الفصل الثاني والعشرون
قال هال لنفسه بكل ارتياحٍ ورضًا إنه سيباشر الآن العمل الحقيقي لتعدين الفحم. لقد كان خياله مشغولًا به فترة طويلة، ولكن، كما يحدث غالبًا في حياة المرء، فإن أول احتكاكٍ فعلي بالواقع يقتل ما نسجَه خيالُ سنواتٍ عديدة. لقد قتل كلَّ ما جالَ في مُخيِّلته، في الواقع؛ فقد وجد هال أنَّ كامل مخزونه من الطاقة، الذهنية والجسدية على حَدٍّ سواء، كان مُستهلَكًا في العذاب الدائم. لو أنَّ أحدًا أخبره بالرعب الذي تنطوي عليه محاولته للعمل في غرفة يبلغ ارتفاعها خمس أقدام، ما كان ليصدِّقه. لقد كان الأمر أشبه بأجهزة التعذيب المروِّعة التي كان المرءُ يراها في القِلاع الأوروبية، «العذراء الحديدية»، و«الطوق المسنَّن». كان ظهر هال يحرقه كما لو كانت مَكَاوٍ ساخنة تمرُّ عليه ذهابًا وإيابًا، وكما لو كان كلُّ مفصلٍ وعضلة تصرخ من الألم. بدا كما لو أنه لم يستطع قطُّ أن يتذكر وجودَ السقف المسنَّن فوق رأسه … لقد اصطدم به وظلَّ يصطدم به حتى أصبحت فروة رأسه كتلةً من الجروح والكدمات، وكان رأسه يؤلمه حتى كاد لا يرى شيئًا، وكان عليه أن يُلقي بنفسه متمدِّدًا على الأرض.
ثم ابتسمَ العجوزُ مايك سِيكوريا. «أعرف. كبَغلٍ غضٍّ! يومًا ما ستصبح أقوى!»
تذكَّر هال الثَّفَن السميك الذي كان في خواصر بغاله، حيث كان اللِّجامُ يحتك بها. «أجل، أنا «بَغلٌ غَض»، حسنًا!»
كان ثمة عدد مذهل من الطرق التي قد تُصاب بها أصابعُ المرء بالكدمات والتمزُّقات في أثناء تحميله لكُتَل الفحم في العربات. كان يرتدي زوجًا من القفازات، لكنه كان يبلَى في يومٍ واحدٍ. ثم كان هناك الغاز، ودخان البارود الخانق، والتهاب العينَين الرهيب بفِعل الغبار والضوء الخافت. لم تكن هناك من طريقة أمام العامل كي يفرك عينَيه المحترقَتين؛ لأن كل شيء حوله كان مُغبَرًّا بالقدر نفسه. هل يمكن لأحدٍ أن يتخيَّل هذا العذاب … هل يمكن أن تتخيَّله أيٌّ من هؤلاء السيدات اللاتي كُنَّ يركبن عربات القطار المترَفة والمُنَجَّدة بالأقمشة الناعمة، أو يتكِئنَ على أسطح السفن البخارية في البحار الاستوائية بمياهها المتلألئة.
كان العجوزُ مايك يعامل «مساعِده» الجديد معاملةً حسنة. كان مايك منحني الظهر وقد ازدادت يداه قوة وصلابة جراء أربعين عامًا في هذا العمل الشاق، حتى أصبح في إمكانه أن يؤدي عمل رجلَين، والترفيه عن صديقه بتعليقاته. كان لدى الرجل العجوز عادة التحدُّث طوال الوقت، مثل الأطفال؛ فقد كان يتحدَّث إلى مساعِده، وإلى نفسه، وإلى أدواته. كان يُطلِق على هذه الأدوات أسماءً بذيئة ومرعبة … ولكن بدافعٍ من الود الخالص وروح الدعابة اللطيفة. فقد كان يقول لمِعوَله: «ادخل أيها الوغد!» ويقول لعربته: «تعالَي إلى هنا أيتها الحقيرة!» ويقول لقطعة الفحم: «تحركي أيتها المغفلة العجوز!» وكان يُلقي على هال محاضراتٍ حول تفاصيل التعدين. ويروي قصصًا عن أيام النجاح المثمرة أو الحوادث الفظيعة. وفوق ذلك كله، كان يتحدَّث عن الحقارة والوضاعة … يلعن «الشركة العامَّة للوقود»، ورؤساء عُمَّالها، ومشرفيها، ومسئوليها، ومديريها، وحاملي أسهُمها، والعالَم الذي سمحَ بوجود مثل هذه المؤسسة الإجرامية.
