الفصل الثالث والعشرون
خلال هذه الأيام المُضنية، لم يذهب هال لرؤية «ماري الصهباء»، ولكن حدثَ بعد ذلك، في إحدى الأمسيات، أن كان طفلُ عائلة مينيتي مريضًا، فأتت لتطمئن عليه، وأحضرت وعاءً به «قليل من الكسترد» حسبما أسمته. كان هال يشكُّ بما يكفي في سلوك الرجال، وخصوصًا رجال الأعمال، ولكنه كان بلا بصيرة حينما يتعلق الأمر بالنساء … لم يخطر بباله أنَّ فتاةً أيرلندية تُعاني العديدَ من المشكلات في منزلها قد تخرج للاعتناء بطفل امرأةٍ إيطالية. لم يخطر بباله أنَّ هناك الكثير من الأطفال الأيرلنديين المرضى في المعسكر، والذين ربما كانت ماري تأخذ لهم «القليل من الكسترد» الذي كانت تصنعه. وعندما رأى المفاجأة على وجه روزا، التي لم تقابل ماري من قبل، شعر بامتنان المرأة المسكينة الذي يمسُّ القلب!
يوجد في الواقع أنواعٌ كثيرة من النساء، وفي جُعبتهن الكثير من المهارات، ولكن ما من رجل لديه الوقت كي يتعلَّمها جميعًا. رأى هال نوعَ فتاة المتجر التي تحيط نفسها بالكثير من الزركشة، وتلقي نظراتٍ خاطفة بطرف عينها، وتنخرط في نوباتٍ من الضحك لجذب انتباه الذكور، وكان على معرفة بنوعِ فتاة المجتمع، التي تحقِّق الغاية نفسها بوسائل أكثر مَكرًا وجاذبية. ولكن هل يمكن أن يوجد نوعٌ من النساء يحمل أطفال الإيطاليين الصغار في أحضانه، ويناديهم بأسماءٍ أيرلندية جميلة، ويُطعِمهم الكسترد بالملعقة؟ لم يسمع هال عن هذا النوع من قبل، واعتقدَ أن «ماري الصهباء» جسَّدت صورة ساحرة … عذراءَ سِلتية تحمل رضيعًا صَقَلِّيًّا بين ذراعَيها.
لاحظَ أنها كانت ترتدي الفستان القُطني نفسه، ذا اللون الأزرق الباهت، والذي به رقعةٌ على الكتف. ومع أنه رجلٌ، فقد أدركَ أن الفستان من الأمور التي تُعيرها المرأة اهتمامًا كبيرًا في حياتها. كاد يحسب أنَّ هذا الفستان القطني الأزرق قد يكون الثوب الوحيد لدى ماري، ولكن نظرًا إلى أنه كان يراه مغسولًا لتوِّه في كل مرة، فقد خلص إلى أنه لا بد أنَّ لديها فستانًا آخر على الأقل. على أي حالٍ، ها هي هنا، نَضِرة ومنتعِشة، بزيِّها النظيف اللامع، وقد تحلَّت بخُلُق «الرفقة الطيبة» التي وعدت بها منذ فترة طويلة؛ من معنوياتٍ عالية وروح الدعابة، تمامًا مثل أي حسناء في عالَم الرفاهية تتخذ كامل زينتها وزُخرفها لحضور حفلٍ راقص. لقد كانت متجهِّمة ومتذمِّرة في لقاءاتها السابقة مع هذا الشاب المثير للاهتمام، ويبدو أنها قد جعلته يتوجَّس منها خيفةً، ولكن ربما تمكَّنت من استعادته بالأنوثة وروح الدعابة.
داعبت فروة رأسه المليئة بالقروح وظهره المتيبس، وأخبرته أنه يبدو أكبر من عمره بعشر سنوات … الأمر الذي كان مستعدًّا تمامًا لتصديقه. كما مازحته بشأن عمله تحت قيادة رجل سلوفاكي … ما بدا خسارةً طَبَقية أخرى! وشاركها هذه المزحة آل مينيتي … لا سيَّما جيري الصغير، الذي كان يُحب النِّكات. أخبر ماري كيف أنَّ جو سميث اضطُرَّ إلى أن يدفع خمسة عشر دولارًا مقابل وظيفته الجديدة، بالإضافة إلى العديد من كئوس الشراب في حانة أوكالاهان. كما أخبرها كيف أطلقَ مايك سيكوريا على جو «بَغله الغَض». وتذمَّر جيري الصغير لِما آلت إليه الأمور؛ لأن جو كان قد علَّمه في الأيام السابقة الكثيرَ من الألعاب الجديدة الرائعة … وها هو الآن يشعر بالألم، ولن يلعبها معه. كما أنه قد غنَّى في السابق الكثيرَ من الأغاني المرِحة، المليئة بأروع القوافي. كانت هناك أغنية عن «شجرة الأروكاريا»! هل رأت ماري هذا النوع من الأشجار من قبل؟ لم يتعب جيري الصغير قطُّ من محاولة تخيُّل شكلها.
وقفَ الشقيُّ الإيطالي يشاهِد — بجدية — ماري وهي تُطعِم الطفلَ الصغير الكسترد، وعندما تُلقِمه ملعقتين أو ثلاث ملاعق ملء فمه، كان يفغَر فاه، ثم يلعَقُ شفتَيه. مَرحى، يا له من مذاقٍ جيدٍ!
عندما كانت الملعقة الأخيرة، وقفَ يُحدِّق إلى شعر ماري اللامِع الذي يتوِّج رأسها كالإكليل. ثم قال: «أخبريني، هل هذا هو حالُ شعركِ دائمًا؟»
انفجر هال وماري في الضحك، بينما صاحت روزا: «صَه!» لم تكن تضمن ما قد يقوله هذا الصبيُّ بعد ذلك.
قالت ماري: «بالطبع، هل تعتقد أنني لوَّنته؟»
قال جيري الصغير: «لا أعرف. يبدو جميلًا جدًّا ونظيفًا.» والتفت إلى هال. وقال: «أليس كذلك؟»
قال هال: «بالطبع»، وأضافَ: «أخبرها المزيدَ عنه. تحبُّ الفتياتُ المجامَلات.»
ردَّد جيري الصغير: «المجامَلات؟ وماذا تعني؟»
قال هال: «عجبًا، إنها تعني القول بأنَّ شعرها يُشبه شروق الشمس، وأن عينَيها كالشَّفَق، أو أنها وردة بَرِّية على جانب الجبل.»
قال المشاكس الإيطالي الصغير بشيء من الشك: «حسنًا.» وأضافَ: «على أي حال، إنها تصنع كستردًا لذيذًا!»