الفصل الحادي والعشرون
كان هال سعيدًا بهذه الفرصة للتعرُّف بشكلٍ أفضل على رئيس العمَّال. كان أليك ستُون يبلغ طوله ست أقدام، وكان متناسق القوام، بذراعَين كفخِذَي خنزير … ناعمتَين وممتلئتَين بالشحوم، ولكنه كان يمتلك قوة هائلة. كان قد تعلَّم أسلوبه في معاملة الرجال في مزرعة لقصب السكر في لويزيانا … المعلومة التي أوضحت لهال الكثيرَ عنه عندما سمعَها. ومثله مثل مدير المسرح الذي لا يهتم بالأسماء الحقيقية لممثِّليه، وإنما يناديهم بأسماء شخصياتهم، اعتاد ستون مخاطبة رجاله بجنسياتهم: «أنت أيها البولندي، أدخِل هذه الصخرة إلى العربة! أيها الياباني، أحضِر هذه الأدوات إلى هنا! أغلِق فمك الآن أيها الإيطالي واذهب لمباشرة عملك، وإلا ركلتُ مؤخرتَك، هذا بالطبع إنْ ظللتَ على قيد الحياة!»
شهد هال ذات مرة نزاعًا شبَّ حول مَن كان مَنُوطًا بمهمة نقل الأخشاب. كان هناك مِنشار كبير بمقبضَين مُلقًى على الأرض، وأمسكَه ستون ثم بدأ بالتلويح به، كأنه سيفٌ عريض ضخم، وذلك في مواجهة عامِل منجم بوهيمي ضئيل الحجم. «حمِّل هذه الأخشاب أيها الوسط أوروبي، وإلا مزقتُكَ إربًا!» وعندما تراجعَ الرجلُ المذعور منكمشًا، تبِعَه حتى أصبحت ضحيتُه مستندة إلى الجدار، وكان السلاحُ يتأرجح جيئةً وذهابًا تحت أنفه على غرار قصة «الحفرة والبندول». «سأُقطِّعُكَ إلى أشلاء أيها الوسط أوروبي! سأصنعُ منك يَخنةَ لحم!» عندما تراجع رئيس العمَّال أخيرًا، قفزَ البوهيمي الضئيل البِنية لتحميل الأخشاب.
كان الجزءُ الغريب في الأمر بالنسبة إلى هال هو أنَّ ستون بدا هادئًا للغاية على الرغم من تصرُّفه. يكاد لم ينفِّذ تهديداته المتعطِّشة إلى الدماء إلا مرة واحدة من ألف مرة، وكان يضحك عندما ينتهي من سبابه، وكان الشخصُ الواقع تحت تهديده يبادُله الابتسام … ولكن دون التراخي في عمله الذي كان يواصله مرعوبًا. بعد جولة التلويح بالسيف العريض، خاطبَ رئيسُ العُمَّال هال، وقد لاحظَ أنه كان يشاهد ما حدث، قائلًا: «هذه هي الطريقة التي عليك أن تديرَ بها هؤلاء الأجانب.» اعتبر هال هذا التعليق بمنزلة تكريم لدمه الأمريكي، وكان يشعر بالإطراء الشديد.
بحثَ عن رئيسه في ذلك المساء، ووجده واضعًا قدمَيه على سور منزله. قال: «يا سيد ستون، لديَّ شيءٌ أريدُ أن أسألكَ عنه.»
قال الآخر: «انطق يا فتى.»
«ألا تريد أن تأتي إلى الحانة وتتناول شرابًا؟»
«تريد الحصول على شيءٍ مني، أليس كذلك؟ لا يمكنك خداعي يا فتى!» لكنه أنزلَ قدمَيه عن السور، وضربَ غليونه مخرجًا منه الرماد، وسار في الشارع مع هال.
قال هال: «يا سيد ستون، أريدُ أن أغيِّرَ عملي.»
«ما الأمر؟ هل ضجرتَ من تلك البِغال؟»
«لا يا سيدي، ولكنَّ أمامي وظيفة أفضل. مساعِدُ مايك سِيكوريا طريحُ الفراش، وأودُّ أن آخذَ مكانه، إذا وافقت.»
«عجبًا، هذا مكان رجل زنجي يا فتى. ألست خائفًا من أخذ مكان رجل زنجي؟»
«لماذا يا سيدي؟»
«ألا تسمع عن نَحْسِهم؟»
قال هال: «ما أريده هو أجر الزنجي.»
قال رئيس العُمَّال من فوره: «لا، ستلزم البِغال. لقد حصلتُ على عامل إسطبل جيد، ولا أريدُ أن أخسره. ستظل، وشيئًا فشيئًا سأعطيكَ زيادة. عندما تذهبَ إلى تلك الحُفَر، فإنَّ أول ما ستعرفه هو أنه من الممكن أن تسقط صخرة على رأسك، ولن يفيدك أجر الزنجي في شيء حينئذٍ.»
وصلَا إلى الحانة ودخلَا. لاحظ هال الصمت قد خيَّم على المكان، وكان الجميع يُومئون برءوسهم ويراقبون. كان لطيفًا أن يراه الحاضرون يصحَب رئيسه في العمل.
