مكان يتسلَّل إليه الضوء … كي تكون في مأمنٍ من إزعاج إخوتها وأخواتها الصغار!
اتضحَ أنَّ جو سميث قد قرأ هذه الكتب نفسَها، وبدا هذا رائعًا بالنسبة إلى ماري؛ لأن الكتب باهظةُ الثمن ويصعب الحصول عليها. أوضحت كيف بحثَت في المعسكر عن بُسُط سحرية جديدة، وعثرت على «كتاب شِعر» للشاعر لونجفيلو، وكتابٍ عن التاريخ الأمريكي، وقصة بعنوان «ديفيد كوبرفيلد»، وأخيرًا، والأغرب على الإطلاق، قصة أخرى بعنوان «كبرياء وهوًى». حَظٌّ عجيب ومثير للفضول … كتاب لجِين أوستن، الشديدة الالتزام، المرهَفَة الحِس، في معسكرٍ للفحم في أقصى القِفار الغربية! مغامرة لجين، وكذلك لماري!
تساءل هال عن الانطباع الذي تركه الكتاب لدى ماري. هل كانت، على غرار فتيات المتاجر، تستمتع بمشاهد الدَّعَة الباهتة؟ عرف أن الكتاب قد أصابها باليأس. فهذا العالم الخارجي، بحُريَّته ونظافته، والبشر الذين يعيشون فيه حياة كريمة وذات شأن، لم يكن لها؛ فقد كانت مُسلسَلةً بدلو التنظيف في معسكرٍ للفحم. قالت إن الأمور قد ازدادت سوءًا منذ وفاة والدتها. أصبح صوتُها خافتًا وقاسيًا … تذكَّر هال أنه لم يسمع قطُّ صوتًا شابًّا يحمل كلَّ هذا اليأس.
سألها: «ألم تذهبي إلى أي مكان بخِلاف هنا؟»
قالت: «لقد كنت في معسكرَين آخرَين … أولًا معسكر جوردون، ثم معسكر إيست رَن. لكنها جميعًا سواء.»
«ولكن هل ذهبتِ إلى المدن؟»
«يومًا واحدًا فقط، مرةً أو مرتَين في السنة. ذات مرة كنت في شيريدان، وفي الكنيسة سمعت سيدةً تغني.»
توقَّفتْ لحظة، منصرفةً بذهنها إلى هذه الذكرى. ثم تغيَّر صوتُها فجأة … وكان في إمكانه أن يتخيَّل في الظلام أنها قد أرجعت رأسها في تحدٍّ. «لن أزعج ضيفي بمشكلاتي! تعلم كم هو مُرهِق عندما تسمع ذلك من شخصٍ آخر … مثل جارتي في المنزل المجاور، السيدة زامبوني. هل تعرفها؟»
قال هال: «لا.»
«السيدة العجوز المسكينة لديها ما يكفيها من المشكلات، الرب وحده يعلم. زوجُها ليس رجلًا جيدًا بدرجة كبيرة … إنه مُدمن على الكحول ولديها أحد عشر طفلًا، وهذا كثير جدًّا على امرأة واحدة. ألا ترى ذلك؟»
طرحتْ سؤالها ببراءةٍ أضحكت هال. فقال: «بلى، أرى ذلك.»
«حسنًا، أعتقد أن الناس كانوا سيساعدونها أكثر لولا أنها كثيرة الشكوى! ونصف شكواها باللغة السلافية، التي لا يستطيع أحدٌ فهمَها!» هكذا شَرَعتْ ماري تحكي أشياء مضحكة عن السيدة زامبوني وجيرانها متعدِّدي اللغات، وتُقلِّد طَمسَهم للَّهجة الأيرلندية ووَأدَهم لها. استشعر هال البراءة والبهجة في حسِّها الفكاهي وروحها المرحة، فشجعَّها على المزيد من النميمة المَرِحة في أثناء ما تبقَّى من نزهتهما.