أتى وقتُ الظهيرة، واستلقى هال على ظهره، لا يستطيع تناول الطعام من فرط إنهاكه. كان العجوز مايك يجلس ويمضغ طعامه، وقد شكَّلت لحيتُه الكثيفة مُثلثًا فوق ذقنه، وبينما كان فكَّاه يتحركان، كان ينظر إلى العالَم كله كأنه تَيسٌ مُسِن. كان تَيسًا عجوزًا طيبَ القلب ومَهمُومًا، وسعى إلى إغراء مساعِده بقليلٍ من الجُبن أو برشفةٍ من القهوة الباردة. كان يؤمن بأهمية الأكل … ما كان لأحدٍ أن يشحذَ طاقته إذا لم يُشعِل التَّنُّور. وكان إذا فشلَ في ذلك، يحاول صرفَ عقل هال بإخباره قصصًا عن حياة التعدين في أمريكا وروسيا. لقد كان فخورًا جدًّا بوجود «رفيق أمريكي» يعمل مساعِدًا له، وحاول أن يجعل العمل سهلًا قدر الإمكان، خشية أن يترك هال العملَ.
لم يترك هال العمل، لكنه كان يتسلَّل خارجًا في الليل، وقد بلغ به التعب مبلغه إلى درجة أنه كان يُغالِب النومَ في أثناء وجوده بالمصعد. وكان يُوشك أن ينام في أثناء تناوله العشاء، وكان يدخل إلى مكان نومه ويغوص في تختِه ويغطُّ في نومٍ عميقٍ. ويا له من عذاب حين كان يستيقظ قبل الفجر! فقد كان يضطر إلى أن ينفض عن رأسه النوم، ويحرِّك مفاصله المنهكة إلى حَدِّ الطقطقة، ويشعر بالتهاب عينَيه، وما يعلو يدَيه من بُثورٍ وقروحٍ!
لقد مرَّ أسبوعٌ قبل أن يحظى بلحظة لم يشعر فيها بالألم، ولم يصل قطُّ إلى الاعتياد التام على العمل. كان من المستحيل لأي شخص أن يعمل بجدٍّ شديد ويحافظ، في الوقت نفسه، على يقظته الذهنية، وحماسه، وحِسِّه المرهَف؛ فقد كان من المستحيل أن تعمل بجدٍّ وأن تكون مغامرًا في الآن نفسه … كان من المستحيل في الحقيقة أن تكون سوى آلة. لقد سمع هال عن حالة «الخمول العام» التي تعتري جميع العمَّال؛ فأثارت امتعاضَه وحيرته. ولكنها لم تعد تُحيِّره، فقد جرَّبها بنفسه. هل يمكن للمرءِ أن يمتلك الشجاعة الكافية للاحتجاج على رئيس العمَّال وجسده مُخدَّر من أثر التعب؟ هل يمكنه أن يُميِّز الصواب والخطأ في أفعاله بوضوحٍ، ويدعم استنتاجه بإجراءاتٍ فعَّالة عندما تكون قواه الذهنية مشلولة تحت وطأة هذا الإرهاق الجسدي؟
كان مجيء هال إلى هنا أشبه بشخصٍ يصعد على سطح سفينة في وسط المحيط كي يرى العاصفة. في هذا المحيط من البؤس الاجتماعي، والجهل، واليأس، رأى وُجوهًا مُشرَئبَّة ومُعذَّبة، وأطرافًا تتلوَّى ألمًا، وأيديًا مُتشبِّثة ببراثن من حديدٍ، وتُدوي في أذنَي المرءِ عاصفةٌ من الرثاء، ويقطر على وجنتَيه رذاذٌ من دماء ودموع. وجد هال نفسه غارقًا في أعماق هذا المحيط إلى درجة أنه لم يجد عزاءً في فكرة أن في إمكانه الهروب متى يشاء؛ فلم يكن يستطيع أن يقول لنفسه إنه أمر محزن، إنه أمر فظيع … ولكن، حمدًا لله، فأنا أستطيع الخروج منه متى أردت! يمكنني العودة إلى الحانة الدافئة ذات الإضاءة الجيدة، وإخبار المسافرين الآخرين عن جمال المنظر، وعن روعة التجربة التي فاتتهم.