الفصل السابع عشر
أحالت هذه الظروف منطقة الفحم بأكملها إلى مكانٍ لليأس. ولكن تمكَّن بعض العُمال من التأقلم، بطريقة ما، وتأسيس عائلاتٍ وتدبير منازل لائقة. فقد كان المرءُ إذا حالفه الحظُّ وتمكَّن من تفادي الحوادث، ولم يتزوَّج في سنٍّ مبكرة للغاية أو لم يُنجِب الكثير من الأطفال، وتمكَّن من مقاومة إغراءات الخمور، التي كثيرًا ما يقع فريسة لها نتيجة الإرهاق والرَّتابة، وتمكَّن، قبل كل شيء، من إرضاء رئيسه … فلا عجب إذن من أن يكون لديه منزل، بل ومبلغ بسيط من المال على سبيل الوديعة لدى الشركة.
كانت هذه الظروف تنطبق على جيري مِينيتِّي، الذي أصبح من أفضل أصدقاء هال. كان من ميلانو، وكان اسمه جيرولامو، ثم أصبحَ جيري بعدما امتزجَ في «بوتقة» الأعراق والجنسيات الأخرى. كان في الخامسة والعشرين من عمره تقريبًا، وكان طويل القامة على خلاف المعتاد في الإيطاليين. كان لقاؤهما — على غرار جميع تجارب هال الاجتماعية — يومَ الأحد. كان جيري قد نهض للتوِّ من السرير، واغتسلَ، وارتدى بذلة عملٍ زرقاء جديدة، ومن ثَم بدا مُبهِجًا للغاية في ضوء الشمس. سارَ برأسٍ مرفوع وكتفَين مستقيمتَين، وكان في إمكان المرءِ أن يرى أنه لا يعبأ كثيرًا بالعالم.
ولكن ما لفتَ انتباه هال لم يكن جيري بقدر مَن جاءَ في أعقابه؛ فقد كان استنساخًا مثاليًّا له، في رُبع حجمه، وكان أيضًا قد غسلَ وجهه للتوِّ وارتدى بذلة عمل زرقاء جديدة. وقد مشى أيضًا برأسٍ مرفوع وكتفَين مستقيمتين، لم يكن في إمكانك ألا تلاحظه وهو يرفع عَقِبَيه ويبذل قصارى جهده لمواكبة خطوات جيري. ولأنه كان يظل متأخرًا عن جيري حتى مع أطول خطواتٍ اتخذها لمواكبته، فقد راحَ يركض حتى اقتربَ من جيري، واستأنفَ السير في عَقِبَي أبيه.
كان هال يسير في الاتجاه نفسه، وكان وَقْعُ المشهد في نفسه كوَقْعِ موسيقى إحدى الفرق العسكرية؛ فقد أراد هو أيضًا أن يرفع رأسه إلى الأعلى ويُقِيم كتفَيه ويواكب خطواتهما. ولم يكن من الناس، حين يرون الابتسامة على وجهه، إلا أن يستديروا ويشاهدوه، ويُبادلوه الابتسامة أيضًا. لكن جيري مضى في طريقه بجديَّة، غير مدرك لهذا الهَرج والمرج خلفه.
دخَلا منزلًا؛ ولأنَّ هال لم يكن لديه ما يفعله سوى الاستمتاع بالحياة، وقفَ ينتظر خروجهما. عادا في الموكب نفسه، غير أن الرجل كان يحمل هذه المرة جوالًا على كتفه، به شيءٌ ما، بينما كان الفتى الصغير يحمل حمولةً أصغر تقليدًا له. فابتسم هال مرة أخرى، وعندما أصبحا أمامه، قال: «مرحبًا.»
قال جيري: «مرحبًا» وتوقَّف. ثم عندما رأى ابتسامة هال، ابتسم هو الآخر، ونظر هال إلى الفتى الصغير وابتسم، وبادله الفتى الابتسام. عندما رأى جيري ما جعل هال يبتسم، ابتسم أكثر من أي وقت مضى، وهكذا وقف الثلاثة في منتصف الطريق، يتبادلون الابتسامات دون سببٍ واضحٍ.
قال هال: «مرحى، يا له من فتًى رائع!»
