الفصل الثالث عشر
ولكن بعد ذلك، عندما كانا في طريقهما إلى المنزل، حدثَ ما عكَّر صفوهُما. سمعت ماري وَقْع خطواتٍ خلفهما فاستدارت ونظرت، ثم أمسكت بذراع هال وجذبته إلى الظل على جانب الطريق، وهمست له بأن يلتزم الصمت. مرَّ بهما رجلٌ مُنحَنٍ، يتمايل من جانبٍ إلى آخر.
عندما استدار ودخل إلى المنزل، قالت ماري: «هذا أبي. إنه يكون قبيحًا عندما يكون في هذه الحالة.» وكان في إمكان هال أن يسمع أنفاسها المتلاحقة في الظلام.
إذن تلك كانت مشكلة ماري … المشقَّة التي تواجهها في حياتها في المنزل التي أشارت إليها في لقائهما الأول! فهم هال أشياء كثيرة في وَمضة من الزمن … السبب في خلو منزلها من الزينة، والسبب في عدم دعوتها ضيفَها إلى الجلوس. وقفَ صامتًا لا يعرف ماذا يقول. وقبل أن يتمكَّن من إيجاد الكلمات المناسبة، انفجرت ماري قائلةً: «أوه، كم أكره أوكالاهان، ذلك الذي يبيع الخمر لأبي! لدَيه طعامٌ وافر في منزله، وزوجته ترتدي الحرير وتذهب إلى القُدَّاس كلَّ أحد، وتظن نفسها أفضل بكثيرٍ من ابنة عامِل منجم عادية! أحيانًا أُفكِّر أنني أريد أن أقتلهما هما الاثنين.»
خاطر هال وقال: «لن يساعد هذا كثيرًا.»
«كلَّا، أعلم … كلُّ ما هنالك أنه سيأتي بشخصٍ آخر ليحلَّ محله. عليك أن تفعل ما هو أكثر من ذلك، عليك أن تُغيِّر الأمور هنا. عليك أن تُلاحق مَن يتربَّحون من وراء أوكالاهان.»
إذن كان عقل ماري يتلمَّس الأسباب! كان هال يعتقد أن قلقها كان خشيةَ الإهانة أو التعرُّض للعُنف عندما تصل إلى المنزل، ولكنها كانت تفكِّر في الجوانب الأعمق لمشكلة مُعاقَرة الشراب الرهيبة. كان لا يزال لدى هال وارنر قدرٌ من التكبُّر اللاواعي، كان كافيًا لأن يجعله يُفاجأ من وجود هذه الظاهرة في ابنة عامِل منجم عادية؛ ومن ثَم، تحوَّلت شفقته إلى اهتمام فكري، على غِرار ما حدث في لقائهما الأول.
قال: «سوف يمنعون تجارة الخمر تمامًا يومًا ما.» لم يكن يعرف أنه كان أحدَ المؤيدين لتجريم المُسكِرات؛ فقد أصبح واحدًا منهم فجأة!
أجابت: «حسنًا، من الأفضل أن يمنعوها قريبًا، إذا كانوا يريدون تدارك الأمر قبل فوات الأوان. إن من المَشاهِد التي ينفطر لها القلب رؤية الفتيان الصغار وهم يعودون إلى المنزل مُتَرنِّحين، في حالة من السُّكر إلى درجة أنهم لا يقوُون حتى على العِراك.»
لم يكن لدى هال الوقتُ الكافي لرؤية الكثير من هذا الجانب من نورث فالي. ومن ثَم، سألها: «أيبيعون للأولاد؟»
«بالطبع، مَن يُبالي؟ فما يُهمُّ هو المال، سواء كان من صبي أو من رجل.»
«لكن أفترضُ أن الشركة …»
«الشركة تسمح ببناء الحانات … ذلك هو كلُّ ما تهتم به الشركة.»
«لكن عليهم أن يهتموا بأهلية عُمَّالهم وسلامتهم!»
«بالطبع، هناك الكثير غيرهم في الأماكن التي أتَوا منها. وعندما لا تستطيع العمل، يطردونك، هذا كل ما في الأمر.»
«وهل الحصول على عُمَّال مَهَرة أمرٌ بهذه السهولة؟»
«استخراج الفحم لا يتطلَّب كثيرًا من المهارة. المهارة هي أن تحافظ على سلامتك … وإذا كنت تستطيع أن تتحمَّل تعريض سلامتك الشخصية للخطر، فالشركة أيضًا يمكنها ذلك.»
