الفصل الثامن عشر
اتخذ هال الخطوة على الفور، وضحَّى بالمبلغ، الذي كان ريمينيتسكي سيُحصِّله من أجره لدى الشركة نظير الفترة التي أقامها لديه. لكنه كان على استعدادٍ لدفع ثمن امتياز الإقامة في منزلٍ نظيفٍ وتناوُل طعام نظيف. وقد روَّحَ عن نفسه أن وجدَ أنه في نظر أصدقائه الأيرلنديين كان يخسر مكانته الاجتماعية بالذهاب للعيشِ مع مينيتي. بدا أنه كانت هناك انقساماتٌ اجتماعية أكثر صرامة في نورث فالي. كان الأمريكيون والإنجليز والاسكتلنديون ينظرون بازدراءٍ إلى الويلزيين والأيرلنديين، وكان الويلزيون والأيرلنديون ينظرون بازدراءٍ إلى الإيطاليين والفرنسيين، وكان الإيطاليون والفرنسيون ينظرون بازدراءٍ إلى البولنديين والآتين من أوروبا الوُسطى، وينظر هؤلاء بدورهم بازدراءٍ إلى اليونانيين والبُلغاريين وأهل «الجبل الأسود»، وهكذا عَبْر عشرات الأجناس في أوروبا الشرقية، والليتوانيين، والسلوفاكيين، والكرواتيين، والأرمن، والرومانيين، والروميليين، والروثينيين … إلى أن ينتهي الأمر بالمكسيكيين، والزنوج، وفي المرتبة الأخيرة والأدنى، اليابانيين.
اكتشفَ هال ذلك عندما ذهبَ في زيارة أخرى إلى منزل رافيرتي. تصادفَ وجودُ ماري بيرك هناك، وعندما لمحته، تتطاير الشرر من عينَيها الرماديتَين. صاحت: «كيف حالك يا سيد مينيتي؟»
ردَّ قائلًا: «كيف حالكِ يا آنسة روزيتي؟»
«هل أعجبتكَ السباجيتي؟»
«ألا تعجبكِ السباجيتي؟»
ضحكت الفتاة قائلة: «لقد أخبرتُكَ ذات مرة … هَنيئًا لي البطاطس؛ فهي وجبة جيدة بما يكفي!»
قال: «وهل تذكرين بما أجبتكِ؟»
نعم كانت تذكر! أخذتْ وجنتاها لونَ بتلات الورود التي أخبرها أنها حتمًا تعيش عليها.
ثم انضمَّ إلى المزاح أطفالُ رافيرتي، الذين أصبحوا يعرفون هال جيدًا. فسألوه مازحين: «هل أعجبكَ السباجيتي يا سيد مينيتي!» عندما استوعبَ هال الأمر، أرادَ أن يثأر لنفسه بتذكيرهم بأنه عرضَ الإقامة مع الأيرلنديين، لكنَّ طلبه قُوبِل بالرفض؛ لكنه خشي ألا يستوعب رافيرتي الأكبر هذه المزحة، ومن ثَم تظاهرَ — بدلًا من ذلك — بأنه كان يفترض طوال الوقت أنَّ عائلة رافيرتي كانت من الإيطاليين. وجَّه حديثه إلى رافيرتي الأكبر بجدية، ناطقًا اسمه مع التركيز على المقطع الثاني … «ساينر رافيرتي»؛ وقد أمتعَ ذلك الرجلَ العجوز إلى درجة أنه ظلَّ على مدى ساعة يضحك عليه بين الحين والآخر. انفتحَ قلبه لهذا الشاب المفعَم بالحيوية؛ ونسِي بعضًا من شكوكه، وبعد أن خلدَ الصغارُ إلى النوم، تحدَّث بصراحة — نوعًا ما — عن حياته كعامِل في منجم للفحم.
كان «العجوز رافيرتي» في طريقه ذات يوم إلى أن يتقلَّدَ منصبًا عاليًا. كان قد عُيِّن رئيس مَقْلَب في منجم سان خوسيه، لكنه تخلَّى عن وظيفته لأنه اعتقدَ أن دينه لا يسمح له أن يفعل ما كانوا يأمرونه أن يفعله. لقد كان أمرًا فظيعًا أن يقترحوا تثبيت حمولاتِ العمَّال عند مستوى معين بغض النظر عن كمية الفحم التي قد يستخرجونها؛ وعندما استقالَ رافيرتي بدلًا من الانصياع لمثل هذه الأوامر، كان عليه أن يترك المنجم تمامًا؛ لأن الجميع بالطبع كانوا يعرفون سبب استقالته، وكان لمجرد وجوده تأثيرٌ في إبقاء السخط حيًّا.