قال جيري: «مرحى، بالطبع!» ووضع جواله. كان دائمًا على استعدادٍ للبقاء لأي فترة من الوقت إذا رغبَ أحدهم في إظهار إعجابه بالفتى.
سأل هال: «أهو ابنك؟»
قال جيري مرة أخرى: «بالطبع!»
قال هال: «مرحبًا أيها الفتى الهُمَام!»
قال الفتى: «مرحبًا بك!» كان في إمكان المرءِ أن يلمح في لحظةٍ أنه قد دخل إلى «بوتَقة الانصهار».
سأل هال: «ما اسمك؟»
كان الرد: «جيري.»
أومأ هال برأسه نحو الرجل … «وما اسمه؟»
«جيري الكبير.»
«هل لديك أطفال آخرون في المنزل؟»
قال جيري الكبير: «طفل آخر. رضيع.»
قال جيري الصغير: «إنه ليس مثلي. إنه صغير.»
قال هال: «وهل أنت كبير؟»
فردَّ قائلًا: «إنه لا يستطيع المشي!»
ضحكَ هال وقال: «ولا أنت تستطيع المشي!» وأمسكَ به وعلَّقه على كتفه. ثم أضاف: «هيا، سوف نركب!»
ثم حملَ جيري الكبير جواله مرة أخرى، وانطلقوا، ولكن هذه المرة كان هال مَن تخلَّف عن الركب وواكبَ خُطاهما، بكتفَين مستقيمتَين رافعًا عقبَيه. أدركَ جيري الصغير المزحة في الأمر، وضحكَ وركلَ ساقَيه القويتَين في فرحة. استدار جيري الكبير، وهو لا يدرك المزحة، لكنه استمتعَ مثلهما تمامًا.
وصلوا إلى الكوخ المكوَّن من ثلاث غرفٍ، الذي كان منزلًا لجيري الكبير والصغير، وأتت السيدة جيري إلى الباب، وقد كانت فتاة صَقَلِّيَّة ذات عينَين سوداوين، ولم تبدُ كبيرة بما يكفي لإنجاب ولو طفل واحد. انتابتهم نوبةٌ أخرى من الابتسام، قال جيري الكبير عند انتهائها: «هَلَّا دخلتَ؟»
قال هال: «بالتأكيد.»
أضافَ الآخر: «ابقَ لتناول العشاء. لدينا مكرونة سباجيتي.»
قال هال: «مرحى! حسنًا، سأبقى وسأدفع الثمن في المقابل.»
قال جيري: «قطعًا لا! لن تدفع!»
صاحتِ السيدة جيري، وهي تهز رأسها الجميل نفيًا: «لا! لن تدفع!»
قال هال بسرعة، وقد رأى أنه ربما آذى مشاعرهما: «حسنًا. سأبقى إذا كنتِ متأكِّدة من أنَّ لديكِ ما يكفي من الطعام.»
قال جيري: «بالتأكيد، الكثير! أليس كذلك يا روزا؟»
قالت السيدة جيري: «بلى، بالتأكيد الكثير!»
قال هال: «إذن سأبقى. هل تحب السباجيتي أيها الصغير؟»
صاحَ جيري الصغير: «بكل تأكيدٍ!»
جالَ هال بناظرَيه في أرجاء هذا المنزل الإيطالي. لقد كان منزلًا يتماشى مع جمال قاطِنِيه. كانت هناك ستائر من الحرير على النوافذ، أكثر لمعانًا وبياضًا مما كانت عليه في منزل رافيرتي، وكانت هناك سجادة ذات ألوان زاهية رائعة على الأرض، وصور زاهية الألوان لجبل فيزوف ولجاريبالدي على الجدران. كما كانت هناك خزانة بها العديد من الكنوز التي مِن الممتِع رؤيتها … بعض من المرجان وصَدَفة مَحَارٍ، وسِن سمكة قرش، ورأس سَهم هِندي، وحسون تفاحي محشُوٌّ بغطاءٍ زجاجي فوقه. قبل ذلك بقليلٍ، لم يكن هال ليفكِّر في مثل هذه الأشياء باعتبارها محفِّزة للخيال بوجه خاص؛ لكن هذا كان قبل أن يبدأ في قضاء خمسة أسداس ساعاتِ يَقَظته في جوف الأرض.