تقدَّم أوكالاهان، صاحب الحانة، بابتسامته الراقية المهذَّبة وانضمَّ إليهما، وطلبوا الويسكي بدعوة من هال. واصلَ رئيس العمَّال حديثه مع هال قائلًا: «كلَّا، ستظل في عملك. ستظل فيه، وعندما تتعلَّم إدارة البِغال، سأجعلك رئيسَ عُمَّال، وأجعلك تدير الرجال.»
ضحكَ بعض الحضور. صَبَّ رئيسُ العمَّال الويسكي لنفسه، ووضعَ الكأس على منضدة الشراب. قال بنبرة تمكَّن الجميعُ من سماعها: «تلك ليست مزحة. عرفتُ ذلك عن الزنوج منذ فترة طويلة. قالوا لي: «بالله عليك، لا تتحدَّث مع زنوجنا بتلك الطريقة. ليلة ما سوف تشتعل النيرانُ في منزلك.» لكنني قلتُ: «إنْ أنت لاطفتَ الزنجي ودلَّلتَه، أفسدتَه وجعلتَه يُسيئ الأدب.» وقلتُ: «أيها الزنجي، لا تُطلِق شياطينك عليَّ، وإلا ركلتُ مؤخرتَك.» وقد عرفوا أنني رجلٌ عند كلمتي، فأسرعوا في مباشرة أعمالهم.»
قال هال: «فلتتناول كأسًا أخرى.»
احتسَى رئيسُ العمَّال شرابَه، وأصبح أكثر لطفًا ومؤانسة، فروى قصصًا عن الزنوج. كان هناك موسم ذروة في مزارع قصب السكر، حيث كانت القاعدة عشرين ساعة من العمل يوميًّا، وعندما حاول بعض الزنوج التهرُّب من ذلك، كانوا يُلقون القبض عليهم بتهمة السَّبِّ أو لعب القمار، ويعاملونهم باعتبارهم مذنِبين يؤدُّون أحكامًا بالأعمال الشاقة دون أجر. أخبره رئيس العمَّال عن واقعة مُثول «زنجي أمريكي» أمام قاضي الصلح، وكانت التهمة: «أنه أحول العينَين»، الجريمة التي حُكم عليه فيها بستين يومًا من الأشغال الشاقة. استمتعَ بهذه الحكاية الرجالُ في الحانة … الذين بدت مشاعرهم العنصرية أقوى من مشاعرهم الطَّبقية.
عندما خرج الثنائي مرة أخرى، كان الوقت مُتَأخرًا، وكان رئيس العُمَّال ودودًا. استهلَّ هال حديثه: «يا سيد ستون، لا أريد أن أزعجك، لكني أودُّ بشدةٍ الحصول على أجرٍ أكبر. إذا استطعتَ أن تساعدني بطريقتك في الحصول على وظيفة هذا المساعِد، فسيُسعدني جدًّا مشاركة الأجر معك.»
قال ستون: «أشارككَ الأجر؟ ماذا تقصد؟» انتظر هال مُتوجِّسًا بعضَ الشيء … لأنه في حال ما لم يوافق مايك، فعلى هال أن يتوقَّع ضربة من ذراع رئيس العُمَّال القوية.
«هذا يعني أنَّ أجري سيزيد بنحو خمسة عشر دولارًا في الشهر. ليس معي أي أموال، ولكن إذا أردتَ أن تأخذ عشرة دولاراتٍ من حسابي في المتجر، فسيَفي هذا بالغرض.»
سارا مسافةً قصيرة في صمتٍ. قال رئيس العمَّال أخيرًا: «حسنًا، سأخبرك، هذا السلوفاكيُّ العجوز كثيرُ الكلام … إنه أحدُ هؤلاء الرجال الذين يعتقدون أنَّ باستطاعتهم إدارة المنجم إذا أُتيحت لهم الفرصة. وإذا بدأتَ في الاستماع إليه، واعتقدتَ أن في استطاعتك المجيء إليَّ والتذمُّر، فأُقسمُ إنني …»
بادرَ هال بقوله: «لا بأسَ يا سيدي. سأتدبَّر أمره … سأُسكِتُه. إذا كنت تريد أن أرى مَنِ الذين يتحدَّث معهم، وإذا كان أيٌّ منهم يحاول إثارة المشكلات، فسأُخبركَ.»
قال رئيسُ العمَّال على الفور: «حسنًا، هذا هو الكلام السليم. فلتفعل ذلك، وسأُبقي عيني عليك وأعطيك فرصة. ليس لأنني أخافُ من ذلك الرجل العجوز … لقد أخبرتُه في المرة الأخيرة أنني إذا سمعتُه يتحدَّث مرة أخرى فسأُركل مؤخرته. ولكن عندما يكون لديك نصفُ ألف من هذه الحثالة من الأجانب، فسيكون بعضُهم من الفوضويِّين وبعضُهم من بلغاريا والجبل الأسود، الذين كانوا يتنازعون في أوطانهم …»
قال هال: «فهمت. حُقَّ لك أن تراقبهم.»
قال رئيسُ العُمَّال: «هذا كلُّ شيء. وبالمناسبة، عندما تخبر موظف المتجر بشأن الخمسة عشر دولارًا، فلتقُل له فحسب إنك خسرتها في لعبة البوكر.»
استدرك هال بسرعة: «لقد قلتُ عشرة دولارات.»
أجاب الآخر: «نعم، أعرف. لكني قلتُ خمسة عشر!»