الفصل العشرون
قالت ماري بيرك إنَّ الشركة لا تعبأ بكسر عظام عُمالها، ولم يمضِ وقتٌ طويل بعد استئناف العمل في المنجم رقم ٢ حتى أُتيحَتِ الفرصة لهال كي يرى حقيقة هذا الكلام بنفسه.
تعتمد حياةُ عامِل المنجم على استخدام الأخشاب المناسبة لدعم المكان الذي يعمل فيه. تعهَّدت الشركة بتزويد الأخشاب، ولكن عندما كان عامل المنجم يحتاج إليها، فما كان ليجد شيئًا في متناوَل يده، وكان يتعيَّن عليه القيام برحلة طويلة إلى سطح المنجم. كان عليه أن يختار الأخشاب ذات الطول المناسب، وأن يضع العلامات عليها … على افتراض أن أحد العُمَّال سيُحضرها إلى مكان عمله. ولكن بعد ذلك قد يحملها شخصٌ آخر بعيدًا … هنا كان يتجلَّى المزيدُ من أوجه استغلال النفوذ والمحسوبية، وربما كان عامل المنجم يخسر يومًا أو يومَين من أجره، بينما كان حسابه في هذه الأثناء يتراكم في المتجر، وربما لم يكن أطفاله يمتلكون أحذية للذهاب إلى المدرسة. وفي بعض الأحيان، كان يفقدُ الأملَ في انتظار الأخشاب، ويستمر في استخراج الفحم؛ ومن ثَم كان من الممكن أن تتساقط عليه الصخور … وتُصدر هيئةُ المحلَّفين ضده حكمًا «بالإهمال»، ويتحدَّث أصحابُ المناجم في المحافل الرسمية عن مدى استحالة إقناع عُمَّال المناجم بتوخِّي الحذر. قرأ هال قبل ذلك بفترة ليست بطويلة حديثًا صحفيًّا كان قد أدلى به رئيسُ الشركة العامة للوقود إلى إحدى الصحف، وأوضحَ فيه فكرة أنه كلما زادت خبرةُ عامل المناجم، زادت خطورة توظيفه؛ لأنه يظن وقتها أنه يعرف كلَّ شيء، ولن يبالي باللوائح الحكيمة التي وضعتها الشركة حفاظًا على سلامته!
في المنجم رقم ٢، كانت هناك بعضُ الأماكن التي تُدار بطريقة «الغُرَف والأعمدة» أو «الفراغات والدعامات»، حيث يُستخرَج الفحم من سلسلة من الغُرف، ويُترَك الجزءُ المقابل لجدران الغرف ليدعم السطح. هذه الجدران هي «الأعمدة» أو الدعامات، وعند الوصول إلى نهاية عِرْق الفحم، يبدأ عامل المنجم في العمل على نحوٍ عكسي؛ حيث «يسحب الأعمدة»، ويترك السقف لينهارَ خلفه. وهذه مهمة خطيرة؛ إذ عليه أن يُنصِت جيدًا في أثناء عمله إلى أصوات قرع الصخر أعلى رأسه، وأن يقرِّر لحظة الانسحاب. وفي بعض الأحيان يكون مُضطربًا للغاية لشدة حرصه على الحفاظ على أداةٍ معه، أو أحيانًا يأتي الانهيار دون سابق تحذيرٍ. في هذه الحالة، نادرًا ما يُنتشَل جثمان الضحية؛ لأنه لا مفرَّ من الإقرار بأن الشركة لم تكن لتتمكَّن من توفير طريقة أفضل لدفن جثمان العامِل من تلك التي يُدفَن بها تحت الجبل.
عثروا في المنجم رقم ٢ على رجلٍ في هذه الهيئة. كان قد تعثَّر وهو يركض، وسرعان ما عَلقَ الجزءُ السفلي من جسده بالأرض؛ فكان على الطبيب أن يأتي ويحقنه بالأفيون بينما كان طاقم الإنقاذ يُحرِّره. لم يسمع هال بالحادثة حتى رأى الجثة ممدَّدة على لوحٍ ومغطاة بجِوالَين قديمَين. لاحظَ أنَّ أحدًا لم يتوقف لإرجاع النظر. سأل الصديقَ مادفيك سائسَ البِغال في طريق خروجه من المنجم، وأجابه: «إنه رجلٌ ليتواني … انسحق تحت الأرض.» وكان هذا كلَّ ما في الأمر. لم يعرفه أحد، ولم يهتم لأمره أحد.