سأل هال: «هل تعتقد أنه لا توجد شركاتٌ نزيهة على الإطلاق؟»
أجابَ الرجلُ العجوز: «يوجد بعضٌ منها، لكن الحقيقة أن الأمر ليس بهذه السهولة التي قد تعتقدها. عليهم أن يُعدِّلوا أسعارهم حسب أسعار الشركات الأخرى، وإذا بخس أحدُهم الوزن، فإنه يتعيَّن على الآخرين أن يفعلوا مثله. إنها طريقة مقنَّعة لخفض الأجور دون أن يكتشفها العُمَّال، وهناك أشخاصٌ لا يحبُّون أن يكسبوا أقل من غيرهم.» وجدَ هال نفسه يُفكِّر في العجوز بيتر هاريجان، الذي كان يمتلك الشركة العامة للوقود، والذي قال ذات مرة: «أنا من أشد المطالِبين بالأرباح!»
تابع العجوز رافيرتي: «مشكلة عامل المنجم هي أنه ليس لديه مَن يتحدَّث بالنيابة عنه. إنه يقف بمفرده …»
خلال هذه المحادثة، ألقى هال نظرة سريعة على «ماري الصهباء»، ولاحظ أنها كانت تجلس وذراعاها على الطاولة، وقد انحنت كتفاها القويتان دلالةً على يومٍ من العمل الشاق. لكنها اقتحمت الحديثَ عند هذه النقطة، وقالت فجأة بنبرة مليئة بالازدراء: «مشكلة عامل المنجم هو أنه عبد!»
قاطعها الرجلُ العجوز مُحتجًّا: «آه، الآن …»
لكنها واصلت كلامها قائلة: «إنَّ العالَم كلَّه ضده، وليس لديه الوعي الذي يجعله يتعاون مع الآخرين … لتشكيل اتحادٍ نِقابي ومناصرته!»
ساد صمتٌ مفاجئ في منزل رافيرتي. حتى هال كان مذهولًا … لأنَّ هذه كانت المرة الأولى في أثناء إقامته في المعسكر التي سمعَ فيها الكلمة المروِّعة «اتحاد» تُنطَق بصوتٍ يعلو مجرد الهَمس.
قالت ماري وعيناها الرماديتان مليئتان بالتحدي: «أعرف! لا تريد أن تسمع هذه الكلمة تُنطَق! لكن البعض سيقولونها رغمًا عنك!»
قال الرجل العجوز: «لا بأس. عندما تكون في سن الشباب، وتكون امرأة أيضًا …»
«امرأة! هل النساء فقط مَن لديهن الشجاعة؟»
قال بابتسامة ساخرة: «بالطبع، النساء لديهن ألسنة، ولا يمكنهن الكَفُّ عن استخدامها. حتى رئيس العُمَّال يعلم ذلك.»
أجابت ماري، وقد تخضَّبت وجنتاها باللون الأحمر: «عساه كذلك. وربما يكون النساءُ أكثر مَن يعاني في معسكرات الفحم، وربما يعلم رئيس العُمَّال ذلك.»
قال رافيرتي: «عساه يكون كذلك»، ثم سادَ الصمتُ فيما جلسَ هو يدخِّن غليونَه. كان من الواضح أنه لم يكن مهتمًّا بمواصلة الحديث؛ فلم يكن يريد الحديث عن الاتحادات النقابية في منزله. وبعد فترة من الوقت، حاولت السيدة رافيرتي — على استحياء — تغيير مسار الحديث بالسؤال عن حالة أخت ماري التي كانت مريضة، وبعد أن ناقشوا عددًا من أدوية الأطفال، نهضت ماري قائلة: «سأنصرف.»
نهضَ هال أيضًا. وقال: «سأسيرُ معكِ، إذا سمحتِ.»
قالت: «بالتأكيد»، وبدا أن عائلة رافيرتي قد انتشت لرؤيتها هذا المشهد الذي يتجلَّى فيه بعضٌ من الشهامة.