الفصل الرابع عشر
كان ضحايا هذا النظام في الغالب قد أُجبِروا على الإذعان، ولم يتحدَّثوا عن أخطائه إلا همسًا، غير أن هال وجد أن هناك مكانًا واحدًا في المعسكر لم يستطيعوا فيه التزامَ الصمت، حيث يحتدم الصراعُ بين مشاعر الغضب والخوف لديهم. كان هذا المكان بمنزلة الضفيرة الشمسية لكائن المنجم، مركز طاقاته العصبية، أو لنُغيِّر التشبيه؛ لقد كان بمنزلة كرسي الحُكم، حيث يُصدَر الحُكم على عامل المنجم … إما بالسعة والوفرة، وإما بالجوع واليأس.
كان هذا المكان هو «المَقلَب» حيث يُوزَن الفحم المُستخرَج من المنجم ويُسجَّل وزنُه. يتجه كلُّ عامل حفر إلى هذا المكان عندما يخرج من مصعد المنجم. كانت هناك لوحة بيانات، عليها رقم العامل، وأوزان العربات التي تحوي حمولة ما استخرجه من الفحم في ذلك اليوم. وقد تعلَّم كل رجل منهم، بغض النظر عن مدى جهله، ما يكفي من اللغة الإنجليزية لقراءة تلك الأرقام.
لقد أدرك هال تدريجيًّا أن هذا هو المكان الذي تظهر فيه جميع المشاعر. ينظر معظم الرجال إلى اللوحة، ثم، دون أن يَنبِسوا ببنت شفة أو يلتفتوا، يسيرون مُتهدِّلي الأكتاف. ويتمتم آخرون لأنفسهم … أو، على نحوٍ لا يختلف كثيرًا عن ذلك، يتبادلون التمتمة فيما بينهم بلهجاتٍ همجية. لكن واحدًا من كل خمسة تقريبًا كان في إمكانه التحدُّث باللغة الإنجليزية، ولم يكد يمر مساءٌ دون أن يخرج أحدٌ عن السيطرة، مُلَوِّحًا بقبضته إلى السماء، أو في وجه مسئول تسجيل الأوزان … الذي يقف خلفه. وقد يجمع حوله مجموعة من زملائه المتذمِّرين، وتجدُر الإشارة إلى أن قائد المعسكر اعتاد على الحضور في هذه الساعة.
في إحدى هذه المرات، التقى هال لأول مرة مايك سيكوريا، وهو عجوزٌ سلوفاكي أشيَبُ الشعر، قضى عشرين عامًا في مناجم هذه المناطق. تجمَّعت كلُّ مشاعر المرارة والأسى جرَّاء جميع أشكال الظلم والإجحاف التي عانها العجوزُ مايك وغيره طوال كل هذه السنوات، وانطلقت في صيحته وهو يصرخ بنتيجته عاليًا: «تسعة عشر، اثنان وعشرون، أربعة وعشرون، عشرون! هل هذه أوزان حمولتي يا سيدي؟ أتريدني أن أصدِّق أن هذه هي أوزاني؟»
قال مسئول تسجيل الأوزان ببرودٍ: «هذه هي أوزان حمولتك.»
«حسنًا، بحق يهُوذا، ميزانُك معطوبٌ يا سيدي! انظر إلى هذه العربات … هذه العربات كبيرة! قِس العربات يا سيدي … إن طولها سبعة أقدام وارتفاعها ثلاثة أقدام ونصف قدم، وعرضها أربعة أقدام. وتقول لي إن وزن حمولتها لا يزيد على العشرين؟»
قال مسئول تسجيل الأوزان: «إنك لم تدُكَّها جيدًا.»
ردَّد عامِل المنجم العجوز: «لم أدُكَّها جيدًا؟» وانتابه الحزنُ فجأة، كما لو كان هذا التلميح في كلامه قد جعل شعوره بالألم يتفوق على شعوره بالغضب. وقال: «أنت تعلم عدد السنين التي عملتُ فيها، وتقول لي إنني لا أعرف كيف أُحمِّل العربة وأَدُكُّها؟ عندما أُحمِّل عربة، أُحمِّلها كعامل منجم، وليس كرجلٍ ياباني لا يعرف شيئًا عن المناجم! إنني أحمِّلها إلى آخِرها … أكدِّسُها ككَومة من القش. إنني أحمِّلها على شكل مربعات … هكذا.» وأشار الرجل العجوز موضِّحًا مقصده. ثم أضاف قائلًا: «انظر هناك! هناك طنٌّ في الأعلى، وطن ونصف الطن في الأسفل … وتقول لي إن وزن حمولتي تسعة عشر، عشرين فقط!»
قال مسئول تسجيل الأوزان بإصرارٍ وتعنُّتٍ: «هذا هو وزن حمولتك.»
«لكن يا سيدي، ميزانك خاطئ! أقول لك إنني اعتدتُ تحقيقَ الوزن المطلوب. لقد اعتدتُ تحقيقَ وزن خمسة وأربعين، ستة وأربعين في هذه العربات. هذا زميلي … اسأله إن كنت مخطئًا. ما قولك يا بو؟»
قال بو، الذي كان زنجيًّا … وإن كان يصعب التأكُّد من ذلك بسبب غبار الفحم الذي عَلا وجهه: «إممم.»
صاح العجوز السلوفاكي: «لم أعُد أستطيع إعالة نفسي!» وكان صوتُه يرتجف، وعيناه الداكنتان الذابلتان يملؤهما التوسُّل. «أتدري ما أَجنيه؟ خمسين سِنتًا عن خمسة عشر يومًا! وعليَّ أن أدفع مقابل سكني، وليساعدني الرب، يا سيدي … وها أنا ذا أقف هنا … أقسم لك إن ما أجنيه هو خمسون سِنتًا. إنني أعمل بكدٍّ وها أنت تقول إن وزن حمولتي ضئيل! ميزانك خاطئ!»
قال مسئول تسجيل الأوزان منصرفًا: «اغرُب عن وجهي!»
صاح العجوز مايك، وهو يتبعه: «لكن يا سيدي!» وراح يُغدق على كلماته من كُلِّ مشاعره. «أيُّ حياة هذه يا سيدي؟ يظل المرء يعمل كالحمار، ولا يحصل على شيء في المقابل! يشتري بماله البارود المستخدَم في أعمال التفجير بالمنجم … بنصف دولار في اليوم … ما رأيك في ذلك؟ يحفر بعرض الأرض … ولا يحصل على شيء في المقابل! ينزل إلى المنجم ويعمل بأقصى جهده، ولا يحصل على شيء في المقابل! تُفرِّش الأرض … ولا تحصل على شيء في المقابل! ها هو ذا، بحق يهوذا، رجلٌ فقير مُعدم، يذهب إلى عمله، ويكد بأقصى جهده، ويستنفد كلَّ طاقته! ثم تتركني أنت أتضوَّر جوعًا حتى الموت! لا بد أن أحصل على شيء أقتات به، أليس كذلك؟»
وفجأة، استدار ناحيته مسئول تسجيل الأوزان. وصاح فيه قائلًا: «انصرف من هنا عليك اللعنة! إذا كان الوضع لا يروق لك، فلتأخذ أُجرتك وتترك العمل. اخرس، وإلا أخرستك بنفسي.»
ارتجف الرجل العجوز، ولاذ بالصمت. ووقف لحظة يعضُّ شفتَيه أسفل شاربه بعصبية؛ ثم استدار وانصرف مُتَدلي الكتفَين مخذولًا، يتبعه مساعِدُه الزنجي.