وصَلا إلى الكوخ الصغير. وقفت ماري صامتة للحظة. ثم صاحت فجأة: «أتحدَّث عن أمورٍ مَريرة مجدَّدًا! وقد وعدتُك بمراعاة رفقتِك! لكنَّ ثمة أمورًا تحدث تخرجني عن شعوري.» واستدارت فجأة ودخلت إلى المنزل. وقف هال لحظة مُتسائلًا عما إذا كانت ستعود، ثم رأى أنها بدخولها المنزل كانت تعني أن تقول له «ليلة سعيدة»، وبدأ يسير ببطءٍ في الشارع.
قاوم مشاعر الاكتئاب التي انتابته للمرة الأولى منذ قدومه إلى نورث فالي. كان قد تمكَّن حتى تلك اللحظة من عزل نفسه شُعوريًّا عما يجري حوله، حتى يتمكَّن من رؤية هذا العالم الصناعي بحيادية ودون تحيُّزٍ. لكن شفقته في هذه الليلة على ماري قد جعلته ينخرط أكثر في هذا العالَم. من المؤكَّد أنه قد يكون قادرًا على مساعدتها، والعثور على عملٍ لها في بيئة أقل قَسوة وسَحقًا، لكن عقله أخذ يتساءل … كم فتاةً قد تكون هنا في معسكرات التعدين، في ريعان شبابها ومُفعَمة بالحماس، تتُوق إلى الحياة، ولكنها مطحونة تحت وطأة الفقر ومشكلة السُّكْر؟
مَرَّ رجلٌ بهال، وحيَّاه في الظلام شبه الحالِك بإيماءةٍ من رأسه وحركة من يده. لقد كان القَسَّ سبراج، الرجل الذي كُلِّف رسميًّا بمكافحة شيطان شراب الروم في نورث فالي.
كان هال قد ذهب إلى الكنيسة البيضاء الصغيرة يوم الأحد الماضي، واستمع إلى القَس سبراج وهو يُلقي عِظةً عقائدية، يتحدث فيها عن ذبيحة الرب التي قُدِّمت قُربانًا، وأين وكيف سيجد الإنسان الخلاص والتعويض من الكروب التي يُكابدها على الأرض، «وادي الدموع».
كم بدا الأمرُ مثيرًا للسخرية! لا شك أن الناس كانوا يعتقدون ذات يوم في مثل هذه العقائد؛ وكانوا على استعدادٍ للجود بأنفسهم دونها. لكن الآن لم يُضَحِّ أحدٌ من أجلها … بل على العكس من ذلك، فقد أجبرت الشركة كلَّ عامل على التبرع من راتبه الضئيل في نشرها والتبشير بها. كيف يمكن لأجهل المتعصبين أن يتقبَّل مثل هذا النظام دون الشك في تقواه؟ لا بد أنه في مكانٍ ما على رأس آلة توزيع الأرباح العظيمة المسماة بالشركة العامَّة للوقود ذكاء شيطاني خطَّط للأمر برُمته، وأعطى الأوامر لموظفيه الكَنَسيين: «نريد الحاضر … ونترك لكم المستقبل! نريد الأجساد … ونترك لكم النفوس! علِّموهم ما شئتم عن السماء … ما دمتم تُمكِّنوننا من نَهْبِهم على الأرض!»
وفقًا لهذا البرنامج الشيطاني، قد يُندِّد القَسُّ سبراج بشيطان شراب الروم، لكنه لا يذكر شيئًا عن الأرباح المتحققة من استئجار محلات شراب الروم، ولا عن السياسيين المحليِّين الذين تدعمهم الشركة ماديًّا، بالإضافة إلى الأرباح المتحصَّلة من بيع الخمور بالجملة. لا يذكر شيئًا عن نتائج الأبحاث الحديثة في مجال الصحة العامة، التي تعُد الإفراط في العمل سببًا في التعطُّش إلى تناول الكحول؛ يبدو أن عبارة «تناول الكحول لأسبابٍ صناعية»، لم تكن معروفة في لاهوت الشركة العامَّة للوقود! في الواقع، عندما كنت تستمع إلى عِظة كهذه، لم تكن لتُخمِّن مُطلقًا أن المستمعين لديهم أجسادٌ مادية على الإطلاق؛ بالتأكيد لم تكن لتخمِّن مُطلقًا أن للواعظ جسدًا يتغذَّى بالطعام الذي ينتجه هؤلاء العبيد المأجورون الذين يُلقي عليهم عِظته، والذين يكِدون في العمل ويعانون سوء التغذية!