تصادف أنَّ مايك سِيكوريا كان يعمل في مكان قريب، وكان واحدًا من أولئك الذين ساعدوا في إخراج الضحية. كان «زميل» مايك الزنجي في عجلة شديدة من أمره لإزاحة جزءٍ من الصخرة عن الطريق، وقد انسحقت يده، وما كان ليتمكَّن من العمل لمدة شهر أو نحو ذلك. أخبر مايك هال بالأمر، بلُغته الإنجليزية المكسَّرة غير المُتقَنة. كان أمرًا فظيعًا أن ترى رجلًا محاصَرًا هكذا، يلهث، وعيناه تكاد تنبثقان من رأسه. من حُسن الحظ أنه كان شابًّا، ولم تكن لديه عائلة.
سأل هال عما كانوا سيفعلونه بالجثة، وكان الجواب أنهم كانوا سيدفنونه في الصباح. كانت الشركة تمتلك قطعة أرضٍ أعلى الوادي.
سأل هال: «لكن أما كانوا سيُجرون تحقيقًا؟»
كرَّر الآخر: «تحقيق؟ ما هو كي يجروا من أجله تحقيقًا؟»
«ألا يُعاين الطبيبُ الشرعي الجثة؟»
هزَّ السلوفاكي العجوز كتفَيه المنحنيتَين؛ لو كان هناك طبيبٌ شرعي في هذه الناحية من العالَم، فإنه لم يسمع به من قبل، وقد عملَ في عددٍ كبيرٍ من المناجم، ورأى عددًا كبيرًا من العُمال تُوارَى جثامينهم الثرى. «ضَعه في صندوقٍ واحفر حفرة»، هذه كانت الطريقة التي وصفَ بها الإجراءَ المُتَّبع.
«وهل يأتي القَس؟»
«القَس بعيد جدًّا.»
بعد ذلك، استفسرَ هال عن الأمر من المتحدِّثين باللغة الإنجليزية، وعلِم أنَّ الطبيب الشرعي يأتي أحيانًا إلى المعسكر. وأن من شأنه تشكيل هيئة مُحلفين تتألَّف من جيف كوتون، قائد المعسكر، وبريدوفيتش، اليهودي الجاليكي الذي كان يعمل في متجر الشركة، وموظف أو اثنَين من مكتب الشركة، وعامِلَين مكسيكيَّين لم تكن لديهما أدنى فكرة عما حدث. تُعاين هيئةُ المحلَّفين الجثة، وتسأل رجُلَين عما حدث، ثم تُصدِر الحُكم: «نجد أن المتوفَّى قد لقِي حَتفه جراء سقوط صخرة عليه نتيجة خطأ ارتكبه.» (في حالة واحدة أضافوا التفاصيل الوصفية: «ليس لديه أقارب، ولديه عدد قليل للغاية من الأصدقاء!»)
كان الطبيبُ الشرعي يحصل على أتعابٍ مقابل هذه الخدمة، وكانت الشركة تحصل على حُكمٍ رسمي، والذي كان من شأنه أن يكون نهائيًّا تحسُّبًا لتهديد أي من القناصل الأجانب برفع دعوى للضرر. لقد وضعوا الأمور تحت سيطرتهم، وأداروها بعناية شديدة إلى درجة أن أحدًا في نورث فالي لم يحصل على أي شيءٍ تعويضًا عن موتٍ أو إصابة، بل في الواقع، كما اكتشف هال لاحقًا، لم تُرفَع دعوى ضررٍ ضد أي صاحبِ منجم في تلك المقاطعة لمدة ثلاثة وعشرين عامًا!
كانت لهذا الحادث بالتحديد تبعاتٌ على هال؛ لأنه أعطاه فرصة لرؤية حقيقة العمل في مجال التعدين. لم يكن للعجوز مايك مساعِدٌ، واقترحَ أن يتولَّى هال هذه المهمة. كانت أفضل من وظيفة مسئول الإسطبل؛ لأن أجرها كان دولارَين في اليوم.
سأل هال: «ولكن هل سيسمح لي رئيس العُمَّال بتغيير وظيفتي؟»
قال مايك: «أَعْطِه عشرة دولارات، وسيُغيِّر لك وظيفتَك.»
قال هال: «للأسف، ليس معي عشرة دولارات.»
قال الآخر: «أَعْطِه صكًّا بقيمة عشرة دولارات.»
وضحكَ هال. «إنهم يأخذون الصكوك على سبيل الرشوة، أليس كذلك؟»
قال مايك: «بالتأكيد يأخذونها.»
واصلَ الآخر: «ماذا لو عاملتُ بِغالي معاملةً سيئة؟ يمكنني إذن أن أجعله يُغيِّر لي وظيفتي دون مقابل!»
ردَّ مايك: «سيُغيِّر مكانك إلى الجحيم! ستُغضِبه، فيضعنا في غرفة سيئة، ويفرض علينا عشرة دولارات في الأسبوع. لا يا سيدي … بل تُعطيه شرابًا، وتتحدَّث عنه جيدًا، وتجعله يشعر بالارتياح. تحدَّث معه بلهجة أمريكية … مازِحْه!»