تناولَ العشاء، عَشاءً إيطاليًّا أصليًّا؛ كانت السباجيتي إيطالية بامتيازٍ، ساخنة يتصاعد منها البخار، مع صلصة الطماطم ونكهة غنية من عُصارة اللحم. وطوال زمن الوجبة، كان هال يلعقُ شفتَيه، ويبتسم إلى جيري الصغير، الذي كان يلعق شفتَيه هو الآخر ويبادله الابتسام. كان الأمر مختلفًا تمامًا عنه في نُزُل «ريمينيتسكي» الشبيه بحوض تغذية الخنازير، إلى درجة أن هال حسب أنه لم يسبق له أن تناول عشاءً جيدًا كهذا في حياته. أما عن السيد جيري وزوجته، فقد كانا فخورَين للغاية بطفلهما الرائع، الذي كان يستطيع السباب باللغة الإنجليزية كما لو كان أمريكيًّا صميمًا، إلى درجة أنَّ الأرض لم تكن تسعُ فرحتَهما.
عندما انتهَوا من تناول الوجبة، رجع هال بظهره إلى الوراء وصاحَ، على غرار ما فعل تمامًا من قبل في منزل رافيرتي، وقال: «يا إلهي، كم أتمنَّى لو كان في إمكاني أن أُقيم هنا!»
رأى مضيفَه ينظرُ إلى زوجته. وقال: «حسنًا. تعالَ إلى هنا. وسأستضيفُك. أليس كذلك يا روزا؟»
قالت روزا: «بلى، بالتأكيد.»
نظر هال إليهما في ذهولٍ. وسألَ: «هل أنت مُتأكِّد أنهم سيسمحون لك؟»
«يسمحون لي؟ ومَن يمنعُني؟»
«لا أعرف. ربما ريمينيتسكي. قد تقع في مشكلة.»
ابتسمَ جيري. وقال: «لست خائفًا. لديَّ أصدقاءُ هنا. كارمينو قريبي. هل تعرف كارمينو؟»
قال هال: «لا.»
«إنه رئيس عُمَّال في المنجم رقم ١. إنه يُساندني. فليذهب العجوزُ ريمينيتسكي إلى الجحيم! تعالَ إلى هنا، سأعطيك سريرًا في تلك الغرفة، وسأعطيك طعامًا جيدًا. كم تدفع إلى ريمينيتسكي؟»
«سبعة وعشرين دولارًا في الشهر.»
«حسنًا، ادفع لي سبعة وعشرين، وستحصل على كل شيءٍ جيد. لا يمكن الحصول على الكثير من الأشياء هنا، لكن روزا طبَّاخة ماهِرة، وتستطيع تدبير الأمر.»
كان صديقُ هال الجديد — إلى جانب كونه المفضَّل لدى رئيسه — «مُفجِّر ألغام»؛ فقد كان من واجبه أن يتجوَّل في المنجم ليلًا، ويفجِّر شحناتِ البارود التي كان عُمَّال المناجم يُعِدُّونها نهارًا. كان هذا عملًا خطيرًا، ويتطلَّب رجلًا ماهرًا، وكان أجره جيدًا؛ ومن ثَم تأقلم جيري مع هذا العالَم، ولم يكن خائفًا من التعبير عن رأيه، في حدودٍ معينة. تجاهلَ احتمالَ أن يكون هال جاسوسًا للشركة، وأدهشه بالحديث المتمرِّد عن أنواع الفساد المختلفة في نورث فالي، وفي أماكن أخرى عمِل فيها منذ قدومه إلى أمريكا عندما كان لا يزال صبيًّا. عَلِمَ هال أنَّ مينيتي كان اشتراكيًّا؛ فقد اشتركَ في صحيفة اشتراكية إيطالية، وقد علِم موظف مكتب البريد توجُّه هذه الصحيفة وانتماءها، وكان «يسخر» منه لهذا الأمر. والأهم من ذلك هو أنَّ السيدة مينيتِّي كانت اشتراكية أيضًا؛ وهذا يعني الكثيرَ للرجل، كما أوضحَ جيري؛ لأنها لم تكن بذلك تحت سيطرة القَس.